#أحدث الأخبار مع #CompulsiveBuyingBehaviorIndependent عربية٠٦-٠٤-٢٠٢٥أعمالIndependent عربيةالاستهلاك المفرط... أن نشتري الإدمان والإفلاس والاضطرابيطالعنا على وسائل التواصل إعلان مبتكر تحت عنوان "الشراء العشوائي مقبرة الاقتصاد"، يظهر رجلاً يركض وخلفه قبيلة من الأحذية، وآخر يرتدي عدداً من القبعات، وغيره يحمل حقائب كثيرة، وسيدة يمتلئ شعرها بمشابك الشعر، وأخرى تضع نظارات شمسية عدة، ورجال يرتدون أكثر من ربطة عنق، وأكثر من سترة، وأكثر من ساعة. يعكس هذا الإعلان سلوك الاستهلاك القهري، أو ما يعرف بـ Compulsive Buying Behavior، وهو نمط نفسي يتجلى بشراء سلع لا حاجة فعلية إليها بدافع عاطفي مثل التوتر أو القلق أو البحث عن إثبات الذات. وتظهر المشاهد بطريقة رمزية كيف يترجم هذا السلوك إلى تكديس غير عقلاني للسلع (أحذية، قبعات، حقائب، مشابك شعر...)، مما قد يعكس اختلالاً في تقييم الحاجة مقابل الرغبة. وفقاً لعلم النفس السلوكي يعزز التسوق العشوائي هرمون الدوبامين المسؤول عن مراكز المتعة في الدماغ، لكنه يؤدي لاحقاً إلى الشعور بالندم والضغط المالي، ومن منظور اقتصادي يعد هذا النوع من الإنفاق غير منتج، ويسهم في خلق اختلالات في توزيع الموارد الشخصية، وقد يؤدي إلى أزمات مالية على المستوى الفردي. تؤدي كلمة خفوضات على وتر الشراء بأقل شعور ممكن بالذنب، فهي تموه الحاجة وتجمل التسرع، وتمنح المتسوق مبرراً لشراء شيء لم يكن ضمن خططه أو احتياجاته، وفي عصر الإعلانات الذكية والخوارزميات التي تراقب ميولنا لحظة بلحظة، أصبحت قرارات الشراء أقل ارتباطاً بالحاجة، وأكثر انقياداً للإغراء اللحظي. إنها لحظة انفعال نضغط فيها على زر الشراء لنهرب من شعور ما، أو لنملأ فراغاً داخلياً لا يسد فجوته منتج، فكيف يتحول التسوق من تجربة طبيعية عابرة إلى سلوك مضطرب؟ ولماذا يتخطى تأثيره محفظة الفرد ليطاول ركائز الاقتصاد؟ بين الفردي والمجتمعي لا تتوقف الأصابع عن التمرير، والعيون عن التقاط الصور، وبطاقة الائتمان عن استنزاف ذاتها، ففي زمن الإعلانات الموجهة والترويج الرقمي المستمر لم يعد قرار الشراء خاضعاً لحاجة فعلية بقدر ما أصبح نتيجة دافع لحظي، يطلق على هذا السلوك اسم "الشراء العشوائي" أو impulsive buying""، وهو ظاهرة نفسية وسلوكية أصبحت سمة لعصر الاستهلاك المفرط، حين نشتري ليس تلبية لحاجة ما، إنما لأسباب تكمن تحت غطاء نفسي أيضاً، وهذا النوع من الشراء لا يؤثر فقط في الميزانيات الشخصية، وإنما يمتد أثره إلى الاقتصاد الكلي، إذ يتحول إلى عامل ضغط مزمن على الاستقرار المالي، فكيف ذلك؟ تؤكد دراسة للأستاذ الجامعي دينيس رووك، نشرت في مجلة "Journal of Consumer Research" أن الشراء العشوائي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعواطف، ويحفَّز غالباً من خلال الإثارة اللحظية أو الشعور بالملل أو التوتر، وتؤدي وسائل التواصل الاجتماعي دور الشيطان الموسوس في تغذية هذا السلوك، إذ تشير دراسة حديثة تحت عنوان "كيف تؤثر الإعلانات المخصصة في قرارات الشراء" أجريت عام 2020 في جامعة "هارفارد"، إلى أن الإعلانات الموجهة عبر الإنترنت ترفع من احتمالية الشراء العشوائي بنسبة 25 في المئة، بخاصة عندما تصمم خصيصاً وفقاً لبيانات المستخدمين وسلوكهم الرقمي وتفضيلاتهم، ففي كل لحظة نتوقف لبرهة لتأمل غرض تضبط الخوارزميات أنفاسنا ودهشتنا وتسجلها في ملفاتها لتنهال علينا بعدها بخيارات مشابهة لا تحصى. على الصعيد الفردي، يقود الشراء العشوائي إلى استنزاف الدخل الشهري وتراكم الديون، وتدعمنا البنوك وتزيد من اعتمادنا على بطاقات الائتمان أو الأموال البلاستيكية التي لا نشعر كيف نصرفها، ويشير تقرير صادر عن "Bankrate" عام 2022 إلى أن 49 في المئة من الأميركيين يعترفون بشراء سلع لا يحتاجون إليها، مما يؤدي أحياناً كثيرة إلى ضغوط مالية قد تصل إلى التخلف عن سداد الفواتير، أما على المستوى المجتمعي فيؤدي هذا النمط من الاستهلاك إلى تكريس ثقافة الإسراف وتزايد معدلات النفايات الاستهلاكية، مما يفرض عبئاً إضافياً على البيئة والاقتصاد. من السلة إلى السلوك أما في الاقتصادات الناشئة بالبلدان النامية فيصبح الشراء العشوائي أكثر خطورة، كونه يرتبط أحياناً بالرغبة في اللحاق بمظاهر الحياة الحديثة، مما يؤدي إلى إفقار الطبقات الوسطى وزيادة الفجوة الطبقية. وقد أشارت دراسة بعنوان "الاستهلاك في الاقتصادات الناشئة" من "World Bank Blogs" إلى أن الاستهلاك غير المدروس في الدول النامية يؤدي إلى ارتفاع الاستيراد على حساب الإنتاج المحلي، مما يضعف الاقتصاد الوطني ويزيد العجز التجاري. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) في عالم التسوّق الرقمي تتحول سلة الشراء إلى حقيبة سحرية تتسع لكل شيء، نبدأ بقميص بسيط نحتاج إليه، وفجأة نجد أنفسنا نضيف شمعة على شكل قلب، وقشارة أناناس، ولوحة مقلدة لبيكاسو، وفرشاة أسنان، ونباتات، ثم نغلق الموقع من دون شراء شيء، ونغادر بشعور الإنجاز الوهمي. فسلال مواقع المتاجر الإلكترونية e-commerce تزخر ببضائع أغلبها كماليات كثيراً ما أردناها ووضعناها بانتظار قرار الشراء النهائي الذي قد لا ينجز أبداً. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الشراء الاندفاعي يمثل نسبة كبيرة من عمليات الشراء، إذ تتجاوز 62 في المئة في المتاجر التقليدية، وترتفع هذه النسبة في التسوق عبر الإنترنت. وأظهرت دراسة أن النساء والشباب، بخاصة من لديهم مداخيل إضافية، يميلون إلى شراء مزيد من المنتجات الكمالية غير الضرورية متأثرين بالإعلانات، بحسب دراسة بعنوان "التسوق الإلكتروني ودوره في نشر ثقافة الاستهلاك"، وكشفت دراسة نشرت في مجلة "العلوم الإنسانية الاجتماعية" في المملكة العربية السعودية حول التسوق الإلكتروني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عن أن الملابس تأتي في مقدمة السلع المشتراة بنسبة 63.8 في المئة، تليها الأحذية والحقائب بنسبة 38.8 في المئة، ومستحضرات التجميل والعطور 35 في المئة. حلقة الاستهلاك المفرغة من المعروف أن ازدياد إنفاق الناس بصورة كبيرة يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، أي إلى التضخم، والتضخم مشكلة اقتصادية خطرة، حين تفقد العملة قيمتها مع مرور الوقت، فما كان يشترى بدولار واحد على سبيل المثال يصبح ثمنه دولاراً وربع الدولار، وهكذا دواليك. في مثل هذه الحال تتدخل الحكومات، كما يحدث في أميركا، فترفع أسعار الفائدة على الودائع البنكية لتشجيع الناس على الادخار بدلاً من الإنفاق الزائد، وذلك للحد من التضخم، بحيث تكون الفكرة هي سحب السيولة الزائدة من السوق، أما في الأوقات التي يكون فيها الإنفاق منخفضاً، ويعاني السوق قلة الحركة وقلة السيولة، فتتخذ الحكومات الإجراء المعاكس بتخفيض أسعار الفائدة لتحفيز الناس على سحب أموالهم من البنوك وإنفاقها، مما ينعش الاقتصاد من جديد. فالحكومات تستخدم أسعار الفائدة كأداة للتوازن بين تحفيز الاقتصاد والسيطرة على التضخم، وتؤدي دوراً حساساً في تحقيق التوازن الاقتصادي، هذا التوازن بين رفع وخفض الفائدة هو عنصر أساس في السياسات الاقتصادية، ومع ذلك فإن الأنظمة الرأسمالية تتعرض بشكل دوري لأزمات اقتصادية، فنشهد كل أعوام عدة أزمة ناتجة إما عن تباطؤ اقتصادي وضعف في الإنفاق، أو عن تضخم مفرط يؤدي إلى ما يعرف بالفقاعات الاقتصادية. الهرب من الذات في هذا العالم الذي يزداد استهلاكاً يوماً بعد يوم، تبرز ظاهرة إدمان التسوق كواحدة من السلوكيات التي تخفي خلفها أزمات داخلية عميقة. وتخبر المتخصصة في علم النفس كارول سعادة "اندبندنت عربية"، أن الشراء المفرط ليس مجرد متعة أو رفاهية، إذ قد يكون وسيلة للهرب من ضغوط الحياة أو تعويض عن نقص نفسي أو عاطفي، لكن علينا التمييز بين حب التسوق العادي والسلوك المفرط الذي يصل إلى حد الإدمان، معظم الناس يحبون التسوق بين الحين والآخر على سبيل الحاجة إلى الأغراض أو التسلية، وأحياناً يشترون أشياء لا يحتاجون إليها، وهذا قد يكون نوعاً من "التنفيس العاطفي" وتفريغ المشاعر أو تعويضاً عن شعور داخلي. وتستطرد "كل هذا يبقى ضمن إطار المعقول، لكن الخطورة تبدأ عندما يفقد الشخص السيطرة على هذا السلوك، ويفقد القدرة على كبح رغبته في الشراء، فنكون أمام نوع من الإدمان. وهنا يجب أن نفرق بين صنفين من الناس: الأول هو الأشخاص الذين يعانون وسواساً قهرياً متعلقاً بالشراء، فحتى لو غادروا المتجر تبقى الفكرة تلاحقهم فيعودون لشراء السلعة فقط ليشعروا بالراحة، أما النوع الثاني فهم الأشخاص المتهورون الذين يشترون بشكل سريع وعفوي ومن دون تفكير، وقد يشترون الشيء نفسه مرات عدة، أو بكميات كبيرة، لمجرد الشعور اللحظي بالراحة، ويتكدس لديهم ما لا يستخدمونه فعلاً". تعتبر كارول أن هذه الظاهرة لا تنفصل عن السياق المجتمعي العام في مجتمع استهلاكي بامتياز، كوننا نعيش في بيئة تشجع على الاستهلاك مما يخلق نوعاً من الضغط الاجتماعي لامتلاك الأشياء، وحين ترتبط السعادة بالامتلاك، لكنها أيضاً ترتبط بشكل أساس بأسباب نفسية داخلية كالشعور بنقص ما في الحياة، سواء كان عاطفياً أو مادياً أو في تقدير الذات، وأحياناً يكون التسوق محاولة للتعويض عن حرمان عاطفي قديم أو لتسكين ألم صدمة لم تعالج بعد. وتوضح أن المشكلة تكبر أكثر عندما يتحول هذا السلوك الذي يبدو بسيطاً في البداية إلى إدمان، ومع الوقت يتحول إلى عبء نفسي واجتماعي ومادي، وكأي مادة إدمانية يحتاج الشخص إلى جرعة أكبر ليشعر بالراحة نفسها، ومع الوقت يفقد قدرته على التوقف، ويبدأ بالإنفاق الزائد للحصول على الرضا النفسي الذي كان يحصل عليه في البداية، هذا الإدمان لا يستنزف فقط الحسابات المصرفية، بل يمتد تأثيره إلى العلاقات الاجتماعية والأسرية. فمدمن التسوق قد يقع تحت طائلة الديون، أو قد يقصر في واجباته تجاه أسرته، أو تتراكم الأغراض في بيته بلا هدف، مما يؤدي إلى توتر في علاقاته العائلية، وقد يصاب الشخص بالشعور بالذنب أو الاكتئاب بعد موجة الشراء، ويصل به الأمر إلى الندم الشديد، لكنه يجد نفسه أسيراً لهذا السلوك مرة أخرى، إذ التسوق لم يعد رغبة بل حاجة نفسية وسلوكاً قهرياً يفقد الشخص فيه السيطرة، وغالباً لا يشعر بأية سعادة حقيقية من المشتريات التي يحصل عليها، خصوصاً عندما يعود إلى المنزل ويدرك أنه لم يكن بحاجة إلى كل تلك الأشياء. تحت قناع التسوق تعتبر كارول أن هناك دوافع نفسية داخلية، مثل الشعور بالنقص، سواء كان عاطفياً أو على مستوى احترام الذات، أو حتى بسبب حرمان عاشه الشخص في طفولته. وفي بعض الحالات تكون الدوافع أعمق مثل نقص الحب، أو غياب التقدير، أو حتى صدمات نفسية لم تعالج، كل هذا يدفع الشخص إلى استخدام التسوق كوسيلة للهرب أو التعويض. والأسوأ أن هذا السلوك قد يتفاقم عندما يكون لدى الشخص القدرة المالية، مما يؤدي إلى الإفراط الكبير في الشراء. وتضيف أنه حين يفقد الإنسان السيطرة على سلوكه، ويبدأ سلوكه بالتأثير في مجرى حياته اليومية، عندها نكون أمام حال مرضية تحتاج إلى علاج نفسي، مشيرة إلى أن هناك حالات تكون شبيهة بالوسواس القهري، إذ لا يستطيع الشخص التوقف عن التفكير أو الفعل، وفي حالات أخرى نكون أمام إدمان سلوكي متكامل، وهذا يحتاج إلى تدخل متخصص. وتلفت إلى أن الخطورة تكمن في أن هذا النوع من السلوك قد يتفاقم ليشمل إدمانات أخرى مثل الكحول أو الإنترنت أو حتى المخدرات، وتقول "نحن هنا لا نعالج فقط حب الشراء، بل نبحث عن الجذور النفسية مثل الصدمات أو التكوين الشخصي أو اضطرابات في الشخصية كالشخصية الحدية (Borderline) أو النرجسية أو المعادية للمجتمع". من الناحية العلاجية تؤكد كارول أن فهم جذور المشكلة هو الخطوة الأولى نحو الشفاء، إذ لا تكفي معالجة السلوك بحد ذاته، بل يجب التعمق في الأسباب الكامنة خلفه إن كان هناك حرمان عاطفي، أو صدمات سابقة، أو صورة ذاتية مهزوزة، أو ربما اضطرابات في الشخصية مثل الشخصية الحدية أو النرجسية أو المعادية للمجتمع؟ أحياناً نكتشف أن الشخص يعاني "تعدد الإدمانات"، كأن يكون مدمناً الكحول والتسوق معاً، مما يتطلب علاجاً شاملاً. والعلاج، بحسب كارول، "قد يكون نفسياً عبر جلسات علاج معرفي سلوكي (CBT)، وفي بعض الحالات نلجأ إلى العلاج الدوائي، خصوصاً إذا ترافق الإدمان مع اكتئاب شديد أو صدمات حياتية، الأهم أن يتعلم الشخص كيف يتحكم بردود أفعاله، ويجد وسائل صحية للتعامل مع التوتر والضغط النفسي". وتشير إلى أن الوعي بهذه الحال أمر بالغ الأهمية، ليس فقط للمصاب بها، بل وأيضاً للمحيطين به، وأبرز العلامات هي فقدان السيطرة على السلوك والشعور الدائم بالذنب بعد الشراء وتراكم الأغراض غير المستخدمة في المنزل، إضافة إلى التأثيرات المالية والاجتماعية التي تظهر نتيجة هذا السلوك. وأيضاً، حين يبدأ الشخص بإهمال مسؤولياته أو أسرته أو يدخل في دوامة من الديون من أجل التسوق، هنا يدق ناقوس الخطر. فالتسوق يجب أن يكون وسيلة للراحة والفرح، لا وسيلة للهرب من الألم أو تعميق المعاناة النفسية، والإفراط في التسوق لا يدل على حب الترف، بل على خلل داخلي يجب التعامل معه بجدية. وتختم بأن "الهدف من العلاج ليس فقط إيقاف السلوك المفرط، بل إعادة بناء التوازن النفسي، وتمكين الإنسان من التعامل مع التوتر والضغوط بوسائل صحية وإيجابية".
Independent عربية٠٦-٠٤-٢٠٢٥أعمالIndependent عربيةالاستهلاك المفرط... أن نشتري الإدمان والإفلاس والاضطرابيطالعنا على وسائل التواصل إعلان مبتكر تحت عنوان "الشراء العشوائي مقبرة الاقتصاد"، يظهر رجلاً يركض وخلفه قبيلة من الأحذية، وآخر يرتدي عدداً من القبعات، وغيره يحمل حقائب كثيرة، وسيدة يمتلئ شعرها بمشابك الشعر، وأخرى تضع نظارات شمسية عدة، ورجال يرتدون أكثر من ربطة عنق، وأكثر من سترة، وأكثر من ساعة. يعكس هذا الإعلان سلوك الاستهلاك القهري، أو ما يعرف بـ Compulsive Buying Behavior، وهو نمط نفسي يتجلى بشراء سلع لا حاجة فعلية إليها بدافع عاطفي مثل التوتر أو القلق أو البحث عن إثبات الذات. وتظهر المشاهد بطريقة رمزية كيف يترجم هذا السلوك إلى تكديس غير عقلاني للسلع (أحذية، قبعات، حقائب، مشابك شعر...)، مما قد يعكس اختلالاً في تقييم الحاجة مقابل الرغبة. وفقاً لعلم النفس السلوكي يعزز التسوق العشوائي هرمون الدوبامين المسؤول عن مراكز المتعة في الدماغ، لكنه يؤدي لاحقاً إلى الشعور بالندم والضغط المالي، ومن منظور اقتصادي يعد هذا النوع من الإنفاق غير منتج، ويسهم في خلق اختلالات في توزيع الموارد الشخصية، وقد يؤدي إلى أزمات مالية على المستوى الفردي. تؤدي كلمة خفوضات على وتر الشراء بأقل شعور ممكن بالذنب، فهي تموه الحاجة وتجمل التسرع، وتمنح المتسوق مبرراً لشراء شيء لم يكن ضمن خططه أو احتياجاته، وفي عصر الإعلانات الذكية والخوارزميات التي تراقب ميولنا لحظة بلحظة، أصبحت قرارات الشراء أقل ارتباطاً بالحاجة، وأكثر انقياداً للإغراء اللحظي. إنها لحظة انفعال نضغط فيها على زر الشراء لنهرب من شعور ما، أو لنملأ فراغاً داخلياً لا يسد فجوته منتج، فكيف يتحول التسوق من تجربة طبيعية عابرة إلى سلوك مضطرب؟ ولماذا يتخطى تأثيره محفظة الفرد ليطاول ركائز الاقتصاد؟ بين الفردي والمجتمعي لا تتوقف الأصابع عن التمرير، والعيون عن التقاط الصور، وبطاقة الائتمان عن استنزاف ذاتها، ففي زمن الإعلانات الموجهة والترويج الرقمي المستمر لم يعد قرار الشراء خاضعاً لحاجة فعلية بقدر ما أصبح نتيجة دافع لحظي، يطلق على هذا السلوك اسم "الشراء العشوائي" أو impulsive buying""، وهو ظاهرة نفسية وسلوكية أصبحت سمة لعصر الاستهلاك المفرط، حين نشتري ليس تلبية لحاجة ما، إنما لأسباب تكمن تحت غطاء نفسي أيضاً، وهذا النوع من الشراء لا يؤثر فقط في الميزانيات الشخصية، وإنما يمتد أثره إلى الاقتصاد الكلي، إذ يتحول إلى عامل ضغط مزمن على الاستقرار المالي، فكيف ذلك؟ تؤكد دراسة للأستاذ الجامعي دينيس رووك، نشرت في مجلة "Journal of Consumer Research" أن الشراء العشوائي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعواطف، ويحفَّز غالباً من خلال الإثارة اللحظية أو الشعور بالملل أو التوتر، وتؤدي وسائل التواصل الاجتماعي دور الشيطان الموسوس في تغذية هذا السلوك، إذ تشير دراسة حديثة تحت عنوان "كيف تؤثر الإعلانات المخصصة في قرارات الشراء" أجريت عام 2020 في جامعة "هارفارد"، إلى أن الإعلانات الموجهة عبر الإنترنت ترفع من احتمالية الشراء العشوائي بنسبة 25 في المئة، بخاصة عندما تصمم خصيصاً وفقاً لبيانات المستخدمين وسلوكهم الرقمي وتفضيلاتهم، ففي كل لحظة نتوقف لبرهة لتأمل غرض تضبط الخوارزميات أنفاسنا ودهشتنا وتسجلها في ملفاتها لتنهال علينا بعدها بخيارات مشابهة لا تحصى. على الصعيد الفردي، يقود الشراء العشوائي إلى استنزاف الدخل الشهري وتراكم الديون، وتدعمنا البنوك وتزيد من اعتمادنا على بطاقات الائتمان أو الأموال البلاستيكية التي لا نشعر كيف نصرفها، ويشير تقرير صادر عن "Bankrate" عام 2022 إلى أن 49 في المئة من الأميركيين يعترفون بشراء سلع لا يحتاجون إليها، مما يؤدي أحياناً كثيرة إلى ضغوط مالية قد تصل إلى التخلف عن سداد الفواتير، أما على المستوى المجتمعي فيؤدي هذا النمط من الاستهلاك إلى تكريس ثقافة الإسراف وتزايد معدلات النفايات الاستهلاكية، مما يفرض عبئاً إضافياً على البيئة والاقتصاد. من السلة إلى السلوك أما في الاقتصادات الناشئة بالبلدان النامية فيصبح الشراء العشوائي أكثر خطورة، كونه يرتبط أحياناً بالرغبة في اللحاق بمظاهر الحياة الحديثة، مما يؤدي إلى إفقار الطبقات الوسطى وزيادة الفجوة الطبقية. وقد أشارت دراسة بعنوان "الاستهلاك في الاقتصادات الناشئة" من "World Bank Blogs" إلى أن الاستهلاك غير المدروس في الدول النامية يؤدي إلى ارتفاع الاستيراد على حساب الإنتاج المحلي، مما يضعف الاقتصاد الوطني ويزيد العجز التجاري. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) في عالم التسوّق الرقمي تتحول سلة الشراء إلى حقيبة سحرية تتسع لكل شيء، نبدأ بقميص بسيط نحتاج إليه، وفجأة نجد أنفسنا نضيف شمعة على شكل قلب، وقشارة أناناس، ولوحة مقلدة لبيكاسو، وفرشاة أسنان، ونباتات، ثم نغلق الموقع من دون شراء شيء، ونغادر بشعور الإنجاز الوهمي. فسلال مواقع المتاجر الإلكترونية e-commerce تزخر ببضائع أغلبها كماليات كثيراً ما أردناها ووضعناها بانتظار قرار الشراء النهائي الذي قد لا ينجز أبداً. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الشراء الاندفاعي يمثل نسبة كبيرة من عمليات الشراء، إذ تتجاوز 62 في المئة في المتاجر التقليدية، وترتفع هذه النسبة في التسوق عبر الإنترنت. وأظهرت دراسة أن النساء والشباب، بخاصة من لديهم مداخيل إضافية، يميلون إلى شراء مزيد من المنتجات الكمالية غير الضرورية متأثرين بالإعلانات، بحسب دراسة بعنوان "التسوق الإلكتروني ودوره في نشر ثقافة الاستهلاك"، وكشفت دراسة نشرت في مجلة "العلوم الإنسانية الاجتماعية" في المملكة العربية السعودية حول التسوق الإلكتروني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عن أن الملابس تأتي في مقدمة السلع المشتراة بنسبة 63.8 في المئة، تليها الأحذية والحقائب بنسبة 38.8 في المئة، ومستحضرات التجميل والعطور 35 في المئة. حلقة الاستهلاك المفرغة من المعروف أن ازدياد إنفاق الناس بصورة كبيرة يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، أي إلى التضخم، والتضخم مشكلة اقتصادية خطرة، حين تفقد العملة قيمتها مع مرور الوقت، فما كان يشترى بدولار واحد على سبيل المثال يصبح ثمنه دولاراً وربع الدولار، وهكذا دواليك. في مثل هذه الحال تتدخل الحكومات، كما يحدث في أميركا، فترفع أسعار الفائدة على الودائع البنكية لتشجيع الناس على الادخار بدلاً من الإنفاق الزائد، وذلك للحد من التضخم، بحيث تكون الفكرة هي سحب السيولة الزائدة من السوق، أما في الأوقات التي يكون فيها الإنفاق منخفضاً، ويعاني السوق قلة الحركة وقلة السيولة، فتتخذ الحكومات الإجراء المعاكس بتخفيض أسعار الفائدة لتحفيز الناس على سحب أموالهم من البنوك وإنفاقها، مما ينعش الاقتصاد من جديد. فالحكومات تستخدم أسعار الفائدة كأداة للتوازن بين تحفيز الاقتصاد والسيطرة على التضخم، وتؤدي دوراً حساساً في تحقيق التوازن الاقتصادي، هذا التوازن بين رفع وخفض الفائدة هو عنصر أساس في السياسات الاقتصادية، ومع ذلك فإن الأنظمة الرأسمالية تتعرض بشكل دوري لأزمات اقتصادية، فنشهد كل أعوام عدة أزمة ناتجة إما عن تباطؤ اقتصادي وضعف في الإنفاق، أو عن تضخم مفرط يؤدي إلى ما يعرف بالفقاعات الاقتصادية. الهرب من الذات في هذا العالم الذي يزداد استهلاكاً يوماً بعد يوم، تبرز ظاهرة إدمان التسوق كواحدة من السلوكيات التي تخفي خلفها أزمات داخلية عميقة. وتخبر المتخصصة في علم النفس كارول سعادة "اندبندنت عربية"، أن الشراء المفرط ليس مجرد متعة أو رفاهية، إذ قد يكون وسيلة للهرب من ضغوط الحياة أو تعويض عن نقص نفسي أو عاطفي، لكن علينا التمييز بين حب التسوق العادي والسلوك المفرط الذي يصل إلى حد الإدمان، معظم الناس يحبون التسوق بين الحين والآخر على سبيل الحاجة إلى الأغراض أو التسلية، وأحياناً يشترون أشياء لا يحتاجون إليها، وهذا قد يكون نوعاً من "التنفيس العاطفي" وتفريغ المشاعر أو تعويضاً عن شعور داخلي. وتستطرد "كل هذا يبقى ضمن إطار المعقول، لكن الخطورة تبدأ عندما يفقد الشخص السيطرة على هذا السلوك، ويفقد القدرة على كبح رغبته في الشراء، فنكون أمام نوع من الإدمان. وهنا يجب أن نفرق بين صنفين من الناس: الأول هو الأشخاص الذين يعانون وسواساً قهرياً متعلقاً بالشراء، فحتى لو غادروا المتجر تبقى الفكرة تلاحقهم فيعودون لشراء السلعة فقط ليشعروا بالراحة، أما النوع الثاني فهم الأشخاص المتهورون الذين يشترون بشكل سريع وعفوي ومن دون تفكير، وقد يشترون الشيء نفسه مرات عدة، أو بكميات كبيرة، لمجرد الشعور اللحظي بالراحة، ويتكدس لديهم ما لا يستخدمونه فعلاً". تعتبر كارول أن هذه الظاهرة لا تنفصل عن السياق المجتمعي العام في مجتمع استهلاكي بامتياز، كوننا نعيش في بيئة تشجع على الاستهلاك مما يخلق نوعاً من الضغط الاجتماعي لامتلاك الأشياء، وحين ترتبط السعادة بالامتلاك، لكنها أيضاً ترتبط بشكل أساس بأسباب نفسية داخلية كالشعور بنقص ما في الحياة، سواء كان عاطفياً أو مادياً أو في تقدير الذات، وأحياناً يكون التسوق محاولة للتعويض عن حرمان عاطفي قديم أو لتسكين ألم صدمة لم تعالج بعد. وتوضح أن المشكلة تكبر أكثر عندما يتحول هذا السلوك الذي يبدو بسيطاً في البداية إلى إدمان، ومع الوقت يتحول إلى عبء نفسي واجتماعي ومادي، وكأي مادة إدمانية يحتاج الشخص إلى جرعة أكبر ليشعر بالراحة نفسها، ومع الوقت يفقد قدرته على التوقف، ويبدأ بالإنفاق الزائد للحصول على الرضا النفسي الذي كان يحصل عليه في البداية، هذا الإدمان لا يستنزف فقط الحسابات المصرفية، بل يمتد تأثيره إلى العلاقات الاجتماعية والأسرية. فمدمن التسوق قد يقع تحت طائلة الديون، أو قد يقصر في واجباته تجاه أسرته، أو تتراكم الأغراض في بيته بلا هدف، مما يؤدي إلى توتر في علاقاته العائلية، وقد يصاب الشخص بالشعور بالذنب أو الاكتئاب بعد موجة الشراء، ويصل به الأمر إلى الندم الشديد، لكنه يجد نفسه أسيراً لهذا السلوك مرة أخرى، إذ التسوق لم يعد رغبة بل حاجة نفسية وسلوكاً قهرياً يفقد الشخص فيه السيطرة، وغالباً لا يشعر بأية سعادة حقيقية من المشتريات التي يحصل عليها، خصوصاً عندما يعود إلى المنزل ويدرك أنه لم يكن بحاجة إلى كل تلك الأشياء. تحت قناع التسوق تعتبر كارول أن هناك دوافع نفسية داخلية، مثل الشعور بالنقص، سواء كان عاطفياً أو على مستوى احترام الذات، أو حتى بسبب حرمان عاشه الشخص في طفولته. وفي بعض الحالات تكون الدوافع أعمق مثل نقص الحب، أو غياب التقدير، أو حتى صدمات نفسية لم تعالج، كل هذا يدفع الشخص إلى استخدام التسوق كوسيلة للهرب أو التعويض. والأسوأ أن هذا السلوك قد يتفاقم عندما يكون لدى الشخص القدرة المالية، مما يؤدي إلى الإفراط الكبير في الشراء. وتضيف أنه حين يفقد الإنسان السيطرة على سلوكه، ويبدأ سلوكه بالتأثير في مجرى حياته اليومية، عندها نكون أمام حال مرضية تحتاج إلى علاج نفسي، مشيرة إلى أن هناك حالات تكون شبيهة بالوسواس القهري، إذ لا يستطيع الشخص التوقف عن التفكير أو الفعل، وفي حالات أخرى نكون أمام إدمان سلوكي متكامل، وهذا يحتاج إلى تدخل متخصص. وتلفت إلى أن الخطورة تكمن في أن هذا النوع من السلوك قد يتفاقم ليشمل إدمانات أخرى مثل الكحول أو الإنترنت أو حتى المخدرات، وتقول "نحن هنا لا نعالج فقط حب الشراء، بل نبحث عن الجذور النفسية مثل الصدمات أو التكوين الشخصي أو اضطرابات في الشخصية كالشخصية الحدية (Borderline) أو النرجسية أو المعادية للمجتمع". من الناحية العلاجية تؤكد كارول أن فهم جذور المشكلة هو الخطوة الأولى نحو الشفاء، إذ لا تكفي معالجة السلوك بحد ذاته، بل يجب التعمق في الأسباب الكامنة خلفه إن كان هناك حرمان عاطفي، أو صدمات سابقة، أو صورة ذاتية مهزوزة، أو ربما اضطرابات في الشخصية مثل الشخصية الحدية أو النرجسية أو المعادية للمجتمع؟ أحياناً نكتشف أن الشخص يعاني "تعدد الإدمانات"، كأن يكون مدمناً الكحول والتسوق معاً، مما يتطلب علاجاً شاملاً. والعلاج، بحسب كارول، "قد يكون نفسياً عبر جلسات علاج معرفي سلوكي (CBT)، وفي بعض الحالات نلجأ إلى العلاج الدوائي، خصوصاً إذا ترافق الإدمان مع اكتئاب شديد أو صدمات حياتية، الأهم أن يتعلم الشخص كيف يتحكم بردود أفعاله، ويجد وسائل صحية للتعامل مع التوتر والضغط النفسي". وتشير إلى أن الوعي بهذه الحال أمر بالغ الأهمية، ليس فقط للمصاب بها، بل وأيضاً للمحيطين به، وأبرز العلامات هي فقدان السيطرة على السلوك والشعور الدائم بالذنب بعد الشراء وتراكم الأغراض غير المستخدمة في المنزل، إضافة إلى التأثيرات المالية والاجتماعية التي تظهر نتيجة هذا السلوك. وأيضاً، حين يبدأ الشخص بإهمال مسؤولياته أو أسرته أو يدخل في دوامة من الديون من أجل التسوق، هنا يدق ناقوس الخطر. فالتسوق يجب أن يكون وسيلة للراحة والفرح، لا وسيلة للهرب من الألم أو تعميق المعاناة النفسية، والإفراط في التسوق لا يدل على حب الترف، بل على خلل داخلي يجب التعامل معه بجدية. وتختم بأن "الهدف من العلاج ليس فقط إيقاف السلوك المفرط، بل إعادة بناء التوازن النفسي، وتمكين الإنسان من التعامل مع التوتر والضغوط بوسائل صحية وإيجابية".