logo
"ضوء" يفتتح مهرجان برلين وسط الثلج والتوتر السياسي

"ضوء" يفتتح مهرجان برلين وسط الثلج والتوتر السياسي

Independent عربية١٤-٠٢-٢٠٢٥

هكذا بدت الملامح الأولى لمهرجان برلين، الحدث السينمائي البارز الذي افتتح مساء أمس، وكثيراً ما كان منبراً للأفكار والتطلعات ونقطة تلاق للقضايا السياسية والاجتماعية على رغم المنعطف السلبي الذي دخله في الدورة الماضية، متأثراً بتداعيات "طوفان الأقصى" فتحول ساحة للمهاترات.
والمهرجان، المعروف بتوجهاته وتركيزه على السياسة، يعيش هذا العام واقعاً معقداً مع تغييرات في إدارته، خصوصاً مع تبوؤ الأميركية تريشا توتل، 55 سنة، منصب المديرة الفنية بعد خمس دورات نظمها الإيطالي كارلو شاتريان، كانت عرضة لانتقادات كثيرة، فنية في الدرجة الأولى، علماً أن تفشي الوباء في بداية تسلمه مهماته لم يكن هدية له من السماء، بل صعب عليه إدارته للبرليناله.
في افتتاح مهرجان برلين (خدمة المهرجان)
يواجه المهرجان اليوم مرحلة انتقالية صعبة ومخاضاً عسيراً وتجديداً يجري بالقفازات، هذا كله في ظل سلسلة من الأزمات التي عصفت به في السنوات الأخيرة، من دون نسيان التغييرات التي طرأت على المشاهدة في السنوات الأخيرة. فبعد استقالة شاتريان تحت وطأة الضغوط وصراعات داخلية متلاحقة، بات يشكل تسلم تريشا توتل دفة القيادة (هي المعروفة بمساهمتها في تطوير مهرجان لندن السينمائي)، أملاً بالنهوض بهذا الحدث الذي كان أصبح مهدداً نوعاً ما، بعدما فقد بريقه، وما عاد في استطاعته منافسة كل من كان والبندقية. وينظر إلى تعيين توتل كمحاولة لإعادة إحياء المهرجان، وسط تحديات كبيرة في عالم سريع التغير. ولعل الرهان الأكبر الذي يواجه الدورة الحالية هو قدرتها على الإتيان بخيارات سينمائية أفضل وتجاوز أخطاء الماضي ومواكبة تطلعات الجمهور، فهل تنجح توتل وفريقها في فرض بصمة مغايرة فنخرج من المهرجان بأكبر عدد من الأعمال السينمائية المهمة؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام الـ10 المقبلة.
تركز الدورة الحالية على أفلام تعكس قضايا وشوؤناً معاصرة تتعلق بالهوية والهجرة والتغيرات المناخية، مما يؤكد التزام المهرجان بمناقشة المواضيع الاجتماعية والسياسية التي كثيراً ما كان مخلصاً لها. وعلى رغم غياب القامات الكبيرة التي تميل للمشاركة في مهرجاني كان والبندقية، فالتوقعات مرتفعة في شأن بعض الأعمال التي قد تحمل مفاجآت، خصوصاً مع زيادة الاهتمام بالأفلام المستقلة والإنتاجات غير التقليدية التي تأتي من خارج الصناعة ذات القوالب الجامدة.
الثلج يحاصر المهرجان في برلين (اندبندنت عربية)
المسابقة الرسمية تشمل 19 فيلماً طويلاً ستتنافس على "الدب الذهبي" وجوائز أخرى، التنوع الجغرافي الذي تأتي منه الأفلام يضمن تشابك القضايا ويعد الجمهور برحلة سينمائية عبر ثقافات وتجارب مختلفة كان الجمهور الألماني المثقف والمتابع مرحباً بها دوماً في بلاده. صحيح أن كثيراً من الأسماء داخل المسابقة "غامضة" وغير مألوفة، لكن بعض النقاد يرون في ذلك فرصة لاكتشاف أصوات سينمائية جديدة، مما يعزز مكانة المهرجان كمنبر للتجديد الفني والانحياز لمواضيع سياسية جريئة وغير مستهلكة. وفي هذا الصدد، استحدثت توتل هذا العام قسماً جديداً باسم "برسبكتيف" ستعرض فيه الأفلام الأولى.
علاقة وطيدة
تربط المهرجان بالمشاهدين المحليين علاقة طويلة، يظل الجمهور في قلب نجاح هذا الحدث. الدورة الماضية كانت سجلت نحو 450 ألف مشاهد، وعلى عكس البريق "الهوليوودي" الذي يميز تظاهرات سينمائية مثل كان والبندقية، يحتفظ المهرجان بهويته الخاصة حاصراً اهتمامه بالمحتوى السينمائي بدلاً من البهرجة، ولكن هذا لا يعني البتة أن مستوى أفلامه أفضل. عدم قدرته في منافسة المهرجانات التي تقام تحت أشعة الشمس الحارقة، وفي مدن ساحلية فيها كثير من "الغلامور"، يجعله يميل إلى خط تحريري تغييري مختلف.
لقطة من فيلم "ضوء" (ملف الفيلم)
هذا العام، يتولى المخرج الأميركي الشهير تود هاينز رئاسة لجنة التحكيم، بعد دورتين متتاليتين ترأستهما فنانتان من الولايات المتحدة. في ختام رحلة سينمائية تجمع بين المتعة والفائدة، سيتعين على اللجنة اختيار الفائزين، ويأمل المنظمون والصحافة والجميع أن تليق هذه الرحلة بمكانة المهرجان الذي أسس في ذروة الحرب الباردة وواكب مذ ذاك كل مراحل تاريخ ألمانيا الحديث، وتحولها من دولة منكوبة إلى قوة عظمى.
وتعبيراً عن التقاطعات بين ألمانيا الماضي والحاضر، افتتح المهرجان أمس بـ"الضوء" للمخرج الألماني توم تيكفر. عرض الفيلم خارج المسابقة، عائداً بمخرجه إلى الأضواء بعد أكثر من 15 عاماً على تقديمه لـ"العالمي" في المكان نفسه. بدأ تيكفر مسيرته في تسعينيات القرن الماضي، واشتهر دولياً بفيلمه الأيقوني "اركضي لولا اركضي"، الذي رسخ مكانته كأحد أكثر السينمائيين الأوروبيين تجريباً وتحديثاً. تميزت مسيرته بتنوع لافت، فهو تنقل بين أفلام هوليوودية ضخمة واقتباسات أدبية، إضافة إلى تأليف الموسيقى التصويرية. "الضوء" نقلة نوعية في مسيرته، على رغم أنه يحمل بصماته الإخراجية الواضحة. ومع أن أفلام الافتتاح في مهرجان برلين لم تحظ في السنوات الأخيرة بإشادة نقدية، وكان مستوى معظمها ضعيفاً، فيأتي "الضوء" مليئاً بالطموحات. على رغم ذلك، كان استقباله خلال عرض الصحافة بائساً إلى حد ما، ويبدو أن الكيفية التي عالج فيها تيكفر مسألة اللجوء في ألمانيا غير ملائمة لتطلعات أعضاء الصحافة.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يروي "الضوء" الذي يقع في نحو ثلاث ساعات، قصة عائلة ألمانية تتألف من خمسة أفراد. يعمل الأب في شركة إعلانات وتحاول الأم الحصول على تمويل لإقامة مشروع ثقافي في كينيا، أما الأولاد الثلاثة فينصرف كل منهم إلى شؤونه. العلاقات بينهم تكاد تكون معدومة، يوظفها المخرج لتناول مسألة انهيار وشيك قد يعانيه المجتمع الألماني. تنطلق الأحداث الكثيرة والمتشعبة، مع موت الخادمة التي تعمل لدى هذه الأسرة، لتستبدل على وجه السرعة بلاجئة سورية فقدت عائلتها في رحلة عبورها البحر للوصول إلى ألمانيا. يحمل الفيلم معه لحظات جميلة سينمائياً، خصوصاً أن المخرج صانع مشهد ممتاز، يطعم الدراما المتصاعدة بعدد من الفواصل الغنائية التي تخفف من مأسوية الأحداث وحدتها، لكن هناك في المقابل لقطات تقع في التكرار الممل، على رغم أن هذا لا ينتقص من أهمية هذا العمل السينمائي وقدرته على التحدث عن مسألة التعايش بين الألمان واللاجئين بنحو مغاير ومبتكر، بعيداً من الابتزاز العاطفي والتدليس السياسي. يأتي تيكفر بخطاب ملتبس، لا سيما عند الختام، يعبر عن العجز والذنب اللذين أصابا جيله وذلك لعدم قدرته على صناعة عالم أفضل يرثه لأولاده.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الزلازل نوعان: جيولوجي وسياسي
الزلازل نوعان: جيولوجي وسياسي

Independent عربية

time٢٤-٠٤-٢٠٢٥

  • Independent عربية

الزلازل نوعان: جيولوجي وسياسي

كنت في إمارة عجمان بالإمارات العربية المتحدة مشاركاً في مؤتمر إعلامي في ديسمبر (كانون الأول) 2013، وأثناء مقابلة تلفزيونية مع مذيعة عربية من إحدى القنوات التلفزيونية التي نسيت اسمها من الخوف، اهتزت الأرض وتحرك المبنى وتمايلت معلقة ضوئية هائلة الحجم (شاندلير) وسط القاعة التي كانت تجرى فيها المقابلة. لم أكن قد عشت هزة أرضية أو زلزالاً في حياتي، فقطعت المقابلة وحثثت المقدمة على الخروج بسرعة من القاعة، فسارعت المذيعة ورائي متسائلة "خفت يا دكتور؟" "إي والله خفت"، بكل صراحة أجبتها وأضفت "لا يكون على بالك أنا ياباني أعيش كل يوم مئات الهزات في بلدي؟"، فكانت أول مرة أشعر بهزة زلزال وكانت هزة مريعة بحق، فالزلزال كان مركزه بلوشستان بين باكستان وأفغانستان لكن قوته وصلت إلى عجمان. في عام 2015 كنت وزوجتي نتناول إفطاراً متأخراً في إسطنبول، فاهتزت الأرض وتمايلت تحتنا وكأنما هي تموج وتذهب يمنة ويسرة، ثوان قليلة وإذا بأخي وابنته ينزلان من المبنى الذي نقيم فيه، كانت ابنته ترتدي حذاء واحداً فقط وتركت الآخر من الخوف مسرعة في الخروج من المبنى، وتساءلت "عميـ وقاعد تتريق ولا يهمك؟"، فابتسمت "ماذا يمكنني أن أفعل؟ أمسك الأرض؟ وبعدين صار عندي خبرة من زلزال باكستان"، وحكيت لها القصة. ضرب زلزال إسطنبول الأربعاء الماضي بقوة 6.2 على مقياس ريختر، ولحسن الحظ لم يكن مدمراً ولم يكن هناك عدد ضحايا كبير، على عكس زلزال غازي عنتاب الذي ضربها في يناير (كانون الثاني) 2023 وتسبب بمقتل أكثر من 50 ألف إنسان بين تركيا وسوريا. أصل كلمة "زلزال" اللغوي محير، بل إن جذرها أكثر حيرة إذا ما حاولنا تحليله بالمنظور اللغوي الحديث لأصل الكلمات، فالقواميس تقول إن جذرها زلّزل وأن الكلمة رباعية مكررة من "زلّ"، ووردت في القرآن الكريم "إذا زلزلت الأرض زلزالها"، وربما يقصد أن طبقة أرضية زلت ثم زلت بعدها طبقة أرضية أخرى، ووجدت جذرها من "زلل" وهو الخروج عن المطلوب والمألوف، والزلة هي الخطأ، وقال بها الشاعر الشعبي أحمد الشمراني: كم طمرنا زلة وكم تجاهلنا سفيه .. وكم حشمنا ناس ما هي والله تنحشم .. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) والزلزال يحدث من خطأ زلة أو انزلاق طبقة جيولوجية من مكانها، ويقال "زلت رجله وطاح" أي انزلقت رجله فوقع، وتستخدم كلمة زلزال في وصف الحوادث الكبرى التي لا علاقة لها بالجيولوجيا، فيمكن أن يقال في السياسة مثلاً "يعد دونالد ترمب زلزالاً سياسياً هائلاً"، فهو زلزال مدمر بالنسبة إلى أوكرانيا أو قل بالنسبة إلى الفئة الحاكمة في أوكرانيا اليوم بقيادة الرئيس فولوديمير زيلينسكي، لكنه نسيم عليل وحدث جميل بالنسبة إلى روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين. كانت عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 حدثاً هائلاً، مجده بعضهم واعتبره عملاً بطولياً فذاً، لكنه كان زلزالاً مدمراً بالنسبة إلى أطفال غزة ونسائها، زلزال إبادة إسرائيلية قتل أكثر مما قتل زلزال غازي عنتاب في تركيا خلال العام نفسه. يتوقع خبراء الزلازل وعلماء الجيولوجيا زلازل هائلة في المستقبل في أماكن أنشطة الزلازل في المحيط الهادئ والبلدان الواقعة على شواطئه، وجبال الهملايا وتشيلي وغيرها، لكن أكبر زلزالين متوقعين وهائلين مدمرين دماراً لم يشهد التاريخ مثلهما، كما يتوقع علماء الزلازل، هما زلزال شمال غربي الأناضول في تركيا، إسطنبول وما جاورها، وزلزال كاليفورنيا الذي من المتوقع أن تكون مدينة سان فرانسيسكو مركزاً له. وبعض الجيولوجيين يتوقع أن يكون زلزال كاليفورنيا هائلاً بحيث يمكن أن يفصل الولاية جسدياً عن باقي الولايات المتحدة الأميركية أو يطمرها بالمحيط الهادئ، لكن الزلزال الكاليفورني الأكبر هو انفصال كاليفورنيا السياسي عن باقي أميركا لو نجحت دعوات الانفصال الكاليفورني CALEXIT واستقلت الولاية احتجاجاً على سياسات الرئيس دونالد ترمب المعادية للهجرة من المكسيك.

رواية "طوفان الأقصى" لإسماعيل البوسعيدي تستلتهم صمود غزة
رواية "طوفان الأقصى" لإسماعيل البوسعيدي تستلتهم صمود غزة

غرب الإخبارية

time١٥-٠٤-٢٠٢٥

  • غرب الإخبارية

رواية "طوفان الأقصى" لإسماعيل البوسعيدي تستلتهم صمود غزة

المصدر - صدر عن دار لبان للنشر رواية "طوفان الأقصى" للكاتب إسماعيل بن أحمد البوسعيدي، أهداها إلى أولئك.. المتشبثون بديارهم، المتجذرين بموطء مقرهم ومستقرهم، أولئك الذين تضلعت بهم الأرض لتذعن في أعماق وجدانهم، وأنبتت من منبع كيانهم. وتسرد الرواية جانبا من النضال الفلسطيني في غزة ضد الهجمة الوحشية للمحتل الإسرائيلي، ويشير المؤلف في مقدمته إلى صمودها فهي "مدينة تئن بالحصار وتضحي جلها لأكوام من الدمار، حيث تحتجب وراءها أرتال مكدسة من رفات الأبرار"، مضيفا: "هنا غزة.. موطن العزة والكرامة والحرية والعدالة، حتما سوف تنبت جيلا سيبعث النصر ولو بعد حين.. ومن هنا تبدأ قصة بني الإنسان". ويبدأ الفصل الأول بعنوان "غزة" مشيرا إلى أنها "مدينة صغيرة بحجمها، عظيمة بحلمها، ملتحفة بالسماء، متجذرة في الأرض، ممتدة في التاريخ كأنها البداية والنهاية".. حيث "هناك تألقت الحكاية في موطن يطلق عليه غزة.. إنها موطن القوة والعزة".

سيرة متخيَّلة لراهب قبطي عشية الفتح العربي لمصر
سيرة متخيَّلة لراهب قبطي عشية الفتح العربي لمصر

Independent عربية

time٢٢-٠٣-٢٠٢٥

  • Independent عربية

سيرة متخيَّلة لراهب قبطي عشية الفتح العربي لمصر

في رواية "سقوط أوراق التوت" يرى الكاتب الإفتراضي في هذه السيرة "مسودة رواية جاهزة للنشر حتى قبل ظهور فن الرواية في أوروبا"، ولم تخل تلك "الترجمة" من إسقاطات على الحاضر، خصوصاً في ما يتعلق بـ "طوفان الأقصى" وتبعاته، المتصلة منذ 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023 وحتى الآن، وإن جاءت على نحو بدا مقحماً، على نسيج مشغول أساساً بمفهوم الرهبنة الذي صدَّرته مصر إلى العالم المسيحي. الرواية، التي عثر عليها "مترجمُها" مصادفة، هي عبارة عن سبع مخطوطات، كانت مخبأة في بيت قديم في إحدى قرى صعيد مصر، وترجع وفق "كاتبها" الراهب إسطفان السمنودي إلى "شهر برمودا من سنة 641 من ميلاد مُخلِصنا يسوع المسيح". القرية وفقاً لتلك المخطوطات كان اسمها أنتينوبوليس (مدينة أنتوني)، في زمن هيمنة الرومان، وهي بحسب "المترجم"؛ "قرية الشيخ عبادة، جنوب محافظة المنيا حالياً". ويلاحظ أن هذا التاريخ هو نفسه تاريخ الفتح العربي لمصر، الذي مهد لتحولها إلى دولة إسلامية، وفي هذا دلالة لا تخفى على أننا بصدد حقبة وجد فيها الأقباط أنفسهم أمام مفترق طرق يحتم عليهم التوثيق لديانتهم وقديسيهم، فتتالت كتاباتهم المؤرخة لأحوالهم ولأحوال بلدهم بصفة عامة، وهو ما ظهر لاحقاً في كتابات مؤرخين مسيحيين باللغة العربية، منهم يوجنا النقيوسي وساويرس بن المقفع، على سبيل المثال. جذور الرهبنة تُستَهل الرواية بالاقتباس التالي من سِفر التكوين: "فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر"، وهو يرتبط على نحو واضح بعنوان العمل، الذي يرمز لحيرة الإنسان حتى ولو كان متديناً، إزاء كينونته، المجبولة على الوقوع في الخطأ، والسعي في الوقت ذاته على تجنبه ما أمكن. ويلي ذلك اقتباس آخر من كتاب "بستان الرهبان: "قال القديس أنطونيوس: يجيء زمان يُجَن فيه جميع الناس، وإذا أبصروا واحداً لم يُجَن يذيعون عنه بأنه مجنون لأنه لا يشبههم". وهذا الكتاب هو "التاريخ اللوسي لبالاديوس ويعرف بفردوس الآباء، ويعتبر من عيون أدبيات آباء الصحراء في الحقبة الخاصة بنشوء الرهبنة في مصر. وهو - أي ذلك الاقتباس – يتسق كذلك مع ما تؤكده رواية جيد فيما يخص وعورة درب الرهبنة، مقارنة بالدروب الآمنة نسبياً الت يحيا في ظلها عموم الناس. أما القديس أنطونيوس أو أنتوني (251-356م) فهو من مبتدعي الرهبنة الأوائل، وكان أول من ترك العالم وعاش في الصحراء كراهبٍ، وصار له تدريجياً أتباعٌ عاشوا كنُساكٍ على مقربة منه، منهم بولا، الذي نظر إليه أنطونيوس نفسه باعتباره "نموذجاً مثالياً للراهب الناسك". وووفقا لويكيبيديا، فإنه بانتشار الرهبنة من قِبل الناسكين المقيمين في صحاري مصر، إلى فلسطين وسوريا، وإلى داخل آسيا الصغرى وما بعدها، "سُجلت الأقوال والأفعال الخاصة بآباء الصحراء وعُممت، بدايةً بين أقرانهم الرهبان وبعدها بين العامة أيضاً". كسر الإيهام وسبقت أحداث "الرواية"، "كلمة المترجم"، بتوقيع مينا عادل جيد نفسه، وبتاريخ 30 يونيو / حزيران 2024، وفيها توضيح لملابسات العثور على المخطوطات السبع والشروع في ترجمتها من القبطية إلى العربية. ومنها سيعرف القارئ أن "المترجم" هذا يعمل في مؤسسة تنموية عريقة، يتمحور نشاطها في قرى "منسية" في صعيد مصر. وإلى جانب عمله هذا، فإنه مولع بالعمل على "حفظ جزء من ثقافة أصيلة وخلابة من الاندثار"، عبر تصوير أبواب البيوت القديمة، ويقرأ من خلال الباب "الزمن وجانباً من تصوراتهم (يقصد مَن سكنوا تلك البيوت) عن أنفسهم، ومجتمعهم، وعن الكون وخالقه" ص 8. وهو أيضاً "روائي". أما البيت الذي خبئت فيه المخطوطات السبع، فيقع في قرية تابعة لمحافظة المنيا؛ "كل سكانها مسلمون، وليس بها بيت واحد للأقباط". لاحظ صاحبنا أن باب البيت كان عتيقاً، ويبدو وكأنه كان في الأصل باب دير، أو "كأنه مصنوع من الزمن". همَّ بتصويره، عندما خرجت من البيت امرأة في نحو السبعين من عمرها، ودعته إلى الدخول، فلبى الدعوة متوجساً. كان ذلك يوم الثلاثاء 17 أكتوبر 2023. العحوز أرادت أن يساعدها في التعرف على ما في هذه الأوراق، لتفهم لماذا دفنها أبوها في الحائط، فوعدها بأن يفعل وطلب منها أن تمهله بعض الوقت. وبعدما فحص تلك الأوراق، مستعيناً بإلمامه باللغة القبطية، وجد أنها سيرة راهب عاش بين القرنين السادس والسابع الميلاديين، كُتِبت بعد رحيله بنحو عشرين عاماً من قِبل تلميذ له؛ "رحلة عجائبية من نوع مصري / قبطي، شديد الخصوصية والفرادة، مع بعض همسات وجودية وعبثية" ص 13. بعد عثوره على هذا الكنز، اضطر صاحبنا للسفر إلى باريس في مهمة عمل تستغرق ثلاثة أشهر، فانتهز تلك الفرصة ليشرع في ترجمة المخطوطات السبع، "وفي أثناء ذلك كنت أتواصل بشكل شبه يومي مع الفرير روجيه إكزافيه، العلَّامة في القبطيات. أجاب عن جميع استفساراتي الخاصة بالترجمة بكل اهتمام وتعاون ومحبة وتشجيع. لولاه ما خرجت تلك المخطوطات للنور أبداً بالشكل الذيهي عليه الآن". وبهذه "الكلمة" التي جاءت في 12 صفحة، نجح مينا عادل جيد في إسباغ طابع واقعي على سرديته، فكسر الإيهام، بلغة المسرح. النموذج الضد تقدم رواية مينا عادل جيد نموذجاً غير مثالي، إذا جاز التعبير، لشخص قرر الرهبنة ومارسها لنحو خمسين عاماً، من دون أن يصل إلى مبتغاه وهو بلوغ الفردوس حياً. وهو مبتغى لا علاقة له بحقيقة الإيمان المسيحي الذي يقر بأنه لا سبيل لبلوغ الفردوس والتنعم به إلا بعد الموت. فسيرة "الأب شيشاي"، فهي بحسب تمهيد كاتبها، "لا تستحق التدوين في القراطيس؛ لأن الحماقة فيها ربما تغلب القداسة مع الأسف" ص 21. غير أن الراهب "هدرا إسطفان السمنودي"، وجد" بعد تأمل السنين، "أننا لدينا العديد من سير الرهبان الأوائل في برية مصر، المجاهدين، القديسيت، الحكماء الأبرار، الذين ينعمون بالفردوس الآن وإلى أبد الآبدين آمين، غير أننا ليس لدينا بيان لأولئك الذين جاهدوا، وحاولوا، إلا أن الشيطان أسقطهم مع الأسف، أو وصل لنا خبرهم بأشد اختصار يشوبه خجل وكأنها سير لا تستحق أن تدوَّن". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ومن ثم فإنه وهو في نضج منتصف العمر، بحسب تعبيره، وجد أن سيرة السقوط لا تقل أهمية عن سيرة القداسة والنجاة إلى فردوس الخلاص؛ لأننا حين نعرف الطريق الذي يُضل، نتجنبه، ومعرفته مفيدة كما هي مفيدة معرفة الطريق الذي يصل بنا إلى بر الخلاص بأمان". ويمكن القول ان مينا عادل جيد، نجح، في تقديم روايةٍ بلغة تحاكي لغة الأدب المسيحي القديم، وتلفت من ثم الانتباه إلى أهمية إحيائه في وقتنا الراهن. لكنه ترك الكثير من المفردات ذات الصلة الوثيقة بالعقيدة المسيحية الأرثوذسكية، من دون توضيح معانيها للقارئ العام، ولو حتى في هوامش كان يمكن أن تذيل الصفحات أو أن يشملها ملحق توضيحي في نهاية العمل الذي جاء تخييلياً بامتياز، رغم اتكائه على صيغة تأريخية توثيقية. طوفان الأقصى! جاء السرد في هذه الرواية بضمير الغائب، على اعتبار أن السارد هنا هو نفسه ناسخ المخطوطات في أحد الأديرة المصرية، الراهب هدرا إسطفان السمنودي، الذي كان على الدين المصري القديم في طفولته قبل أن يتحول إلى المسيحية، بعد مقتل والده الصياد الفقير على أيدي غوغاء من "الوثنيين"، وهو يدافع عن الأب شيشاي، الذي اتهمه هؤلاء بممارسة أعمال السحر ليفسد عليهم طقوسهم الدينية. واتخذ السرد شكلاً دائرياً فهو يبدأ بالأيام الأخيرة في حياة "شيشاي" الذي قرر الترهبن، قبل أن يكمل العشرين من عمره، بعدما رفضت الفتاة التي يحبها الاقتران به لضعف إيمانه المسيحي، بحسب زعمها، وتنتهي بسرد تفاصيل احتضاره وهو في نحو السبعين من عمره، بعدما فشل في محاولة ذبح الصبي "هدرا"، قرباناً للرب، ولينال "كرامة إبراهيم"، بحسب رؤية ظنَّ أنها أمرٌ إلهي! وفي رحلته الطويلة، عاش "شيشاي" أهوالاً، على نحو فانتازي، منها مثلاً، أنها دخل ذات ليلة معبداً قديماً كان لدين المصريين، وعند منتصف الليل وجد التماثيل تتحرك، لتتحول إلى جوقة شياطين يسرد كل واحد منهم "إنجازه" في وم واحد، ومنهم واحد يدعى بليعال، تفاخر بأنه نزل الأرض التي من المفترض أن تكون واحة سلام، وألقى في قلب فرقة من أهلها خطيئة قلة الحكمة وعدم حساب العواقب، فاقتحموا حدود سيادة المحتل لأرضهم، وخطفوا منه نساء وأطفالاً ورهائن وأهانوا القوي في كبريائه، فهاج المارد الهمجي ليثأر لكرامته، وأقام حرباً وحشية ليبيد بلد الثوار" ص 163. وهنا لن يجد القارئ صعوبة في أن يدرك أنه بصدد إسقاط خارج السياق العام للرواية، على عملية "طوفان الأقصى"... "أما الثوار فاختبأوا تحت الأرض وتركوا شعبهم في مواجهة المارد الغاضب المجنون (...) قتلوا منهم خمسين ألف نسمة نصفهم من الأطفال وربعهم من النساء (...) وما زالت الحرب باقية".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store