#أحدث الأخبار مع #«كرمباش»،بوابة ماسبيرو٢٦-٠٤-٢٠٢٥ترفيهبوابة ماسبيروسمر نور: أبنى عالمى الروائى من الخيال وليس الواقعالأساطير والحكايات الشعبية لها مساحة كبيرة فى رواية «آشا» التاريخ الشخصى وحده ليس صالحا لبناء عالم روائى لا أحمل نفس هواجس رموز الأدب النوبى وارتباطهم بالأرض الغارقة فى بلاد النوبة القديمة، فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولدت «آشا» فى كهف «الجعارين» أعلى جبل بقرية «الشباك»، بعد أن تخطت النوبة عقودًا من المجاعة والصراع بين القوى المتعارضة، أصابت القريةَ لعنةٌ فلم يعُد يولَد على أرضها الذكور، فيما عاشت «آشا» محاطةً بالحكايات والأساطير النوبية، متأثرةً بوالدتها راوية القرية «فاتي»، ووالدها صانع السواقى وحكيم القرية «نوري»، محاطةً بالطبيعة والخيال، ما بين النهر والجبل، حتى ألقى النهر على ضفة قريتها بشاب غريب يدعى «كرم باش»، فكان ما كان، هكذا تعود الروائية سمر نور بأحدث أعمالها "أشا: الجعران والقمر". ما سر اختيار العنوان "أشا: الجعران والقمر"؟ أستغرق مع أفكار أعمالى سنوات، وأحيانا تولد الفكرة وتتخذ عنوانا معينا، ربما يتغير هذا العنوان مع تشكل العالم قبل الكتابة، أو يتغير خلال مراحل الكتابة، وربما يحتفظ بنفس العنوان الأول، كل تجربة ولها تفاصيلها، فى روايتى الأخيرة كانت الفكرة فى بدايتها تحمل اسم قريتى النوبية "الجنينة والشباك" وأثناء بحثى تأكدت أن اسم القرية القديم، قبل بناء خزان أسوان، كان "الشباك" فقط، حيث كانت "الجنينة" قرية منفصلة، فأصبح عنوان الرواية "آشا نورى وكرم باش"، حتى بدأت الكتابة وكان للأساطير والحكايات مساحة كبيرة، خاصة حكاية "الجعران والقمر"، والتى كانت ملحقة بمثل شعبى نوبى ثم تحولت أثناء الكتابة إلى أسطورة من أساطير الخلق، وألقت الأسطورة بظلها على الرواية كلها، وحملت مدلولات لها أثرها على الشخصيات والعالم، فقررت أن يكون العنوان "الجعران والقمر"، لكن بعد انتهائى من العمل اقترح صديق أن يكون العنوان "آشا" اسم بطلة الرواية باعتباره الأكثر جاذبية، ورغم أن أغلب من اطلع على العنوانين اختاروا اسم آشا، ظل هناك ارتباط نفسى بينى وبين عنوانى الأصلى فقررت أن أتركهما معا على الغلاف، خاصة أن آشا ما زال لديها ما تحكيه فى جزء ثان للرواية، تحت عنوان فرعى جديد. لماذا جاءت الكتابة عن النوبة بشكل متأخر رغم إنك من أصول نوبية؟ ولدت وعشت فى القاهرة، وعائلتى منذ أجيال متتالية مقيمين فى القاهرة، وكنت كأى كاتب ينتمى إلى هذه المدينة، مسكونة بهواجسها ومشاكلها وتفاصيلها، وهذا ما عبرت عنه فى أعمالى السابقة، هذه العلاقة المعقدة مع المدينة، وحالة الاغتراب عنها، مثل أغلب كتاب جيلى. سُئلت كثيرا لماذا لا أكتب عن النوبة؟ وكنت أراه سؤالا غريبا، فلماذا أكتب عن مكان لم أرتبط به، ولم أعش فيه، كنت فى حالة انفصال عن أصولى البعيدة، حتى سكنتنى جدتى التاسعة آشا، وجعلتنى ألمس بداخلى إرثا كبيرا، لم أكن أعرف أننى أملكه، كان تتبعى لحكاية جدى التاسع "كرم باش" صاحب الأصول البوسنية، تلك الحكاية التى حكاها لنا الكبار فى طفولتنا، سببا فى هذا الاكتشاف. هل البحث عن التاريخ الشخصى كان دافعًا للكتابة عن تاريخ النوبة؟ التاريخ الشخصى وحده ليس صالحا لبناء عالم روائى، فى البداية كان التاريخ الشخصى أو بالأحرى الأساطير الشخصية دافعا للبحث فى تاريخ النوبة، بدأ الأمر ببساطة استدعاء حكاية قديمة سمعتها فى طفولتى من أجداد بالعائلة، ولا أتذكر تفاصيلها، لكنى أتذكر ما قيل عن جد يدعى كرم باش، ذو أصل بوسنى تزوج جدتى النوبية وأتى منه نسلنا، وقفز فى ذهنى سؤال لماذا لا تحمل عائلتى الاسم الغريب لهذا الرجل، ففى النوبة هناك عائلات تحمل أسماء أجداد ذوى أصول أجنبية، مثل المجراب، ولهم أجداد من أصول مجرية على سبيل المثال، من أجل معرفة معلومات عن هذا الجد وشحن ذاكرتى سافرت إلى قرية "الجنينة والشباك" فى النوبة الجديدة عام 2012، ولم أجد هناك من يعرف تلك الحكاية! وقبل مغادرة القرية وجدتنى أحمل سؤالا آخر؛ لماذا روى لنا عن هذا الجد ولم يرو أحد لنا عن الجدة النوبية التى جاء منها نسلنا! وقررت أنه لو كان هناك عالما روائيا يتكون، فسوف تكون بطلته تلك الجدة التى لا أعرف اسمها، وليس كرم باش. ومن هنا سافرت إلى الإسكندرية فى نفس العام، وسجلت مع رجل كبير السن من أقربائى، فى محاولة لاستنتاج التاريخ الذى تزوج فيه كرم باش جدتى، وظروف مجيئه النوبة، كان كل شىء يعتمد على الاستنتاج، ليست هناك حكاية متماسكة.. احتفظت بما جمعته من شهادات وشجرة العائلة، وانشغلت بمشاريع كتابة أخرى، مجموعة قصصية وروايتين، حتى عام 2022، حين تفرغت للقراءة عن تراث وتاريخ وجغرافيا النوبة القديمة، وكذلك تاريخ تلك المنطقة منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، وكونت مكتبتى الخاصة. كيف كانت رحلتك لاختيار العناوين والبحث؟ وما أهم المراجع التى اعتمدت عليها فى الرواية؟ أدين بجزء كبير من مكتبتى عن النوبة للأديب الكبير يحيى مختار، فقد أهدانى ما يزيد عن خمسين كتابا، لكن الفترة التاريخية التى اخترتها كانت تحتاج إلى جهد بحثى أكبر، لتخيل المكان الذى تعيش فيه الشخصيات، وطبيعة المجتمع، والأطر التى تحكمه، والأساطير والحكايات التى تخرج من قلب كل ذلك، فاستعنت بعدد كبير من الأصدقاء والأساتذة الذين قدمت لهم الشكر فى آخر الرواية، وذكرت نماذج من المراجع التى اطلعت عليها. بالتأكيد لا، فكما أشرت كان البحث محاولة لتخيل طبيعة المجتمع فى هذا المكان والزمان، والاحساس بالشخصيات، والخروج بخيال مختلف، لا يلتزم بالتاريخ، كما لم يكن هدفى إعادة تخيل أحداث تاريخية بعينها، أو شخصيات تاريخية مهمة، كان التاريخ مجرد خلفية للأحداث، إطار عام لملء الفراغات وطرح المزيد من الأسئلة، فكما قلت التاريخ الشخصى لا يبنى عالما روائيا بدون وعى بتاريخ المجتمع الذى ينتمى إليه الأفراد ومسائله، والخيال ليس مجرد شطحات بدون معرفة، بل لا بد أن أكون ملمة بأدواتى وعلى دراية بكل ما أستطيع معرفته عن عالمى، ثم أنطلق بخيالى كما أشاء، ليس عن جهل بل عن رغبة فى البحث عن أبعاد جديدة، والإجابة على أسئلة قد لا توجد لها إجابات واضحة فى الواقع، والتعبير عن شخصيات لم تترك خلفها أثرا. مرحلة البحث فى الكتب أضافت أسئلة جديدة عن التراكمات التاريخية للثقافة النوبية، فالتراث النوبى يحمل أبعادا تاريخيا موغلة فى القدم، لكنه يحمل أيضًا أبعادًا حضارية متعددة، فستجد تأثير الحضارة المصرية القديمة والحضارة الكوشية، والثقافة القبطية، والثقافة الإسلامية، كل ذلك امتزج فى وعاء واحد، وتجلى فى التراث والعمارة والفنون المختلفة، وأسئلة عن التحول فى طبيعة المجتمع النوبى، من مجتمع محارب إلى مجتمع مسالم. كيف تـغـيرت مـلامـح الشخصيـــة النوبية؟ من ينظر لتاريخ النوبة يجد أن جيوش عتيدة حكمت مصر ولم تستطع دخول النوبة، بل إن الديانات التوحيدية وقفت على عتباتها، ولم تدخل إلا بعد زمن بعيد من دخولها مصر، وبالسلم والمعاهدات وليس بالحرب، لكن تلك القوة أكاد لا ألحظ حضورها منذ نهاية القرن الثامن عشر، لست مؤرخة ولا متخصصة فى علم الاجتماع مثلا، لكن ما حدث مع دخول الحملة الفرنسية مصر ووصولها إلى جزيرة فيلة استرعى انتباهى، كانت الحملة تطارد المماليك، ولم يكن النوبيون طرفا فى هذا الصراع، لكن كعادة المستعمر، قديما وحديثا، كان النوبيون يحمون جزيرتهم التى دمرها الفرنسيون بأسلحتهم الحديثة. الحملة جلبت باحثين فى كل المجالات وثقوا جزءا من الثقافة النوبية، كمستشرقين، لكنها أيضًا واجهت النوبيين بأسلحة لم يكن لديهم قدرة على مجابهتها، مثلما فعلت فى القاهرة، فكان وجودهم مؤثرا على تلك الجماعة فى هذا الزمن، ثم كان هروب المماليك من محمد على فى مرحلة لاحقة، ودمروا النوبة أيضا، وكذلك جيش محمد على فى مطاردته لهم، مع المجاعات التى حدثت فى أوائل القرن التاسع عشر، فنحن نتحدث عن تصفية الروح المحاربة لدى النوبيين. كل هذا التاريخ كيف استطعت جعله مجرد خلفية، ولم تقعى فى شرك حضوره الطاغى؟ كنت أعى تماما أن معرفته مجرد أداة مثل كل أدوات الكتابة، وليست هدفا فى حد ذاتها، فمن يريد أن يعرف تاريخ وتراث النوبة عليه قراءة كتب التاريخ والتراث، وليس قراءة عمل روائى، فأنا أبنى عالمى من الخيال وليس من الواقع، أبنيه مما يغفل عنه التاريخ، أو يعجز عن فهمه المؤرخون، أو ما لا يعطونه أهمية، مثل حياة الأفراد وليس الجماعات، لا يعنينى ما يذكره المؤرخون بثقة العارف. الرواية مبنية من خلال الكثير من الحكايات والأساطير النوبية، ما علاقة الزمن بالأسطورة النوبية؟ تدور الرواية فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، تحديدا مع ميلاد آشا عام 1813، مع العودة أحيانا إلى تفاصيل سبقت ميلادها، وكان من المستحيل الحصول على حكايات شعبية تخص هذا الزمن تحديدا، فاللغة النوبية شفاهية، ومحاولات تدوينها حديثة، ولم يبدأ جمع الحكايات الشعبية سوى مع التهجير بعد بناء السد العالى، وكان الاهتمام بنقل الآثار أكبر من جمع الحكايات وما شابه، كل الكتب التى وجدتها تنقل حكايات متأثرة بأزمنة كتابتها أو نقلها، وكذلك أصحابها كتبوها معتمدين على ذاكرة الطفولة، فكان واضحا أنهم أضافوا من قناعاتهم وثقافاتهم المرتبطة بزمن الكتابة، واستعنت أيضًا بعدد من التسجيلات الصوتية لكنها أيضًا من مراحل قريبة نسبيا، ونحن نعلم أن الحكاية عندما تنتقل من زمن لآخر يتأثر قائلها بزمن روايتها، فالحكايات الشعبية ليست أثرا جامدا لا يتغير، بل كل قائل قد يضيف من ثقافته الآنية على ما يحكيه، فلجأت إلى إعادة كتابة الحكايات عبر تخيلى لطبيعة الزمن وطبيعة الشخصيات، وكذلك أنتقيت ما يتماس مع الأحداث ويلقى بظلاله على العالم الذى بنيته. اللغة هم يشغلك فى كل أعمالك الأدبية السابقة، هل زمن الرواية خلق لغة خاصة؟ طبيعة الحكايات الشعبية هى التى ألقت بظلالها أكثر على اللغة، وليس الزمن، فالرواية تبدأ بالاستهلال الخاص بالحكايات الشعبية النوبية، وتنتهى بالنهاية الخاصة بتلك الحكايات، وهى عبارات مختلفة عن المعتاد عند إلقاء الحكايات فى الريف المصرى مثلا، فشعرت أننى أمام "حكاية شعبية" لها خصوصية، لا بد من نقلها إلى القارئ بكل الأدوات المتاحة، وأهمها اللغة، مما دفعنى للاستعانة بروح الشفاهية، واستخدام كلمات نوبية أحيانا، لكنها تفهم من السياق العام، ولا تحتاج هوامش تفسيرية، ليدخل القارئ إلى سياق الحكاية وتفاصيلها، كأنه يعيش بين شخصياتها، ولكنى لم أتخل عن الفصحى وجمالياتها فى نفس الوقت. هل يمكن التعامل مع الرواية تحت إطار مسمى "الأدب النوبي"؟ لا أعتقد، ما يسمى الأدب النوبى مرتبط بأسماء محددة من أهمها يحيى مختار وحجاج أدول وإدريس على وحسن نور، وقبلهم أديب الأطفال والباحث إبراهيم شعراوى، ويقصد به الأدب المرتبط بالقضية النوبية، والتعلق بالنوبة القديمة، وتحولات التهجير والحفاظ على التراث وما إلى ذلك، وهذا ما لم أقصده بما قدمته فى روايتى، فأنا لا أحمل نفس هواجسهم وارتباطهم بالأرض الغارقة. وكما أوضحت تكون عالم روايتى، مثل كل رواياتى السابقة، عبر أسئلة لها خصوصيتها لى، لا تتقاطع مع أسئلة هذا الجيل، لكنى لا أنكر أن فكرة انتقال هذا الإرث عبر الحكاية استحوذت عليّ أثناء بحثى لكنها لم تتحكم فيما كتبته. ولعل حتى هؤلاء الكتاب الذين أطلق على أدبهم "الأدب النوبي" تمردوا فى بعض أعمالهم على هذا المسمى. هل أعمالك القادمة ستنشغل بنفس المنطقة سواء النوبة القديمة أو الجديدة؟ أفضل أن يخرج من قلب القرى النوبية فى النوبة الجديدة أدباء يتحدثون عن واقعهم الذين يعيشونه، أو يثيرون خيال مرتبط بهذا الواقع، أما أنا فلدى جزء ثان من آشا، ثم سأعود إلى الكتابة عن الخيال الذى يثيره واقعى فى المدينة، وربما عدت إلى تاريخ النوبة من وقت لآخر، حين يثير خيالى ويخلق عالما جديدا.
بوابة ماسبيرو٢٦-٠٤-٢٠٢٥ترفيهبوابة ماسبيروسمر نور: أبنى عالمى الروائى من الخيال وليس الواقعالأساطير والحكايات الشعبية لها مساحة كبيرة فى رواية «آشا» التاريخ الشخصى وحده ليس صالحا لبناء عالم روائى لا أحمل نفس هواجس رموز الأدب النوبى وارتباطهم بالأرض الغارقة فى بلاد النوبة القديمة، فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولدت «آشا» فى كهف «الجعارين» أعلى جبل بقرية «الشباك»، بعد أن تخطت النوبة عقودًا من المجاعة والصراع بين القوى المتعارضة، أصابت القريةَ لعنةٌ فلم يعُد يولَد على أرضها الذكور، فيما عاشت «آشا» محاطةً بالحكايات والأساطير النوبية، متأثرةً بوالدتها راوية القرية «فاتي»، ووالدها صانع السواقى وحكيم القرية «نوري»، محاطةً بالطبيعة والخيال، ما بين النهر والجبل، حتى ألقى النهر على ضفة قريتها بشاب غريب يدعى «كرم باش»، فكان ما كان، هكذا تعود الروائية سمر نور بأحدث أعمالها "أشا: الجعران والقمر". ما سر اختيار العنوان "أشا: الجعران والقمر"؟ أستغرق مع أفكار أعمالى سنوات، وأحيانا تولد الفكرة وتتخذ عنوانا معينا، ربما يتغير هذا العنوان مع تشكل العالم قبل الكتابة، أو يتغير خلال مراحل الكتابة، وربما يحتفظ بنفس العنوان الأول، كل تجربة ولها تفاصيلها، فى روايتى الأخيرة كانت الفكرة فى بدايتها تحمل اسم قريتى النوبية "الجنينة والشباك" وأثناء بحثى تأكدت أن اسم القرية القديم، قبل بناء خزان أسوان، كان "الشباك" فقط، حيث كانت "الجنينة" قرية منفصلة، فأصبح عنوان الرواية "آشا نورى وكرم باش"، حتى بدأت الكتابة وكان للأساطير والحكايات مساحة كبيرة، خاصة حكاية "الجعران والقمر"، والتى كانت ملحقة بمثل شعبى نوبى ثم تحولت أثناء الكتابة إلى أسطورة من أساطير الخلق، وألقت الأسطورة بظلها على الرواية كلها، وحملت مدلولات لها أثرها على الشخصيات والعالم، فقررت أن يكون العنوان "الجعران والقمر"، لكن بعد انتهائى من العمل اقترح صديق أن يكون العنوان "آشا" اسم بطلة الرواية باعتباره الأكثر جاذبية، ورغم أن أغلب من اطلع على العنوانين اختاروا اسم آشا، ظل هناك ارتباط نفسى بينى وبين عنوانى الأصلى فقررت أن أتركهما معا على الغلاف، خاصة أن آشا ما زال لديها ما تحكيه فى جزء ثان للرواية، تحت عنوان فرعى جديد. لماذا جاءت الكتابة عن النوبة بشكل متأخر رغم إنك من أصول نوبية؟ ولدت وعشت فى القاهرة، وعائلتى منذ أجيال متتالية مقيمين فى القاهرة، وكنت كأى كاتب ينتمى إلى هذه المدينة، مسكونة بهواجسها ومشاكلها وتفاصيلها، وهذا ما عبرت عنه فى أعمالى السابقة، هذه العلاقة المعقدة مع المدينة، وحالة الاغتراب عنها، مثل أغلب كتاب جيلى. سُئلت كثيرا لماذا لا أكتب عن النوبة؟ وكنت أراه سؤالا غريبا، فلماذا أكتب عن مكان لم أرتبط به، ولم أعش فيه، كنت فى حالة انفصال عن أصولى البعيدة، حتى سكنتنى جدتى التاسعة آشا، وجعلتنى ألمس بداخلى إرثا كبيرا، لم أكن أعرف أننى أملكه، كان تتبعى لحكاية جدى التاسع "كرم باش" صاحب الأصول البوسنية، تلك الحكاية التى حكاها لنا الكبار فى طفولتنا، سببا فى هذا الاكتشاف. هل البحث عن التاريخ الشخصى كان دافعًا للكتابة عن تاريخ النوبة؟ التاريخ الشخصى وحده ليس صالحا لبناء عالم روائى، فى البداية كان التاريخ الشخصى أو بالأحرى الأساطير الشخصية دافعا للبحث فى تاريخ النوبة، بدأ الأمر ببساطة استدعاء حكاية قديمة سمعتها فى طفولتى من أجداد بالعائلة، ولا أتذكر تفاصيلها، لكنى أتذكر ما قيل عن جد يدعى كرم باش، ذو أصل بوسنى تزوج جدتى النوبية وأتى منه نسلنا، وقفز فى ذهنى سؤال لماذا لا تحمل عائلتى الاسم الغريب لهذا الرجل، ففى النوبة هناك عائلات تحمل أسماء أجداد ذوى أصول أجنبية، مثل المجراب، ولهم أجداد من أصول مجرية على سبيل المثال، من أجل معرفة معلومات عن هذا الجد وشحن ذاكرتى سافرت إلى قرية "الجنينة والشباك" فى النوبة الجديدة عام 2012، ولم أجد هناك من يعرف تلك الحكاية! وقبل مغادرة القرية وجدتنى أحمل سؤالا آخر؛ لماذا روى لنا عن هذا الجد ولم يرو أحد لنا عن الجدة النوبية التى جاء منها نسلنا! وقررت أنه لو كان هناك عالما روائيا يتكون، فسوف تكون بطلته تلك الجدة التى لا أعرف اسمها، وليس كرم باش. ومن هنا سافرت إلى الإسكندرية فى نفس العام، وسجلت مع رجل كبير السن من أقربائى، فى محاولة لاستنتاج التاريخ الذى تزوج فيه كرم باش جدتى، وظروف مجيئه النوبة، كان كل شىء يعتمد على الاستنتاج، ليست هناك حكاية متماسكة.. احتفظت بما جمعته من شهادات وشجرة العائلة، وانشغلت بمشاريع كتابة أخرى، مجموعة قصصية وروايتين، حتى عام 2022، حين تفرغت للقراءة عن تراث وتاريخ وجغرافيا النوبة القديمة، وكذلك تاريخ تلك المنطقة منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، وكونت مكتبتى الخاصة. كيف كانت رحلتك لاختيار العناوين والبحث؟ وما أهم المراجع التى اعتمدت عليها فى الرواية؟ أدين بجزء كبير من مكتبتى عن النوبة للأديب الكبير يحيى مختار، فقد أهدانى ما يزيد عن خمسين كتابا، لكن الفترة التاريخية التى اخترتها كانت تحتاج إلى جهد بحثى أكبر، لتخيل المكان الذى تعيش فيه الشخصيات، وطبيعة المجتمع، والأطر التى تحكمه، والأساطير والحكايات التى تخرج من قلب كل ذلك، فاستعنت بعدد كبير من الأصدقاء والأساتذة الذين قدمت لهم الشكر فى آخر الرواية، وذكرت نماذج من المراجع التى اطلعت عليها. بالتأكيد لا، فكما أشرت كان البحث محاولة لتخيل طبيعة المجتمع فى هذا المكان والزمان، والاحساس بالشخصيات، والخروج بخيال مختلف، لا يلتزم بالتاريخ، كما لم يكن هدفى إعادة تخيل أحداث تاريخية بعينها، أو شخصيات تاريخية مهمة، كان التاريخ مجرد خلفية للأحداث، إطار عام لملء الفراغات وطرح المزيد من الأسئلة، فكما قلت التاريخ الشخصى لا يبنى عالما روائيا بدون وعى بتاريخ المجتمع الذى ينتمى إليه الأفراد ومسائله، والخيال ليس مجرد شطحات بدون معرفة، بل لا بد أن أكون ملمة بأدواتى وعلى دراية بكل ما أستطيع معرفته عن عالمى، ثم أنطلق بخيالى كما أشاء، ليس عن جهل بل عن رغبة فى البحث عن أبعاد جديدة، والإجابة على أسئلة قد لا توجد لها إجابات واضحة فى الواقع، والتعبير عن شخصيات لم تترك خلفها أثرا. مرحلة البحث فى الكتب أضافت أسئلة جديدة عن التراكمات التاريخية للثقافة النوبية، فالتراث النوبى يحمل أبعادا تاريخيا موغلة فى القدم، لكنه يحمل أيضًا أبعادًا حضارية متعددة، فستجد تأثير الحضارة المصرية القديمة والحضارة الكوشية، والثقافة القبطية، والثقافة الإسلامية، كل ذلك امتزج فى وعاء واحد، وتجلى فى التراث والعمارة والفنون المختلفة، وأسئلة عن التحول فى طبيعة المجتمع النوبى، من مجتمع محارب إلى مجتمع مسالم. كيف تـغـيرت مـلامـح الشخصيـــة النوبية؟ من ينظر لتاريخ النوبة يجد أن جيوش عتيدة حكمت مصر ولم تستطع دخول النوبة، بل إن الديانات التوحيدية وقفت على عتباتها، ولم تدخل إلا بعد زمن بعيد من دخولها مصر، وبالسلم والمعاهدات وليس بالحرب، لكن تلك القوة أكاد لا ألحظ حضورها منذ نهاية القرن الثامن عشر، لست مؤرخة ولا متخصصة فى علم الاجتماع مثلا، لكن ما حدث مع دخول الحملة الفرنسية مصر ووصولها إلى جزيرة فيلة استرعى انتباهى، كانت الحملة تطارد المماليك، ولم يكن النوبيون طرفا فى هذا الصراع، لكن كعادة المستعمر، قديما وحديثا، كان النوبيون يحمون جزيرتهم التى دمرها الفرنسيون بأسلحتهم الحديثة. الحملة جلبت باحثين فى كل المجالات وثقوا جزءا من الثقافة النوبية، كمستشرقين، لكنها أيضًا واجهت النوبيين بأسلحة لم يكن لديهم قدرة على مجابهتها، مثلما فعلت فى القاهرة، فكان وجودهم مؤثرا على تلك الجماعة فى هذا الزمن، ثم كان هروب المماليك من محمد على فى مرحلة لاحقة، ودمروا النوبة أيضا، وكذلك جيش محمد على فى مطاردته لهم، مع المجاعات التى حدثت فى أوائل القرن التاسع عشر، فنحن نتحدث عن تصفية الروح المحاربة لدى النوبيين. كل هذا التاريخ كيف استطعت جعله مجرد خلفية، ولم تقعى فى شرك حضوره الطاغى؟ كنت أعى تماما أن معرفته مجرد أداة مثل كل أدوات الكتابة، وليست هدفا فى حد ذاتها، فمن يريد أن يعرف تاريخ وتراث النوبة عليه قراءة كتب التاريخ والتراث، وليس قراءة عمل روائى، فأنا أبنى عالمى من الخيال وليس من الواقع، أبنيه مما يغفل عنه التاريخ، أو يعجز عن فهمه المؤرخون، أو ما لا يعطونه أهمية، مثل حياة الأفراد وليس الجماعات، لا يعنينى ما يذكره المؤرخون بثقة العارف. الرواية مبنية من خلال الكثير من الحكايات والأساطير النوبية، ما علاقة الزمن بالأسطورة النوبية؟ تدور الرواية فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، تحديدا مع ميلاد آشا عام 1813، مع العودة أحيانا إلى تفاصيل سبقت ميلادها، وكان من المستحيل الحصول على حكايات شعبية تخص هذا الزمن تحديدا، فاللغة النوبية شفاهية، ومحاولات تدوينها حديثة، ولم يبدأ جمع الحكايات الشعبية سوى مع التهجير بعد بناء السد العالى، وكان الاهتمام بنقل الآثار أكبر من جمع الحكايات وما شابه، كل الكتب التى وجدتها تنقل حكايات متأثرة بأزمنة كتابتها أو نقلها، وكذلك أصحابها كتبوها معتمدين على ذاكرة الطفولة، فكان واضحا أنهم أضافوا من قناعاتهم وثقافاتهم المرتبطة بزمن الكتابة، واستعنت أيضًا بعدد من التسجيلات الصوتية لكنها أيضًا من مراحل قريبة نسبيا، ونحن نعلم أن الحكاية عندما تنتقل من زمن لآخر يتأثر قائلها بزمن روايتها، فالحكايات الشعبية ليست أثرا جامدا لا يتغير، بل كل قائل قد يضيف من ثقافته الآنية على ما يحكيه، فلجأت إلى إعادة كتابة الحكايات عبر تخيلى لطبيعة الزمن وطبيعة الشخصيات، وكذلك أنتقيت ما يتماس مع الأحداث ويلقى بظلاله على العالم الذى بنيته. اللغة هم يشغلك فى كل أعمالك الأدبية السابقة، هل زمن الرواية خلق لغة خاصة؟ طبيعة الحكايات الشعبية هى التى ألقت بظلالها أكثر على اللغة، وليس الزمن، فالرواية تبدأ بالاستهلال الخاص بالحكايات الشعبية النوبية، وتنتهى بالنهاية الخاصة بتلك الحكايات، وهى عبارات مختلفة عن المعتاد عند إلقاء الحكايات فى الريف المصرى مثلا، فشعرت أننى أمام "حكاية شعبية" لها خصوصية، لا بد من نقلها إلى القارئ بكل الأدوات المتاحة، وأهمها اللغة، مما دفعنى للاستعانة بروح الشفاهية، واستخدام كلمات نوبية أحيانا، لكنها تفهم من السياق العام، ولا تحتاج هوامش تفسيرية، ليدخل القارئ إلى سياق الحكاية وتفاصيلها، كأنه يعيش بين شخصياتها، ولكنى لم أتخل عن الفصحى وجمالياتها فى نفس الوقت. هل يمكن التعامل مع الرواية تحت إطار مسمى "الأدب النوبي"؟ لا أعتقد، ما يسمى الأدب النوبى مرتبط بأسماء محددة من أهمها يحيى مختار وحجاج أدول وإدريس على وحسن نور، وقبلهم أديب الأطفال والباحث إبراهيم شعراوى، ويقصد به الأدب المرتبط بالقضية النوبية، والتعلق بالنوبة القديمة، وتحولات التهجير والحفاظ على التراث وما إلى ذلك، وهذا ما لم أقصده بما قدمته فى روايتى، فأنا لا أحمل نفس هواجسهم وارتباطهم بالأرض الغارقة. وكما أوضحت تكون عالم روايتى، مثل كل رواياتى السابقة، عبر أسئلة لها خصوصيتها لى، لا تتقاطع مع أسئلة هذا الجيل، لكنى لا أنكر أن فكرة انتقال هذا الإرث عبر الحكاية استحوذت عليّ أثناء بحثى لكنها لم تتحكم فيما كتبته. ولعل حتى هؤلاء الكتاب الذين أطلق على أدبهم "الأدب النوبي" تمردوا فى بعض أعمالهم على هذا المسمى. هل أعمالك القادمة ستنشغل بنفس المنطقة سواء النوبة القديمة أو الجديدة؟ أفضل أن يخرج من قلب القرى النوبية فى النوبة الجديدة أدباء يتحدثون عن واقعهم الذين يعيشونه، أو يثيرون خيال مرتبط بهذا الواقع، أما أنا فلدى جزء ثان من آشا، ثم سأعود إلى الكتابة عن الخيال الذى يثيره واقعى فى المدينة، وربما عدت إلى تاريخ النوبة من وقت لآخر، حين يثير خيالى ويخلق عالما جديدا.