logo
غيث حمور: أدب المنفى السوري وجد طريقه أخيرا للوطن

غيث حمور: أدب المنفى السوري وجد طريقه أخيرا للوطن

الجزيرة١١-٠٣-٢٠٢٥

بعد غياب دام 11 عاما في المنفى، عاد الكاتب الصحفي والروائي السوري غيث حموّر، من مواليد دمشق 1982، إلى بلده سوريا عقب سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وفي مقهى الروضة الدمشقي، أقام حمور حفل توقيع لستة من أعماله الأدبية التي كانت ممنوعة من النشر في عهد النظام السابق. حدث يصفه الروائي الشاب بالمختلف، ويضيف: "شعرت وكأنني أستعيد جزءا من هويتي المفقودة".
وبرزت من تلك الأعمال رواياته الثلاث "أبيض قان" و"إمبراطورية فسادستان" و"غراب وصنمان" التي قارب من خلالها الأحداث السياسية والاجتماعية في التاريخ السوري المعاصر مقاربة سردية تتوخى إبراز عبث الحياة في ظل حكم شمولي واستبدادي عانى منه السوريون لعقود.
وبمزيج من التوثيق والتخييل، والسخرية والترميز، استطاع حمور ابتكار شخوص سردية متفرّدة، وأصوت روائية متنوعة تمكَّنت من نقل التجربة السورية بالكثير من الصدق والإبداع بعيدا عن التكلف والتصنّع الأدبيين.
وإلى جانب الكتابة الروائية، يتميز مشروع حمور الأدبي بأعمال تنتمي نقديا إلى جنس "اليوميات"، الذي يلجأ إليه الكاتب عندما "يكون الواقع أكثر عبثية من أن يُروى في قالب روائي، وأشد قسوة من أن يُختصر في مقال. وعندما تصبح الكتابة حاجة يومية لفهم ما يحدث من حولنا".
وغيث حمور حاصل على بكالوريوس في الإعلام من جامعة دمشق في سوريا، وماجستير في التلفزيون والسينما من جامعة بهتشه شهير في تركيا، وله مئات المقالات في عدة مؤسسات إعلامية سورية وعربية، فضلا عن تأليفه لعدة كتب بحثية أبرزها "ثقافة الهيمنة" و"أفلام تحت المجهر".
وحول عودته إلى سوريا، ومشروعه الأدبي، واختياراته الفنية كان للجزيرة نت هذا الحوار مع غيث حمور:
معركة شخصية مع الصمت
أقمت في الثامن من الشهر الجاري حفل توقيع لستة من أعمالك الأدبية في مقهى الروضة بدمشق بعد 11 عاما أمضيتها مغتربا. فما الدافع؟ وكيف تصف لنا شعورك في تلك اللحظات؟
بعد 11 عاما و50 يوما من الغياب القسري، كان حفل التوقيع في مقهى الروضة لحظة استثنائية بكل معنى الكلمة. لقد أقمت حفلات توقيع عديدة في معارض الكتاب، خاصة في إسطنبول وغازي عنتاب، لكن هذا التوقيع كان مختلفا، لأنه الأول داخل سوريا، ولأنه جاء بعد أن أصبحت قادرا على العودة بسقوط نظام الأسد.
الكتابة كانت دائما انعكاسا لذاتي، وطريقتي لفهم العالم والتفاعل معه، لكن أن أعود بعد كل هذه السنوات لأوقع كتبي بين يدي القرّاء السوريين، في مدينة كنتُ بعيدا عنها لزمن طويل، جعلني أشعر وكأنني أستعيد جزءا من هويتي المفقودة.
كان اللقاء مع المهتمين داخل سوريا مزيجا من الحنين والانتصار، وكأن الأدب الذي كتبته في المنفى قد وجد طريقه أخيرا إلى المكان الذي وُلِدَت فيه كلماته.
أما عن شعوري خلال التوقيع، فقد كان مزيجا من الحنين والرهبة، فرؤية قرّاء يحملون كتبي، يتحدثون عن شخصياتي وكأنهم التقوا بها فعليا، جعلتني أدرك أن الكتابة ليست مجرد فعل فردي، بل هي جسر يمتد بين الكاتب والناس.
خَبُرتَ تجربة الاعتقال في سجون النظام وأنت في سنّ صغيرة في عام 2003 وكنت أصغر معتقل سياسي حينها. لو تخبرنا عن كواليس تلك التجربة؟ وكيف أثّرت في أعمالك الأدبية أو أسلوبك؟
لم يكن الاعتقال في سن صغيرة مجرد تجربة عابرة، بل كان جرحا غائرا وتشكيلا مبكرا للوعي. في 2003، كنتُ أصغر معتقل سياسي في العهد الجديد "عهد بشار الأسد"، كما وصفتني المغيبة قسرا رزان زيتونة في موقع سمير قصير.
في ذلك العمر، لم أكن أفهم تماما معنى أن تكون سجين رأي بشكل كامل، رغم معرفتي بالكثير منهم، لكنني أدركت سريعا أن الخوف يمكن أن يصبح ظلّا ملازما، يطاردك حتى بعد الخروج من الزنزانة.
هذا الخوف لم يمنعني من الكتابة، لكنه منعني من النشر. كنت أكتب باستمرار، وكأنني أخوض معركة شخصية مع الصمت، لكن لم أتجرأ على نشر أي من أعمالي حتى عام 2022، رغم أن بعضها كان جاهزا منذ سنوات. كان الأمر أشبه بمحاولة استعادة الصوت الذي كُتم لسنوات طويلة.
أما عن تأثير التجربة على أعمالي، فقد جعلتني أكثر ميلا إلى تشريح النفس البشرية، إلى اللعب على التناقضات، إلى السخرية السوداء التي تفكك القهر بدلا من الاستسلام له.
السجن جعلني أفهم كيف يمكن للخوف أن يتحول إلى قيد غير مرئي، وكيف أن الحرية الحقيقية لا تبدأ بالخروج من المعتقل، بل بكسر الحواجز التي يتركها بداخلك. لهذا، تجد في كتاباتي ذلك الصراع الدائم بين الحرية والقيد، الحقيقة والوهم، الصوت والصمت، وكأن كل نص هو محاولة جديدة لاختبار حدود الخوف والانتصار عليه.
السرد لتفكيك الاستبداد
أصدرتَ روايتك البكر "أبيض قانٍ" في نهاية عام 2022، ورصدت من خلالها حكاية الشابة السورية سناء أثناء الثورة، وكانت أشبه بضحية ناجية هي مجاز عن سوريا نفسها. فما سرّ اختيار هذا العنوان؟ وكيف نفهم هذه العلاقة بين التخييل والتوثيق، والتي حضرت أيضا في رواياتك اللاحقة؟
العنوان "أبيض قانٍ" يحمل تناقضا مقصودا، يعكس جوهر الحكاية السورية نفسها. الأبيض هو لون النقاء، لون البدايات، وربما لون الأمل، لكنه هنا مغموس بالدم، محمّل بالعنف والقهر والفقد. العنوان هو صورة مجازية عن سوريا، التي كانت دائما نقية في جوهرها، لكنها تحوّلت إلى ساحة للدماء والمعاناة.
أما عن العلاقة بين التخييل والتوثيق، فهي لم تكن خيارا فنيا فحسب، بل كانت ضرورة. في ظل التشويه المستمر للحقيقة، يصبح الأدب وسيلة لكشف ما يتم التعتيم عليه. التوثيق يمنح القصة ثقلها الواقعي، الجروح الحقيقية التي لا يمكن إنكارها، أما التخييل فهو الذي يسمح بإعادة بناء هذه الجروح بطريقة أعمق، تمنحها بُعدا إنسانيا وشعوريا يتجاوز الأرقام والتقارير.
في "أبيض قانٍ"، كانت سناء أشبه بضحية ناجية، لكنها ليست فردا بقدر ما هي مجاز لسوريا كلها، لجيل عاش الحلم وانكسر تحت وطأة العنف والقمع. هذا المزج بين التوثيق والتخييل لم يكن محصورا في هذه الرواية فقط، بل امتد إلى أعمالي اللاحقة، لأنني أؤمن أن الكتابة عن الواقع لا تعني استنساخه فقط، بل إعادة تفكيكه وإبرازه بطريقة أكثر كثافة، تُشعر القارئ بأنه جزء من هذه الحكاية، لا مجرد شاهد عليها.
أتبعت "أبيض قان" بـ"إمبراطورية فسادستان.. دولة خيال الظلّ" عمل رمزيّ ساخر يستعيد سيرة وطنٍ استولى عليه ملك بانقلاب تحرسه أجهزة أمنية يقودها أشخاص وضيعو الثقافة والمعرفة. فما الغرض من هذه المقاربة السردية للحياة تحت وطأة نظام شمولي؟ وما دور السخرية في الخطاب الروائي؟
في "إمبراطورية فسادستان.. دولة خيال الظلّ"، حاولت تفكيك آليات الاستبداد والفساد، ليس عبر السرد الواقعي المباشر، بل من خلال الرمز والسخرية، لأن الأنظمة الشمولية لا تتعامل مع الواقع فقط، بل تخلق واقعًا زائفًا، مسرحية ضخمة يصبح فيها الجميع مجرد دمى في يد الحاكم وأجهزته الأمنية.
المقاربة السردية جاءت من الحاجة إلى إظهار العبث الكامن في قلب الطغيان. الأنظمة الاستبدادية غالبا ما تتستّر خلف شعارات ضخمة، لكن في جوهرها تعتمد على أشخاص وضيعي الثقافة والمعرفة، ممن يتم ترقية ولائهم بدلا من كفاءتهم. لهذا، كان لا بد من سرد حكاية وطن مسلوب، تحرسه دولة بوليسية يقودها الجهلة، وتُدار بمنطق الخرافة والخوف.
أما عن دور السخرية في الخطاب الروائي، فهي ليست مجرد أداة للتخفيف من وطأة الألم، بل هي سلاح لكشف تناقضات السلطة، وتعريتها أمام القارئ. السخرية قادرة على تقويض هيبة الطغاة وكسر هالتهم المصطنعة، وعلى تحويل الواقع المرعب إلى كوميديا سوداء تكشف سخافة الاستبداد وابتذاله.
في الرواية، لم أكن أروي فقط قصة ملك مستبد، بل كنت أرسم كاريكاتيرا ساخرا لنظام اعتاد أن يتحكم في مصائر الناس وكأنه مسرح للدمى، بينما هو نفسه لا يدرك مدى هشاشته أمام التاريخ.
في الرواية نفسها، تبلغ المفارقة ذروتها بتنصيب الملك حماره حاكما للبلاد بصفته وريثا شرعيا وتنتهي دون أي أمل بالتغيير، بينما تترك في خاتمة "أبيض قان" سؤالا مفتوحا حول مصير البلاد. هلا حدثتنا عن فترة كتابتك العملين؟ وما إذا كنت فاقدا الأمل باليوم الذي يسقط فيه نظام الأسد؟
كتبت "إمبراطورية فسادستان" و"أبيض قان" في فترتين مختلفتين، لكنهما كانتا امتدادا للحالة النفسية والسياسية التي عشتها، ففي "إمبراطورية فسادستان"، كان العبث قد بلغ ذروته، وكنت أرى أن الأنظمة القمعية لا تسقط بالضرورة عندما تنكشف حقيقتها، بل قد تستمر في حكمها رغم وضوح فسادها، بل وربما تبلغ مرحلة تجعل فيها حتى "حمارا" قادرا على أن يصبح الحاكم الشرعي، دون أي مقاومة تُذكر. كان ذلك انعكاسا لمرحلة شعور بالخنق واليأس من أي تغيير قريب، حيث يتحول الناس إلى متفرجين في مسرحية عبثية لا نهاية لها.
أما "أبيض قانٍ"، فقد كُتبت من زاوية أخرى، أكثر ارتباطا بالمصير الإنساني والبحث عن الأمل حتى وسط الخراب. رغم كل العنف الذي شهدته الرواية، ورغم أن سناء كانت أقرب إلى ناجية مكسورة، فإنني لم أشأ أن أغلق الباب تماما. لهذا، تركت النهاية مفتوحة، كأنني أقول إن مصير سوريا لم يُحسم بعد، وإن التاريخ ليس سطرا واحدا يكتبه الطغاة، بل هو صراع مستمر بين الاستبداد والرغبة في الحياة.
هل كنت فاقدا للأمل تماما خلال تلك الفترة؟ ربما لم أكن أؤمن بإسقاط النظام بالمعنى الفوري، لكنني كنت أدرك أن الأفكار لا تموت، وأن الدكتاتوريات، مهما بدت راسخة، تحمل في داخلها بذور فنائها. الفرق بين العملين هو المسافة بين لحظة اليأس المطلق، ولحظة الشك في أن التغيير قد يكون ممكنا، ولو بعد حين.
تأملات في الزمن والسلطة
"غراب وصنمان .. قصّة طائر تجرّأ على الحلم" منحتَ فيها للغراب صوتا سرديا يروي وقائع الحياة في دمشق، لماذا وقع اختيارك على الغراب راويا للأحداث وهل لذلك علاقة بمقولة "الرؤية" في السرد؟ وما القيمة المضافة؟
اختيار الغراب راويا في "غراب وصنمان.. قصة طائر تجرّأ على الحلم" لم يكن صدفة، بل جاء من رمزية هذا الطائر التي تحمل دلالات متناقضة. الغراب في الميثولوجيا مرتبط بالموت والفأل السيئ، لكنه في الوقت نفسه رمز للحكمة والرؤية الخارقة، فهو الطائر الذي رأى جريمة قابيل وعلّمه كيف يدفن أخاه، وهو الذي يحلق فوق المدن، يراقب التاريخ من علٍ، ويرى الأشياء التي يعجز البشر عن رؤيتها.
منح الغراب صوتا سرديا في الرواية كانت طريقة لتجاوز الرؤية التقليدية للسرد، والانطلاق إلى مستوى أوسع من التأمل. الغراب ليس مجرد شاهد، بل مؤرخ ساخر، يسجل التحولات التي مرت بها دمشق عبر عقود، دون أن يكون محكوما بمنظور إنساني ضيق.
أما من ناحية الرؤية السردية، فكان الغراب هو الخيار الأمثل لأنه غير مقيد بالزمن أو بالعواطف البشرية، فهو يسافر بين العقود دون أن يُستهلك، يرى الأشياء من الأعلى، يسخر من عبث البشر، ويظل موجودا حتى بعد أن يتغير كل شيء. هذا الاختيار أضاف بُعدا فلسفيا وساخرا للنص، حيث جعل الرواية تبدو وكأنها سرد للتاريخ من وجهة نظر كائن خارج اللعبة، لكنه متورط فيها بحكم مراقبته الدائمة.
القيمة المضافة في هذا الاختيار تكمن في أنه حرر النص من كونه شهادة بشرية محدودة، إلى أن يصبح تأملا في الزمن والسلطة والمصير الإنساني، حيث يصبح الغراب ليس مجرد طائر، بل مرآة للمدينة وأهلها، يعكس تناقضاتهم وخيباتهم، لكنه في النهاية يبقى الطائر الوحيد الذي لم يفقد القدرة على الحلم، رغم كل شيء.
أما الرواية ككل، فهي ليست فقط قصة غراب يروي تاريخ دمشق، بل هي حكاية عن مدينة تتغير بين أيدي الطغاة، عن أصنام تحكم وتُعبد، وعن أحلام تتكسر لكنها لا تموت.
في "غراب وصنمان"، حاولت أن أجمع بين التاريخ والمجاز، بين الواقع والرمزية، بين التوثيق والتخييل، لأصنع نصا يفتح أسئلة أكثر مما يقدّم أجوبة. هي ليست فقط رواية عن ماض، بل عن حاضر يعيد نفسه، وعن مستقبل لا يزال معلقا بين الأمل والخوف.
يوميات عبثية الواقع
كتبت بنفَس رمزي "يوميات حمار وقطّ" وبآخر واقعي "فولار وعصا غليظة.. يوميات طالب في عصر القيود". متى يلجأ حمور إلى اليوميات؟ وهل لذلك علاقة بالذاتي؟
اليوميات بالنسبة لي ليست مجرد تسجيل يومي للأحداث، بل هي مساحة للتأمل، ولحوار داخلي لا يخضع لقواعد السرد التقليدية أو شروط الرواية. أجد نفسي أكتبها عندما يكون الواقع أكثر عبثية من أن يُروى في قالب روائي، وأشد قسوة من أن يُختصر في مقال. حين تصبح الكتابة حاجة يومية لفهم ما يحدث، أو لالتقاط تفاصيل قد تبدو عابرة لكنها تختزل مرحلة كاملة، ألجأ إلى اليوميات كجنس أدبي أكثر مرونة وأقل ادعاء، يسمح لي بالتقاط الفوضى دون ترويضها.
في "يوميات حمار وقطّ"، كان الرمز هو المفتاح، فالكتابة من خلال حيوانات تحمل تناقضات البشر سمحت لي بطرح أسئلة جريئة حول السلطة، القطيع، والحرية، بينما في "فولار وعصا غليظة.. يوميات طالب في عصر القيود"، كنت أكتب بشكل أكثر واقعية وذاتية، أستعيد تجربة شخصية مع القمع والرقابة على الفكر والتعبير.
اختياري لليوميات يرتبط بشكل وثيق بالذاتي، لكنها ذاتية ليست انعزالية أو متقوقعة على تجربتي فقط، بل ذاتية متصلة بالعام. حين أكتب يومياتي، لا أكتب عن نفسي فقط، بل عن جيل، عن مرحلة، عن تناقضات يعيشها الجميع لكن لا أحد يلتقطها في حينها. ربما لهذا، تبدو اليوميات أقرب إلى مقاومة النسيان، إلى تسجيل ما تحاول الأنظمة القمعية محوه، وإلى منح التفاصيل الصغيرة أهميتها وسط صخب الأحداث الكبرى.
في مجموعتك القصصية "الرئيس شريكا"، يظهر الرئيس كظل حاضر في حياة شخصيات مختلفة، دون أن يكون بالضرورة الشخصية الرئيسية. ما الذي أردت تقديمه من خلال هذا الشكل السردي؟ وكيف يخدم فكرة المجموعة؟
إعلان
"الرئيس شريكا" ليست مجرد مجموعة قصصية، بل هي تفكيك لعلاقة السلطة بالفرد، وللكيفية التي يصبح فيها الحاكم شريكا غير مرئي في تفاصيل الحياة اليومية. لم يكن الرئيس في القصص شخصية مركزية دائما، لكنه كان خلف كل حدث، حاضرا حتى في غيابه، يتغلغل في الوعي الجماعي، في القرارات البسيطة، في الأحلام والمخاوف.
اختيار الشكل المنفصل المتصل لم يكن عبثيا، بل كان وسيلة لكشف كيف تتكرر الأنماط الاستبدادية في حيوات مختلفة، وبطرق متباينة. ربما يعيش أحد الأبطال تحت وطأة الرقابة المباشرة، بينما آخر يعاني من أثر الخوف المترسخ داخله منذ الطفولة، وآخر يتصرف بناء على ما يتوقعه الرئيس حتى دون أن يُطلب منه ذلك. هذا البناء يخدم الفكرة الأساسية للمجموعة: الرئيس ليس شخصا فقط، بل منظومة، فكرة، شبح يعيش داخل العقول قبل أن يكون على كرسي الحكم.
المجموعة، في جوهرها، محاولة لسرد كيف يمكن للسلطة أن تتحول من شيء خارجي إلى حالة نفسية، وكيف يصبح المواطن العادي شريكا في إعادة إنتاج الاستبداد، حتى عندما يكون الضحية الأولى له.
المثقفون بعد الأسد
هيمنت المتون الروائية السورية التي تتناول وقائع الثورة والاستبداد والحرب على المشهد الروائي السوري في العقد الأخير. ما الموضوعات التي على الرواية السورية أن تسلّط الضوء عليها في مرحلة ما بعد سقوط النظام؟
مرحلة ما بعد سقوط النظام تفتح الباب أمام الرواية السورية للخروج من ثنائية القمع والمقاومة إلى أفق أوسع، حيث يمكنها تفكيك المآلات، لا مجرد تسجيل الوقائع. وفي العقد الأخير، ركزت المتون الروائية على الاستبداد، والثورة، والحرب، واللجوء، وهي موضوعات كانت ضرورية لفهم ما جرى، لكنها لم تعد كافية وحدها في مرحلة ما بعد الطغيان.
على الرواية السورية أن تتجه إلى ما بعد السقوط، إلى الخراب النفسي والمجتمعي، إلى الأسئلة الصعبة التي تبدأ عندما ينتهي الطغيان: كيف نعيد بناء هوية فردية وجمعية بعد عقود من القمع؟ كيف نتعامل مع إرث الكراهية والانقسامات؟ ما مصير من تورطوا في العنف، سواء من الجلادين أو حتى الضحايا الذين لجؤوا إلى العنف بدورهم؟
الرواية المقبلة يجب أن تخوض في التعافي، وفي المواجهة، وفي العدالة الانتقالية، وفي الصراع بين الرغبة في الانتقام والحاجة إلى المصالحة. علينا أن نكتب عن حياة السوريين بعد الطاغية، عن المدن التي تحاول أن تنهض، عن الأفراد الذين يحاولون أن يجدوا معنى لما حدث.
كذلك، هناك موضوعات لم تأخذ حقها بعد، مثل دور المرأة خلال الثورة وما بعدها، الصدمات النفسية العميقة التي خلفها الاستبداد، تجارب الأجيال الجديدة التي نشأت في المنفى أو في ظل الحروب، وكيف تعيد تشكيل هويتها بعيدًا عن وطن مشوه ومكسور.
باختصار، على الرواية السورية ألا تكون شهادة على الماضي فقط، بل تصبح نافذة على المستقبل، أن تطرح الأسئلة التي سنواجهها في اليوم التالي للدكتاتور، لأن سقوط النظام ليس نهاية القصة، بل بداية فصل جديد لم يُكتب بعد.
تنعم سوريا بالحرية التي طال انتظارها بعد مضي ما يربو على 5 عقود من حكم الاستبداد. فأي دور للأدباء والمثقفين عموما في هذه المرحلة؟
مع تنعّم سوريا أخيرا بالحرية التي طال انتظارها بعد أكثر من 5 عقود من الاستبداد، يصبح دور الأدباء والمثقفين أكثر تعقيدًا من مجرد الاحتفاء بالنصر. ولم تعد مسؤوليتهم تقتصر على تسجيل القمع والتوثيق فحسب، بل بات عليهم المساهمة في إعادة بناء الوعي، وتحفيز الأسئلة الكبرى حول المستقبل.
في مرحلة ما بعد الطغيان، تتغير معادلة المثقف. لم يعد الخصم واضحًا كما كان في ظل الاستبداد، حيث كانت المعركة تدور بين السلطة والقلم، بين القمع والصوت الحر. واليوم، يقع على عاتق المثقف مسؤولية أصعب: تفكيك إرث الماضي، فضح رواسب الاستبداد التي بقيت في النفوس، والتصدي لمخاطر استنساخ الطغيان بأشكال جديدة.
على الأدباء والمثقفين أن يكونوا حراسا للذاكرة دون أن يصبحوا أسرى لها، وأن يسهموا في خلق خطاب جديد يقوم على إرساء قيم الديمقراطية، وقبول الاختلاف، ورفض الإقصاء، لأن الحرية لا تُضمن بمجرد سقوط المستبد، بل تتطلب جهدا فكريا مستمرا لحمايتها من التشويه والاختطاف.
كما أن هناك مسؤولية في إعادة تشكيل المشهد الثقافي السوري بعيدًا عن المركزية السابقة، بحيث تُتاح المساحة للأصوات الجديدة، والتجارب المهمشة، وتُعاد قراءة الرواية السورية بعيدًا عن رقابة الخوف أو التسييس.
باختصار، دور المثقف اليوم ليس أن يكون ناطقًا باسم السلطة الجديدة، ولا أن يتحول إلى مؤرخ جامد للماضي، بل أن يكون مبدعًا للغد، ناقدًا لكل أشكال الاستبداد، حتى تلك التي قد تنشأ في صفوف من كانوا ضحايا الأمس، فالحرية ليست شعارا يُرفع، بل مسؤولية تُمارس، ومن دون المثقفين، قد تنزلق إلى مجرد وهم جديد.
لدي حاليا مشروعان روائيان قيد العمل، كل منهما يحمل طابعا مختلفا لكنهما يشتركان في المزج بين الرمزية والواقع، وبين السخرية والطرح العميق.
الأول هو "انتفاضة القوارض"، وهي رواية تعتمد على الفانتازيا الساخرة، حيث أتخيل عالمًا تسيطر فيه القوارض على الأرض بعد أن أسقطت الحضارة البشرية.
الرواية ليست مجرد عمل خيالي، بل هي إسقاط على الأنظمة القمعية، على الثورات والانقلابات، وعلى كيف يتحول الضحايا إلى طغاة جدد بمجرد وصولهم إلى السلطة. ومن خلال شخصيات القوارض، أطرح أسئلة حول السلطة، والأيديولوجيا، وصراع الطبقات، لكن بأسلوب كاريكاتيري ساخر يجعل القارئ يضحك بينما يدرك فداحة المأساة.
أما المشروع الثاني فهو "الطائرة 313″، وهي رواية نفسية مشوقة، تدور أحداثها على متن طائرة، حيث يختلط الواقع بالوهم، والجريمة بالمصير المحتوم. بطل الرواية، آرام، هو شخصية تحمل ماضيًا معقدًا، وتجسد الصراع بين العدالة الذاتية والندم، وبين الهروب من الماضي ومواجهته. الرواية تستكشف تأثير الذنب، والوعي الجمعي، والأقدار التي تبدو وكأنها تكرر نفسها بلا توقف، مع حبكة مشدودة تجعل القارئ في حالة ترقب دائم.
ما زلت أؤمن أن السخرية أداة قوية لتفكيك الواقع، وأن الرمزية تمنح القصة بُعدًا يتجاوز حدود الحدث المباشر، لذلك ستظل هذه العناصر حاضرة في مشاريعي المقبلة، لكن بأساليب وأشكال جديدة، تتناسب مع كل قصة وما تحمله من أفكار.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

اللبنانية حنين الصايغ: رواية "ميثاق النساء" رسالة محبة للمجتمع الدرزي
اللبنانية حنين الصايغ: رواية "ميثاق النساء" رسالة محبة للمجتمع الدرزي

الجزيرة

time٠١-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

اللبنانية حنين الصايغ: رواية "ميثاق النساء" رسالة محبة للمجتمع الدرزي

منشغلة بما يعتمل في دواخل الإنسان وتعقيداته النفسية، تغوص الروائية اللبنانية حنين الصايغ (1986) بروايتها "ميثاق النساء" في المجتمع الدرزيّ الغني ثقافيا وروحانيا وإنسانيا، وتحاول تفكيك بنيته الاجتماعية والذهنية، من خلال بطلة روايتها "أمل بو نمر"، التي تعيش حياة ريفيَّة محافظة في قريتها في جبل لبنان، وفيها تشتبك بالعادات والتقاليد وبأسئلة الحياة التي يهرب منها الآخرون، لترسم لنفسها مستقبلا مخالفا للمستقبل الذي شكّله الأب لها ولأخواتها بصورةٍ تتناسب مع عالمه المحدود. رواية "ميثاق النساء" الصادرة عن دار الآداب ببيروت سنة 2023 هي الإصدار الروائي الأول للكاتبة اللبنانية التي تعمل في التدريس والترجمة الأدبية، بعد 3 مجموعات شعرية: "فليكن" (2016)، و"روح قديمة" (2018)، و"منارات لتضليل الوقت" (2021). وبالإضافة إلى نجاح الصايغ عن طريق روايتها الأولى -التي تعتبرها رسالة محبة للمجتمع الدرزي- في بلوغ القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2025، فإنها نقلت تفاصيل هذا المجتمع إلى القارئ الألماني، بعد صدور ترجمة "ميثاق النساء" باللغة الألمانية في مارس/آذار 2024 عن دار "دي تي في" (DTV). عن روايتها -التي تقول إنها كُتبت بشفافية كبيرة وصدق مع الذات- وما يرتبط بها من موضوعات، كان للجزيرة نت هذا الحوار مع حنين الصايغ: إعلان الشعر بطبيعته يميل إلى استخدام لغة مكثفة ومشفرة من أجل التعبير عن مشاعر غامضة ومتذبذبة، وغالبا ما تكون للقصيدة تأويلات بعدد قرائها. وأنا حين أكتب القصيدة لا يعنيني كثيرا كيف سيفهمها القارئ. أما حين لجأتُ للرواية، كنت أسعى إلى الوضوح في التعبير عن أفكار وقضايا تؤرقني. وجمهور الرواية كثيرا ما يشتبك مع تلك المواضيع، فيؤيدها أو يعارضها، مما يساهم في انتشارها أكثر. حين كنت أكتب الشعر، كان محيط قرائي محدودا جدا ولا يتخطى بعض الدوائر الثقافية، أما الرواية فجعلت لي جمهورا عريضا بين المحيط والخليج، لأن الأسئلة والقضايا التي طرحتها في روايتي تهم كثيرين بغض النظر عن انتماءاتهم وخلفياتهم الثقافية والاجتماعية. بالإضافة إلى انشغالك بموضوعات الحرية وحقوق النساء، ما الذي يشغلك في العمل الإبداعي، سواء كان رواية أو شعرا؟ تشغلني دواخل الإنسان وتعقيداته النفسية. كما تشغلني الشخصيات المهمشة في الحياة وفي الأدب، ويهمني أن يتماهى القارئ مع الأفكار أو الشخصيات التي أقدمها في أعمالي الأدبية، لذلك لا تستهويني الفنتازيا ولا الدستوبيا كثيرا، وأميل أكثر للكتابة الواقعية. يهمني أيضا أن يكون النص متعدد الطبقات بحيث يفهمه كل متلقٍّ حسب درجة وعيه وقدرته الأدبية. ولذلك أحاول أن تكون لغتي، رغم ولائها للمعايير الأدبية، متاحة للقارئ العادي ولا تتعالى عليه، وهي معادلة صعبة جدا. كيف استقبلتِ خبر وصول "ميثاق النساء" إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، وهل كنت تتوقعين أن يحظى عملك الروائي الأول بكل هذا الاحتفاء؟ تروَّيتُ كثيرا قبل كتابة هذه الرواية، ولم أبدأ بكتابتها إلا بعد أن أصبحت على يقين أنَّي سأقدم عملا أصيلا وناضجا، ومع ذلك فأنا بطبيعتي أُبقي توقعاتي منخفضة دائما، لذلك فاجأني الاحتفاء الكبير من النقاد والقراء والانتشار الكبير للرواية منذ الشهور الأولى لصدورها. إعلان أما أن تختار لجنة من نقاد ومترجمين من بلدان مختلفة الرواية كأحد أهم أعمال السنة، فهو شيء مفرح ويجدد أملنا في أن الأعمال الجيدة حتما ستنال نصيبها من الظهور والاحتفاء. قلتِ في إحدى مقابلاتك السابقة أنك تكتبين لتفهمي العالم، هل ساعدتِك هذه الرواية على تعميق فهمك لعالم الدروز؟ لكي نتعاطف مع مجموعة من البشر، نحتاج إلى أن نعيش بينهم ونفهم دوافعهم قبل أن ننتقد بعض سلوكياتهم، وهذا ما حاولت فعله في روايتي. وعالم الدروز هو عالم غني ثقافيا وروحانيا وإنسانيا، ولكنه فقط المسرح الذي تدور عليه أحداث الرواية، والعمل الأدبي بطبيعته يتخطى حدوده الجغرافية والثقافية ويطرح قضايا عالمية تخص الإنسان على وجه العموم. وقد أثبت التفاعل الكبير مع روايتي في ألمانيا بعد ترجمتها أن ثيمات الرواية لا تخص الدروز أو المجتمع العربي فحسب. وبالعودة إلى سؤالك، فقد ساعدتني هذه الرواية على فهم نفسي في المقام الأول. وفهم الذات هو الشرط الأول كي يفهم الإنسان العالم أكثر. والقدرة على التعاطف هي المفتاح الأول للفهم. على ذكر ترجمة الرواية إلى اللغة الألمانية، كيف وجدت استقبال القارئ الألماني لها؟ أيضا في ألمانيا استُقبلت الرواية بحفاوة من النقاد والقراء، ولم يكن اهتمامهم بالمجتمع الدرزي ولا حتى بالمجتمع اللبناني ككل هو سبب احتفائهم بها، بل أشادوا بالقيمة الأدبية للعمل وبأهميته للمرأة في كل مكان في العالم، خاصة في ما يتعلق بسيكولوجية المرأة وثنائية الأمومة والشعور بالذنب. كما أشادت قارئات كثيرات بثيمة الحرية التي تناولتها الرواية، إذ كانت رحلة "أمل" في الرواية هي رحلة تحرر داخلية قبل أن تكون رحلة تحرر من مجتمع أبوي أو زوج سلطوي. وأثنى كثير من القراء على فكرة أن تحرر "أمل" لم يأتِ بسبب رجل منقذ أو منظمة نسوية، بل بسبب الصدق مع الذات والتعليم والعمل، مما يكسر الصورة النمطية عن المرأة في المجتمعات العربية. يربط كثير من القراء بينك وبين بطلة الرواية "أمل بو نمر"، خاصة أنك رسمتِ لها مسارا مشابها لمسارك في الحياة، كيف تنظرين إلى هذا الربط؟ أنا لا أكتب إلا عما أعرف وعما أحس، لذلك من الطبيعي أن تتقاطع روايتي الأولى مع بعض الأحداث التي عشتها أو عايشتها. ولكن الرواية ليست سيرة ذاتية، لأنها تتكئ في مواضع كثيرة على الخيال وعلى اختلاق شخصيات وأحداث ليست موجودة في الواقع. في معظم بلدان العالم، توقَّف النقاد والقراء عن البحث عن الكاتب أو الكاتبة بين سطور الرواية، لأن ما يعنيهم في المقام الأول هو جودة العمل أدبيا وإنسانيا. ولكن لا يزال التلصص هو أحد الأمراض عند بعض القراء، الذين يفوّتون فرصة البحث عن أنفسهم في العمل الأدبي، ويبحثون -عوضا عن ذلك- عن الحياة الشخصية للكاتبة أو الكاتب. ولكن ليس لهذا وُجِد الأدب. التأسيس الثقافي واللغوي للمكان الذي تدور فيه أحداث الرواية هو تقنية أدبية مهمة. ثم يأتي التأسيس للشخصيات، بأن تكون لكل شخصية صفاتها الخارجية وعوالمها الداخلية ولغتها الخاصة. واستخدام اللهجة القروية اللبنانية في بعض الحوارات كان يهدف إلى إضفاء مصداقية على الشخصيات والمكان الذي تدور فيه الأحداث. الصدق هو أول شروط المحبة، سواء مع الذات أو مع الآخر. والصدق سلاح ذو حدين، فهو يلامس القلوب التي تتوق إلى الفهم والعقول التي تتطلع إلى التغيير. ولكنه أيضا يصدم العقول المجبولة على الطاعة وتمجيد الجمود. وأنا كتبت "ميثاق النساء" بشفافية كبيرة وصدق مع الذات، والصدق مرآة يرى فيها الآخر حسناته وعيوبه بدون تجميل أو تزييف وبعض الناس لا تحب أن ترى عيوبها. إعلان بالطبع تعرضت الرواية لهجوم شديد من بعض الدوائر في المجتمع الدرزي التي لا تقبل النقد ولا تقبل حتى الإضاءة على مجتمع الأقليات، ولكن ذلك لا يُقارَن بالاحتفاء الشديد الذي لاقته الرواية، ليس فقط من مثقفات ومثقفين دروز، بل أيضا من شيخات درزيات كتبن لي رسائل مؤثرة جدا شكرنني فيها على تسليط الضوء على حيواتهن ومعاناتهن وصلابتهن.

"الشرارة".. فيلم يوثق اللحظات الأولى للثورة السورية في درعا
"الشرارة".. فيلم يوثق اللحظات الأولى للثورة السورية في درعا

الجزيرة

time٢٩-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

"الشرارة".. فيلم يوثق اللحظات الأولى للثورة السورية في درعا

درعا – عُرض في مبنى المركز الثقافي بمدينة درعا ، اليوم الثلاثاء، الفيلم الوثائقي "الشرارة"، الذي يوثق اللحظات الأولى للثورة السورية، بحضور عشرات الشخصيات من وجهاء المدنية، وممثلين عن منظمات المجتمع المدني. يوثّق الفيلم أبرز الأحداث التي شهدتها محافظة درعا في الأيام الأولى من انطلاق الثورة السورية عام 2011، مستعرضا لحظة سقوط أول تمثال ل حافظ الأسد في مدينة داعل بريف درعا، ومقتل أول شابين برصاص قوات النظام، في مشاهد أعادت إلى الأذهان بدايات الثورة التي يُنسب إلى درعا إطلاق شرارتها. عابر للحدود وقال محمد المسالمة، مخرج فيلم "الشرارة"، في تصريح للجزيرة نت، إن الفيلم يُعد ثمرة عمل استمر لسنوات، ساهم فيه عدد من النشطاء والإعلاميين من درعا، بهدف توثيق اللحظات المفصلية التي سبقت انطلاقة الثورة السورية في 18 مارس/آذار 2011، ويعتمد بشكل كبير على مشاهد حصرية تُعرض للمرة الأولى، جُمعت من أرشيف نادر وموثّق. وأشار المسالمة إلى أن الفيلم يتناول قضية اعتقال الأطفال، وسقوط أول تمثال للأسد في سوريا يوم 14 شباط/فبراير من العام ذاته، إلى جانب محاولات التظاهر التي قمعها النظام قبل اندلاع الثورة. و"الشرارة" عمل عابر للحدود، إذ يقيم المخرج في ألمانيا، بينما توزّع باقي أفراد الفريق بين الأردن وقطر ودرعا، ما شكّل تحديا كبيرا في مراحل الإنتاج، خاصة في تنسيق المقابلات والتصوير عبر دول متعددة. "حلم تحقق" وعُرض في درعا الإصدار الأول من النسخة القصيرة للفيلم، والتي تبلغ مدتها 30 دقيقة. ويُعد هذا العرض الأول من نوعه لفيلم وثائقي يُعرض في المدينة منذ سقوط نظام بشار الأسد ، وفق ما أكده المخرج، الذي أوضح أن العمل جارٍ حاليا على النسخة الطويلة التي يُخطط لعرضها لاحقا بدمشق، وفي الجامعات والمدارس السورية بعد إجراء التعديلات اللازمة على المحتوى. وأكد المسالمة أن عرض الفيلم أمام الجمهور في درعا كان بمثابة حلم تحقق، معبّرا عن مشاعر مختلطة من الفرح والحزن، لعدم تمكنه من الحضور شخصيا بسبب بُعد المسافة. وختم بالقول "الوقوف على المسرح في سوريا هو حلم مؤجّل، لكني واثق أنه سيتحقق، أؤمن أن هذا الفيلم ليس مجرد عمل فني، بل وثيقة تاريخية تحفظ سردية الثورة للأجيال القادمة". رسالة للأجيال وفي تصريح خاص للجزيرة نت، قال المصوّر محمود المسالمة، أحد المشاركين في إنتاج الفيلم، إن "الشرارة" يُعد من أوائل الأعمال التي جمعت بين نشطاء عايشوا الأيام الأولى للثورة وآخرين حافظوا على أرشيفها البصري والوثائقي طيلة السنوات الماضية. وأكد أن "المقاطع التي توثق تلك المرحلة جُمعت وتم تنسيقها ضمن الفيلم لتقديم سرد بصري يعكس حجم التضحيات التي قدمها أهالي درعا". ووجّه رسالة إلى العاملين في المجال الإعلامي، داعيا إلى إنتاج المزيد من الأفلام والوثائقيات التي توثق بدايات الثورة، "هذه الأعمال هي التي ستنقل الحقيقة للأجيال القادمة، وستكون مرجعا ثابتا لما جرى في سوريا منذ عام 2011". جاء عرض فيلم "الشرارة" في وقت تشهد فيه درعا مرحلة جديدة تتسم بمساحة أوسع من حرية التعبير والعمل المدني، بعد سنوات من القمع وطمس الرواية المحلية. ولاقى الفيلم تفاعلا واسعا من الحضور، الذين رؤوا فيه وثيقة حيّة تنبض بالحقيقة، ورسالة بصرية للأجيال القادمة، لتظل لحظة الانطلاق محفورة في ذاكرة السوريين.

سفيرة الأناقة والتراث.. الدار العراقية للأزياء رحلة عبر التاريخ وهوية وطن
سفيرة الأناقة والتراث.. الدار العراقية للأزياء رحلة عبر التاريخ وهوية وطن

الجزيرة

time٢٦-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

سفيرة الأناقة والتراث.. الدار العراقية للأزياء رحلة عبر التاريخ وهوية وطن

الدار التي أُسّست في عام 1970 لتكون نافذة تطل على عراقة الماضي وجمال الحاضر، من خلال تجسيد الأزياء الفلكلورية التي تحمل بين طياتها قصص الشعوب والحضارات المتعاقبة على أرض الرافدين، لم تقتصر مهمتها في بداياتها على استعراض هذا المخزون الثقافي الغني، بل كانت أيضا منصة لعرض أحدث صيحات الموضة المحلية والعالمية وإبراز إبداعات المصممين العراقيين. لكن مسيرة هذه الدار العريقة لم تخلُ من التحديات؛ فبعد حرب الخليج الثانية عام 2003 عبثت يد الفوضى والنهب بمبناها، لتفقد بريقها مؤقتا، إلا أن إرادة البقاء والتجدد كانت أقوى، فقد أعيد إعمار الدار لتشهد فترة تحول أخرى، حين استضافت بين جدرانها وزارة الثقافة العراقية. وفي نهاية المطاف، عادت الدار إلى جذورها، واستعادت هويتها تحت مسمى جديد: "الدار العراقية للأزياء"، لتترسخ مكانتها كأحد أهم معالم التصميم في العاصمة بغداد. حارس الهوية وذاكرة الأمة فاضل البدراني، الوكيل الثقافي لوزارة الثقافة والسياحة والآثار والمدير العام للدار العراقية للأزياء، يؤكد الدور المحوري للمؤسسة في الحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية للعراق. ويصف البدراني، في حديث للجزيرة نت، الدار بأنها "ليست مجرد مؤسسة ثقافية، بل هي تجسيد حي لجغرافية العراق وحضاراته العريقة"، مضيفا "بمسؤولية راسخة في قلب العاصمة بغداد، تسعى الدار للحفاظ على الذوق العام وإحياء الموروث الشعبي والتراث الغني لبلادنا". ويشير البدراني إلى الريادة الإقليمية للدار، مستشهدًا بشهادات خبراء أجانب زاروا الدار وشاهدوا عروضها، مؤكدًا أنها "لا تقلّ شأنًا عن دور الأزياء العريقة في فرنسا وإيطاليا بل تتفوق عليها من حيث التأثير والفاعلية وحضورها في مختلف الفعاليات". ويسترسل المدير العام في وصف جوهر الأزياء العراقية، قائلا إنها "ترتكز في جوهرها على الحضارات القديمة والتراث الأصيل، وتحمل في طياتها بعدًا ثقافيا عميقا، فهي تمثل هوية ثقافتنا وذاكرة أمتنا، والآثار التي تجسدها هذه الأزياء هي شواخص حية من تاريخنا العريق". عقود من الحفاظ على التراث وإبراز الثقافة يستعرض البدراني تاريخ الدار وإنجازاتها منذ تأسيسها وبدء نشاطها الفعلي، مؤكدًا أنها "حافظت على الهوية الأثرية والتراثية والحضارية لبلدنا على مدى عقود، وأسهمت في صون الذوق العام وقدمت إسهامات جليلة في إبراز الثقافة العراقية في المحافل الدولية والمحلية". وبخصوص التحديات التي تواجه المؤسسة، يعترف البدراني بأن "التحديات المالية هي من أبرز الصعوبات التي تواجهنا، وهذا أمر طبيعي في معظم دول العالم. ولكن العراق مر بظروف استثنائية، خاصة بعد عام 2003 والاحتلال الأميركي، مما أثر بشكل كبير على المشهد الثقافي ومن ضمنه نشاطات الدار". ومع ذلك، يشدد على أن "الدار العراقية للأزياء لم تتوقف قط عن أداء رسالتها الثقافية والحضارية". وأكد استمرار فعاليات الدار، موضحًا أن "قسم العروض لدينا يقدم فعاليات متنوعة تستحضر عراقة الحضارات السومرية والأكدية والبابلية والآشورية وحضارة الحضر في نينوى، بالإضافة إلى إحياء التراث العباسي وفترات النهضة التي شهدها العراق". كما يشير إلى دور الأقسام الأخرى في الدار، مثل قسم الإنتاج الفني الذي ينتج "البدلات الحضارية والتراثية بأبهى صورها"، وقاعة الجوري التي تحتضن فعاليات متنوعة ومسرحًا كبيرًا، وقاعة الواسطي التي تستضيف معارض الفنون التشكيلية. وأشار البدراني إلى فخر الدار بوجود "متحف فريد من نوعه هو متحف العروض، حيث يمكن للزائر أن يتجول بين معروضاته كأنه يعيش في كنف الحضارات السومرية والأكدية والبابلية والآشورية والحضرية، بالإضافة إلى استعراضه لكافة الحقب الزمنية التي مر بها العراق، موثقًا بذلك تاريخنا القديم والحديث والمعاصر حتى يومنا هذا". سفير العراق الثقافي والتراثي من جانبه، يبين خضر حماد، معاون المدير العام للدار العراقية للأزياء، الدور الحيوي للمؤسسة في صون التراث العراقي العريق وإبرازه على المستويين المحلي والدولي. ويقول حماد للجزيرة نت إن "الدار العراقية للأزياء تعد من أهم المؤسسات التي تعمل بدأب على حفظ الحقب التاريخية المنصرمة للعراق، وذلك من خلال عروض الأزياء المتميزة التي تقدمها داخل البلاد وخارجها". وأضاف أن هذه العروض "تجسد جمالية المراحل الزمنية المختلفة التي مر بها عراقنا الحبيب، عبر أزياء تحاكي الذوق العام وتلبي شغف المتذوقين للتراث والتاريخ". وأوضح أن عمل الدار "لا يقتصر على إظهار التراث العراقي فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تسليط الضوء على الحضارة العراقية العريقة بأبعادها المختلفة، حيث إنها بحق مؤسسة بالغة الأهمية في الحفاظ على استمرارية إبراز هذه الحقب التاريخية والأثرية والتراثية المتنوعة لكل أطياف الشعب العراقي". ويصف حماد الدار العراقية للأزياء بأنها "السفير الثقافي والتراثي للعراق"، مؤكدًا أن "تجسيد هذه الحقب التاريخية في عروض الأزياء التي تقدم خارج البلاد" يهدف إلى "تعريف شعوب العالم بتاريخ العراق وتراثه الغني، لتكون الأزياء نافذتنا الرئيسية نحو العالم، وجاذبًا أوليا للسياح الراغبين في استكشاف هذا التراث والتاريخ على أرض الواقع". وأشار حماد إلى السجل الحافل بمشاركات الدار داخل العراق وخارجه، في دول أوروبية وعربية مثل الجزائر وتونس والإمارات وإيران، بالإضافة إلى إسبانيا وإيطاليا وغيرها، مثنيا على الكفاءات التي رفدت الدار عبر تاريخها، مؤكدًا أن "الدار تزهو اليوم بخبراء في التصميم والخياطة والتطريز يتمتعون بكفاءة عالية وخبرة طويلة في هذا المجال". لمسة يدوية تحيي الأصالة هدى سلمان داود، مديرة القسم الفني في الدار العراقية للأزياء، تسلط الضوء على "الجهود الدقيقة والمتقنة التي يبذلها القسم في إنتاج قطع فريدة مستوحاة من التراث والحضارة والفلكلور العراقي الأصيل". وتوضح خلال حديثها للجزيرة نت أن "حوالي 90% من مراحل الإنتاج تتم يدويا، بدءًا بالتصميم وصولًا إلى التنفيذ النهائي، وهذا يجعل منتجاتنا ذات قيمة فنية وحرفية عالية لا يمكن مقارنتها بالقطع ذات الإنتاج السريع". لكن هدى تشير إلى تحدّ يواجه القسم الفني، وهو "قلة عدد الفنيين المتخصصين لدينا"، معربة عن أملها في "توجه فئة من الشباب نحو العمل اليدوي والحرف الأصيلة التي نعتمد عليها في الدار، مثل التطريز اليدوي والآلي وغيرها من الأعمال التي تتطلب مهارات وخبرات متخصصة". كما تطرقت إلى الحاجة إلى "الناحية المادية والدعم المعنوي اللازم لتطوير عمل الدار وتعزيز قدراتها الإنتاجية والفنية". إعجاب فنان ونداء للدعم الفنان التشكيلي علاء جعفر الذي زار الدار أعرب عن "إعجابه العميق بما شاهده من معروضات الأزياء التاريخية والفلكلورية"، مؤكدًا "عراقة المؤسسة وقدرتها التنافسية العالية". وقال جعفر للجزيرة نت "لقد لمست اليوم خلال زيارتي للدار العراقية للأزياء أن هذه المؤسسة عريقة بحق، وأن الأزياء المعروضة فيها لا تضاهي الموجود في الأسواق، بل أرى أنها تتفوق على الأزياء المستوردة بكثير، فالقطع المصنوعة هنا تتميز بصناعة يدوية دقيقة جدا وتستغرق وقتًا طويلًا في إنجازها". ويرى جعفر أن "الدار العراقية للأزياء تستحق دعمًا حكوميا كبيرًا، فهي مؤسسة عريقة أُسست منذ أكثر من 50 عامًا"، مقترحًا "دعمًا ماديا فاعلا، بالإضافة إلى تطوير الكوادر العاملة فيها من خلال إتاحة الفرصة لهم للمشاركة في دورات تدريبية متخصصة خارج العراق، واستقطاب خبراء عالميين على مستوى عالٍ لتدريب هذه الكوادر وتبادل الخبرات".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store