#أحدث الأخبار مع #GaborMatéالغد١٣-٠٣-٢٠٢٥سياسةالغدعن "ضحايا الضحايا": نظرة في إنسانوية سعيد الأخلاقية في سياق إبادة غزةترجمة: علاء الدين أبو زينة أسامة مقدسي* - (تيارات يهودية) 17/2/2025 في الأشهر الخمسة عشر التي مرت منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كنت أقلّب النظر في تأكيد إدوارد سعيد أن الفلسطينيين هم "ضحايا الضحايا". وقد لخص المنظّر الأدبي الكبير هذه "المفارقة المعقدة" في طبعة العام 1992 من كتابه التاريخي "قضية فلسطين" The Question of Palestine. اضافة اعلان وكتب أن "الضحايا الكلاسيكيين لسنوات من الاضطهاد المعادي للسامية والهولوكوست أصبحوا في أمتهم الجديدة يضطهدون شعبًا آخر ويجعلون منه ضحية". وكما قال للروائي سلمان رشدي في العام 1986، فإنه "يتم التعامل مع أي نوع من النقد الموجه إلى إسرائيل على أنه مظلة لمعاداة السامية... في الولايات المتحدة على وجه الخصوص، إذا قلتَ أي شيء على الإطلاق، كعربي من ثقافة إسلامية، سوف يُنظر إليك على أنك تنضم إلى معاداة السامية الأوروبية أو الغربية الكلاسيكية". ومع ذلك، ميّز سعيد نفسه كواحد من أوائل المثقفين الذين اجتازوا الهوة العميقة التي ميزت الخطابات العدائية للصدمة التاريخية التي شكلتها النكبة والهولوكوست على التوالي؛ وأصر على قناعته بأن تكوين فهم رحيم متعاطف للتجربة اليهودية الحديثة مع الاضطهاد المعادي للسامية في أوروبا يرتبط بالاعتراف الإيجابي بالتاريخ الفلسطيني والحقوق الوطنية الفلسطينية. بالنسبة لسعيد، يقدم التعاطف مع "المشكلة الكارثية التي تعنيها معاداة السامية"، كما وصفها في "قضية فلسطين" (الذي نشر في الأصل في العام 1979)، طريقة للخروج من مستنقع التنافس على وضع الضحية. ويعكس هذا التشابك في التعاطف قناعته بأن مصير الفلسطينيين والإسرائيليين ومستقبلهم مرتبطان حتمًا ببعضهما بعضا بسبب قضية فلسطين. اليوم، بعد 76 عامًا من القسوة المفرطة التي تمسّ كل جانب من جوانب الحياة الفلسطينية في كل أنحاء فلسطين التاريخية، بينما تشن إسرائيل حملة إبادة جماعية في غزة قتلت حتى وقت كتابة هذه السطور ما يقدر بنحو 64.260 فلسطينيًا وجرحت عشرات آلاف آخرين، أشعر بعدم ارتياح مع السؤال: هل ما تزال مقولة "ضحايا الضحايا" منطقية كصيغة أخلاقية - تاريخية؟ توفي سعيد قبل عقدين من الإبادة الجماعية الجارية الآن في غزة. ولم يكن بإمكانه، مثل كثيرين منا، أن يتخيل الهول الكامل لفظاعتها التي يتم بثها على الهواء مباشرة. وكما وصف الناجي من الهولوكوست، غابور ماتي Gabor Maté، الموقف: "يبدو الأمر كما لو أننا نشاهد أوشفيتز على 'تيك-توك'". وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن بوسع سعيد أن يتوقع المدى الكامل للدعم الذي ستقدمه المؤسسات، والقادة، والشخصيات العامة الرئيسية الغربية، بعدوانية، لمثل هذه الفظائع. لا انتشار الصور ومقاطع الفيديو للإبادة الجماعية، ولا مذكرات الاعتقال في حق القادة الإسرائيليين بسبب برامج الإبادة والتجويع الجماعيين التي صدرت عن "المحكمة الجنائية الدولية" (حيث الوضوح الصارخ للوحشية جعلها تصل أخيرًا، متأخرة، إلى عتبة ما يمكن لهذه الهيئة أن تفهمه)، ولا اتهام جنوب إفريقيا ما بعد الفصل العنصري في "محكمة العدل الدولية" للدولة الإسرائيلية بأنها ترتكب إبادة جماعية، زحزحت قيد أنملة معظم الحكومات الغربية عن حبها المتعجرف للصهيونية. بدلاً من ذلك، تجاهلت هذه الحكومات تمامًا الإنسانية الفلسطينية باسم الحداد على -والدفاع عن- ضحايا العنف اليهود الإسرائيليين. على النقيض من التعاطف الذي دعا إليه سعيد، رفض الغرب الليبرالي رفضًا قاطعًا النظر إلى الفلسطينيين على أنهم ضحايا أو ينطوون على أي أهمية أخلاقية أو تاريخية. بينما يُذبح الفلسطينيون بلا رحمة باسم أمن إسرائيل، هل الإسرائيليون حقًا ضحايا بالمعنى القومي الجماعي؟ أليس هناك تمييز أساسي بين كونك يهوديًا وكونك إسرائيليًا، وبالتالي بين تاريخ طويل من وضع الضحية الذي فرضه على اليهود مضطهِدون معادون للسامية في الغرب المسيحي، وبين المعاناة الإسرائيلية الأقرب زمانيًا في سياق العنف المناهض للاستعمار الذي أثاره استعمارهم لفلسطين؟ هل من المنطقي التفكير في السياسي الإسرائيلي العنصري، إيتمار بن غفير، الذي يقود حزبًا معاديًا للعرب يدعى "أوتسما يهوديت" (القوة اليهودية)، كضحية؟ بأي معنى يمكن اعتبار الجنود الإسرائيليين ضحايا في العام 2025؟ بأي منطق هم ضحايا عندما يكونون مسلحين حتى أسنانهم، ومزودين بما قيمته مليارات الدولارات من الأسلحة الأميركية، وبغطاء دبلوماسي أميركي غير محدود على ما يبدو، لتحدي الغضب الدولي من الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة؟ بأي معنى يكونون ضحايا عندما ينشرون بجذل صورًا لأنفسهم في أنحاء غزة التي دمروها -يظهرون فيها مبتسمين وهم يرتدون الملابس الداخلية المسروقة لنساء فلسطينيات بلا دولة، مهجرات ومشردات مرة أخرى، بعد أن دمروا حيواتهن وهدموا منازلهن وذبحوا أطفالهن؟ بأي معنى يكونون ضحايا وهم يبثون مقاطع فيديو لأنفسهم وهم يضحكون بينما يدمرون الجامعات والمكتبات الفلسطينية؟ بأي منطق يكون المستوطنون اليهود الإسرائيليون ضحايا عندما يتجمعون لقطع الطريق ومنع وصول الطعام إلى الأطفال الذين يتم تجويعهم حتى الموت؟ ماذا عن الإسرائيليين الذين شاهدوا قصف غزة في العام 2014، وهم يجلسون بلا مبالاة، وكأنهم يشاهدون عرضًا مسرحيًا وليس كارثة إنسانية؟ ماذا عن أولئك الذين وقفوا مكتوفي الأيدي في العام 2006 أثناء القصف الإسرائيلي الوحشي للبنان بينما كان أطفالهم يوقّعون على قذائف المدفعية؟ أو أولئك الذين شاركوا في مجزرة الطنطورة، أو غطوا عليها خلال نكبة العام 1948؟ في مرحلة ما، سيكون من السخف الاستمرار في التفكير في هؤلاء الإسرائيليين كضحايا -إلا بمعنى أنهم قد يعتقدون حقًا بأنهم يقاتلون من أجل هزيمة الوحوش "البربرية"، كما تصور لهم عقولهم. ليس هذا بالتأكيد ما كان يشير إليه إدوارد سعيد عندما وصف الفلسطينيين بأنهم "ضحايا الضحايا". في الواقع، بينما سعى سعيد إلى رسم مسار يمكن من خلاله لليهود الإسرائيليين والفلسطينيين الاعتراف بالصدمة الجماعية لبعضهم بعضا، فإنه كان واضحًا بشأن أن ما يسعى إليه لم يكن تكافؤا سهلاً يحجب القوة غير العادية التي يمارسها الأولون على الأخيرين، ويخفي الضرر المعرفي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والبشري الناجم عن هذه الهيمنة المستمرة. في حين أن اليهود في أوروبا كانوا ضحايا معاداة السامية الغربية التي بلغت ذروتها في الهولوكوست، ما يزال الفلسطينيون ضحايا اليهود الصهاينة الإسرائيليين، وممكِّنيهم، ومساعديهم، وحلفائهم في الغرب، بمن في ذلك المسيحيون الصهاينة. وفي حين لم تكن للفلسطينيين يد في العنصرية النازية المعادية لليهود الحاسمة لتشخيص معاداة السامية الحديثة، لعب اليهود الإسرائيليون دورًا رئيسيًا في تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم والقضاء المجتمع الفلسطيني، وتاريخه وحياته منذ العام 1948 وحتى الوقت الحاضر. ثمة اختلافات كبيرة في التسلسل الزمني، والتموقُع، وفي العلاقات بين الوكالة، والسبب، والنتيجة. حتى في حين أن مقولته "ضحايا الضحايا" تبقى في إطار واحد مفرد هو الوحشية التي عانى منها كلا الشعبين، يحرص سعيد على تأكيد أنها تُسمّي بشكل حاسم أيضًا الصعوبة الخاصة التي يواجهها الفلسطينيون، الذين، كما كتب في "قضية فلسطين"، "كان لديهم الحظ السيئ بشكل غير عادي المتمثل في أن يواجهوا.. الناس الأكثر تعقيدًا على الإطلاق من بين كل الخصوم من الناحية الأخلاقية، اليهود، بما خلفهم من تاريخ طويل من العيش كضحية وموضوع للإرهاب. إن الخطأ المطلق الذي يمثله الاستعمار الاستيطاني يصبح مخففًا إلى حد كبير -بل وربما يتبدد تماماً- عندما تكون فكرة بقاء اليهود المعتنَقة بإيمان متعصب هي التي تستخدِم الاستعمار الاستيطاني لتصويب مصيرها الخاص". يستحضر القادة الإسرائيليون بشكل روتيني تاريخ الهولوكوست والتجربة اليهودية لمعاداة السامية كهراوة يضربون بها منتقديهم، ويصرِفون بها الانتباه عن هول تجريدهم الفلسطينيين من إنسانيتهم، وتبرير العنف المتطرف الذي تتبناه الصهيونية الكولونيالية. إن إسرائيل تنتهك باستمرار القانون الدولي من خلال مصادرة الأراضي الفلسطينية، وتأسيس ما تسميه منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية، (تسيلم)، "نظام التفوق اليهودي والفصل العنصري من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط". لكننا عندما نرفض أسطورة الضحية الخالدة، كما يشير سعيد، تظهر صورة أكثر وضوحًا: إن "الضحايا في إفريقيا وفلسطين يُجرحون ويصابون بنفس الندوب، وبنفس النوع من الطرق". في حين أن عبارة سعيد الشهيرة تظل نقدًا حادًا يكشف عن هذا التعتيم على ترتيبات السلطة، يبدو أن محاولته لرسم طريق للمضي قدمًا عن طريق التعاطف المتبادل تنتمي إلى حقبة أخرى. ربما حان الوقت للجمع بين إنسانوية سعيد الأخلاقية وإنسانية الشاعر الفلسطيني العظيم محمود درويش. في قصيدته "قتلى ومجهولون"، كتب درويش: "أنا الضحية." "لا، أنا وحدي الضحية". لم يقولوا للمؤلف: "لا ضحيةَ تقتلُ الأخرى، هنالك في الحكاية قاتل وضحية". في هذا المقطع، يبلور درويش ما ألمح إليه سعيد فقط: مهما كانوا ضحايا في الماضي، ومهما حملوا معهم بصمة هذا الماضي، فقد تحول اليهود الإسرائيليون، من خلال أفعالهم، إلى نوع جديد من الموضوع. مع استثناءات حاسمة مثل المؤرخ إيلان بابي، الذي يذكّرنا بأن الانتماء العلماني إلى السلطة هو خيار يتم اتخاذه أو لا يتم اتخاذه فحسب، فإن اليهود الإسرائيليين هم الآن في وضع المضطهِدين. إنهم يعملون بشكل مستمر على جعل الفلسطينيين ضحايا. من الواضح أن اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين هم بشر، وكلهم يستحق المساواة والحرية، وهم مرتبطون ببعضهما بعضا. ولكن، في الوقت الراهن، ثمة واحد فقط هو المضطهِد (بكسر الهاء)؛ والآخر هو المضطهَد. وإذا لم نتمكن من الحفاظ على هذا التمييز الأخلاقي الأساسي والواضح بين القائم بالاضطهاد والخاضع للاضطهاد؛ بين القائم بالاستعمار وموضوع الاستعمار، فإن التاريخ يصبح أيقونة للمفارقة التاريخية بدلاً من كونه أداة لكسر النرجسية التي ينطوي عليها احتكار موقف الضحية الدائمة. كما كتب سعيد في "قضية فلسطين"، فإنه "لا يمكن أن تكون هناك طريقة لممارسة حياة بطريقة مرضية ينصب اهتمامها الرئيسي على منع الماضي من تكرار نفسه. بالنسبة للصهيونية، أصبح الفلسطينيون الآن مكافئين لتجربة سابقة عادت متجسدة في شكل تهديد حالي. والنتيجة هي أن مستقبل الفلسطينيين كشعب أصبح مرهونًا لهذا الخوف، وهو ما يشكل كارثة لهم ولليهود". ويقطّر درويش هذه الصيغة، ويوجهنا إلى النظر مباشرة إلى أي أناس هم الذين يعانون حقًا، وعلى يَد مَن ولماذا. ويذكرنا سعيد ودرويش معًا بأننا لسنا مضطرين لأن نكون سجناء الماضي -وبخلاف ذلك نكون جميعًا ضحية، وباسم كوننا ضحية يمكننا أن نفعل -وسوف نفعل- للآخرين نفس الأشياء الفظيعة التي ارتكبت في حقنا ذات مرة. *أسامة مقدسي Ussama Makdisi: مؤرخ أميركي من أصل فلسطيني، متخصص في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. يشغل حاليًا منصب أستاذ التاريخ وحامل كرسي المستشار في جامعة كاليفورنيا، بيركلي. قبل انضمامه إلى بيركلي، كان أستاذًا للتاريخ وأول حامل لكرسي مؤسسة التعليم العربية-الأميركية في كلية الدراسات العربية بجامعة رايس في هيوستن، تكساس. تركز أبحاثه على التاريخ الثقافي والسياسي للشرق الأوسط، مع التركيز على الهوية والطائفية والقومية والحداثة. من أبرز مؤلفاته: "عصر التعايش: الإطار المسكوني وصناعة العالم العربي الحديث" (2019)، و"إيمان في غير محله: الوعد المكسور للعلاقات الأميركية-العربية، 1820-2001" (2010)، و"مدفعية السماء: المبشرون الأميركيون وفشل تحويل الشرق الأوسط" (2008)، و"ثقافة الطائفية: المجتمع والتاريخ والعنف في لبنان العثماني في القرن التاسع عشر" (2000). حصل على جوائز عدة، بما فيها جائزة ألبرت حوراني للكتاب من "جمعية دراسات الشرق الأوسط"، وجائزة جون هوب فرانكلين من "جمعية الدراسات الأميركية". نال في العام 2018 جائزة برلين، وقضى فصل الربيع كزميل في الأكاديمية الأميركية في برلين. *نشر هذا المقال تحت عنوان: اقرأ المزيد في
الغد١٣-٠٣-٢٠٢٥سياسةالغدعن "ضحايا الضحايا": نظرة في إنسانوية سعيد الأخلاقية في سياق إبادة غزةترجمة: علاء الدين أبو زينة أسامة مقدسي* - (تيارات يهودية) 17/2/2025 في الأشهر الخمسة عشر التي مرت منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، كنت أقلّب النظر في تأكيد إدوارد سعيد أن الفلسطينيين هم "ضحايا الضحايا". وقد لخص المنظّر الأدبي الكبير هذه "المفارقة المعقدة" في طبعة العام 1992 من كتابه التاريخي "قضية فلسطين" The Question of Palestine. اضافة اعلان وكتب أن "الضحايا الكلاسيكيين لسنوات من الاضطهاد المعادي للسامية والهولوكوست أصبحوا في أمتهم الجديدة يضطهدون شعبًا آخر ويجعلون منه ضحية". وكما قال للروائي سلمان رشدي في العام 1986، فإنه "يتم التعامل مع أي نوع من النقد الموجه إلى إسرائيل على أنه مظلة لمعاداة السامية... في الولايات المتحدة على وجه الخصوص، إذا قلتَ أي شيء على الإطلاق، كعربي من ثقافة إسلامية، سوف يُنظر إليك على أنك تنضم إلى معاداة السامية الأوروبية أو الغربية الكلاسيكية". ومع ذلك، ميّز سعيد نفسه كواحد من أوائل المثقفين الذين اجتازوا الهوة العميقة التي ميزت الخطابات العدائية للصدمة التاريخية التي شكلتها النكبة والهولوكوست على التوالي؛ وأصر على قناعته بأن تكوين فهم رحيم متعاطف للتجربة اليهودية الحديثة مع الاضطهاد المعادي للسامية في أوروبا يرتبط بالاعتراف الإيجابي بالتاريخ الفلسطيني والحقوق الوطنية الفلسطينية. بالنسبة لسعيد، يقدم التعاطف مع "المشكلة الكارثية التي تعنيها معاداة السامية"، كما وصفها في "قضية فلسطين" (الذي نشر في الأصل في العام 1979)، طريقة للخروج من مستنقع التنافس على وضع الضحية. ويعكس هذا التشابك في التعاطف قناعته بأن مصير الفلسطينيين والإسرائيليين ومستقبلهم مرتبطان حتمًا ببعضهما بعضا بسبب قضية فلسطين. اليوم، بعد 76 عامًا من القسوة المفرطة التي تمسّ كل جانب من جوانب الحياة الفلسطينية في كل أنحاء فلسطين التاريخية، بينما تشن إسرائيل حملة إبادة جماعية في غزة قتلت حتى وقت كتابة هذه السطور ما يقدر بنحو 64.260 فلسطينيًا وجرحت عشرات آلاف آخرين، أشعر بعدم ارتياح مع السؤال: هل ما تزال مقولة "ضحايا الضحايا" منطقية كصيغة أخلاقية - تاريخية؟ توفي سعيد قبل عقدين من الإبادة الجماعية الجارية الآن في غزة. ولم يكن بإمكانه، مثل كثيرين منا، أن يتخيل الهول الكامل لفظاعتها التي يتم بثها على الهواء مباشرة. وكما وصف الناجي من الهولوكوست، غابور ماتي Gabor Maté، الموقف: "يبدو الأمر كما لو أننا نشاهد أوشفيتز على 'تيك-توك'". وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن بوسع سعيد أن يتوقع المدى الكامل للدعم الذي ستقدمه المؤسسات، والقادة، والشخصيات العامة الرئيسية الغربية، بعدوانية، لمثل هذه الفظائع. لا انتشار الصور ومقاطع الفيديو للإبادة الجماعية، ولا مذكرات الاعتقال في حق القادة الإسرائيليين بسبب برامج الإبادة والتجويع الجماعيين التي صدرت عن "المحكمة الجنائية الدولية" (حيث الوضوح الصارخ للوحشية جعلها تصل أخيرًا، متأخرة، إلى عتبة ما يمكن لهذه الهيئة أن تفهمه)، ولا اتهام جنوب إفريقيا ما بعد الفصل العنصري في "محكمة العدل الدولية" للدولة الإسرائيلية بأنها ترتكب إبادة جماعية، زحزحت قيد أنملة معظم الحكومات الغربية عن حبها المتعجرف للصهيونية. بدلاً من ذلك، تجاهلت هذه الحكومات تمامًا الإنسانية الفلسطينية باسم الحداد على -والدفاع عن- ضحايا العنف اليهود الإسرائيليين. على النقيض من التعاطف الذي دعا إليه سعيد، رفض الغرب الليبرالي رفضًا قاطعًا النظر إلى الفلسطينيين على أنهم ضحايا أو ينطوون على أي أهمية أخلاقية أو تاريخية. بينما يُذبح الفلسطينيون بلا رحمة باسم أمن إسرائيل، هل الإسرائيليون حقًا ضحايا بالمعنى القومي الجماعي؟ أليس هناك تمييز أساسي بين كونك يهوديًا وكونك إسرائيليًا، وبالتالي بين تاريخ طويل من وضع الضحية الذي فرضه على اليهود مضطهِدون معادون للسامية في الغرب المسيحي، وبين المعاناة الإسرائيلية الأقرب زمانيًا في سياق العنف المناهض للاستعمار الذي أثاره استعمارهم لفلسطين؟ هل من المنطقي التفكير في السياسي الإسرائيلي العنصري، إيتمار بن غفير، الذي يقود حزبًا معاديًا للعرب يدعى "أوتسما يهوديت" (القوة اليهودية)، كضحية؟ بأي معنى يمكن اعتبار الجنود الإسرائيليين ضحايا في العام 2025؟ بأي منطق هم ضحايا عندما يكونون مسلحين حتى أسنانهم، ومزودين بما قيمته مليارات الدولارات من الأسلحة الأميركية، وبغطاء دبلوماسي أميركي غير محدود على ما يبدو، لتحدي الغضب الدولي من الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة؟ بأي معنى يكونون ضحايا عندما ينشرون بجذل صورًا لأنفسهم في أنحاء غزة التي دمروها -يظهرون فيها مبتسمين وهم يرتدون الملابس الداخلية المسروقة لنساء فلسطينيات بلا دولة، مهجرات ومشردات مرة أخرى، بعد أن دمروا حيواتهن وهدموا منازلهن وذبحوا أطفالهن؟ بأي معنى يكونون ضحايا وهم يبثون مقاطع فيديو لأنفسهم وهم يضحكون بينما يدمرون الجامعات والمكتبات الفلسطينية؟ بأي منطق يكون المستوطنون اليهود الإسرائيليون ضحايا عندما يتجمعون لقطع الطريق ومنع وصول الطعام إلى الأطفال الذين يتم تجويعهم حتى الموت؟ ماذا عن الإسرائيليين الذين شاهدوا قصف غزة في العام 2014، وهم يجلسون بلا مبالاة، وكأنهم يشاهدون عرضًا مسرحيًا وليس كارثة إنسانية؟ ماذا عن أولئك الذين وقفوا مكتوفي الأيدي في العام 2006 أثناء القصف الإسرائيلي الوحشي للبنان بينما كان أطفالهم يوقّعون على قذائف المدفعية؟ أو أولئك الذين شاركوا في مجزرة الطنطورة، أو غطوا عليها خلال نكبة العام 1948؟ في مرحلة ما، سيكون من السخف الاستمرار في التفكير في هؤلاء الإسرائيليين كضحايا -إلا بمعنى أنهم قد يعتقدون حقًا بأنهم يقاتلون من أجل هزيمة الوحوش "البربرية"، كما تصور لهم عقولهم. ليس هذا بالتأكيد ما كان يشير إليه إدوارد سعيد عندما وصف الفلسطينيين بأنهم "ضحايا الضحايا". في الواقع، بينما سعى سعيد إلى رسم مسار يمكن من خلاله لليهود الإسرائيليين والفلسطينيين الاعتراف بالصدمة الجماعية لبعضهم بعضا، فإنه كان واضحًا بشأن أن ما يسعى إليه لم يكن تكافؤا سهلاً يحجب القوة غير العادية التي يمارسها الأولون على الأخيرين، ويخفي الضرر المعرفي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والبشري الناجم عن هذه الهيمنة المستمرة. في حين أن اليهود في أوروبا كانوا ضحايا معاداة السامية الغربية التي بلغت ذروتها في الهولوكوست، ما يزال الفلسطينيون ضحايا اليهود الصهاينة الإسرائيليين، وممكِّنيهم، ومساعديهم، وحلفائهم في الغرب، بمن في ذلك المسيحيون الصهاينة. وفي حين لم تكن للفلسطينيين يد في العنصرية النازية المعادية لليهود الحاسمة لتشخيص معاداة السامية الحديثة، لعب اليهود الإسرائيليون دورًا رئيسيًا في تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم والقضاء المجتمع الفلسطيني، وتاريخه وحياته منذ العام 1948 وحتى الوقت الحاضر. ثمة اختلافات كبيرة في التسلسل الزمني، والتموقُع، وفي العلاقات بين الوكالة، والسبب، والنتيجة. حتى في حين أن مقولته "ضحايا الضحايا" تبقى في إطار واحد مفرد هو الوحشية التي عانى منها كلا الشعبين، يحرص سعيد على تأكيد أنها تُسمّي بشكل حاسم أيضًا الصعوبة الخاصة التي يواجهها الفلسطينيون، الذين، كما كتب في "قضية فلسطين"، "كان لديهم الحظ السيئ بشكل غير عادي المتمثل في أن يواجهوا.. الناس الأكثر تعقيدًا على الإطلاق من بين كل الخصوم من الناحية الأخلاقية، اليهود، بما خلفهم من تاريخ طويل من العيش كضحية وموضوع للإرهاب. إن الخطأ المطلق الذي يمثله الاستعمار الاستيطاني يصبح مخففًا إلى حد كبير -بل وربما يتبدد تماماً- عندما تكون فكرة بقاء اليهود المعتنَقة بإيمان متعصب هي التي تستخدِم الاستعمار الاستيطاني لتصويب مصيرها الخاص". يستحضر القادة الإسرائيليون بشكل روتيني تاريخ الهولوكوست والتجربة اليهودية لمعاداة السامية كهراوة يضربون بها منتقديهم، ويصرِفون بها الانتباه عن هول تجريدهم الفلسطينيين من إنسانيتهم، وتبرير العنف المتطرف الذي تتبناه الصهيونية الكولونيالية. إن إسرائيل تنتهك باستمرار القانون الدولي من خلال مصادرة الأراضي الفلسطينية، وتأسيس ما تسميه منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية، (تسيلم)، "نظام التفوق اليهودي والفصل العنصري من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط". لكننا عندما نرفض أسطورة الضحية الخالدة، كما يشير سعيد، تظهر صورة أكثر وضوحًا: إن "الضحايا في إفريقيا وفلسطين يُجرحون ويصابون بنفس الندوب، وبنفس النوع من الطرق". في حين أن عبارة سعيد الشهيرة تظل نقدًا حادًا يكشف عن هذا التعتيم على ترتيبات السلطة، يبدو أن محاولته لرسم طريق للمضي قدمًا عن طريق التعاطف المتبادل تنتمي إلى حقبة أخرى. ربما حان الوقت للجمع بين إنسانوية سعيد الأخلاقية وإنسانية الشاعر الفلسطيني العظيم محمود درويش. في قصيدته "قتلى ومجهولون"، كتب درويش: "أنا الضحية." "لا، أنا وحدي الضحية". لم يقولوا للمؤلف: "لا ضحيةَ تقتلُ الأخرى، هنالك في الحكاية قاتل وضحية". في هذا المقطع، يبلور درويش ما ألمح إليه سعيد فقط: مهما كانوا ضحايا في الماضي، ومهما حملوا معهم بصمة هذا الماضي، فقد تحول اليهود الإسرائيليون، من خلال أفعالهم، إلى نوع جديد من الموضوع. مع استثناءات حاسمة مثل المؤرخ إيلان بابي، الذي يذكّرنا بأن الانتماء العلماني إلى السلطة هو خيار يتم اتخاذه أو لا يتم اتخاذه فحسب، فإن اليهود الإسرائيليين هم الآن في وضع المضطهِدين. إنهم يعملون بشكل مستمر على جعل الفلسطينيين ضحايا. من الواضح أن اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين هم بشر، وكلهم يستحق المساواة والحرية، وهم مرتبطون ببعضهما بعضا. ولكن، في الوقت الراهن، ثمة واحد فقط هو المضطهِد (بكسر الهاء)؛ والآخر هو المضطهَد. وإذا لم نتمكن من الحفاظ على هذا التمييز الأخلاقي الأساسي والواضح بين القائم بالاضطهاد والخاضع للاضطهاد؛ بين القائم بالاستعمار وموضوع الاستعمار، فإن التاريخ يصبح أيقونة للمفارقة التاريخية بدلاً من كونه أداة لكسر النرجسية التي ينطوي عليها احتكار موقف الضحية الدائمة. كما كتب سعيد في "قضية فلسطين"، فإنه "لا يمكن أن تكون هناك طريقة لممارسة حياة بطريقة مرضية ينصب اهتمامها الرئيسي على منع الماضي من تكرار نفسه. بالنسبة للصهيونية، أصبح الفلسطينيون الآن مكافئين لتجربة سابقة عادت متجسدة في شكل تهديد حالي. والنتيجة هي أن مستقبل الفلسطينيين كشعب أصبح مرهونًا لهذا الخوف، وهو ما يشكل كارثة لهم ولليهود". ويقطّر درويش هذه الصيغة، ويوجهنا إلى النظر مباشرة إلى أي أناس هم الذين يعانون حقًا، وعلى يَد مَن ولماذا. ويذكرنا سعيد ودرويش معًا بأننا لسنا مضطرين لأن نكون سجناء الماضي -وبخلاف ذلك نكون جميعًا ضحية، وباسم كوننا ضحية يمكننا أن نفعل -وسوف نفعل- للآخرين نفس الأشياء الفظيعة التي ارتكبت في حقنا ذات مرة. *أسامة مقدسي Ussama Makdisi: مؤرخ أميركي من أصل فلسطيني، متخصص في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. يشغل حاليًا منصب أستاذ التاريخ وحامل كرسي المستشار في جامعة كاليفورنيا، بيركلي. قبل انضمامه إلى بيركلي، كان أستاذًا للتاريخ وأول حامل لكرسي مؤسسة التعليم العربية-الأميركية في كلية الدراسات العربية بجامعة رايس في هيوستن، تكساس. تركز أبحاثه على التاريخ الثقافي والسياسي للشرق الأوسط، مع التركيز على الهوية والطائفية والقومية والحداثة. من أبرز مؤلفاته: "عصر التعايش: الإطار المسكوني وصناعة العالم العربي الحديث" (2019)، و"إيمان في غير محله: الوعد المكسور للعلاقات الأميركية-العربية، 1820-2001" (2010)، و"مدفعية السماء: المبشرون الأميركيون وفشل تحويل الشرق الأوسط" (2008)، و"ثقافة الطائفية: المجتمع والتاريخ والعنف في لبنان العثماني في القرن التاسع عشر" (2000). حصل على جوائز عدة، بما فيها جائزة ألبرت حوراني للكتاب من "جمعية دراسات الشرق الأوسط"، وجائزة جون هوب فرانكلين من "جمعية الدراسات الأميركية". نال في العام 2018 جائزة برلين، وقضى فصل الربيع كزميل في الأكاديمية الأميركية في برلين. *نشر هذا المقال تحت عنوان: اقرأ المزيد في