منذ 12 ساعات
وثائقي "نتفليكس" عن كارثة غرينفيل يكشف أبعادا جديدة للمأساة
يتذكر عمر الحاج علي شعوره وشقيقه محمد عند وصولهما إلى المملكة المتحدة آتيين من سوريا عام 2014. يقول "كنا سعيدين جداً لأننا أصبحنا في أمان... كنا نعلم أننا سنحظى بحياة جيدة هنا". ويصف شقيقه محمد بأنه "شخص إيجابي للغاية، لا يشتكي من شيء إلا إذا كان أمراً خطراً جداً، وكان دوماً يحمل تصوراً إيجابياً عن مستقبلنا". برفقة شقيق ثالث يدعى هاشم، فرّ الثلاثة من درعا، حيث كانت الحرب الأهلية مستعرة، ووصلوا إلى إنجلترا طلباً للجوء. كانت عائلاتهم على بعد آلاف الأميال، ولم يعرفوا أحداً في بريطانيا، كما لم يتقنوا الإنجليزية بعد، لكنهم كانوا يساندون بعضهم بعضاً.
يقول عمر عن تلك الفترة، إنه هو ومحمد كانا يمتلكان نفس قصة الشعر واللحية "كنا حتى نبدو متشابهين أيضاً. بعضهم كان يظن أنني محمد، فيما كانوا ينادونه عمر". استقر الاثنان في النهاية في غرب لندن، في شقة مجددة حديثاً، حيث كانا يستمعان إلى الموسيقى ويتحدثان عن الوطن ويستضيفان أصدقاءهم الجدد. "على رغم أن المدة كانت قصيرة، فقد صنعنا كثيراً من الذكريات"، يقول عمر.
وكان يفترض أن يتشاركا أكثر من ذلك لولا أن تلك الذكريات انقطعت فجأة في أكثر الظروف إيلاماً. ففي الـ14 من يونيو (حزيران) عام 2017، اندلع حريق في البرج السكني حيث كانا يعيشان. كان ذلك البرج هو غرينفيل، والأحداث في تلك الليلة التي أودت بحياة 72 شخصاً وغيرت حياة ناجين مثل عمر إلى الأبد - تصدرت العناوين حول العالم. انتشر الحريق بسرعة في المبنى بسبب الكسوة المملوءة بالبلاستيك التي أضيفت إلى واجهته لأغراض جمالية جزئياً. وفي الوقت نفسه، تسببت سياسة "البقاء في المكان" [إرشادات السلامة التي توجّه سكان المباني السكنية العالية بعدم إخلاء شققهم عند اندلاع حريق] التي أوصت بها فرقة إطفاء لندن في تأخير عمليات الإخلاء، مما جعل الهروب مستحيلاً على كثير من السكان. وكان محمد من بين هؤلاء، فقد افترق عن عمر في خضم الفوضى والدخان الكثيف، وانتهى به الأمر بالقفز من النافذة ليلقى حتفه.
أوليد صادق كانت في عطلة عندما سمعت بالأمر للمرة الأولى، عبر قناة إخبارية باللغة التايلاندية، تحدثت عن حريق في مبنى شاهق. تتذكر "قلنا لأنفسنا: لندن؟ هذا لا يحدث في لندن!"، وتضيف "كان الأمر أشبه بفيلم سينمائي". وفي بحثها عن المعلومات الدقيقة سبرت عبر قنوات التلفزة حتى وصلت إلى "بي بي سي نيوز". وبصفتها امرأة سوداء نشأت في مبنى يشبه غرينفيل — وإن كان في جنوب لندن لا غربها — شعرت بارتباط فوري بالقصة لحظة مشاهدتها، وتتذكّر شعور الحزن الذي خيّم على محيطها الاجتماعي حين عادت للندن. كانت حينها في الـ24 من عمرها، وقد بدأت للتو مسيرتها المهنية في التلفزيون. وبعد ثمانية أعوام، ها هي الآن مخرجة فيلم وثائقي جديد دامغ ومؤثر عن غرينفيل، يسلط الضوء على مزيج من الفشل المؤسسي في جهاز الإطفاء والمجلس المحلي وجشع قطاع الأعمال واللامبالاة السياسية التي أدت إلى أعنف حريق تشهده بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من إنتاج شركة "روغان برودكشنز" Rogan Productions البريطانية المستقلة، يعرض فيلم "غرينفيل: الحقيقة حول الحريق" Grenfell: Uncovered على منصة "نتفليكس"، ويتمتع بالمستوى الرفيع الذي تتسم به عادة أفلام المنصة. لكن اللافت فيه هو جرأته في التعمق في أسباب وقوع الكارثة. تقول صادق: "كثير ممن أعرفهم يعتقدون بأنها مجرد حادثة مروعة، ولا يعرفون شيئاً أكثر من ذلك... أتيحت لنا فرصة لعرض كل شيء، وتحويله إلى محتوى يمكن للناس فهمه".
ولا يترك الفيلم أي مجال للجمهور للشك بأن الشركات المصنعة للكسوة المستخدمة كانت تعلم بخطورتها، كما يوضح أن قوانين البناء المتساهلة في المملكة المتحدة والسعي إلى تقليص البيروقراطية، سمحا باستخدام هذه المواد في مبنى مكوّن من 24 طابقاً. وعندما تُضاف إلى ذلك الاستجابة غير الكافية من قبل فرقة إطفاء لندن (على رغم أن كثيراً من رجال الإطفاء بذلوا كل ما في وسعهم تلك الليلة)، تتعزز القناعة بأن ما حدث كان فشلاً كارثياً على جميع المستويات.
ويتطرق الفيلم أيضاً إلى التحيز الذي واجهه السكان حتى قبل الحريق. ففي إحدى اللقطات، يتحدث مارسيو غوميز الذي كان يسكن في غرينفيل مع زوجته وأطفاله، عن العلاقة المتوترة مع منظمة إدارة المستأجرين "كان يجري التعامل معنا بفوقية". ويضيف أن سكان البرج كانوا يصنفون جميعاً بأنهم من الطبقة العاملة أو الفقراء، بغض النظر عن خلفياتهم. وهذا الشعور بالتمييز، للأسف، استمر حتى بعد الحريق، كما لاحظت صادق. ويعيد الفيلم التذكير بأن ساكن الشقة التي انتشر منها الحريق - رجل إثيوبي - تعرض لهجوم إعلامي شرس اضطر الشرطة معه إلى منحه حماية الشهود.
وتقول صادق "بصفتي من خلفية متعددة الأعراق، ولي أفراد مسلمون في عائلتي، شعرت بخيبة أمل من رد فعل بعضهم في البلاد تجاه غرينفيل. أشعر بمسؤولية تجاه سرد هذه القصة، للحديث عن الطبقية والعنصرية ورهاب الإسلام. فالقصة لا تتمحور حول هذه الأمور فقط، لكنها تتضمنها أيضاً. وشعرت بأن من واجبي أن أبرزها وأن أساعد الناس على فهم وربما مفاجأتهم بمن كان متورطاً فعلياً في حادثة غرينفيل".
أنهى التحقيق العام حول الحريق أعماله في سبتمبر (أيلول) عام 2024 بعد سبع سنوات وبكلفة بلغت 200 مليون جنيه استرليني. وخلص إلى أن فشلاً في القطاعين العام والخاص كان وراء الحريق، وأن شركات الكسوة والعزل - أركونيك Arconic وسيلوتكس Celotex وكينغسبان Kingspan - مارست "خداعاً منهجياً". ومع نهاية التحقيق، شعرت صادق بأن الوقت مناسب للعمل على مشروع بهذا الحجم، وساعدت إمكانات "نتفليكس" الهائلة في ذلك.
وتوضح "كانت هناك فرصة للتعمق في أشياء جديدة لم يسلط الضوء عليها من قبل. لم يكُن الهدف أن نُجلس مجموعة من الضحايا ليرووا أسوأ ليلة في حياتهم، فهذا سيكون أشبه باستغلال الصدمة... أردنا أن يدرك الناس هدف الفيلم".
عنصر حاسم في بلورة هذا الهدف كان الصحافي بيتر آبس، المتخصص في شؤون الإسكان الذي كتب أكثر من ألف مقالة عن غرينفيل وألّف كتاباً بعنوان "أرني الجثث: كيف سمحنا بحدوث غرينفيل" Show Me the Bodies: How We Let Grenfell Happen. ورغب آبس في المشاركة لإيصال القصة إلى جمهور أوسع، قائلاً "على رغم وجود تحقيق وتقرير من 1700 صفحة، فإن للأفلام الوثائقية جمهوراً أضخم، وإذا كنا نتحدث عن العدالة والتغيير، فيجب أن يعرف الناس ما حدث ولماذا".
شارك آبس كمستشار بحثي للفيلم كما ظهر فيه كأحد المُحاوَرين، مستنداً إلى عمله في مجلة "إنسايد هاوسينغ" Inside Housing المتخصصة في شؤون الإسكان. وبينما ركز الإعلام عموماً على الجوانب الإنسانية، قضى آبس أعواماً عدة في الكتابة لجمهور مختلف، وكان مهتماً أكثر بالجانب المتعلق بالشركات والمؤسسات، وبكيفية وصول مواد سبق ربطها بحرائق قاتلة في دول أخرى إلى برج غرينفيل. ويقول "كانوا يريدون معرفة كيف يمكن منع تكرار ذلك. من المسؤول؟ وماذا يحدث في التحقيق؟".
ما أرعبه أكثر من أي شيء، يقول، هو إيلاء الربحية المادية أهمية أكبر من حياة البشر. "من المرعب أن يعرف شخص أن تصرفه قد يؤدي إلى الموت، ويواصل فعله. بعض رسائل البريد الإلكتروني [من مسؤولي الشركات] واضحة جداً في أن [المنتجات المعنية] تشكل خطراً على السلامة من الحرائق. أجد ذلك مخيفاً للغاية لأنه يظهر مدى سرعة انزلاقنا نحو اللامبالاة تجاه الآخرين، وعدم رؤيتهم كبشر يستحقون الحماية".
وفي أحد مشاهد الفيلم، نرى رسالة بريد إلكتروني من رئيس فريق الدعم الفني للمبيعات السابق في شركة "أركونيك"، كلود فيرلي، يرد فيها بكلمة واحدة فقط: "أوبس!" عندما جرت مواجهته بأدلة على مدى قابلية احتراق الكسوة التي تنتجها الشركة. (وأنكر كلود شميت، رئيس فرع "أركونيك" في فرنسا، أن فيرلي كان "يستخف بالوضع" في ذلك الوقت؛ وكحال كثير من الأشخاص المتورطين في القصة، لم يُدلِ فيرلي بأي تعليق لصناع الوثائقي).
وخلفية آبس تجعل منه مسهماً مثالياً لفيلم "غرينفيل: الحقيقة حول الحريق" الذي يركز بدقة على الشركات المصنعة، محاولاً معرفة من كان يعلم ماذا ومتى وبأية تفاصيل دقيقة.
هل كان من الصعب إقناع المطلعين من الداخل بالتحدث علناً؟
تقول صادق "كان صعباً للغاية، فالغالبية العظمى من الأشخاص الذين تواصلنا معهم وكانوا يعملون سابقاً في تلك الشركات رفضوا التحدث إلينا. بعضهم تجاهلنا، وبعضهم رفض، وبعضهم رد بكلمات قاسية...".
ومع ذلك، تمكنت صادق وفريقها من إجراء مقابلات مع أشخاص مثل سارا شوبيرغ، وهي موظفة سابقة في شركة "أركونيك". وعلى حد قول صادق "كان من الواضح أنها [شوبيرغ] كانت مترددة"، مشيرة إلى وجود فاصل زمني طويل بين أول محادثة غير رسمية معها والمقابلة التي ظهرت في الفيلم. وتضيف صادق "أعتقد بأنها قالت إنها بحاجة إلى وقت للتفكير في الأمر. وكان علينا أيضاً أن نبني شعوراً بالثقة مع الجميع، وليس فقط مع شخص مثلها".
والشخصية الأكثر شهرة في الفيلم هي رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي التي كانت تتولى الحكم وقت الحريق. وبينما اعترفت سابقاً في تصريحات مكتوبة بأن ردها لم يكُن كافياً (إذ التقت بعد الحادثة برجال الإطفاء بدلاً من سكان المبنى)، يبدو أن هذه هي المرة الأولى التي تقرّ فيها بالذنب خلال مقابلة تلفزيونية. وأبدت صادق صدمتها من استعداد ماي للجلوس معها، والأكثر من ذلك، من صراحتها في شأن سلوكها الشخصي ودور سياسات حزب المحافظين في تقليص قوانين السلامة التي أسهمت في الكارثة (فعام 2012، أعلن ديفيد كاميرون أن هدفه هو "القضاء على ثقافة الصحة والسلامة نهائياً") [كان يقصد تقليص ما اعتبره إفراطاً في تطبيق قوانين وإجراءات السلامة المهنية والعامة].
وتقول صادق "فوجئنا بمدى صراحتها في شأن دور سياسات تقليص التنظيمات في كارثة غرينفيل، وكيف أن الأمر لم يُؤخذ بالجدية الكافية سابقاً. كان ذلك صادقاً للغاية، وأعتقد بأن كثيراً من الناس، سواء أحبوا ماي أو لا، يقدّرون تلك الصراحة."
ومن الجوانب المحورية في الفيلم أنه يسلط الضوء على الضحايا والناجين، من رجال الإطفاء الذين لم يكونوا مجهزين لمواجهة حريق بهذه الشراسة، إلى عائلات لم تكُن تقيم في البرج لكنها لا تزال تحاول فهم ما حدث لأحبائها في تلك الليلة. أما عمر، فيعرف القصة جيداً، ويقول إنها تركته غاضباً بشدة. وعلى رغم صعوبة الحديث عن المأساة، وجد أنه قد استفاد من مشاركته في الفيلم. يقول "شعرت بالراحة مع الفريق. كانوا يشبهونني، ويفهمون معاناتنا. وكانوا يريدون إيصال هذه الرسالة"، ويضيف: "أحياناً حين تتحدث إلى الإعلام، تشعر بأنهم يستغلونك فقط لجمع المعلومات. لكنني هنا شعرت بأنني أفتح قلبي لهم. كان الأمر أشبه بالحديث إلى معالج نفسي."
أما آبس، فيعبّر بوضوح عن رؤيته للعدالة بالنسبة إلى المفجوعين والناجين من كارثة غرينفيل، إذ يقول: "العدالة يجب أن تعني المساءلة الجنائية". وهو يتوقع معركة طويلة لا تزال في بدايتها، لكنه يظل متفائلاً بأن التحقيق الجنائي المستمر منذ عام 2017 سيؤدي إلى نتائج ملموسة. وربما يكون لفيلم "غرينفيل: الحقيقة حول الحريق" دور في ذلك، إذ يساعد على إعادة الكارثة لواجهة النقاش العام. ويوضح آبس "أعتقد بأن هذا الفيلم يمكن أن يسهم في ذلك. فكلما زاد عدد الأشخاص الذين يعرفون ويهتمون، زاد الغضب إذا لم يُحاسب المسؤولون".
بالنسبة إلى عمر، فإن الهدف هو منع تكرار مأساة غرينفيل ونشر الوعي بالإخفاقات. كما أنه، بالطبع، يتعلق بتكريم الأشخاص الذين فقدوا حياتهم، مثل شقيقه. ويقول عمر: "الفيلم يدور حول الحقيقة – حقيقتنا. ليس فقط عن الصدمة، بل عن المقاومة والذكرى. لا أريد أن يكون محمد والآخرون مجرد أرقام".
فيلم "غرينفيل: الحقيقة حول الحريق" متاح على "نتفليكس" منذ 20 يونيو (حزيران)