logo
رمضان فرح روحي وثقافي

رمضان فرح روحي وثقافي

عمان اليومية٠٦-٠٣-٢٠٢٥

رمضان فرح روحي وثقافي
«على العاقل، ما لم يكن مغلوبًا على نفسه، ألا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يُفْضي فيها إلى إخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه وينصحونه في أمره، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على الساعات الأُخَر، وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل بُلْغة».
لم أجد أفضل من هذا الاقتباس، من كتاب «الأدب الصغير» لابن المقفع، كي افتتح مقالي هذا، أملا بأن يوفقني الله في إيصال رسالتي حول ما يثار من جدل حول ما يتم تقديمه من دراما تلفزيونية، على وجه الخصوص في شهر رمضان.
كُتب الصيام علينا، كما كتب على الذين من قبلنا؛ فالصيام إذن حدث ديني في المقام الأول، وهو ملجأ معاصر للاستشفاء النفسي والجسدي. ومن هنا، فقد كان لهذا الفعل الروحي أثر عميق؛ فما أن يقترب الشهر الفضيل، حتى تشعر بشيء من السحر في مشاعر الناس، وكلماتهم. ثمة تأثير نفسيّ للصيام، يجعل وجوه الناس مشرقة، رغم ما قد يعانيه الذين يعملون في أعمال شاقة من العطش والتعب. لذلك يمكن قراءة «للصائم فرحتان» في سياق البهجة القلبية التي نشعر بها في أنفسنا، وفيمن حولنا، لذلك فإن الصائم يكون مهيئا للفعل الطيب.
لذلك، فإنه، ومن خلال تقصي التاريخ الاجتماعي والثقافي، سنجد أن الاحتفال برمضان، هو اهتمام أصيل ينبع من النفوس، وهكذا أصبح رمضان حالة روحية، أثرت على تفاصيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية
من هنا، فإن الاحتفال برمضان وتعظيمه يأتي في سياق فهم الآية الكريمة «وَمَن يُعظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنهَا مِن تقوَى الْقُلُوبِ» الآية 32 من سورة الحج. لقد بدأ ذلك في العهد الإسلامي في مدينة رسول الله، المدينة المنورة، كحاضرة عربية أولى في عهد صاحب الرسالة الرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد كان شهر رمضان حسب السيرة النبوية شهرا مختلفا، وقد انتقل هذا الشهر بثقافته إلى الحواضر العربية فيما بعد. وقد كان لكل حاضرة طريقة إحياء هذا الشهر، روحيا وإنسانيا، وصولا إلى أن أصبح الشهر يشكل علامة فارقة، دفعت مراكز المدن بشكل خاصة إلى الاحتفال الخاص به، على المستويين الرسمي والشعبي.
من المدينة إلى دمشق فبغداد فالقاهرة وعواصم وحواضر أخرى، صار لرمضان حالة اجتماعية ثقافية، انعكست على الأسواق، والتي ارتبطت بالازدهار. وفي ظل إحياء العبادات ليلا، فقد نشطت المدن ليلا خاصة في البيئات الحارة، وفي الأوقات التي يحضر فيها الشهر الهجري في فصول الحرّ. في هذا السياق، فقد بدأت ظواهر اجتماعية بالحضور، مرتبطة باتجاهات العامة للتجمع، للاستفادة من الهدايا. وهنا قد وجد أصحاب الهوايات الفنية في الليل مجالا لإمتاع العامة؛ فقد ارتبطت الأعياد الدينية والطبيعية والقومية بفعاليات الفرح التلقائية، خاصة في ظل الزيادة السكانية. ولعل المدن الكبرى قد شهدت مثل تلك النشاطات الفنية التي ارتبطت بالحياة الروحية، فكانت مشجعة عليها من باب تلبية حاجات الإنسان الروحية والاجتماعية. ولعل مدينة القاهرة القديمة، بما حفلت به من تاريخ اجتماعي خاص، قد شجعت المستوى السياسي لمثل هذه الاحتفالات، لتنشيط المجتمع، وتقوية العلاقة بين الأهالي وأهل الحكم. وقد تفنن أصحاب المواهب في عرض هواياتهم، التي صاروا يطورونها، بسبب التنافس من جهة، وبسبب تسويق السلعة الفنية من جهة أخرى.
ومع التقدم في وسائل الحياة التكنولوجية خصوصا التلفزيون، انتقل جوهر تلك النشاطات من الشارع إلى الشاشة الفضية، منذ تأسيس التلفزيونات العربية، ومنها التلفزيون العربي في مصر، وقد أسهم عدد السكان في إقبال التلفزيون على إنتاج الأعمال الفنية.
بدأت الأعمال الفنية بالتطور منذ عقد الستينيات، وقد انتقل الاهتمام الديني والتاريخي إلى الدراما التلفزيونية، ثم بدأت الحياة السياسية الحديثة والمعاصرة تجد طريقا في الإنتاج الفني، خاصة ما يتعلق بالتحرر من النفوذ الأجنبي في بلادنا. وهكذا فقد اقترب الإنتاج الدرامي من التعبير عن الحياة الواقعية بشكل عام. وقد وجدت تلك الأعمال إقبالا من الجمهور.
وقد ظل هذا الأمر سائدا حتى آخر عقدين، بشكل عام، حيث إنه وفي ظل انتشار الفضائيات واقتصاد السوق، ورغبة المنتجين للسلع في الدعاية لمصانعهم، فقد زاد الإنتاج الدرامي ودخل حالة التنافس، وليس هذا فقط، بل صار المنتجون يطلبون الأعمال الفنية المكونة من 30 حلقة.
ومع تغير اتجاهات موضوعات الدراما، وزيادتها بل والمبالغة بها (77 عملا دراميا في رمضان الآن)، فقد بدأ المجتمع يشهد حالة جدل باتجاه ناقد ونقدي، وقد ساعد النقد لتلك الأعمال، كونها تراجعت عن المستوى شكلا ومضمونا.
جزء من هذا الجدل تعلق بسطو الدراما على الحياة الروحية، وهكذا فصرنا نشهد تغيرا في سلوك المواطنين، من حيث إقبالهم على تلك الأعمال الفنية، والتي صارت تخرج عن الحدود، خاصة تلك الدراما التي تشرعن السلوكيات الخارجة عن العادات والتقاليد والقيم.
يأتي فهمنا للاحتفال بشهر رمضان من باب تشجيع الثقافة الرمضانية، وتأكيد على الحياة الروحية، بالاعتماد على مكونات المجتمع، وما فيه من وسائل إبداعية.
ولعل متابعة مضامين المسلسلات منذ عقد ونصف تقريبا، وكيف صارت تنحى منحى اجتماعيا بعيدا عن التحولات الاجتماعية والسياسية. وهو منحى فردانية يتعلق بتوترات الشخصيات.
لقد بالغ المخرجون في إنتاج أعمال تعتمد على جذب المشاهدين للشكل، وذلك باستغلال تقديم الجسد الأنثويّ وملابس الموضات المعاصرة. ومن هنا، فقد صارت الدراما متناقضة مع الحياة الروحية، بل وقد سطت على الوقت المخصص للعبادات.
هي حالة من التوازن والاحتفال المعظم لشعائر رمضان إلى حالة الاختلال الفكري والثقافي، بحيث صار جزءا منها انتهاكا لرمضان.
وللحق، فما زال هناك، وإن كان بشكل محدود، من يقدم دراما رمضانية جادة مضمونا وشكلا بالانتباه لتراكم الدراما في عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، تلك الدراما التاريخية والدينية، وتلك التي تخص التحرر السياسي والتحولات الاجتماعية، معطية المشاهدين مجالا للتوازن الروحي والثقافي والفني.
لقد كانت الدراما جادة مجمعة للأبناء العربية، كما هو شهر رمضان، ولم تكن سهام النقد موجهة لها. أما حين أصبحت تميل إلى السطحية، والاهتمام بالخلاص الفردي، فقد انفض الجمهور من حولها زاهدين بها، والتي زادت كما مستفيدة من حالة الدعاية والإعلان.
والآن في رمضان هذا، وفي المستقبل، فإننا نعيد الأمور إلى نصابها، في الاهتمام برمضان روحيا وثقافيا وفنيا معا، بجعل المضامين جادة ونبيلة، تسعى إلى الارتقاء بالجمهور لا الهبوط به.
إن رمضان الذي يعبر عن الصوم، أحد أركان الدين، لا يجب أبدا أن يكون الاحتفال الفني به، مناقضا لهذا الدين المؤسس للأخلاق الحميدة، التي تصون الأمة وتحفظها، بعيدا عن تقليد الغرب والشرق، بما لا يليق بتقاليدنا وقيمنا.
الثقافة والفن لها رسالة سامية، تنسجم مع مقاصد الشريعة، وهي لها أسلوب خاص أدبيا وإنسانيا، من خلال السرد المشوق. وبذلك، فإننا نخفف الفجوة الحاصلة اليوم بين الدين والفنون، بالاستناد إلى حضارتنا التي كان فيها العلماء والفقهاء أدباء، وموسيقيين ورسامين وساردي قصص وحكايات.
والإنسان المسلم والصائم، هو إنسان من نفس وروح، يلزمه ما ذكر ابن المقفع في بداية المقال، فليكن إذن ما يقدم من فنون درامية مما ذكره عن تلك «الساعة التي يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على الساعات الأُخَر».

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"سيمفونية أحمد بن ماجد" و"افتتاحية عُمان 2020" و"كابريتشيو المكان"
"سيمفونية أحمد بن ماجد" و"افتتاحية عُمان 2020" و"كابريتشيو المكان"

جريدة الرؤية

timeمنذ 3 أيام

  • جريدة الرؤية

"سيمفونية أحمد بن ماجد" و"افتتاحية عُمان 2020" و"كابريتشيو المكان"

◄ د. ناصر الطائي مؤلفًا وجان بوغاني قائدًا للأوركسترا والماسيترو حمدان الشعيليّ ناصر أبوعون طوال مائة وأربعين كيلومترًا من الصُّحبة الشائقة على الطريق ما بين مسقط العامرة، وولاية منح بمُحافظة الداخلية؛ للاستماع إلى ( سيمفونية أحمد بن ماجد ) للمؤلف الموسيقيّ العُمانيّ د. ناصر بن حمد الطائيّ بـ( متحف عُمان عبر الزمان ) كان ثلاثتنا يتقاسمون شهد الذكريات، الذي يسيل من أعالي الجبال الشاهقة، التي ترفع هاماتها فخرًا، بما أنجزته الحضارة العُمانية التي انبثقت من رحم المجد، ورسمت خرائط نهضة عُمان بأحرف من نور، في جبين الإنسانيّة، من مطلع التاريخ الذي مازال يتردد صداه، وتجري أفلاج أصالته في عروق الإنسان العُمانيّ المنحدر من جذورٍ أزديٍّة وقحطانيّة، ثم أخذتنا المحاورة إلى مسارب تنوّعت مشاربها؛ فعرجنا إلى سدرة أنساب القبائل العُمانية الضاربة بجذورها في أصلاب العروبة. في الطريق إلى منح وعلى حين انشراحة صدر إثر بيت من الشعر لحاتم من عبد الله بن سعدٍ الطائيّ الذي يقول فيه: ( تلومُ عَلى إِعطائِيَ المالَ ضِلةً// إذا ضَنَّ بِالمالِ البَخيلُ وصرّدا ) ألقت أيام الصبا بظلالها على وجه الشيخ الشاعر هلال بن سالم السيابيّ، ففاضت الذكريات، وجرت أمواه الحياة، فتذكّر رفقته بصحبة سماحة المفتي العام الشيخ أحمد بن حمد الخليليّ، في ساحة مسجد الخور ( الشهداء ) عاكِفَينِ معًا على التقاط حبّات ( جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام )، ثم استوقفنا الشيخ سالم بن محمد العبريّ، على ناصية التاريخ ليستقطر لنا؛ وَرْدَ الذكريات في كؤوس من تنهداتٍ على أيام الشباب التي وَلَّتْ، تتلألأ فيها أنوار النهضة المباركة في موجتها الأولى، وحكى لنا كيف شمَّر الجيل الأول عن ساعده؛ لإعادة البناء والتعمير، وكيف ربطوا أحجار العَفَاف على بطونهم ليتحقق حُلْم بناء دولة عصرية حديثة، وضربَ لنا مثلًا بتقشفِ عمِّه الشيخ إبراهيم بن سعيد العبريّ، مفتي عُمان السَّابق، الذي استكثر على نفسه توسعة بيته المُقابل للمدرسة السعيدية في مطرح على نفقة الحكومة العُمانية وبإيعازٍ من السلطان. واتصل الحديث فيما بيننا ليتطرق إلى منجزات النهضة المتجددة التي يقودها الآن حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظّم- حفظه الله ورعاه- ثم انتقلت بنا دفة الذكريات إلى أحفاد الشيخ عيسى بن صالح بن عامر الطائيّ قاضي قضاة مسقط، وتشعَّبت أفلاج الحوار، فتناولنا شيئًا نذيرًا من السيرة العلمية للدكتور ناصر بن حمد بن عيسى الطائيّ، الذي ارتحل في مطلع شبابه إلى أمريكا؛ ليلتحق بجامعة واشنطن، دارسًا للموسيقى في مرحلة البكالوريوس، ثم ما لبث أنْ انتقل إلى جامعة كاليفورنيا؛ لنيل درجة الدكتوراه في علم الموسيقى، ثم عُيّنَ أستاذًا مشاركا بجامعة تينيسي، وبعد تخرجه اشتغل بالتأليف الموسيقي، وجعل من (عُمان/ الوطن) العنوان العريض الذي قدَّم تحته العديد من الأعمال الموسيقية الرصينة، بدأها بـ"سيمفونية الأمل"، وأعقبها بـ"السيمفونية الشرقيّة"، ثم أوغل في التراث العُمانيّ؛ فكتب "باليه مرشد وفاطمة"، ثم رسم خارطة طريق لموسيقى أوركسترالية عُمانية بلغة سيمفونية عالمية في افتتاحيته الأوركسترالية ( عُمان 2020 )، وتفاعل وانفعل مع أحداث عصره، وتناغم مع سياسة عُمان الخارجية، وانتمائها العروبيّ والإسلاميّ؛ فألَّف رائعته "ثلاثية غزّة". وها نحن في يوم التاسع عشر من مايو 2025 مُنطلقين للقائه مساءً في متحف عُمان عبر الزمان للاستماع والاستمتاع بعمله الموسيقيّ الأبرز " سيمفونية أحمد بن ماجد.. أسطورة البحر ". عُمان عبر الزمان والإبهار البصري في الطريق المنبسط إلى ( متحف عُمان عبر الزمان )، كشفت لنا الأمكنة عن جمال الطوبوغرافيا العُمانية، التي أبدعتها يد الله { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }، فكانت العيون مشدوهة بالسهول الفسيحة، تحت هامات الجبال، كراحة يد تمتد للسلام وبالسلام، وشاهدنا كيف يطفو المتحف على صفحة بحر من الرمال، ويطلُّ كهضبة من بلّور يسطع بنور المعرفة، ويعبق بشذى التاريخ، ويسبح في لجّة الغروب بشراع الأصالة. وعند وصولنا كانت شمس الأصيل كعادتها، تسترخي هانئة في سرير من ورد الجبل الأخضر. من بعيد يتبدّى متحف عُمان عبر الزمان للقادم إلى ولاية منح كجبلٍ من جرانيت، ترجّل من سلسلة جبال الحجر، وحطّ رحاله في مساحة شاسعة منبسطة من الولاية، ويرفع هامته إلى الأعالي، وعلى صفحة وجهه ينعكس ضوء النحاس على سطح جسور فولاذية ضخمة، يصل امتداد واحد منها إلى 90 مترًا، ويزن 800 طن. وعندما تتأمل في هذا البناء كثيمة فنية، تظهر لك براعة المعماريين، في توظيفهم الحداثويّ للأحجار المقدودة من جبال عُمان؛ حيث قاموا بتشطيرها في شكل هندسي رباعيّ، على شكل معيّنات، وكل (مُعيّن) منها يتكوّن من مُثلثين متساويي السَّاقين، لهما قاعدةٌ مشتركة، ومن ميزات الشكل المُعيّن، أنه يجعل جميع الجدران الخرسانيّة والمزجّجة، تتخذ الشكل المائل، وذلك لتمنع أشعة الشمس المباشرة من الانزلاق إلى البهو الداخليّ للمتحف، ومن ثَمَّ انعكس الدور الوظيفيّ لهذا الشكل الهندسيّ جماليا على سائر التكوينات المعمارية للمتحف. لقد اعتمدت فكرة التشييد المعماري لـ( متحف عُمان عبر الزمان )، على عقد صداقة ثلاثية الأبعاد، تجمع ما بين التصميم الحداثويّ، والتراث العُمانيّ، والبيئة النظيفة؛ حيث تمّ تركيب واجهات زجاجية ملوّنة من نوع آيرون جلاس، والتي تتنوّع أطوالها ما بين تسعة أمتار وخمسة وعشرين مترًا؛ لتوفر رؤية عالية الوضوح، تربط ذهنيا وبصريا ما بين الداخل والخارج. وعندما دلف ثلاثتُنا إلى داخل مبنى المتحف - وكانت تلكم الزيارة هي الأولى لنا جميعًا- فشعشع الانبهار في رؤانا، وحاورت أبصارَنا الجدرانُ الداخلية، وهي ترتدي حُلّةً منسوجة من ( وردة الصحراء )؛ وهي نوع من الأحجار العُمانية الناصعة الشهيرة، وما لبث الزمن بنا قليلا، حتى أخذنا من أيدينا وعادَ بنا إلى 800 مليون سنة قبل الميلاد. افتتاحية عُمان 2020 كتب الدكتور ناصر الطائي هذه الافتتاحية الموسيقية متأثرًا بأحداث متضاربة، بدأت بصدمة اجتماعية وتاريخية مع صعود روح مؤسس الموجة الأولى من النهضة المباركة السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- إلى بارئها فبكاه البشر والحجر، ثم دخول العالم كله إلى ظلمات جائحة كوفيد-19، وما تبعها من كساد اقتصاديٍّ هشّم أعمدة النظام الماليّ العالميّ، ثم تعود روح الأمل لتنبعث من جديد في أوصال الشعب العُمانيّ راضيًا مرضيًّا باعتلاء حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أيده الله- سُدّة الحكم، ولتنتقل معه عُمان شعبًا وحضارةً وأرضًا إلى مرحلة جديدة من النهضة المتجددة. بنى الدكتور ناصر الطائيّ ( افتتاحية عُمان 2020 ) على (سُلّم ري الصغير المظلم والحزين) تعبيرًا عن تلك الفترة السوداوية التي عاشتها عُمان بوفاة المغفور له السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه، وخيّمت سحابة سوداء على الحياة، في سائر أرجاء العالم؛ إثر جائحة كورونا. في هذه الافتتاحية الأوركسترالية، وظَّف د. ناصر الطائي ثلاثة إيقاعات مصحوبة بتآلفاتٍ ناعمةٍ عذبة على آلة (الهارب الحالمة)، تُساندها، وتتكاتف معها جوقةٌ كاملةٌ من الآلات الوترية والهوائية، ثم انتقل بنا الطائي على جناح مجموعة من الجُمل الموسيقية المتفائلة والمفرطة بالفرح، فبدت الحياة أكثر إشراقية وتفاؤلا وانتشاءً بحالة الانتصار التي تحققت، ناهيك عن تعبيره بلغة موسيقية راقية، عن سعادته العارمة، بالانتقال السلس للسلطة في عُمان، بتولي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم – حفظه الله ورعاه - مقاليد الحكم وبداية موجة جديدة من النهضة المتجددة، والتي سبقها مشرفًا ومتابعًا بنفسه على على تفاصيل رؤية "عُمان 2040 "، ثم انتقل بنا د. ناصر الطائيّ إلى "سُلّم ري الكبير" في مسارٍ تنازليٍّ، مُرتكزًا على النغمات المنقَّطة، ووجّه الآلات النحاسيّة؛ لتعبر بجلاء عن الانتصار البطوليّ الذي عاشته عُمان في هذه المرحلة. وقد لاحظنا في هذا المفصل من " افتتاحية عُمان 2020 "، كيف وظّف الطائي تكنيك الارتباك الدراميّ، المصحوب بحالة من التوتر؛ حيث تناهى إلى الآذان تصاعد درجة الإرباك إلى ذروتها، بفعل الحركات الاهتزازية للأوتار والنغمات المتنافرة، وصولا إلى منعطف دراميّ حدث فيه تحوّل مفاجئ بالانتقال إلى فصل من التنويعات الأوركسترالية تتسابق إليه جوقةٌ من الآلات الوترية والنحاسية والهوائية، حتى تصل بنا إلى ذروة الاشتباك والارتباك معًا؛ حيث التوقف الدراميّ على النغمة المسيطرة، ثم يعود بنا الطائي إلى الفكرة الأولى للافتتاحية، ثم الخاتمة الموجزة مؤكدًا على النهاية المبهجة. وفي هذا المقام يجب ألا ننسى الإشارة، إلى براعة المايسترو العُماني العالميّ حمدان الشعيليّ الذي يجمع ما بين قدرات الإبداع في التأليف الموسيقي، وقيادة الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية، والذي بدأ مسيرته الفنية معها كعازفٍ لآلة الترمبون عام 1985م، وبعد ربع قرن من الجهد الشاق والدراسة، قاد الأوركسترا الأكاديمية الملكية الأسكتلندية للموسيقى والمسرح، ثم تشرفت الأوركسترا السيمفونية الأسكتلندية بقيادته، ويا له من شرف لصاحب سيمفونية (ترنيمة من أجلك)، ومعزوفة (النهضة المباركة)، وكثيرًا عزفت له الأوركسترا السيمفونية السلطانية العُمانية العديد من أعماله. كابريتشيو المكان مقطوعة موسيقية تستنطق الطاقة الكامنة في روح العازف؛ بل تصنع توأمةً وتقاربًا حميميًا ما بين العازف والآلة، فعندما يُربِّت على أوتارها، تبوح له بأسرارها، وحين يهمس في روحها مع كل سحبة قوس؛ تتفجّر ينابيع الإبداع داخل نفسه التوّاقة للحرية؛ لتحطم كل القيود المفروضة مسبقًا، وتحتفي معه باللحظة. كتب د. ناصر الطائي مقطوعة "كابريتشيو المكان" في المرحلة الوسطى ما بين سوناتات التشيلو الأولى والثانية، وقد استطاع بخبرته أن يمزج ما بين التعبير الموسيقيّ الحيّ، والتقنية الرفيعة، ويصنع فسيفساء صوتية متنوعة، تتقاسم فيها المساحات المفاتيحَ الموسيقية والطبقات المتباينة؛ ولكنها تُمثل تحديًا لمهارة العازف الذي عليه أن يتنقَّل سريعًا من مرحلة العزف على الأوتار المزدوجة، إلى القفز الواسع بالنقر الحادّ بالأصابع، مما يخلق جوًا من الدهشة، يستبينه المستمع من القدرة الفائقة للعازف في السرد الموسيقي، من خلال كشفه المتتالي عن الأبعاد اللحنية، التي أراد المؤلف الموسيقي إبرازها، من خلال ابتداع حالة من التوّحد والاندماج الروحي ما بين الآلة والعازف، وما هذا ناتج إلا عن التقلبات، ذات الطابع الحُرّ، والمِزَاج المتغيِّر الذي تمتاز به مقطوعة الـ(كابريتشيو)؛ حيث تعود الثيمة الافتتاحية بشكل متكرر؛ ولكن في كل مرة بحُلة جديدة؛ ارتكازا على سلالم موسيقية متغيرة، وتقنيات متنوّعة في الأداء. وفي ختام مقطوعة الـ(كابريتشيو)، تصاعدت النغمة الدرامية من خلال العزف المتدرج، باتجاه الأسفل، وكانت المازورات الثمانية الأخيرة، بمثابة الكود الختاميّ، ثم اختُتِمَت المجموعة، بنبرة قوية وحازمة تركت أثرًا جليلًا في ذاكرة المستمعين. ذاكرة الإنجاز العُمانيّ لا يمكن لأي مبتكر أو مبدع البدء من الفراغ، ولابد من إرثٍ يتكئ عليه، ولا مناصَ من تاريخ حضاريٍّ مشرّف يستند إليه، وكان أحمد بن ماجد " أسد البحار " محور الارتكاز، الذي انطلق منه الدكتور ناصر بن حمد الطائي في قصيدِهِ السيمفوني ( المصنّف 4 من سُلّم صُول الصغير )، الذي تتشظّى من خلاله العديد من الدلالات؛ فأمّا الدلالة الأولى فهي مَزِيّة الفخر على العالم، بأن كتاب "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد" لأحمد بن ماجد، ما زال مرجعًا علميا معتمدًا، لدى سائر البحارة والقباطنة والأكاديميات البحرية في مشارق الأرض ومغاربها ولا غناء لهم عنه، فضلا عن ثلاثين كتابا أخرى، أهمها: " رسالة قلادة الشموس واستخراج قواعد الأسوس " ، و"الأرجوزة السبعية" بجانب اكتشافاته للعديد من الطرق الملاحية ، و تطويره البوصلة البحرية و تصميمه الخرائط الملاحية التي تتكون من 22 درجة ، والتي لا تزال تُستخدم حتى اليوم. سيمفونية أحمد بن ماجد من خلال رؤية محلية وتراثية، يستلهم الدكتور ناصر الطائي، شخصية البحَّار والمكتشف العُماني أحمد بن ماجد، ويبحر بها وبنا في عالم الموسيقى، ماخرًا عباب الإبداع، على سفينة تحمل على متنها جوقة الأوركسترا صوب العالمية، ويأخذنا معه على شراع الموسيقى، التي تنساب بنا حالمة حينًا، ما بين مشاعر فياضة من التأمل، وخبطات المجاديف على صفحات الموج الهادئة، وحينًا هادرةً غاضبة مع الرياح العاصفة، ويأخذنا تارةً بصحبته إلى شواطئ الحنين، ويصعد مراتٍ عدةٍ بنا على نغمات الموسيقى، إلى القِمَم العالية ومنصات الانتصارات، والبطولات المبهجة. هدف السيمفونية عبر قصيدِهِ السيمفونيَ الشهير بـ" سيمفونية أحمد بن ماجد" والمعنون بالمصنّف 4 من سُلّم "صول" الصغير، استطاع د. ناصر الطائي، أن يشير بنغماته الأوركسترالية، ذات القالب العالميّ إلى ثلاثة أهداف كبرى، سعى إلى تحقيقها، ولكنها تحتاج إلى دعمٍ أهليّ وحكوميّ وتضافر الجهود؛ لإدماجها في استراتيجيات وسياسات العمل الثقافيّ، واعتمادها كأجندةِ عملٍ وطنيّة؛ يأتي في مقدمتها: ( تسليط الضوء على الإرث البحري العُماني )، وثانيها ( تعزيز الوعي بدور الشخصيات التاريخية في تشكيل الهوية الثقافية لسلطنة عُمان على وجه الخصوص ومنطقة الخليج والوطن العربي بوجه عام )، وثالثها ( اعتماد مثل هذه العروض المبتكرة بأيدٍ كإضافة نوعية تعكس التلاقي بين الفنون والثقافة والتراث )، ومن ثم توظيفها في ( الترويج السياحيّ لسلطنة عُمان )، وبناءً على ما تقدم نوصي بطرح هذا العمل في مسابقة للكتابة الإبداعية، والاشتغال على تحويله إلى كتابة مسرحية موسيقية ترتقى إلى عمل أوبراليّ عالميّ، يمكن الطواف به حول العالم كواجهة فنية عُمانية، يمكن البناء عليها فيما بعد. رسالة السيمفونية وإذا ما كان بغيتنا التأثير بالإبداع محليا وعالميا؛ فمن الضروريّ تصميم رسالة مكثّفة ومختصرة، يمكن حملها على أي شكل فنيّ، وبثِّها بطريقة غير مباشرة في نفوس المتلقين، ويمكننا القول بأنَّ الدكتور ناصر الطائيّ، أدرك ذلك منذ اللحظة الأولى لكتابة ( المصنّف 4 من سُلّم "صول" الصغير ) في قالب أوركسترالي بعنوان: (سيمفونية أحمد بن ماجد)، قد ضمَّنه رسالة ذات شقين؛ أمّا الشق الأول فيتوجّه به إلى كل مواطن عُمانيّ، يعيش على هذه الأرض الطيبة مُستنهِضًا الهِمَم، وباعثًا روح العطاء والابتكار، وحَاثًّا على التَّشارك يدًا بيد في (إنجاز نهضة حديثة ومتجددة، لا تعيش على الماضي؛ بل تستلهمه، وتحيي القدوات في نفوس الأجيال القادمة، وتعتز بتاريخ عُمان). أمّا الشق الثاني من رسالة المؤلّف، فيتوجه به إلى العالم خارج حدود عُمان الإقليمية وينطلق به إلى العالميّة احتفاءً بما قدمه للعالم من ( إنجازات علمية واختراعات واكتشافات )، والتأكيد على ( دور الموسيقى في تعزيز التراث الإنساني المشترك )، والسعي نحو ( فتح جسور التواصل مع العالم ). غاية السيمفونية إنّ لكل عمل إبداعي أهدافًا مؤقتة ومجدولة زمنيا، يستطيع كل مبدع جاد تحقيقها مرحليا في خطوات متتالية، بينما الغاية العظمى هي تطلعات ورؤى طويلة المدى، ومن ثمَّ نعتقد أنّ الغاية الأعظم من هذا العمل الموسيقي العالمي الكبير، والتي تمثل قمة الهرم في ( سيمفونيّة أحمد بن ماجد ) المعنون بـ( المصنّف 4 من سُلّم "صول" الصغير ) للدكتور ناصر بن حمد الطائي؛ حيث يتضمن بين جُمَلِهِ الموسيقية رؤيةً فنية وإبداعية شاملة، تؤسس لمنهج فنيّ، وخطةً استراتيجية تجعل من ( الثقافة والفنون جزءًا من استراتيجة التنمية المستدامة )، وترسِّخ قناعة وفلسفة ترى في ( الوعي بأهمية الثقافة ركيزةً لنهضة عُمان المتجددة ). رمزية السيمفونية بحسن الإنصات، إلى لغة الموسيقى المنسابة من ( سيمفونية أحمد بن ماجد )، يمكننا إدراك وفهم العديد من الرموز والإشارات، المحمولة على العديد من الدوال، التي تنساب حالمة وهادرة في آن واحد، تشد على أيدينا بإعلاء قيمة القدوة، والبحث في مندوس التاريخ العُمانيّ عن شخصيات شاركت في عملية التواصل الحضاريّ، ونحتت اسمها في جبين التاريخ لتكريمها، والاعتداد بها، والاستضاءة بسيرتها، في شق غمار التجربة، فضلا عن فتح نوافذ الحوار مع الذات، والانفتاح على الآخر والدخول إلى محاريب الفنون العُمانية؛ بغية تقديم أنموذج إنسانيّ للعالم، يستلهم تجارب السابقين؛ حيث تنصهر (البطولة بالحكمة، والعلم بالشعر، والموسيقى بالهوية. وتأتي سيمفونية د. ناصر الطائيّ تخليدًا؛ لإرث إنساني رصين، وهو بمثابة ملحمة عُمانية بلغة عالمية)، و(تُجسيد للإرث العُمانيّ في قالب أوركستراليّ عالميّ، يحكي رحلات أحمد بن ماجد البحرية والعلمية والأدبية، ويصوّر بالموسيقى تحديات البحر العاتية التي واجهها ابن ماجد، وانتصاراته وقيادته الحكيمة). البنية الفنية للسيمفونية يرتكزُ البناء الفني لهذه السيمفونية على توظيف د. ناصر الطائيّ للتنوعات الهارمونيّة والانتقالات الإيقاعية، للتعبير عن حالة ( التفاعل الدرامي المتصاعد ) الذي يوائم فيه ما بين شخصية أحمد بن ماجد ذات الرؤية العلمية الهادئة، وشخصيته الفكرية التي تبحث في ذاتها وتاريخها، عن إجابات حاسمة للكثير من الأسئلة الوجودية، ومناقشة القضايا التاريخية والجغرافية، اتساقًا مع عالم البحار المتقلّب، ذي الأمواج الهادرة. ويمكننا القول بأنّ المؤلف الموسيقي استطاع إسقاط هذه الأسئلة وتنزيلها من عالم الخيال إلى عالم الموسيقى الحالمة تارة، والهادرة تارة أخرى، لتكتمل في نهاية المطاف، وتخرج إلينا على يديه في صورة ( ملحمة موسيقية تنبض بالحيوية والعاطفة ). الرؤية الفنية للسيمفونية تتجلّى الرؤية الفنية في سيمفونية أحمد بن ماجد، في قدرة ( نغمة آلة الترومبيت ) على التعبير عن المشاعر المتناقضة، التي تتجاذب شخصية أحمد بن ماجد، وتتراوح ما بين رمزية (البطولة والثبات)، وتعلو نغماتها وتتصاعد من وسط حركة الآلات الوترية، التي تعبّر عن حالة أمواج البحر المتقلبة؛ فمرةً حالمة في السعي نحو تحقيق أهداف وآمال أحمد بن ماجد، ومرةً أخرى تتصاعد درجة الإيقاع، فتعكس لنا صراع أحمد بن ماجد مع العواصف العاتية وإصراره على الانتصار والوصول إلى أهدافه وتحقيق غايته، ثم تهدأ الإيقاعات وتتهادى الأنغام كما تهدأ العواصف ويتراقص موج البحر، لـ( يتردّد صدى الحكمة والمعرفة التي تركها للأجيال ). وتتجلّى براعة المؤلف الموسيقي في الانتقال بانسيابية حالمة تتحرك على قُطبي الصراع، وتتفاوت في شدتها ما بين ( مشاعر التأمل وهدوء البحر )، و( لحظات العاصفة والتوتر )، ومن ( الحنين العميق إلى نغمات البطولة والانتصار ). وفي الأخير يمكننا القول: لقد استطاع كل من تابع هذا العمل السيمفونيّ؛ ذو القالب الأوركستراليّ العالميّ، تأليفًا وعزفًا وإدارةً، أن يمسك بالثيمة الرئيسة، والتي تماثل المعادل الموضوعيّ لشخصية ( أسد البحار أحمد بن ماجد )، والتي نجحت (آلة الترومبيت) في تقديمها بإيقاع موسيقيّ، يجسد ويشخّص رمزية البطولة الشامخة، وعلى منحى آخر، تضافرت ثيمات موسيقية أخرى، تداخلت مع الثيمة الرئيسة؛ لتعبّر بجلاء وبساطة عن تقلب مناخ البحر، وتحولات الطقس في تناقضاتها، وحالة التأمل الفكريّ والإبداعي التي كان يعيشها أحمد بن ماجد على متون السفن الشراعية، والتي جمع فيها بين العلم النظري والتطبيقي. واستطاع د. ناصر الطائيّ أن يرسم لنا بريشة صوتية مبهرة، لوحة نفسية تجمع بين معاناة صراع البطل العُمانيّ مع العواصف العاتية، والتي تتصاعد هذه شيئًا فشيئا؛ لتبلغ ذروتها ثم تلبث أن تعود ثيمة الملاح في تشابكها وصراعها مع الأحداث، لتختتم السيمفونية بنهاية قوية ومؤثرة. ولا يفوتنا في النهاية الإشادة بالمايسترو والمؤلف الموسيقي جان بوغاني قائد الأوركسترا، الذي يتسم أسلوبه الموسيقي بنزعة رومانسية حديثة، يمزج فيها بين البنية الهارمونية الغنية بالخط اللحني الغنائي؛ مما يضفي على مؤلفاته بُعدًا شعوريًا وإنسانيًا مُميَّزًا.

في وداع السيدة خالصة
في وداع السيدة خالصة

جريدة الرؤية

timeمنذ 3 أيام

  • جريدة الرؤية

في وداع السيدة خالصة

سارة البريكية sara_albreiki@ يقف الإنسان عاجزًا في لحظة الموت الأليمة، يقف مكتوف الأيدي محاولًا إقناع ذاته بما حدث في لحظة فقدٍ وحزنٍ دائمٍ، ولوعةٍ تسطو على عناقيد القلب والروح والنفس... محاولًا جاهدًا التشبث ببصيص أمل لعودة الحياة إلى طبيعتها بعد مرور الوقت، إلّا أنه يقف وحيدًا أمام جيش المُعزِّين الذين لا يدركون مدى قوة وصلابة ذلك الإنسان الذي يقف أمامهم، تاركًا وراءه الكثير من التحديات، مُستذكرًا أنه قدوة، وأنه يجب أن يكون الأقوى والأكثر تأثيرًا وصلابة. فقدنا الإنسانة الطيبة الخلوقة المثابرة والمكافحة، التي أنجبت ذلك الشموخ والبهاء والحنان والمحبة الصادقة، مُتجسِّدةً في شخص السيدة الجليلة التي تقف سندًا جنبًا إلى جنب مع سلطان عُمان المُفدّى وهي التي دائمًا الدافع الأول لتحقيق النجاح وسندًا للمرأة العُمانية ويد عز وسمو ورفعة وبهاء. في الموت تقف الذكريات جميعها، تتلو بعضها بعضًا، يلي تلك اللحظة ألمٌ وذهولٌ ووقفةٌ لا تشبه جميع الوقفات، ولحظة صمتٍ تليها دموع الحزن تتساقط تباعًا وكأنه نهر... (لو استثمروا دمعي الذي في العراق سكون... كان اكتفى الشعب العراقي من أنهاره)، هكذا تحدثت مع نفسي ولسان حال دموعي التي أحاول جاهدًا مواراتها عن الجميع، لكنني أقف عاجزة أمام ذلك، فالفقد عظيم. لم أرَ السيدة خالصة عن قرب، ولم أسمع عنها سابقًا، إلا أنني رأيت حزن الوطن والناس والأزقة والطرقات وزوايا البيوت، ورأيتها في تفتح الورد، واخضرار العشب والغصون الحالمة، ورأيتها في عيون السيدة الجليلة تحكي قصة حب عظيمة لوطن عظيم ولشعب سامٍ لم يأتِ من فراغ، بل جاء من خلالها، فهي امرأة قوية كانت تمنح الحب والسعادة لكل من يمر بالقرب، وحتى ذلك البعيد الذي أصبح يستشعر مكانتها في قلب الوطن. إن الخسارات الكبيرة هي الفقد، ففقد الأعزاء خسارة كبيرة جدًا، وبعد ذلك الفقد لا يعود الإنسان كما كان بتاتًا، لأنه بالنهاية فقد جزءًا مهمًا من روحه. فالأم هي أعظم نعمة على الأرض، وهي الرحمة التي خلقها الله سبحانه وتعالى لبني البشر، فكل منا يشعر بالرحمة عندما يرى وجه أمه، ومهما كان وضع الإنسان، فإن وجود الأم ينسيه متاعب الحياة، فقربها أمان، وفي نظرتها السلام، وهي رحمة تمشي على الأرض، أودع فيها الله سبحانه ذلك الشعور الغريب الذي لن يحس به إلا هي. تكبر الأحزان بعد رحيل الأم، فلا تجد ما في البسيطة كلها يغني عنها، ولا سعادة تستطيع أن تنسيك قدر أمك مهما بلغت قوة الأمل، لكننا نتوسم خيرًا في السيدة الأولى أن تكون صبورة، وأن تتجاوز هذه المحنة العظيمة والفقد الجلل، ولا نقول إلا ما يرضي الله: إنا لله وإنا إليه راجعون. خالص التعازي والمواساة لأم الوطن وللأسرة الحاكمة بهذا المصاب الكبير، رحم الله السيدة خالصة التي انتقلت إلى جوار ربّها الكريم، وأسبغ على قلب السيدة الجليلة صبرًا جميلًا. وداع وما بعد ينفع أناديلك يا أمي وين؟ وبكتب في تلاوين الصباح وقصة العشاق وأحزاني وأُرتِّل اسمك بصوتي وأحاول ارسم عيونك وأنا مهما ترا حاولت ابنسى كل شيء وارجع طفل! وابحث عن عيونك

في داخلي مقعد شاغر لا يُملأ
في داخلي مقعد شاغر لا يُملأ

جريدة الرؤية

timeمنذ 3 أيام

  • جريدة الرؤية

في داخلي مقعد شاغر لا يُملأ

سلطان بن محمد القاسمي في داخل كل إنسان، مهما بدا مكتملًا، هناك مقعد شاغر لا يُملأ؛ ذلك المقعد ليس محجوزًا لحبيب راحل، ولا لصديقٍ غائب؛ بل لنسخة لم تُولد بعد. نسخة لم يلتقِ بها صاحبها، ولم يمنحها فرصة أن تتنفس بصدق، أو تحيا كما خُلقت أن تكون. إنها النسخة التي لم تُنجز، ولم تفشل، ولم تُحب، ولم تكره. لم تُكسر، ولم تنتصر. كانت دائمًا هناك، في الزاوية الهادئة من الروح، تراقب من بعيد، تكتفي بالصمت، وتنتظر أن يُصغي إليها أحد. ليست نسخة مثالية، ولا خارقة، ولا مصنوعة من نور؛ بل هي ببساطة الإنسان كما يستحق أن يكون، لو أنه لم ينشغل طويلًا بما يجب، ولو أنه لم يُساوم على ما يحب، ولو أنه لم يُطِل البقاء في الأماكن التي لا تُشبهه. فكم من البشر أمضوا حياتهم وهم يملؤون مقاعد الخارج، متناسين المقعد الأهم، ذاك الذي ينتظرهم في دواخلهم، وكم من الأرواح انشغلت بالبحث عن هوية خارجية، ونسيت أن جلّ ما تفتقده… يقبع في الداخل، بانتظار لحظة وعي نادرة. "الذي يبحث عن ذاته في عيون الآخرين، لن يجدها أبدًا"، كما كتب المفكر الإيطالي نيكولو ماكيافيلي؛ فالهوية الحقيقية لا تُبنى من الخارج، ولا تُمنح كوسام؛ بل تُستخرج من باطن الإنسان، حين يختار أن يُنصت لصوته الداخلي دون رتوش أو مجاملات. ذلك المقعد لا يُفرَغ لأن أحدهم رحل؛ بل لأن الإنسان لم يقترب من ذاته بعد. لم يسأل: "من أنا حين لا أُمثّل أحدًا؟ من أنا إذا نزعتُ عني كل ما اعتدتُه، وتجرّدت من الأدوار، والتوقعات، والامتثال الدائم؟". في تلك الزاوية الهادئة من النفس، حيث لا صوت إلا صوت الصدق، تجلس النسخة الصبورة من كل إنسان، تلك التي لم تطرق بابًا، ولم تُطالب، فقط انتظرت أن تأتيها يدٌ صادقة تقول: "آن أوانك." ويا للغرابة، فبينما ينشغل الناس بالمظهر، والمكانة، والقبول الاجتماعي، تظل النسخة الأصدق فيهم حبيسة التأجيل. حبيسة الخوف. حبيسة تلك العبارات التي تُقال مرارًا: "ليس الآن"، "حين أرتاح"، "حين أفهم نفسي أكثر"… وهي لا تدري أن الفهم لا يسبق اللقاء؛ بل يبدأ منه. وقد لا يأتي هذا الوعي دفعة واحدة، لكنه ينمو في اللحظة التي يتوقف فيها الإنسان عن الجري، ويتأمل. وقد لا يُولد من فراغ؛ بل من مراجعة صادقة، من جرأة في الاعتراف بأن ما كُنا عليه قد لا يكون ما نحن مدعوون أن نكونه. تمامًا كما حدث مع الإمام الشافعي، رحمه الله، الذي لم يكن مجرد فقيه مجتهد؛ بل كان إنسانًا يدرك أن للروح مراحل، وللفكر طبقات، وأن ما يراه المرء اليوم يقينًا قد يراه غدًا اجتهادًا قاصرًا، حين انتقل من العراق إلى مصر، تغيّر السياق، وتغيّر الناس، فتغيّر هو أيضًا. لا لأنه تقلّب؛ بل لأنه جلس إلى نفسه، وأعاد الإنصات إلى النسخة الأعمق منه. كتب يقول: "قلبتُ رأيي في المسائل ليلًا… فأصبح رأيي غير ما كنت أقول." لم يكن ذلك تراجعًا؛ بل نضجًا. ولم يكن تحوّلًا خارجيًا؛ بل ولادة داخلية. الشافعي في مصر لم يكن نُسخة أضعف من الشافعي في العراق؛ بل نسخة التقت بذاتها بعد سفر طويل. جلس على المقعد الذي طالما أرجأ الجلوس فيه، فتجلّت له رؤى لم يكن ليبصرها وهو يركض بين المسائل والردود والمناظرات. وهكذا كلّ منّا، لا يكتمل بصوتٍ عالٍ أو بانتصارٍ علني؛ بل حين يجلس مع ذاته في صمت، ويقول لها بهدوء: "ماذا بقي منّي لم أعرفه بعد؟" إن ذلك المقعد في الداخل ليس نهاية؛ بل بوابة. لا يُراد منه الاعتزال عن الحياة؛ بل العودة إليها بنسخة أصلية. نسخة لا تسعى للإعجاب، ولا تركض خلف رضا الآخرين؛ بل تنمو بهدوء، وتُثمر برفق، وتعيش في انسجام نادر بين ما تعتقده وما تفعله. ولأن المعرفة الحقيقية تبدأ من الداخل، فإن أصعب المصالحات هي تلك التي تتم بين الإنسان ونفسه. حين يعترف لنفسه: "نعم، خذلتك كثيرًا، أجلتُك كثيرًا، استبدلتك مرارًا، لكنني اليوم… أعود إليك." وليس في الأمر رومانسية مفرطة؛ بل نضج هادئ. فأن يعيش الإنسان صادقًا مع نفسه، هو أقرب ما يكون إلى النجاة. أن يجلس على المقعد الذي خُلِق له، دون أن ينتظر إذنًا، أو تصفيقًا، أو موافقة من أحد… هو القرار الذي يحرره من كل ما كبّله يومًا. وقد قال الله تعالى: ﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ﴾؛ فربّما البصيرة لا تُكتسب من كثرة التجارب؛ بل من لحظة صدق واحدة، يجلس فيها الإنسان إلى ذاته كما لو أنه يراها لأول مرة، ويُسلّم لها زمام الرحلة، لا خوفًا؛ بل احترامًا. وفي نهاية المطاف، لن يُجيد العبور سوى من عرف وجهته، ولا طريق أصدق من ذاك الذي يبدأ من الداخل… إلى الداخل.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store