١٨-٠٥-٢٠٢٥
خالد دومة يكتب: العبث المقدس (5)
في خطواتنا الأولى نحو الحياة يملأنا الحب, يفيض بكئوسه المترعة, يتخلل جوارحنا يجعلنا أشبه بطائر يسبح في ملكوت السموات, يقطع الأرض ذهاباُ وإياباً في نشوة غامرة, لايحس تعباً ولا إرهاقاً, بل المزيد يريد بلا فتور, استقبلت الحياة حين وعيت على الدنيا, فاتحة ذراعي لها بالحب, كنت أظُن أن الحياة تستقبلني كل صباح ناشرة جناحيها لي وحدي, كنت أظن أن الشمس حين تُشرق على الدنيا, إنما تشرق لي وحدي, كنت أظن أنها تحابيني وتُؤسرني, كأنما أنا طفلتها المدللة, وعشيقتها المجنونة بعشقها, نعم كنت فتاة كمئات الفتيات من حولي, لكنها حبتني بالجمال, عينان واسعتان خضراوان, ووجه مشرق مضيء جذاب, أنف صغير مصقول كحد السيف, وفم دقيق ولسان فصيح يتخلله صوت ناعم رقيق تقطر الحلاوة من شفتيه, وإبتسامة رائقة صافية, وذكاء متوقد, كنت صافية القلب والروح, خفيفة الحركة, أكاد من فرط رشاقتي أطير في السماء, كنحلة تتنقل بين الأزهار, ترتشف رحيق الحب, لتصنع من عسلها شرابا صائغاً للشاربين, كنت أؤسر كل قلب أصادفه في طريقي, في العام 1978 كنت قد بلغت السادسة عشر من عمري, أملك من مقومات الحياة ما تنتفض به كل جارحة من جوارحي, كان لي جمالاً يبهر الجميع, وذكاء تظهر مخايله في نظرات عيني, وملامح وجهي, كنت ودودة محبة للحياة وللناس, كنت أفهم الآخرين من لمحة عين, أتغلغل في أعماقهم, فأراهم كتباً مقرؤة, أخترقت قلوبهم وعقولهم ونفوسهم بمحبتي.
بعد الشهادة الإعدادية, كثيراً ما كنت أجلس في حجرتي, أراجع ما أنتوي عمله في الثلاث سنوات القادمة, أعيد ترتيب أوراقي, وأضع خططي, ثلاث سنوات تفصلني عن الجامعة, عن الخروج من ربقة الأسر, فقد كنت أعلم لماذا أعيش, وماذا أريد, كل شيء منظم عندي, أحترم الوقت والزمن, أقسمه, فوقت للرياضة, وقت للعمل , ووقت للمتعة, وإن كانت وسائلها محدودة, ولا أترُك شيء للمصادفة والعشوائية, التي يعيشها أغلب الناس أو قل جميعهم, كنت لا أريد أن تمر لحظة من حياتي دون أن أحياها, كنت أشعر بأن الحياة أفضل ما منحنا الله, فلا ينبغي أن نضيع منها لحظة سدى, دون أن يكون لنا أثر فيها ولها أثر فينا, فقللت ساعات نومي؛ لأحظى بقدر أكبر من الحياة, كنت شغوفة بتلك الأنفاس التي تتردد في صدري, علامة أني أحيا وأعيش, أخلصت للحياة إخلاصاً شديداً, فلم أبخل بجهدي وتعبي من أجل تحقيق أملاً راودني, وعزمت للوصول إليه, ولكنها صفعتني على وجهي صفعات كثيرة, ولم تكف, حتى هوت بي إلى حيث لم أتوقع أو يخطر بذهني يوما.