
أرشيف الفاتيكان... حيث يتمركز التاريخ
منذ السابع من كانون الثاني (يناير) 2025، أصبح بإمكان الباحثين الوصول إلى الأرشيف الرسولي، فيُسمح بدخول 60 باحثاً يومياً. مع ذلك، يُطلب من الباحثين الجدد تعبئة نموذج إلكتروني وتقديم المستندات المطلوبة قبل زيارتهم الأولى. وهذا تغيير تاريخي في تقاليد المؤسسة التي تميّزت دائماً بالصرامة في شروط الدخول. فحتى سنوات قليلة خلت، كان الولوج إلى هذه الكنوز الوثائقية حكراً على عدد محدود من الأكاديميين، وبعد مسار تقديم صارم وإجراءات إداريّة عديدة.
يأتي هذا التحديث في قواعد الوصول الى الأرشيف ضمن توجّه أوسع نحو الانفتاح، كرّسه البابا فرنسيس الذي أصدر في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2024 مرسوماً يقضي بتوسيع الأرشيف والمكتبة الرسولية، من خلال إعادة توظيف بعض مباني الإكليريكية البابوية الكبرى في مجمع اللاتيراني في روما، لتعزيز حفظ الوثائق وتوفير مساحة أكبر لخدمة الثقافة والمعرفة. و يُعدّ هذا التوسّع استمراراً لنهج إصلاحي بدأه الحبر الأعظم الراحل، إذ كرّس التوازن بين حفظ الذاكرة التاريخية من جهة، وتوفيرها للأبحاث الأكاديمية من جهة أخرى.
كان الأرشيف، الذي بات يعرف اليوم باسم "الأرشيف الرسولي الفاتيكاني"، يُعرف منذ القرن السابع عشر باسم "الأرشيف السري للفاتيكان". وقرر البابا فرنسيس في عام 2019 تغيير التسمية لرفع الالتباس المرتبط بكلمة "سري" التي فُهمت بشكل خاطئ على مر الزمن، بينما هي في الأصل اللاتيني "Secretum" تعني "الخاص" أو "الشخصي". أوضح المرسوم البابوي، الذي حمل عنوان "التجربة التاريخية"، أن هذا الأرشيف هو مِلكٌ للكنيسة وخدمة للحبر الأعظم والكرسي الرسولي، ويجب أن يُفهم في هذا الإطار، بعيداً عن النظريات التي وردت في الإعلام والأدب على مدى سنوات.
النشأة والمحتوى
تعود نشأة الأرشيف إلى عهد البابا بولس الخامس في مطلع القرن السابع عشر، حين بدأت الكنيسة بتجميع الوثائق ذات الأهمية في موقع مركزي. واليوم، يمتدّ الأرشيف على أكثر من 85 كيلومتراً من الرفوف، ويحتوي على وثائق تمتد إلى القرن الثامن، تغطي مواضيع دينية، ديبلوماسية، سياسية وثقافية. وصفه الفيلسوف الالماني ليبنيتز في عام 1702 بأنه "الأرشيف المركزي لأوروبا"، في إشارة إلى مركزية موقعه في التاريخ الأوروبي والعالمي.
من أبرز مقتنياته: وثائق محاكمة "غاليلي"، مراسلات الملك "هنري الثامن" في مساعيه للطلاق من "كاثرين الأراغونية" للزواج من "آن بولين"، مراسلات مع "فولتير"، "إليزابيث الأولى"، "أبراهام لينكولن" و"الدالاي لاما السابع". كما يحتوي أيضاً على وثائق حرمان مارتن لوثر، وغيرها من الوثائق والمراسلات المرتبطة بوجوه وحوادث تاريخية عظيمة. ويحتوي أيضاً على محاضر مجامع محليّة مثل مجمع "ترنت" في عام 1545، ومجمع "بيستويا" في عام 1786 وغيرها، فضلاً عن أرشيفات الأديرة، الأخويات الكبرى، وأرشيفات الرهبانات والكنائس من مختلف أنحاء إيطاليا وأوروبا، ما يجعله مرآة حيّة للتاريخ الكنسيّ والاجتماعيّ الغربي.
وقد قال البابا بولس السادس في عام 1963: "قصاصات أوراقنا هي صدى وآثار مرور الرب يسوع في العالم"، معبّراً آنذاك عن قدسية ما يُحفظ داخل الخزائن. وأضاف أن "امتلاك هذا الاحترام للوثائق، يعني بطريقة غير مباشرة، امتلاك الاحترام للمسيح، والإحساس بالكنيسة، ومنح أنفسنا ومن يأتي بعدنا تاريخ عبور الرب في هذا العالم".
في عام 2009، صدر كتاب فخم بعنوان "أرشيف الفاتيكان السرّي"، سُمح فيه للمرّة الأولى بدخول مصوّرين ومؤرخين إلى داخل غرف مغلقة في الأرشيف. وضمّ الكتاب أكثر من 100 وثيقة نادرة مع شروحات تاريخية وصور فوتوغرافية تُظهر جمالية المكان وأهميته التاريخية. ووصف الكاردينال رافاييل فارينا، أمين أرشيف الفاتيكان آنذاك، هذا العمل بأنه "حدث تحريريّ استثنائي"، يمنح العامة فرصة نادرة لاكتشاف هذا الكنز الغارق في التاريخ.
بيوس الثاني عشر وموقف الكنيسة
في الذكرى الثمانين لانتخاب بيوس الثاني عشر حبراً أعظم وتحديداً من 2 آذار (مارس) 2019، أعلن البابا فرنسيس عن فتح أرشيف البابا بيوس الثاني عشر (1939 – 1958)، وهي مرحلة حسّاسة تتزامن مع الحرب العالمية الثانية. أثار هذا القرار اهتماماً عالمياً، نظراً للاتهامات القديمة حول "صمت بيوس الثاني عشر تجاه المحرقة".
في المقابل، دافع الفاتيكان عن بيوس الثاني عشر باعتباره اختار العمل خلف الكواليس، مؤكداً أنه فضّل العمل بصمت لحماية الأرواح، وساهم في إيواء اليهود المضطهدين آنذاك ومساعدتهم سراً وبطرق متعدّدة. في حين اعتُبرت الاتهامات ضده حملات هدفها تشويه صورة البابا... أتت هذه الخطوة، التي انتظارها الباحثون طويلاً، تتويجاً لجهود استمرّت منذ عهد البابا بندكتوس السادس عشر، الذي أطلق في عام 2006 عمليّة تحضير الوثائق المتعلّقة بتلك الحقبة وترتيبها.
ليس أرشيف الفاتيكان مجرد مستودع أوراق، بل هو ذاكرة العالم وخزانة قرار وموقع صُنع تاريخ، من محاكم التفتيش إلى الاتفاقيات الديبلوماسية، وغيرها من حكايا العقود المنصرمة وتفاصيلها. وهو اليوم، وبينما يتقدّم الزمن نحو الشفافية والانفتاح، يتحوّل من خزانة مغلقة تُثير الريبة إلى منصة بحثٍ وتاريخ متاحة للجميع، باحثين ومؤرخين، يسعون لفهم وجوه التاريخ من خلال الوثيقة لا الرواية. هكذا تُفتح أبواب الأسرار لتروى، ولعل أكثر ما يميّز هذا التحوّل هو أنه لا ينزع عن الأرشيف هالته الرمزية، بل يمنحه بعداً جديداً أكثر إنسانيّة، حيث تصبح الحقيقة التاريخية في متناول من يسعون إليها بإخلاص وشغف.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


النهار
منذ 7 أيام
- النهار
البابا لاوون الرابع عشر يعيد تفعيل الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي
لقد أُعيد تفعيل الحسابات الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي للحبر الأعظم المنتخب في الثامن من ايار/ مايو الماضي. على منصة X، والحساب هو @Pontifex، بينما على إنستغرام هو @Pontifex – Pope Leo XIV ومن خلال هذه الخطوة، يُواصل البابا لاوون الرابع عشر النهج الذي سار عليه أسلافه في مجال التواصل الرقمي. فقد أطلق البابا بنيدكتس السادس عشر، في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2012، حساب @Pontifex على تويتر، والذي ورثه بعد أشهر قليلة البابا فرنسيس. وفي 19 آذار/ مارس 2016 أُطلق أيضًا الحساب الرسمي على إنستغرام تحت اسم @Franciscus. وسيتولّى البابا إدارة الحساب @Pontifex على منصة X، وهو الحساب ذاته الذي استخدمه البابا فرنسيس من قبله، وكذلك البابا بنيدكتس السادس عشر. يُنشر على هذا الحساب محتوى بـتسع لغات: الإنكليزية، الإسبانية، البرتغالية، الإيطالية، الفرنسية، الألمانية، البولندية، العربية، واللاتينية، ويصل عدد متابعيه إلى 52 مليونا. ومن المرتقب أرشفة المحتويات التي نشرها البابا فرنسيس على مرّ السنين ضمن قسم خاص على الموقع الرسمي للكرسي الرسولي أما على منصة إنستغرام، فالحساب البابوي الرسمي أصبح@Pontifex – Pope Leo XIV، في استمرارية طبيعية للحساب السابق @Franciscus، الذي ستبقى منشوراته متاحة ضمن أرشيف تذكاري يُحمل عنوان "Ad Memoriam". وقد شكّل الحضور الرقمي للبابا فرنسيس ظاهرة لافتة في تاريخ التواصل البابوي: إذ تجاوز عدد المنشورات التي نُشرت عبر حساباته التسعة على X، إلى جانب حسابه على إنستغرام، نحو 50 ألف منشور، كانت بمعظمها رسائل روحية قصيرة أو دعوات إلى السلام والعدالة الاجتماعية وحماية الخليقة. وقد لاقت هذه المنشورات تفاعلًا واسعًا، لا سيما في فترات الأزمات الكبرى؛ ففي عام 2020، خلال جائحة كورونا، شوهدت رسائل البابا نحو 27 مليار مرة.

القناة الثالثة والعشرون
منذ 7 أيام
- القناة الثالثة والعشرون
قداس عن روح البابا فرنسيس في كنيسة سيدة لبنان في مرسيليا
أُقيم قدّاس عن روح البابا فرنسيس في كنيسة سيدة لبنان في مرسيليا، إحتفل به المُدبّر البطريركي وخادم رعيّة سيدة لبنان الخورأُسقُف پول كرم، حيث أعطى شهادة عن المرّات العديدة التي إلتقى بها مع قداسته، وما تركه من أثر فيه، من خلال تواضعه ومحبّته الكُبرى للكنيسة. وقال المونسنيور كرم امام المؤمنين: "كان جريئاً في مواجهته لتحديات العصر، وبسيطاً في تعاطيه وسهلاً في حواره وعميقاً في تأملاته ومُمتلئاً من الروح في أقواله. فمرسيليا التي استقبلته في أيلول ٢٠٢٣ لن تنساه، إذ زرع فيها نفساً جديداً تاركاً عطر القداسة للناس، ونهج البساطة والفقر للتأمّل كي تعيش الإنسانيّة الأخوّة الحقيقيّة وليبقى السلام سلاحاً يتخطّى العنف والحروب... فليكُن لذكراه الطيّبة الأمانة والإخلاص لمن يؤمن بهكذا نهج لتجديد عزيمة حُجّاج الرجاء". انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News

تيار اورغ
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- تيار اورغ
ميناسيان ترأس قداسا في روما لمناسبة يوبيل سنة الرجاء
ترأس البطريرك روفائيل بيدروس الحادي والعشرون ميناسيان، كاثوليكوس بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك، القداس الإلهي، في بازيليك القديسة مريم الكبرى في روما، وذلك بمناسبة يوبيل سنة الرجاء. شاركه في الذبيحة الإلهية نيافة الكردينال كلاوديو جوجيروتي، رئيس دائرة الكنائس الشرقية الكاثوليكية، وأصحاب السيادة آباء السينودس، وجمع من الكهنة والرهبان والراهبات، والإكليريكيين والعلمانيين، إلى جانب عدد من سفراء الدول المعتمدين، وكوكبة من الشمامسة، وحشود غفيرة من المؤمنين. وبعد تلاوة الإنجيل المقدس، ألقى غبطة البطريرك ميناسيان عظة جاء فيها: نحن اليوم مجتمعون في هذه البازيليكا المهيبة، "سانتا ماريا ماجوري"، تحت ظلّ أمّ الله الحنون، لنحتفل معًا بعطيّة الإيمان وبالإرث الروحي العظيم الذي تركه لنا الحبر الأعظم الراحل، البابا فرنسيس المبارك، وذلك في إطار السنة المقدسة المخصَّصة للرجاء. إنّه الرجاء الذي لا يخيب، الذي يرافقنا في أوقات الفرح كما في زمن المحنة، ويدعونا دوماً إلى اكتشاف عمقه وخلوده المتجدد.لقد اختار البابا فرنسيس، في رسالته الخاصة بيوبيل سنة 2025، شعارًا غنيًّا بالمعاني: "حجّاج الرجاء". بهذا الشعار، أراد قداسته أن يُوقظ في قلب كل مؤمن رغبة صادقة في إعادة بناء مناخ من الرجاء والثقة، وهما علامتان على ولادة روحية جديدة تشتدّ الحاجة إليهما في عالم اليوم. كما دعا إلى استعادة الشعور العميق بالأخوّة البشرية، مشدّدًا على أنّنا، جميعًا، أبناء عائلة واحدة، مدعوّون للسير معًا على درب المحبّة والرحمة.أدرك البابا فرنسيس بوضوح أنّ مأساة الفقر المنتشر باتت جدارًا فاصلاً بيننا وبين إخوتنا الفقراء، فتُحرم ملايين النساء والرجال والأطفال من الكرامة التي منحهم الله إيّاها. فكانت كلماته بمثابة تذكير مؤثّر بضرورة ألا نغضّ النظر، وألا نتجاهل الدعوة لنكون شهودًا فعليين للرجاء ومجسّدين للرحمة في عالمنا. وهنا، في هذا المكان المقدّس حيث ترقد رفاته، يبقى تذكّرنا الدائم لأعماله شهادة حية تعيد صوته إلى مسامعنا من جديد.لكن، هل ننتظر يوبيلًا أو سنة مقدّسة لنحيا الرجاء ونشهد له؟ أليس الرجاء يولد معنا منذ لحظة الميلاد؟ أليس يتغذّى من حياتنا، وأحلامنا، وتوقنا إلى النجاح والسعادة، وشوقنا العميق إلى العودة إلى حضن الآب، وقد امتلأت قلوبنا بتجارب الزمن وغنِيت أرواحنا بالقيم؟أيها الإخوة الأعزّاء، مع كل ميلاد بشري، يُفتح طريق فريد ومُميّز، ترافقه دعوة إلهية تدعوه ليحيا حياتنًا بمعناه العميق وغايتها السامية. إنّ الرجاء يلازمنا طوال المسيرة، يستمدّ قوّته من الإيمان، ويتقوّى بالمحبّة. وعند نهاية الرحلة الأرضية، يدعونا الرجاء لنعود إلى بيت الآب، حاملين ثمار أعمالنا الصالحة وعطايا الحياة، لنُجيب بسخاء على الدعوة التي أوكلها الرب إلينا.نحن، أبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية الشرقية، أحفاد الإيمان والاستشهاد عبر القرون، مدعوّون اليوم، في ظلّ الحروب والنزاعات التي تعصف بالشرق الأوسط والعالم، إلى أن نكون شهودًا أمناء للمسيح، معبّرين بأفعالنا، وأحيانًا بدمائنا، عن تجذّرنا العميق في المحبّة المسيحية. فلنتأمّل في كلمات الرب يسوع التي قال فيها: "هذه هي وصيّتي أن تحبّوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم" (يو 15: 12)، ثم يُضيف: "ليس لأحد حبّ أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه" (يو 15: 13).أيها الأحبّاء، من أجل هذا اجتمعنا اليوم: في الصلاة، والتأمل، والتوبة. كي نوقظ قلوبنا، وننقّيها، ونجددها، فنستعدّ لحياة ملؤها المحبّة الإلهية. وفي لحظة تقديس الخبز والخمر، اللذين سيصيران جسد ودم مخلّصنا يسوع المسيح، فلنقترب من هذا السرّ المقدّس بإيمان حيّ، ولنتغذَّى من الرجاء الحيّ الذي يملأ قلب كل مؤمن.وفي هذا الاحتفال المبارك، نُجدّد التزامنا بأن نكون شهودًا أمناء للإنجيل، متمثّلين بشخص المسيح، مخلّصنا وملكنا، كي يضيء الرجاء في القلوب، ويثمر محبة وسلامًا في العائلات، ويُشيع النور في العالم.وفي هذه المناسبة المجيدة، نرفع صلاتنا الصادقة، ونعرب عن دعمنا الكامل لخليفة البابا فرنسيس، قداسة البابا لاوُن الرابع عشر، الذي يقود الكنيسة اليوم بالحكمة والحنان. وكما عبّر هو نفسه في بداية خدمته البطرسية، فإنّ هذا الزمن، رغم ما فيه من حزن وفرح، هو زمن مضاء بأنوار القيامة. فلنعيشه بروح فصحية، وفي ظل قيادة قداسة البابا، نُسلِّم نفوسنا لرحمة الله، التي هي عزاؤنا وخلاصنا. فلتنر قيامة المسيح درب الكنيسة الجامعة والكنائس الشرقية على حدّ سواء.