logo
طفرة الروايات الصوفية وانشغال الكتّاب الجدد بالتاريخ

طفرة الروايات الصوفية وانشغال الكتّاب الجدد بالتاريخ

الشرق السعودية٢٢-١١-٢٠٢٤

في نصوص نجيب محفوظ، نعثر على أنشودة أو شخصية أو معنى صوفي، لكن ليس لديه ما يُطلق عليه "رواية صوفية"، هذا المصطلح المثير للجدل والرائج الآن.
لكن لماذا انهمر سيل الروايات الصوفية خلال السنوات العشر الماضية، على الرغم من تحفظ البعض على المصطلح؟
مراراً وتكراراً عاد مبدعون عرب ومسلمون إلى جلال الدين الرومي والغزالي وابن عربي. وقبل أيام، ناقش الباحث المصري د.أشرف عبد الكريم، رسالة دكتوراه بعنوان "الرواية الصوفية العربية: الأسس والبُنى"، بإشراف الراحل جابر عصفور، ثم الدكتور خيري دومة. وربما تصلح تلك الرسالة مدخلاً لفهم الظاهرة.
تجديد وتجريب
عن تلك الظاهرة يرى عبد الكريم، "أنه في سعي المبدعين الروائيين نحو التجديد والتجريب، توجّه بعضهم إلى التاريخ، وتوجّه غيرهم نحو التراث الديني، في محاولة لتحقيق التفرّد وتأكيد الأصالة، وهناك من اتخذ التراث الصوفي العربي ركيزة رئيسة يحاول من خلالها بث رؤيته للعالم، وموقفه من الوجود ومفرداته".
وقال: "أصبح لدينا كثرة من عناوين روائية تعلن عن توجه مؤلفيها نحو التوسّل بهذا التراث المميّز لثقافتنا العربية، وأصبح بالتالي لدينا تداخل بين ما يمكن تسميته بالرواية الصوفية، وبين ما يتوقف عند الاستعانة بالتصوّف أو توظيفه، ما يبرز الحاجة نحو دراسة تضع قرائن وأسس تميّز السرد الروائي الصوفي عن غيره من الروايات".
إذن ما الذي يميّز الرواية الصوفية عن غيرها؟ يقول عبد الكريم: "غالباً لا يخلو النص الروائي من تساؤلات وجودية وروحانيات، لكن أهم ملامح الرواية الصوفية تكمن في تبني موقف يتّصف بالتسامح، وتقبّل الآخر، فلا يراه ضداً له".
ويعتبر أن هذا الموقف "ينسحب على الآخر الديني، ويمتدّ لموقفه من الكائنات الأخرى التي يحادثها ويتعلم منها، في رحلة ينجم عنها تحوّل بالضرورة، لكن هذه الرحلة لا يشترط أن تكون عبر المكان".
يضيف: "قد تكون رحلة داخل الذات، ولو كانت رحلة في المكان فلها طبيعتها الخاصة وأماكنها التي ترد باضطراد، في سعي من هذا الولي/ البطل، للتغلب على ما يعتري البشر من نقص، فلا يحدّه المكان؛ إذ هو من أهل الخطوة أحياناً، ويوظّف خياله في التعامل مع الفضاء المحيط به، وقد يمتدّ تسامحه إلى تكاليف الدين، وتفاصيل هذه المواقف كلها تقدّم في لغة متمايزة بغموضها ورمزيتها التي تناسب التجربة الباطنية والمعرفة".
إنكار التخصص
مثلما تخصّصت أغاثا كريستي في الرواية البوليسية وعالم الجريمة القاتم، هل يمكن أن يتخصّص الكاتب في ما يسمى "الرواية الصوفية"؟
الروائية رشا زيدان، التي صدر لها ثلاثية ترتكز على التصوّف تشمل: "روح" ، "لك وحدك"، و"هو أنت"، تقول: "لا أعتبر نفسي مختصّة في الرواية الصوفية، لكني قدّمت شكلاً مختلفاً لها نتاج تجربة ذاتية، وانخراط في الاجواء الصوفية في مصر والخارج. وهذا الشكل المعاصر للصوفية جعل القارئ يربط تحديات حياته بالروحانيات، ويرى علاقته بالله بمنظور روحي".
بدوره يبدو الإعلامي والروائي محمد موافي متحفظاً، ويرى أنه "حتى لو رأى النقّاد أن روايتين من رواياتي الأربع، يُصنّفان تحت هذا المصطلح، فأنا أرى أنني لم أكتب رواية صوفية، ولا تاريخية، بل أكتب خيالاً يعتمد على تجارب مختلفة، فإن جنح الخيال إلى روح التصوّف، أو قدّمت التجارب حياةً لمتصوفٍ ما، فهذا لا يعني أني أكتب عملاً صوفياً".
واعتبر أن المشكلة في التصنيف الجامد الذي يريح ناقداً كسولاً. لكني لم أكتب مطلقاً ترجمة لشخصية متصوّفة ما، بل أرى أن اختيار شخصية معروفة والكتابة عنها، يصبح نوعاً من التقرير الإنشائي الإخباري. ونحن في غنى عن ذكر أمثلة كثيرة".
وقال: "في روايتي الأحدث "آيات عاشق"، كان الراوي صريحاً من الصفحة الأولى، وأعلن أن ما لا يمكن الحديث عنه بالكلية، لا يمكن السكوت عنه بالكلية، فلجأ إلى حوادث التاريخ ومشى مع الجغرافيا، ليقول ما يحاول روائي أن يكتمه في صدره".
موضة رائجة
هل يمكننا القول إن الكاتبة التركية أليف شافاق أسست موضة روائية رائجة، أثمرت عشرات الروايات العربية التي تستلهم عوالم وشخصيات صوفية؟
يقرّ الروائي ماجد طه شيحة، أنها "موضة وانتهت" أو انحسرت بتعبير أدق، وبالفعل بدأتها "قواعد العشق الأربعون" لشافاق. ولا ينكر أنه تأثر بها في روايته "درب الأربعين" التي دارت في أجواء صوفية.
بدورها تتحدث رشا زيدان عن تأثير شافاق، وترى "أن سبب إقبال بعض الكُتاب على الرواية الصوفية يعود ربما إلى نجاح "قواعد العشق الأربعين"، لكن هناك كثيرون قدّموا تجارب مميّزة سابقة عليها، وإن لم تلق نفس النجاح".
وترى أن كل كاتب لديه حس روحاني، ويمتلك أدوات التعبير والحكمة، يحلم أن يكون في تاريخه رواية بخلفية روحانية في عصر غلبت عليه المادة.
هروب إلى الماضي
في رسالته للدكتوراه، اختار أشرف عبد الكريم 11 رواية من بلدان عربية كنماذج مختارة، من مصر اختار روايتي "ترنيمة سلام" و"عشق" لأحمد عبد المجيد، و"جبل الطير" و"شجرة العابد" لعمار علي حسن، و"حارس العشق الإلهي"، و"التاريخ السري لمولانا جلال الدين الرومي" لأدهم العبودي، ورواية "كيميا" لوليد علاء الدين.
ومن المغرب اختار روايتي "جبل قاف" و"طواسين الغزالي" لعبد الإله بن عرفة، و"هذا الأندلسي" لبنسالم حميش، ومن السودان "شوق الدرويش" لحمّور زيادة، ومن السعودية "موت صغير" لمحمد حسن علوان، إضافة إلى روايات أخرى.
وعلى الرغم من تنوّع موضوعات وبيئات هذه النماذج، لكن جميعها تشترك في الانتماء إلى الألفية الثالثة. فلماذا ينشغل كُتّاب يعيشون في القرن الحادي عشر بالغزالي وابن عربي والرومي والحلاج؟
أليس من باب أولى أن يكتبوا عن جائجة كورونا؟ لماذا لا يفكرون مثل سامنثا هارفي الحائزة على جائزة "بوكر" الدولية عن روايتها "مداري"، التي تقدم رواية فلسفية من وحي روّاد فضاء خياليين؟
هل يخاف الكاتب العربي من سلطة الواقع ويفضّل الهروب إلى ماضٍ سحيق بدلاً من طرح أسئلة المستقبل؟
تقول زيدان: "الصوفية ليست ماضياً بل فلسفة روحانية قدّمت قديماً، وهي تقدّم اليوم بما يتناسب والعصر الحالي. وإذا استطاع الكاتب أن يربط فلسفة قديمة بحاضر معاصر فهذا إبداع وإضافة".
بينما يرى محمد موافي، أن المسألة ليست قراراً واعياً يتعلق بالماضي والمستقبل، فالروائي هو مجموع تجاربه الشخصية وخياله الجامح ولغته الخاصة، والأبطال هم من يختارون الزمان والمكان والقالب، يؤسسون عمران النص ويفرضون لغتهم الخاصة. فإن حدث واختار البطل زمناً مضى، فهذا يعني أنه الزمن المناسب من وجهة نظر الخيال. وهذا لا يمنع أن يهرب الروائي من واقع أو من خطر".
أسباب الرواج
سواء اعترف النقّاد بمصطلح "الرواية الصوفية" أم لا، وسواء اعتبرناها موضة أو هروباً من الواقع أو استجابة روحانية ضد قسوة الواقع المادي، فما سرّ رواجها؟
يجيب ماجد شيحة: "ميزة الصوفية عموماً أنها تقدّم حلولاً للنفس وتصوّراً أفضل للواقع الصعب الذي يعيشه الناس".
وتؤكد رشا زيدان على فكرة الرواج قائلة: "الكتابة في الصوفية جاذبة لكُتّاب كثيرين نظراً لجمهورها الكبير، لكنها بمثابة رمال متحركة، الغوص فيها يجب أن يكون بحذر، لأنها تتطلب الكثير من التفكّر والتأمل والتجربة الذاتية، ليكون الكاتب صادقاً فيما يكتب ويلمس قلب القارئ، عبر تجربته الذاتية وحكمته المستخلصة، وليس مجرد ناقل لحِكم مكررة من تجارب آخرين دون الإحساس الحقيقي بها".

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟
ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟

سعورس

time١٤-٠٥-٢٠٢٥

  • سعورس

ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟

جلال الدين الرومي، أو كما يسميه المريدون «مولانا»، لا يمكن اختصاره في تصنيف أو حصره داخل مدرسة، ورحلته الممتدة من بلخ مرورًا ببغداد إلى قونية، وتأثيره الكبير في عدة لغات وثقافات من الفارسية إلى العربية إلى التركية، ومن المتصوفة إلى الفلاسفة والشعراء، يجعله من أعظم العقول التي خطّت شعرًا ونثرًا ورؤية في تاريخ البشرية. ماذا لو كان جلال الدين الرومي بيننا اليوم؟! أعتقد أن حضوره في زماننا سيكون على مستويين أو بعدين متداخلين: البعد الأول، كقامة أدبية عالمية: لو عاش جلال الدين في عصرنا، لما تأخرت عنه جائزة نوبل، بل لعلها كانت ستتشرف بأن يُسطّر اسمه على جدرانها، فهو من القلة الذين كتبوا من قلب الروح، وسكبت كلماتهم نورًا في العتمة، وقصائده ستُترجم إلى لغات الأرض كافة، وستُدرس كتجارب نفسية وروحية، مثلما تُدرَس أعمال دوستويفسكي وتولستوي. هو القائل: «بالأمس كنتُ ذكيًا، فأردت أن أغيّر العالم، اليوم أنا حكيم، ولذلك سأغيّر نفسي». هذا العمق الوجودي الذي يستبدل الثورة الخارجية بالتحول الداخلي هو جوهر الحكمة الأدبية في العصر الحديث. وقال أيضًا: «ارتقِ بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، فالمطر هو الذي ينمّي الأزهار، لا الرعد». وبهذه العبارة كان سيرد على صخب الإعلام، على ضجيج المنصات، على وهم الظهور. وحين تُظلم الروح، ولا يبقى من الأمل سوى رماد، كان سيذكرنا: «إذا كان كل شيء من حولك يبدو مظلمًا، فانظر مجددًا، فقد تكون أنت النور». ثانيًا، البعد الثاني، كروح متصلة بالعالم: في زمن الاتصالات، لن تكون عزلته كما كانت في بلدته قونية، بل سيغادر الزاوية ويكتب من كل الجهات، وسيدرك أن الصوفية القديمة بقدر ما كانت تشتعل من شرارة العزلة، فإنها تخفت حين توقدها الشمس الكبرى للعالم! إن جلال الدين سيجد توازنًا جديدًا بين الروح والمادة، بين الخلوة والفعالية، وسينطق بكلماته القديمة بلحن جديد: «الحياة توازن، فمن طغى عليه الروح فاته البناء، ومن غلبته المادة، ضاع في الغفلة». إنه الذي كتب: «عندما يدفعك العالم لكي تجثو على ركبتيك، فاعلم بأنك في الوضع المناسب للصلاة». إنها فلسفة الانكسار الواعي، حيث تصبح النقطة الأدنى هي النقطة التي يولد فيها النور. وفي زمن يهرع فيه الجميع نحو السرعة واللهاث، كان سيجلس في زاوية، يبتسم، ويقول: «لا بد لنا من الصمت بعض الوقت حتى نتعلم الكلام». وهو القائل: «أنا لم آتِ لأعطيك شيئًا جديدًا، لقد أتيت لأُخرج جمالًا لم تكن تعرف أنه موجود فيكً. وهذا القول وحده كافٍ لفهم مهمته: أن يكون مرآة للذات، لا سلطة عليها. ولأنه عرف الحب، كتب: «الحب الذي لا يهتم إلا بالجمال الجسدي ليس حبًا حقيقيًا». «كل الأشياء تُصبح أوضح حين تُفسر، غير أن هذا العشق يكون أوضح حين لا تكون له أية تفسيرات». وقال في أسمى معاني الحرية والحب: «أريد لمن أحب أن يكون حرًا، حتى مني». ثم يتساءل: «أتدري من الذي إذا علمته الطيران، طار... وعاد إليك؟ إنه الذي وجد فيك حريته». وفي أعظم صور المحبة، شبّه الحب بما لا يطلب المقابل: «وما زالت الشمس، وبعد كل هذا الزمن، لم تقل للأرض أنت مدينة لي. انظر ماذا يحدث مع مثل هذا الحب! إنه يملأ السماء نورًا». وكان يعرف أن الأرواح الحقيقية تعرف بعضها دون لغة: «الروح التي فيها شيء من روحك، تعرف كيف تخاطبك بلا كلمات». ولأنه يؤمن بأن الألم هو ممر النور، وهو من قال مقولته الشهيرة: «لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟» ثم أرشد إلى الصفح كقوة وليس كضعف: «إياك أن تظن أنك خسرت شيئًا حين تغافلت عن زلة أحدهم، أو قابلت إساءته بالصمت والإحسان، هي خيرات ستعود إليك يومًا ما.. والحياة تعيد لكل ذي حقٍ حقه». وحين تنهار الأرواح عند نقطة اليأس، قال: «عندما يتراكم عليك كل شيء، وتصل إلى نقطة لا تتحملها، احذر أن تستسلم، ففي هذه النقطة قد يتغير قدرك إلى الأبد». وهو أعطاك هدفًا حتى في قمة اليأس بقوله: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر». ثم أضاف: «عندما تصبح أكثر وعيًا، ستبدأ في رؤية الأشياء كما هي، لا كما كنت تتمنى أن تكون». وسأل شيخه شمس: «كيف تبرد نار النفس؟» فأجابه: «بالاستغناء، استغنِ يا ولدي، فمن ترك ملك! قال جلال الدين: وماذا عن البشر؟ قال: هم صنفان؛ من أراد هجرك وجد في ثقب الباب مخرجًا، ومن أراد ودّك ثقب في الصخرة مدخلًا».! وقال أيضًا عن الشجاعة الحقيقة: «الذين يحاولون استئصال الحقد والكراهية من نفوسهم هم الشجعان فقط، أما الذين لا يحاولون فهم الجبناء والعاجزون». ويقول أيضًا عن ذلك: «كن مثل الشجرة، ثابتًا في العاصفة، ومع ذلك توزع الظل على من أساء إليك». وهو من ينبه لليقظة الحقيقة بقوله: «إن الله يبعث في طريقك ما يوقظك بين الحين والآخر... أنت الذي ظننت لوقت طويل أنك مستيقظ». أما عن الطرق في الحياة، فكان التبريزي والرومي واقعيين: «قبل أن تصل إلى الباب الصحيح، يتوجب عليك أن تطرق العديد من الأبواب الخطأ». وقال مشيرًا إلى الندرة: «إذا صادفت إنسانًا حقيقيًا، فلا تدعه يغيب عن مدى قلبك أبدًا». وأما الجهل فحذّر منه بلغة صارمة: «إن المرء الذي يعتقد أن لديه جميع الأجوبة، هو أكثر الناس جهلًا». وأيضًا كتب: «الجاهل وإن يبد لك الود، فإنه في النهاية يصيبك بالجراح من جهله». وأما الخطأ، فاحتفى به بطريقة مميزة: «الأخطاء ليست سيئة، بل تؤدي للنضج». أم خلاصة الأمر وإذا أردنا فهم جلال الدين بعمق، فإننا لا بد أن نتجاوز الطقوس، ونحط أنظارنا على جوهره: «لا حل إلا أن تكون لله عبدًا». ورغم هذا الإبداع الاستثنائي لغور أعماق النفس البشرية وهذه العقلية الفذة فإن الأمور في خواتيمها تتجه إلى اتجاه تقليدي وكما جرت العادة في التاريخ، (الاتباع يتشردون ويتنطعون بالقائدة وسيرته وأفكاره) ولم يكن جلال الدين استثناء! كان أتباع جلال الدينار كما يناديه اتباعه (سلطان العارفين) أكثر غلوًا. خصوصًا بعد موته، تغيرت الطريقة المولوية التي نسبت له، واستُخدمت لتثبيت نفوذ سياسي وعائلي في زمن لاحق، خصوصًا في العهد العثماني، وحين جاء أتاتورك لمحاربتها رسميًا، كانت جذورها قد امتدت كالشجرة، تخفي في أغصانها بعض ظلّ الرومي... وكثيرًا من غيابه. وفي الختام، لو كان جلال الدين بيننا الآن، لما كان درويشًا، ولا ناسكًا يرقص في دائرة مغلقة، بل كان ناطقًا بلغة العالم، جامحًا بالحب، راسخًا بالحكمة، يناديك بصوتٍ خافت: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر».

ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟
ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟

الوطن

time١٤-٠٥-٢٠٢٥

  • الوطن

ماذا لو كان الرومي بيننا الآن؟

من الأمانة الأدبية أن نبدأ هذا المقال باعتراف، لا يخدش من قدر أحد ولا يعبث باختيارات أحد: إنني كنت، وما زلت في رأيي الشخصي أعتقد، أن الصوفية – في صورتها التقليدية – تحمل في طقوسها ومظاهرها الكثير مما لا يستسيغه العقل، وتتشرب بعناصر مستعارة من ثقافات ومذاهب متباينة، حتى ليصعب الفصل بين الأصل والوافد! وبالعامية (أحسها نزعة دراويش وضحك على الذقون!)، ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يمنعني من أن اجل الاحترام والتقدير الكبير لجلال الدين الرومي، لا بوصفه «صوفيًا»، بل بوصفه عبقريًا إنسانيًا، شاعرًا بحجم العالم، ومفكرًا تخطّى الزمان والمكان! جلال الدين الرومي، أو كما يسميه المريدون «مولانا»، لا يمكن اختصاره في تصنيف أو حصره داخل مدرسة، ورحلته الممتدة من بلخ مرورًا ببغداد إلى قونية، وتأثيره الكبير في عدة لغات وثقافات من الفارسية إلى العربية إلى التركية، ومن المتصوفة إلى الفلاسفة والشعراء، يجعله من أعظم العقول التي خطّت شعرًا ونثرًا ورؤية في تاريخ البشرية. ماذا لو كان جلال الدين الرومي بيننا اليوم؟! أعتقد أن حضوره في زماننا سيكون على مستويين أو بعدين متداخلين: البعد الأول، كقامة أدبية عالمية: لو عاش جلال الدين في عصرنا، لما تأخرت عنه جائزة نوبل، بل لعلها كانت ستتشرف بأن يُسطّر اسمه على جدرانها، فهو من القلة الذين كتبوا من قلب الروح، وسكبت كلماتهم نورًا في العتمة، وقصائده ستُترجم إلى لغات الأرض كافة، وستُدرس كتجارب نفسية وروحية، مثلما تُدرَس أعمال دوستويفسكي وتولستوي. هو القائل: «بالأمس كنتُ ذكيًا، فأردت أن أغيّر العالم، اليوم أنا حكيم، ولذلك سأغيّر نفسي». هذا العمق الوجودي الذي يستبدل الثورة الخارجية بالتحول الداخلي هو جوهر الحكمة الأدبية في العصر الحديث. وقال أيضًا: «ارتقِ بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، فالمطر هو الذي ينمّي الأزهار، لا الرعد». وبهذه العبارة كان سيرد على صخب الإعلام، على ضجيج المنصات، على وهم الظهور. وحين تُظلم الروح، ولا يبقى من الأمل سوى رماد، كان سيذكرنا: «إذا كان كل شيء من حولك يبدو مظلمًا، فانظر مجددًا، فقد تكون أنت النور». ثانيًا، البعد الثاني، كروح متصلة بالعالم: في زمن الاتصالات، لن تكون عزلته كما كانت في بلدته قونية، بل سيغادر الزاوية ويكتب من كل الجهات، وسيدرك أن الصوفية القديمة بقدر ما كانت تشتعل من شرارة العزلة، فإنها تخفت حين توقدها الشمس الكبرى للعالم! إن جلال الدين سيجد توازنًا جديدًا بين الروح والمادة، بين الخلوة والفعالية، وسينطق بكلماته القديمة بلحن جديد: «الحياة توازن، فمن طغى عليه الروح فاته البناء، ومن غلبته المادة، ضاع في الغفلة». إنه الذي كتب: «عندما يدفعك العالم لكي تجثو على ركبتيك، فاعلم بأنك في الوضع المناسب للصلاة». إنها فلسفة الانكسار الواعي، حيث تصبح النقطة الأدنى هي النقطة التي يولد فيها النور. وفي زمن يهرع فيه الجميع نحو السرعة واللهاث، كان سيجلس في زاوية، يبتسم، ويقول: «لا بد لنا من الصمت بعض الوقت حتى نتعلم الكلام». وهو القائل: «أنا لم آتِ لأعطيك شيئًا جديدًا، لقد أتيت لأُخرج جمالًا لم تكن تعرف أنه موجود فيكً. وهذا القول وحده كافٍ لفهم مهمته: أن يكون مرآة للذات، لا سلطة عليها. ولأنه عرف الحب، كتب: «الحب الذي لا يهتم إلا بالجمال الجسدي ليس حبًا حقيقيًا». «كل الأشياء تُصبح أوضح حين تُفسر، غير أن هذا العشق يكون أوضح حين لا تكون له أية تفسيرات». وقال في أسمى معاني الحرية والحب: «أريد لمن أحب أن يكون حرًا، حتى مني». ثم يتساءل: «أتدري من الذي إذا علمته الطيران، طار... وعاد إليك؟ إنه الذي وجد فيك حريته». وفي أعظم صور المحبة، شبّه الحب بما لا يطلب المقابل: «وما زالت الشمس، وبعد كل هذا الزمن، لم تقل للأرض أنت مدينة لي. انظر ماذا يحدث مع مثل هذا الحب! إنه يملأ السماء نورًا». وكان يعرف أن الأرواح الحقيقية تعرف بعضها دون لغة: «الروح التي فيها شيء من روحك، تعرف كيف تخاطبك بلا كلمات». ولأنه يؤمن بأن الألم هو ممر النور، وهو من قال مقولته الشهيرة: «لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟» ثم أرشد إلى الصفح كقوة وليس كضعف: «إياك أن تظن أنك خسرت شيئًا حين تغافلت عن زلة أحدهم، أو قابلت إساءته بالصمت والإحسان، هي خيرات ستعود إليك يومًا ما.. والحياة تعيد لكل ذي حقٍ حقه». وحين تنهار الأرواح عند نقطة اليأس، قال: «عندما يتراكم عليك كل شيء، وتصل إلى نقطة لا تتحملها، احذر أن تستسلم، ففي هذه النقطة قد يتغير قدرك إلى الأبد». وهو أعطاك هدفًا حتى في قمة اليأس بقوله: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر». ثم أضاف: «عندما تصبح أكثر وعيًا، ستبدأ في رؤية الأشياء كما هي، لا كما كنت تتمنى أن تكون». وسأل شيخه شمس: «كيف تبرد نار النفس؟» فأجابه: «بالاستغناء، استغنِ يا ولدي، فمن ترك ملك! قال جلال الدين: وماذا عن البشر؟ قال: هم صنفان؛ من أراد هجرك وجد في ثقب الباب مخرجًا، ومن أراد ودّك ثقب في الصخرة مدخلًا».! وقال أيضًا عن الشجاعة الحقيقة: «الذين يحاولون استئصال الحقد والكراهية من نفوسهم هم الشجعان فقط، أما الذين لا يحاولون فهم الجبناء والعاجزون». ويقول أيضًا عن ذلك: «كن مثل الشجرة، ثابتًا في العاصفة، ومع ذلك توزع الظل على من أساء إليك». وهو من ينبه لليقظة الحقيقة بقوله: «إن الله يبعث في طريقك ما يوقظك بين الحين والآخر... أنت الذي ظننت لوقت طويل أنك مستيقظ». أما عن الطرق في الحياة، فكان التبريزي والرومي واقعيين: «قبل أن تصل إلى الباب الصحيح، يتوجب عليك أن تطرق العديد من الأبواب الخطأ». وقال مشيرًا إلى الندرة: «إذا صادفت إنسانًا حقيقيًا، فلا تدعه يغيب عن مدى قلبك أبدًا». وأما الجهل فحذّر منه بلغة صارمة: «إن المرء الذي يعتقد أن لديه جميع الأجوبة، هو أكثر الناس جهلًا». وأيضًا كتب: «الجاهل وإن يبد لك الود، فإنه في النهاية يصيبك بالجراح من جهله». وأما الخطأ، فاحتفى به بطريقة مميزة: «الأخطاء ليست سيئة، بل تؤدي للنضج». أم خلاصة الأمر وإذا أردنا فهم جلال الدين بعمق، فإننا لا بد أن نتجاوز الطقوس، ونحط أنظارنا على جوهره: «لا حل إلا أن تكون لله عبدًا». ورغم هذا الإبداع الاستثنائي لغور أعماق النفس البشرية وهذه العقلية الفذة فإن الأمور في خواتيمها تتجه إلى اتجاه تقليدي وكما جرت العادة في التاريخ، (الاتباع يتشردون ويتنطعون بالقائدة وسيرته وأفكاره) ولم يكن جلال الدين استثناء! كان أتباع جلال الدينار كما يناديه اتباعه (سلطان العارفين) أكثر غلوًا. خصوصًا بعد موته، تغيرت الطريقة المولوية التي نسبت له، واستُخدمت لتثبيت نفوذ سياسي وعائلي في زمن لاحق، خصوصًا في العهد العثماني، وحين جاء أتاتورك لمحاربتها رسميًا، كانت جذورها قد امتدت كالشجرة، تخفي في أغصانها بعض ظلّ الرومي... وكثيرًا من غيابه. وفي الختام، لو كان جلال الدين بيننا الآن، لما كان درويشًا، ولا ناسكًا يرقص في دائرة مغلقة، بل كان ناطقًا بلغة العالم، جامحًا بالحب، راسخًا بالحكمة، يناديك بصوتٍ خافت: «لا تنطفئ، فلربما كنت سراجًا لأحدهم وأنت لا تشعر».

عبدالكريم يحتفي بليلة العمر
عبدالكريم يحتفي بليلة العمر

عكاظ

time١٢-٠٥-٢٠٢٥

  • عكاظ

عبدالكريم يحتفي بليلة العمر

العريس بين أقاربه في الحفل. عبدالكريم بن زيد. احتفل عبدالكريم محمد أحمد بن زيد بزواجه، في إحدى قاعات الاحتفالات بجدة، وسط حضور عدد من الأهل والأصدقاء. وعبر العريس عن فرحته بدخوله عش الزوجية، داعيا الله التوفيق والسعادة. أخبار ذات صلة

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store