#أحدث الأخبار مع #«بيتهوفن»الدستور١٥-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالدستور«ساعي البريد».. شِعرية التفاصيل اليومية واللغة البسيطةمهدي نصير قرأتُ قبل أيامٍ قليلةٍ ديوان الدكتور كمال ميرزا «ساعي البريد» وهو الديوان الثاني للدكتور ميرزا بعد ديوانه الأول «شريعةُ الإسمنت» الصادر عام 2022 عن دار أزمنة للنشر والتوزيع، وأعترف أنني لأوَّلِ مرةٍ أقرأ شِعراً للدكتور كمال ميرزا، وأثارتني وأثَّرتْ بي هذه القصائد الطازجة والبسيطة والقريبة بتفاصيلها الظاهرية من مفردات وأشياء حياتنا اليومية التي يوظفُّها الشاعر لإزاحتها عن مدلولاتها المباشرة إلى مدلولاتٍ جديدةٍ تشتبك مع اليومي وترتقي وتنفصل عنه في جدليةٍ يتقنها الشاعر الذي يبحث عن شيءٍ غامضٍ يسكن خلف وتحت وبين هذه الأشياء والمفردات التي تتزاحم من حولنا وتحمل جينات حياتنا اليومية منبثَّةً فيها. قصيدة الدكتور ميرزا في هذا الديوان قصيدة نثر عاليةٌ بلغتها وبإيقاعاتها وبنثريتها التي تأخذ من الواقع الحياتي البسيط مادةً ومناخاً وحاملاً لقصيدته، هي قصائدُ بسيطةٌ تحمل في إيقاعاتها الخاصة هذا الاغتراب والتهميش والقلق اليومي الذي نعيشه ويعيشه ويعبر عنه الشاعر بلغةٍ تُخفي وتُظهر هذا القلق العارم الذي يجتاح كينونتنا ووجودنا وهويتنا، نقرأ بعض ذلك في هذا المقطع من قصيدةٍ قصيرةٍ بعنوان « الجرذان مرةً أخرى: «في المدنِ الكبيرةِ من الممكنِ أن تموتَ في مبنىً مهجورٍ أو زقاقٍ مُعتمٍ ولا يُعثَرُ عليكَ إلّا بعدَ يومينِ مع أنّ الجرذانَ قد استدلّتْ عليكَ منذُ اللحظةِ الأولى!» في هذه المجموعة رسائل كثيرةٌ تبحثُ عن «ساعي البريد» الذي سيحملها، وكلُّها رسائل حزنٍ وتعبٍ واغترابٍ وبحثٍ عن معنىً لحياتنا التي تفقد كثيراً من معانيها، نقرأ بعضاً من هذا الحزن في قصيدةٍ قصيرةٍ بعنوان «هروب « نقرأ فيها بعض هذا الغضب الهادئ في سطحه والعميق التوتر في جوفه : «اهربْ انتخبْ لنفسكَ مدينةً تصلحُ للغربةِ مدينةً لم تذرعْ شوارِعَهَا من قبلُ مدينةً لا تعرِفُكَ أرصفتُهَا مدينةً تربِطُ لسانَكَ وتسلِبُكَ فصاحتَكَ المأثورةَ وتجعلُكَ تبدو كالأبلهِ وأنتَ تسألُ المارّةَ عن أتفهِ الأشياء مدينةً ليسَ لكَ فيها تفاصيلُ في الأزقةِ وذكرياتٌ وراءَ الجدرانِ وأحبةٌ حبيسونَ في تلك الزنازينِ المُحْكَمَةِ التي نسمِّيها منازل! اهربْ سيحبُّكَ أبناءُ المدنِ البعيدةِ جداً فأنتَ «مِن ريحةِ» غربةٍ يشتهونَهَا أمّا هنا فالجميعُ يكرهونَكَ لأنّكَ تذكِّرُهُم بكلِّ ما يريدونَ نسيانَهُ!» في قصائد هذه المجموعة هناك احتجاجٌ عميقٌ ضدَّ تسطيحِنا وتحويل اللغة والثقافة لمحفزات حواس أحاديةٍ لا تأخذ من اللغةِ إلا ظاهرَها الذي تمَّ معالجته وأتمتته وتوجيهه، نقرأ بعضَ هذا الاحتجاج العميق على تحويلنا لكائنات بافلو- لغوية (أي إلى كائناتٍ لغويةٍ ضد شِعرية)، في قصيدة « بتهوفن « في هذه المجموعة تتحول موسيقى بتهوفن العظيمة لمُنبِّهٍ – فقط منبِّه - يرتبط بحضور بائع جرَّات الغاز !!، اقرأوا معي هذا المقطع من هذه القصيدة : «تتوقفُ موسيقى «بيتهوفن» فجأةً وشيئاً فشيئاً يصَّعَّدُ صوتُ المصعدِ الذي نجحَ السكانُ أخيراً في إصلاحِهِ بعدَ تسويةٍ مُجحفةٍ مع الجارِ في الطابقِ الأرضيِّ يفتحُ ويغلقُ بابُهُ الذي فقدَ لياقتَهُ منذُ الشهرِ الأولِّ يعلو صوتُ الخطواتِ و»قرقعةُ» الجِرارِ وهي تدنو بثقةٍ من شقةٍ لم نوفِ قرضَهَا بعدُ « يُصعِّدُ الشاعر احتجاجه بهدوءٍ ويطلب من ساعي البريد الغائب أن يُعيدَ اللغةَ الشعريةَ لتخاطب الحواس كلَّها بعيداً عن بقعِ الآخرين وبعيداً عن اللغة المؤتمتة والأحادية الجانب، اقرأوا معي هذا المقطع من قصيدةٍ قصيرةٍ بعنوان « ما وراء النص : «أنا أوراقٌ متى طُويَتْ لن تستطيعي قراءتَهَا كدفاترَ عتيقةٍ وحبرُنَا الذي لم يجفَّ بعدُ لا تطمسيهِ ببقعِ الآخرين! هم لا يعنيهُم من نصِّكِ سوى ظاهرِهُ ووحدي أغوصُ في ثنايا متنِكِ الذي أحفظُهُ غيبّاً لأتهجّى بحواسّيَ الخمسِ ما تخفينَ بين السطور!» في هذه المجموعة قرأتُ شاعراً أصيلاً ولغةً بسيطةً وعميقةً وإيقاعاتٍ حملت الكثير مما أرادت هذه الرسائل أن تقوله لنا . إيقاعياً قصيدة الدكتور ميرزا قصيدة نثرٍ تموج بإيقاعاتٍ داخليةٍ (شِعرية الموقف وشعرية المفارقة والجِدَّة واللاتوقع)، وتموجُ أيضاً بإيقاعاتٍ خارجيةٍ (نسيج تراكيب اللغة وإيقاعات نواها القصيرة وليس كتلَها الكبيرة الخليلية المكررة، هذه الإيقاعات مزيجٌ غيرُ مُنتظَمٍ من هذه التفاعيل مما أعطى للإيقاع الخارجي ظِلالاً قديمةً تنتسب لهذا النسيج الإيقاعي وتتمرَّد على صوته الواحد المكرر باتجاه تعدد الأصوات وتعدد التفاعيل - وبدون قصدٍ من الشاعر - وهذا سرُّ طزاجتها وخصوصيتها) سأقرأ ذلك الإيقاع في هذا النموذج من قصيدةٍ بعنوان « اعتذار « : «بخجلٍ شديدٍ (فعلتن فعولن) ونبرةٍ لا تخلو من إحساسٍ بالعارِ (مفاعلن فعلن فعلن فعلن فعلن فعلُ) وإقرارٍ فادحٍ بالذنبِ (فعولن مستفعلن مفعولن) قالت الجثّةُ المُثخنةُ للسكينِ الثَلِمَة: (فاعلن فاعلن فاعلُ فعولن فعلن فَعِلن) -عذراً (فعلن) لا يوجدُ فيَّ مساحةٌ ناصعةٌ لتزرعي فيها جرحاً طازجاً (فعلن فَعِلن متفاعلن متْفعلن مُتفْعلن فعلن فعلن فاعلن) لكن هلّا تعطّفتِ قليلاً (فعلن فعلن فعولن فاعلاتن) ودققتِ النظرَ (فعولن متْفعلن) ستجدينَ غالباً موضعاً أكثرَ التئاماً من غيرِهِ (فعلتن مفاعلن فاعلن فاعلن فعولن مستفعلن) تستطيعينَ غرزَ طعنَتَكِ الطائشةِ (صمت) هناك (فاعلن فاعلن فعولُ فاعلن فَعِلُ(ن) فعولُ) واعتذرُ مرّة أخرى (فعولُ فَعِلن فعو فعلن) أنّني لم أكنْ جثةً لائقةً بمقامِ نصلِكِ السامي! «(فاعلن فاعلن فاعلن متْفعلن فَعِلن مفاعلن فعلن) . انتَ وانتَ تقرأ هذه القصيدة لا يمكنك التنبوء بما يريد أن يقوله الشاعر ولا إلى أين يقود قصيدته فهو يفاجؤكَ في كلِّ سطرٍ من سطورها وهذا يمنحكَ كقاريء إيقاع الترقب والمتابعة والمفاجأة، وهذا إيقاعٌ يشارك القاريء والمتلقي بتشكيله عبر عقله وأذنه وعاطفته لا عبر أذنه فقط والتي تُستلب وتطرب لإيقاعاتٍ تعرفها وتعودت عليها ويمكنها أن تتنبأ بتتالياتها بكلِّ بساطة / وهذا يُخرج الشِّعر عن خصوصيته وعن اصالته وعن هويته، وهذا في جوهره هوَ الفارق العميق بين قصيدة النثر ذات الإيقاع المتحرك والمتعدد (والقائم جوهراً على إيقاع الجملة أو السطر الشِّعري فقط بعيداً عن التكرار الوزني للتفاعيل الخليلية الكبيرة في الأسطر التالية) والذي يشارك المتلقي بتشكيله وبين القصيدة الكلاسيكية ذات الإيقاع الثابت والمكرَّر، في قصيدة النثر الحقيقية يفاجؤكَ الإيقاعُ كما تفاجؤكَ اللغةُ، وفي القصيدة الكلاسيكية العمودية خصوصاً منها لا تفاجؤكَ القصيدة – في الأغلب - لا بلغتها ولا بإيقاعها، أما في الإيقاع اللغوي الخارجي لقصيدة النثر في هذه المجموعة الشعرية فكما هو مبين في التقطيع العروضي المبين أعلاه والذي يبين انتماء نسيج هذه القصائد لحركة النوى الإيقاعية التأسيسية للشعر العربي : (الوتد علن، والسبب الخفيف فا، والسبب الثقيل فَعَ، وفونيم الصمت أو ما يسميه اللسانيون العرب فونيم المفصل وهو صمتٌ في القراءة عند تتالي أكثر من متحركاتٍ أربع في السطر الشعري / أي أن النسيج الإيقاعيَّ الخارجي لقصيدة النثر يُبنى على تتاليات النُّوى الإيقاعية التأسيسية المشار إليها أعلاه وبحيث لا يتتالى أكثر من متحركاتٍ أربعة في النصِّ الشِّعري) . ملاحظةٌ أخيرةٌ : لم تكن كلُّ قصائد المجموعة بسويةٍ فنيةٍ واحدةٍ، فبعضُها أو معظمُها كان عالياً كالقصائد التي استخدمتها في التحليل وأشرتُ لها في هذه الورقة، وبعضها القليل كان رتيباً ومباشراً خصوصاً في بعض الرسائل في المجموعة وأظنها كانت أنويةً لقصائد استعجل بكتابتها الشاعر تحت ضغط اللحظة التي نعيشُها، نقرأ بعض ذلك في قصيدة « رسالةٌ إليَّ « وهي اقرب قصائد المجموعة لشعر الجملة المكررة والإيقاعات المكرَّرة في قصيدة التفعيلة (الجملة الشعاراتية المباشرة) : «أنا شواهدُ القبور أنا تأريخُ العصور أنا الأممُ الفانياتُ أنا الثواني والدهور أنا سهولٌ مشرعاتٌ على فضاءاتٍ ونور أنا زِقاقٌ معتماتٌ أنا مداميكٌ ودور أنا قِفارٌ مجدباتٌ أنا جنّاتُ الزهور أنا اليأسُ قانطاً أنا بركانٌ يثور أنا النصُّ ظاهرُ النصِّ أنا ما بينَ السطور أنا الحقُّ والباطلُ والجوهرُ والقشور!» ختاماً أبارك للدكتور الشاعر كمال ميرزا إصداره الجديد المميز والذي يحمل عنواناً أيضاً دالاً ويؤشر لحاجة الشِّعر لساعي بريدٍ معاصرٍ لإيصال مضامينه التي ما عاد هناكَ ساعٍ يحملها، وهذه مفارقةٌ خفيةٌ في عنوان هذه المجموعة الناقصِ قصداً فعبارة ساعي البريد لوحدها لا تشكِّل جملةً مكتملةً بل هي نصفُ جملة، وكأن هذا الإبهام في عنوان المجموعة يعطي للقارئ الفرصة للمشاركة بإكمال الجملة الناقصة كأن يقولَ مثلاً : البحثُ عن « ساعي البريد «أو أوراقُ أو رسائلُ « ساعي البريد « ، هذه المجموعة يمكننا أيضاً أن نقرأها كرثاءٍ بعيدٍ لساعي البريد التاريخي الذي ضاع وتمَّ تدميره أمام الفردانية المطلقة للذات المتوحشة والمُستلَبة والمهمَّشةِ والمُهشَّمة والتي لا تسمع إلا صوتها وأنانيتها وغرائزها والتي يغذيها هذا التسطيح للعالم الذي يفقد آلهته القادرة على إنقاذه، والشعرُ العميق هو بعضُ هذه الآلهة.
الدستور١٥-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالدستور«ساعي البريد».. شِعرية التفاصيل اليومية واللغة البسيطةمهدي نصير قرأتُ قبل أيامٍ قليلةٍ ديوان الدكتور كمال ميرزا «ساعي البريد» وهو الديوان الثاني للدكتور ميرزا بعد ديوانه الأول «شريعةُ الإسمنت» الصادر عام 2022 عن دار أزمنة للنشر والتوزيع، وأعترف أنني لأوَّلِ مرةٍ أقرأ شِعراً للدكتور كمال ميرزا، وأثارتني وأثَّرتْ بي هذه القصائد الطازجة والبسيطة والقريبة بتفاصيلها الظاهرية من مفردات وأشياء حياتنا اليومية التي يوظفُّها الشاعر لإزاحتها عن مدلولاتها المباشرة إلى مدلولاتٍ جديدةٍ تشتبك مع اليومي وترتقي وتنفصل عنه في جدليةٍ يتقنها الشاعر الذي يبحث عن شيءٍ غامضٍ يسكن خلف وتحت وبين هذه الأشياء والمفردات التي تتزاحم من حولنا وتحمل جينات حياتنا اليومية منبثَّةً فيها. قصيدة الدكتور ميرزا في هذا الديوان قصيدة نثر عاليةٌ بلغتها وبإيقاعاتها وبنثريتها التي تأخذ من الواقع الحياتي البسيط مادةً ومناخاً وحاملاً لقصيدته، هي قصائدُ بسيطةٌ تحمل في إيقاعاتها الخاصة هذا الاغتراب والتهميش والقلق اليومي الذي نعيشه ويعيشه ويعبر عنه الشاعر بلغةٍ تُخفي وتُظهر هذا القلق العارم الذي يجتاح كينونتنا ووجودنا وهويتنا، نقرأ بعض ذلك في هذا المقطع من قصيدةٍ قصيرةٍ بعنوان « الجرذان مرةً أخرى: «في المدنِ الكبيرةِ من الممكنِ أن تموتَ في مبنىً مهجورٍ أو زقاقٍ مُعتمٍ ولا يُعثَرُ عليكَ إلّا بعدَ يومينِ مع أنّ الجرذانَ قد استدلّتْ عليكَ منذُ اللحظةِ الأولى!» في هذه المجموعة رسائل كثيرةٌ تبحثُ عن «ساعي البريد» الذي سيحملها، وكلُّها رسائل حزنٍ وتعبٍ واغترابٍ وبحثٍ عن معنىً لحياتنا التي تفقد كثيراً من معانيها، نقرأ بعضاً من هذا الحزن في قصيدةٍ قصيرةٍ بعنوان «هروب « نقرأ فيها بعض هذا الغضب الهادئ في سطحه والعميق التوتر في جوفه : «اهربْ انتخبْ لنفسكَ مدينةً تصلحُ للغربةِ مدينةً لم تذرعْ شوارِعَهَا من قبلُ مدينةً لا تعرِفُكَ أرصفتُهَا مدينةً تربِطُ لسانَكَ وتسلِبُكَ فصاحتَكَ المأثورةَ وتجعلُكَ تبدو كالأبلهِ وأنتَ تسألُ المارّةَ عن أتفهِ الأشياء مدينةً ليسَ لكَ فيها تفاصيلُ في الأزقةِ وذكرياتٌ وراءَ الجدرانِ وأحبةٌ حبيسونَ في تلك الزنازينِ المُحْكَمَةِ التي نسمِّيها منازل! اهربْ سيحبُّكَ أبناءُ المدنِ البعيدةِ جداً فأنتَ «مِن ريحةِ» غربةٍ يشتهونَهَا أمّا هنا فالجميعُ يكرهونَكَ لأنّكَ تذكِّرُهُم بكلِّ ما يريدونَ نسيانَهُ!» في قصائد هذه المجموعة هناك احتجاجٌ عميقٌ ضدَّ تسطيحِنا وتحويل اللغة والثقافة لمحفزات حواس أحاديةٍ لا تأخذ من اللغةِ إلا ظاهرَها الذي تمَّ معالجته وأتمتته وتوجيهه، نقرأ بعضَ هذا الاحتجاج العميق على تحويلنا لكائنات بافلو- لغوية (أي إلى كائناتٍ لغويةٍ ضد شِعرية)، في قصيدة « بتهوفن « في هذه المجموعة تتحول موسيقى بتهوفن العظيمة لمُنبِّهٍ – فقط منبِّه - يرتبط بحضور بائع جرَّات الغاز !!، اقرأوا معي هذا المقطع من هذه القصيدة : «تتوقفُ موسيقى «بيتهوفن» فجأةً وشيئاً فشيئاً يصَّعَّدُ صوتُ المصعدِ الذي نجحَ السكانُ أخيراً في إصلاحِهِ بعدَ تسويةٍ مُجحفةٍ مع الجارِ في الطابقِ الأرضيِّ يفتحُ ويغلقُ بابُهُ الذي فقدَ لياقتَهُ منذُ الشهرِ الأولِّ يعلو صوتُ الخطواتِ و»قرقعةُ» الجِرارِ وهي تدنو بثقةٍ من شقةٍ لم نوفِ قرضَهَا بعدُ « يُصعِّدُ الشاعر احتجاجه بهدوءٍ ويطلب من ساعي البريد الغائب أن يُعيدَ اللغةَ الشعريةَ لتخاطب الحواس كلَّها بعيداً عن بقعِ الآخرين وبعيداً عن اللغة المؤتمتة والأحادية الجانب، اقرأوا معي هذا المقطع من قصيدةٍ قصيرةٍ بعنوان « ما وراء النص : «أنا أوراقٌ متى طُويَتْ لن تستطيعي قراءتَهَا كدفاترَ عتيقةٍ وحبرُنَا الذي لم يجفَّ بعدُ لا تطمسيهِ ببقعِ الآخرين! هم لا يعنيهُم من نصِّكِ سوى ظاهرِهُ ووحدي أغوصُ في ثنايا متنِكِ الذي أحفظُهُ غيبّاً لأتهجّى بحواسّيَ الخمسِ ما تخفينَ بين السطور!» في هذه المجموعة قرأتُ شاعراً أصيلاً ولغةً بسيطةً وعميقةً وإيقاعاتٍ حملت الكثير مما أرادت هذه الرسائل أن تقوله لنا . إيقاعياً قصيدة الدكتور ميرزا قصيدة نثرٍ تموج بإيقاعاتٍ داخليةٍ (شِعرية الموقف وشعرية المفارقة والجِدَّة واللاتوقع)، وتموجُ أيضاً بإيقاعاتٍ خارجيةٍ (نسيج تراكيب اللغة وإيقاعات نواها القصيرة وليس كتلَها الكبيرة الخليلية المكررة، هذه الإيقاعات مزيجٌ غيرُ مُنتظَمٍ من هذه التفاعيل مما أعطى للإيقاع الخارجي ظِلالاً قديمةً تنتسب لهذا النسيج الإيقاعي وتتمرَّد على صوته الواحد المكرر باتجاه تعدد الأصوات وتعدد التفاعيل - وبدون قصدٍ من الشاعر - وهذا سرُّ طزاجتها وخصوصيتها) سأقرأ ذلك الإيقاع في هذا النموذج من قصيدةٍ بعنوان « اعتذار « : «بخجلٍ شديدٍ (فعلتن فعولن) ونبرةٍ لا تخلو من إحساسٍ بالعارِ (مفاعلن فعلن فعلن فعلن فعلن فعلُ) وإقرارٍ فادحٍ بالذنبِ (فعولن مستفعلن مفعولن) قالت الجثّةُ المُثخنةُ للسكينِ الثَلِمَة: (فاعلن فاعلن فاعلُ فعولن فعلن فَعِلن) -عذراً (فعلن) لا يوجدُ فيَّ مساحةٌ ناصعةٌ لتزرعي فيها جرحاً طازجاً (فعلن فَعِلن متفاعلن متْفعلن مُتفْعلن فعلن فعلن فاعلن) لكن هلّا تعطّفتِ قليلاً (فعلن فعلن فعولن فاعلاتن) ودققتِ النظرَ (فعولن متْفعلن) ستجدينَ غالباً موضعاً أكثرَ التئاماً من غيرِهِ (فعلتن مفاعلن فاعلن فاعلن فعولن مستفعلن) تستطيعينَ غرزَ طعنَتَكِ الطائشةِ (صمت) هناك (فاعلن فاعلن فعولُ فاعلن فَعِلُ(ن) فعولُ) واعتذرُ مرّة أخرى (فعولُ فَعِلن فعو فعلن) أنّني لم أكنْ جثةً لائقةً بمقامِ نصلِكِ السامي! «(فاعلن فاعلن فاعلن متْفعلن فَعِلن مفاعلن فعلن) . انتَ وانتَ تقرأ هذه القصيدة لا يمكنك التنبوء بما يريد أن يقوله الشاعر ولا إلى أين يقود قصيدته فهو يفاجؤكَ في كلِّ سطرٍ من سطورها وهذا يمنحكَ كقاريء إيقاع الترقب والمتابعة والمفاجأة، وهذا إيقاعٌ يشارك القاريء والمتلقي بتشكيله عبر عقله وأذنه وعاطفته لا عبر أذنه فقط والتي تُستلب وتطرب لإيقاعاتٍ تعرفها وتعودت عليها ويمكنها أن تتنبأ بتتالياتها بكلِّ بساطة / وهذا يُخرج الشِّعر عن خصوصيته وعن اصالته وعن هويته، وهذا في جوهره هوَ الفارق العميق بين قصيدة النثر ذات الإيقاع المتحرك والمتعدد (والقائم جوهراً على إيقاع الجملة أو السطر الشِّعري فقط بعيداً عن التكرار الوزني للتفاعيل الخليلية الكبيرة في الأسطر التالية) والذي يشارك المتلقي بتشكيله وبين القصيدة الكلاسيكية ذات الإيقاع الثابت والمكرَّر، في قصيدة النثر الحقيقية يفاجؤكَ الإيقاعُ كما تفاجؤكَ اللغةُ، وفي القصيدة الكلاسيكية العمودية خصوصاً منها لا تفاجؤكَ القصيدة – في الأغلب - لا بلغتها ولا بإيقاعها، أما في الإيقاع اللغوي الخارجي لقصيدة النثر في هذه المجموعة الشعرية فكما هو مبين في التقطيع العروضي المبين أعلاه والذي يبين انتماء نسيج هذه القصائد لحركة النوى الإيقاعية التأسيسية للشعر العربي : (الوتد علن، والسبب الخفيف فا، والسبب الثقيل فَعَ، وفونيم الصمت أو ما يسميه اللسانيون العرب فونيم المفصل وهو صمتٌ في القراءة عند تتالي أكثر من متحركاتٍ أربع في السطر الشعري / أي أن النسيج الإيقاعيَّ الخارجي لقصيدة النثر يُبنى على تتاليات النُّوى الإيقاعية التأسيسية المشار إليها أعلاه وبحيث لا يتتالى أكثر من متحركاتٍ أربعة في النصِّ الشِّعري) . ملاحظةٌ أخيرةٌ : لم تكن كلُّ قصائد المجموعة بسويةٍ فنيةٍ واحدةٍ، فبعضُها أو معظمُها كان عالياً كالقصائد التي استخدمتها في التحليل وأشرتُ لها في هذه الورقة، وبعضها القليل كان رتيباً ومباشراً خصوصاً في بعض الرسائل في المجموعة وأظنها كانت أنويةً لقصائد استعجل بكتابتها الشاعر تحت ضغط اللحظة التي نعيشُها، نقرأ بعض ذلك في قصيدة « رسالةٌ إليَّ « وهي اقرب قصائد المجموعة لشعر الجملة المكررة والإيقاعات المكرَّرة في قصيدة التفعيلة (الجملة الشعاراتية المباشرة) : «أنا شواهدُ القبور أنا تأريخُ العصور أنا الأممُ الفانياتُ أنا الثواني والدهور أنا سهولٌ مشرعاتٌ على فضاءاتٍ ونور أنا زِقاقٌ معتماتٌ أنا مداميكٌ ودور أنا قِفارٌ مجدباتٌ أنا جنّاتُ الزهور أنا اليأسُ قانطاً أنا بركانٌ يثور أنا النصُّ ظاهرُ النصِّ أنا ما بينَ السطور أنا الحقُّ والباطلُ والجوهرُ والقشور!» ختاماً أبارك للدكتور الشاعر كمال ميرزا إصداره الجديد المميز والذي يحمل عنواناً أيضاً دالاً ويؤشر لحاجة الشِّعر لساعي بريدٍ معاصرٍ لإيصال مضامينه التي ما عاد هناكَ ساعٍ يحملها، وهذه مفارقةٌ خفيةٌ في عنوان هذه المجموعة الناقصِ قصداً فعبارة ساعي البريد لوحدها لا تشكِّل جملةً مكتملةً بل هي نصفُ جملة، وكأن هذا الإبهام في عنوان المجموعة يعطي للقارئ الفرصة للمشاركة بإكمال الجملة الناقصة كأن يقولَ مثلاً : البحثُ عن « ساعي البريد «أو أوراقُ أو رسائلُ « ساعي البريد « ، هذه المجموعة يمكننا أيضاً أن نقرأها كرثاءٍ بعيدٍ لساعي البريد التاريخي الذي ضاع وتمَّ تدميره أمام الفردانية المطلقة للذات المتوحشة والمُستلَبة والمهمَّشةِ والمُهشَّمة والتي لا تسمع إلا صوتها وأنانيتها وغرائزها والتي يغذيها هذا التسطيح للعالم الذي يفقد آلهته القادرة على إنقاذه، والشعرُ العميق هو بعضُ هذه الآلهة.