#أحدث الأخبار مع #آصفكابادياالجزيرة١٥-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالجزيرةفيلم '2073'.. رحلة إلى عالم المستقبل الغارق في أزماتهلكن العالم ما يزال حيا ومستمرا والذين سينتهون هم نحنُ! عالم وكوكب واحد يغرق في أزماته، التي لم يصنعها ويتكبّد معاناتها إلا سكان هذا الكوكب أنفسهم، فهم يعيشون كل يوم أزمات تتعلّق بأنماط العيش، وتحديات جودة الحياة، والمتطلبات الأساسية، وهذه كلّها تجسّدت في شكل نداءات وصرخات وتحذيرات وبيانات، ما فتئنا نسمعها في وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي. على وقع اختناق العالم بأزماته ومعاناته منها، يقدّم لنا هذا الفيلم الوثائقي -الذي أخرجه الهندي البريطاني 'آصف كاباديا'- ملامسة حية وإنسانية، في نطاق واسع لبؤر محددة، هي التي تشكل مصدرا رئيسيا للمشكلات والتحديات التي تواجه البشرية في عصرنا الراهن. ولعل تلك الملامسة الواعية تحيلنا إلى أصل المشكلات وجذورها، وهو ما يغوص فيه هذا الوثائقي، محملا مشاهده غزارة معلوماتية، وصورا إنسانية مؤثرة، ووقائع وأحداثا كان فعلها مباشرا على حياة البشر. هذا ما يعمد إليه المخرج 'كاباديا' في تصديه لهموم الإنسان، وطالما تحدث عنها في المقابلات الصحافية والندوات، لينتج ذلك النوع الفريد من خطابات السينما الكونية، المتماهية مع أزمات العالم الكبرى، وهو بذلك لا يقدم خطابا مباشرا لجمهوره، بقدر ما يبقي جذوة الفكرة الوثائقية المصوغة في قالب فني وجمالي، يتناسب مع ما نعيشه من تحولات رقمية وعلى مستوى الذكاء الاصطناعي. من هنا يمكننا تحليل المشاهد الفيلمية على وفق تتابع زمني، حرص فيه المخرج على التنقل بين محطات بارزة ذات أهمية، طارحا سؤالا مثيرا للاهتمام، ها نحن افتراضيا، نعيش في العام 2073، لكن كثيرا من البشر يعيشون في وضع بائس. ولكي لا يكتفي المخرج بما هو شائع ومتاح من صور وتفاصيل، فإنه يلجأ الى عنصرين أساسيين؛ هما استخدام شخصيات حقيقية في شكل ممثلين معزولين بعوالم 'دستوبية' (مدن فاسدة) قاتمة، والعنصر الثاني هو التعليق من وجهة نظر الشاهد / الشخص الثالث، وفي بعض الأحيان من وجهة نظر الممثل نفسه. هذا النوع من الوثائقي -الذي يسمى دوكودراما- هو الذي أراد به المخرج 'كاباديا' أن يتفرّد في تقديم وثائقي من نوع الخيال العلمي الممتزج بالدوكودراما، من منطلق وجود نسيج وثائقي كثيف، يمنح الفيلم هويته الوثائقية من جهة، ومساحة للشخصية الرئيسية، لكي تستكشف العالم من حولها في العام 2073، وحيث يصبح المكان عنصرا مكملا وأساسيا في كشف مزيد من ذلك العالم الدستوبي. تأمل في ما بقي من خراب البشرية لتعزيز الجغرافيا في الوثائقي، ومنحه جذرا واقعيا، نجد أن الحل هو التأمّل فيما بقي من خراب البشرية، الذي لا بد أن يؤخذ عينةً مكانية، ولهذا كانت تلك البؤرة هي التي تخندقت فيها الشخصية وسط انعدام مصادر الطاقة والمياه، لا ما بقي من ذكريات تسترجع بها ذاتها، وأنها ما تزال حية. ثم لننتقل إلى الحوار الذي يجري مع امرأة أخرى، في إطار الدائرة العدمية المكانية نفسها، وحيث الشاهدان عليهما أثواب بالية، ما تزال معلّقة ومعروضة في صالات وغرف محلات تجارية مهجورة، وهما مهددتان بالعقاب بسبب فرض حظر التجول. لعل هذه المعطيات تعيدنا إلى أسلوب المخرج 'كاباديا' نفسه ومنهجه الدرامي، فقد لفت الأنظار منذ منتصف التسعينيات في اندفاعه نحو التجريب، ولكن تجربته التي أكدت نجوميته وانتشاره كانت عندما حقق الوثائقي 'آمي' (Amy) نجاحا كبيرا، وتوّج بجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم وثائقي، وذلك عام 2015، بعد أن عُرض في مهرجان 'كان' ذلك العام، كما حصد أكثر من 20 جائزة أخرى من عدة مهرجانات حول العالم. مدرسة متفردة في السينما الوثائقية يدور فيلم 'آمي' حول المغنية والمؤلفة الموسيقية البريطانية ذائعة الصيت 'آمي وينهاوس' (1983-2011)، ذات الموهبة الاستثنائية التي توفيت في عامها الـ27، وقد قدمت ألوانا من الغناء تفرّدت بها برغم قصر رحلتها، إذ مزجت ما بين الغناء الروحي والوجداني، وبين أغاني الجاز والبلوز والريغا. وقد كان 'كاباديا' عبر مرارا عن تأثره بوفاتها، ولهذا قدم فيلما متميزا خلّدها، مستخدما أسلوب 'الخيال الحقيقي' (True Fiction)، فوظّف تقنيات الوثائقي لمزج الخيال بالتجربة الوثائقية، في إطار ملامسة آسرة ومؤثرة عاطفيا. انعكس ذلك لاحقا في أفلامه الوثائقية الأخرى، مثل 'سينا' (Senna) عام 2010، و'دييغو مارادونا' (Diego Maradona) عام 2019، و'فيدرير: الاثنا عشر يوما الأخيرة' (Federer: Twelve Final Days) عام 2024. بالإضافة إلى 6 أفلام روائية، عمّقت مساره ورؤيته المتوازنة ما بين الوثائقي والروائي الطويل. وعلى وفق هذه الخلفية، يمكننا المضي في القراءة الفكرية والجمالية لفيلم '2073'، حيث تتجه تلك القراءة إلى زوايا متعددة، عالج فيها الوثائقي السمات الفرعية التي كونت المعمار الوثائقي الكلي، وهي وحدها إشكالية، لأن إنجاز معالجة رصينة لوثائقي متعدد السمات الفرعية قد يقود إلى نوع من الترهل في معالجة القصة الأساسية المطروحة، وما ينبغي أن يروى للمشاهد. الأسئلة الكبرى: لماذا وصلنا إلى هذا المصير؟ نجد أن المخرج 'آصف كاباديا' في هذا الفيلم قد أدرك تلك الحدود الإشكالية، ولهذا فقد كانت كل التفرعات التي بني عليها الوثائقي ترتكز على سؤال مركّز، خلاصته: لماذا وصلنا إلى هذه النقطة؟ ولماذا دخلنا هذا المأزق؟ ولماذا دخلنا نفق العالم الدستوبي؟ إن هذه الأسئلة تختصر المهمة الأساسية في هذا الفيلم. واقعيا وجدنا إجابات مشهدية متلاحقة، قدمت لنا عالما مثخنا بأزماته فيه 10 ملايين إنسان يموتون سنويا بسبب التلوث، وأكثر من 100 ألف شخص يموتون سنويا بسبب الصراعات والحروب، وأكثر من 700 مليون إنسان من حول العالم يعيشون في فقر مدقع. هذا على صعيد الإنسان، أما على صعيد البيئة والمكان، فالإنسان يمعن في إيذاء بيئته، مع أنه لا يستطيع العيش دونها ودون كونها بيئة صالحة للعيش، ومع ذلك فهو يقطع أكثر من 15 مليار شجرة سنويا، ولم يبق إلا 36% من الغطاء النباتي على مستوى العالم. ومع الأسف، فإن العالم في ذات الوقت ينتج 10 أطنان من البلاستيك في الثانية الواحدة، ونجد أن ما يرمى في البيئة المحيطة من نفايات بلغت نسبته 79%، وهو ما يعرف بالتلوث البلاستيكي، هذا عدا عن مشكلات التصحر، وذوبان ملايين الأطنان من الجليد في القطب، والانبعاثات الغازية. بعد هذه الخلفية، ينقلنا الوثائقي إلى محو المكان، عن طريق الحرائق التي صارت لازمة متكرّرة في كثير من البلدان والقارات، وهناك حيث البيئة المحترقة يكمن العالم الدستوبي، متكاملا مع ما ذكرناه من توصيف لصور التدمير. وعلى وقع مشاهد الخراب، ومنه لقطات من خراب المدن السورية بسبب الحرب، ثم الفيضانات، ثم بيت واحد معزول وسط الطوفان، يُطرح السؤال: أين الإنسان؟ 'إن الماضي والتاريخ سوف يتلاشيان قريبا' تقول شخصية الوثائقي الرئيسية فيما يشبه الرثاء للتاريخ والمكان: ذات يوم، قالت جدتي إن ذكرياتها كانت تتلاشى من بين أصابعها كالرمل، وإننا لم نكن نعلم، لكن ذلك ما حدث، وقالت إن الماضي والتاريخ سوف يتلاشيان قريبا. وها نحن أولاء مع الإنسان وهو في تيه في مدينة نيو سان فرانسيسكو، وهي عاصمة الأمريكتين في ذلك العالم المستقبلي الدستوبي المأزوم، حيث يتفشى العنف المفرط، ويفرض حظر التجوال، فلا ترى عينك إلا الكلاب الضالة ومسلحي الشوارع. يتردد صوت وسط الصراعات والدماء، تطلقه الممثلة الرئيسية: ليست في نفسي رحمة ولا شفقة تجاه مجتمع يسحق الناس، ثم يعاقبهم على عجزهم عن تحمل الأذى. 'ملوك هذا الزمان'.. سادة البيانات والرقابة الرقمية هنا سوف نكون أمام محور مفصلي، وما نزال بصدد السمات الفرعية في الوثائقي، والتدرج في الصعود بعالم الأزمات التي أوصلتنا إلى عالم خرب في العام 2073، ويختصر الوثائقي إحدى العوارض الجانبية للثورة للرقمية وانتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وهي تتمثل في نشر الخوف والكراهية عبر الإنترنت في جميع أنحاء العالم. ثم يتزامن ذلك مع استفحال ظاهرة جماعات الضغط، ورصد دور وسائل التواصل الاجتماعي، ومساعدتها في صعود القادة الشعبويين ذوي الطابع الاستبدادي، فضلا عن ضرب الصحافة الحرة من الهند إلى الفلبين إلى بريطانيا إلى الولايات المتحدة، والسكوت على مآسي الإنسان في كثير من الساحات. فمن ذلك سحق الفلسطينيين في ديارهم، وملاحقة الإيغور في الصين، بغسل الدماغ، وتقنيات التعرف على الوجوه والأصوات، لتسهيل القمع والإذلال، في حين أن ملايين البشر من حول العالم تعيش على المزابل. في وسط هذا الزخم التعبيري من المشاهد التي اشتغل عليها المونتاج بحرفية عالية، يكون قد وُلد 'ملوك هذا الزمان'، ويصفهم الوثائقي بأنهم ملوك العصر، الذين لم يصوّت لهم أحد ليصعدوا ويتسيّدوا، لكنهم مع ذلك يملكون المال والتأثير، وبأيديهم قوة المعلومات التي يمتلكونها عن البشر، إنهم سادة التقنية الرقمية وزمن الذكاء الاصطناعي، التي حولتنا إلى نوع جديد من البشر. ملوك هذا الزمن هم حشد من الشخصيات، نتابع أخبارهم يوميا، وهم مالكو منصات التواصل الاجتماعي التي يستخدمها مليارات البشر، ومالكو أبحاث الذكاء الاصطناعي، والمتنبئون بمستقبل البشرية، وكل هؤلاء يجندون خوارزمياتهم لملاحقة الإنسان، بلونه وعرقه وموطنه وخصوصياته واهتماماته وأفكاره، وما إلى ذلك. ومع كل ذلك، يبرر الوثائقي تلك المأساة المتفاقمة بأن جذورها لم تبدأ في زمننا الحاضر، بل منذ بدء العصر الصناعي، ووقوع التحول في الاستعباد الجسدي، وفقدان الإنسان ذاته، ابتداء من عمالة الأطفال، إلى استغلال اليد العاملة وطول ساعات العمل، وهو ما يسميه 'تسليع الجسد'. الحاصل أننا صرنا نعيش استعدادا لما هو آت في عالم يشبه الخيال العلمي، اختفت فيه الإرادة الفردية، ويخضع 72% من سكانه لحكم استبدادي بشكل أو آخر، أما الأثرياء فيستعدون لكارثة كبرى، وهي القنبلة النووية الحرارية، فضلا عن الكارثة المناخية والأوبئة، مما يجعل الأرض غير صالحة للعيش. 'يكذبون على الشاشات ويفلتون من العقاب' بدأ 'كاباديا' العمل على فيلم '2073' خلال إغلاق كوفيد-19، وفي أعقاب استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهنا يتذكر أجواء الإعداد والعمل على الفيلم، التي استغرقت أربع سنوات، قائلا: كانت قد تكوّنت عندي فكرة، خلاصتها أن كثيرا من الناس يكذبون على شاشات التلفزيون ويفلتون من العقاب. لم يكن كل ذلك منطقيا، وقد رأيت العبارات التي استُخدمت عذرا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يُعاد استخدامها، ثم خلال انتخابات 'ترامب'، حرفيا كلمة بكلمة. لذا فإن هذا الفيلم هو محاولتي لفهم ما يحدث في العالم. ثم يقول: نحن سائرون عبر المشهد المظلم للمجتمع الحديث، الذي يشهد أكبر عدد من الانتخابات من حول العالم، ونقطة التحول الوحيدة المثالية أمامنا هي التحول نحو الحكم الاستبدادي. فلا يسار في أي مكان، ليس لدينا إلا الوسط، واليمين الوسط، واليمين المتطرف، واليمين الفاشي، والمستبدون. ويبدو أن كل شيء قد تغير في هذا العالم، ويبدو أن ليس لدينا إلا منهج واحد، يُنسخ ويلصق من قبل الجميع وعلى الجميع. وبعد هذه الرحلة في عوالم 'كاباديا'، لا بد من الإشارة إلى أنه بقي عقدا من الزمن على قائمة المراقبة الأمريكية، بعد أن أبلغ عنه سائق أجرة، لأنه كان يصورّ الغروب في مانهاتن وهو في طريقه إلى المطار، فلما شك به السائق أبلغ السلطات عنه. ولما أبدى حزنه على ما يجرى في فلسطين ولبنان من مآس في تغريدة من بضعة أسطر، اتُهم بمعاداة السامية، ثم حُذف اسمه من مؤسسة 'غريرسون' البريطانية الشهيرة، التي تعنى بدعم السينما الوثائقية، ولم تشفع له توضيحاته وحُسن نياته.
الجزيرة١٥-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالجزيرةفيلم '2073'.. رحلة إلى عالم المستقبل الغارق في أزماتهلكن العالم ما يزال حيا ومستمرا والذين سينتهون هم نحنُ! عالم وكوكب واحد يغرق في أزماته، التي لم يصنعها ويتكبّد معاناتها إلا سكان هذا الكوكب أنفسهم، فهم يعيشون كل يوم أزمات تتعلّق بأنماط العيش، وتحديات جودة الحياة، والمتطلبات الأساسية، وهذه كلّها تجسّدت في شكل نداءات وصرخات وتحذيرات وبيانات، ما فتئنا نسمعها في وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي. على وقع اختناق العالم بأزماته ومعاناته منها، يقدّم لنا هذا الفيلم الوثائقي -الذي أخرجه الهندي البريطاني 'آصف كاباديا'- ملامسة حية وإنسانية، في نطاق واسع لبؤر محددة، هي التي تشكل مصدرا رئيسيا للمشكلات والتحديات التي تواجه البشرية في عصرنا الراهن. ولعل تلك الملامسة الواعية تحيلنا إلى أصل المشكلات وجذورها، وهو ما يغوص فيه هذا الوثائقي، محملا مشاهده غزارة معلوماتية، وصورا إنسانية مؤثرة، ووقائع وأحداثا كان فعلها مباشرا على حياة البشر. هذا ما يعمد إليه المخرج 'كاباديا' في تصديه لهموم الإنسان، وطالما تحدث عنها في المقابلات الصحافية والندوات، لينتج ذلك النوع الفريد من خطابات السينما الكونية، المتماهية مع أزمات العالم الكبرى، وهو بذلك لا يقدم خطابا مباشرا لجمهوره، بقدر ما يبقي جذوة الفكرة الوثائقية المصوغة في قالب فني وجمالي، يتناسب مع ما نعيشه من تحولات رقمية وعلى مستوى الذكاء الاصطناعي. من هنا يمكننا تحليل المشاهد الفيلمية على وفق تتابع زمني، حرص فيه المخرج على التنقل بين محطات بارزة ذات أهمية، طارحا سؤالا مثيرا للاهتمام، ها نحن افتراضيا، نعيش في العام 2073، لكن كثيرا من البشر يعيشون في وضع بائس. ولكي لا يكتفي المخرج بما هو شائع ومتاح من صور وتفاصيل، فإنه يلجأ الى عنصرين أساسيين؛ هما استخدام شخصيات حقيقية في شكل ممثلين معزولين بعوالم 'دستوبية' (مدن فاسدة) قاتمة، والعنصر الثاني هو التعليق من وجهة نظر الشاهد / الشخص الثالث، وفي بعض الأحيان من وجهة نظر الممثل نفسه. هذا النوع من الوثائقي -الذي يسمى دوكودراما- هو الذي أراد به المخرج 'كاباديا' أن يتفرّد في تقديم وثائقي من نوع الخيال العلمي الممتزج بالدوكودراما، من منطلق وجود نسيج وثائقي كثيف، يمنح الفيلم هويته الوثائقية من جهة، ومساحة للشخصية الرئيسية، لكي تستكشف العالم من حولها في العام 2073، وحيث يصبح المكان عنصرا مكملا وأساسيا في كشف مزيد من ذلك العالم الدستوبي. تأمل في ما بقي من خراب البشرية لتعزيز الجغرافيا في الوثائقي، ومنحه جذرا واقعيا، نجد أن الحل هو التأمّل فيما بقي من خراب البشرية، الذي لا بد أن يؤخذ عينةً مكانية، ولهذا كانت تلك البؤرة هي التي تخندقت فيها الشخصية وسط انعدام مصادر الطاقة والمياه، لا ما بقي من ذكريات تسترجع بها ذاتها، وأنها ما تزال حية. ثم لننتقل إلى الحوار الذي يجري مع امرأة أخرى، في إطار الدائرة العدمية المكانية نفسها، وحيث الشاهدان عليهما أثواب بالية، ما تزال معلّقة ومعروضة في صالات وغرف محلات تجارية مهجورة، وهما مهددتان بالعقاب بسبب فرض حظر التجول. لعل هذه المعطيات تعيدنا إلى أسلوب المخرج 'كاباديا' نفسه ومنهجه الدرامي، فقد لفت الأنظار منذ منتصف التسعينيات في اندفاعه نحو التجريب، ولكن تجربته التي أكدت نجوميته وانتشاره كانت عندما حقق الوثائقي 'آمي' (Amy) نجاحا كبيرا، وتوّج بجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم وثائقي، وذلك عام 2015، بعد أن عُرض في مهرجان 'كان' ذلك العام، كما حصد أكثر من 20 جائزة أخرى من عدة مهرجانات حول العالم. مدرسة متفردة في السينما الوثائقية يدور فيلم 'آمي' حول المغنية والمؤلفة الموسيقية البريطانية ذائعة الصيت 'آمي وينهاوس' (1983-2011)، ذات الموهبة الاستثنائية التي توفيت في عامها الـ27، وقد قدمت ألوانا من الغناء تفرّدت بها برغم قصر رحلتها، إذ مزجت ما بين الغناء الروحي والوجداني، وبين أغاني الجاز والبلوز والريغا. وقد كان 'كاباديا' عبر مرارا عن تأثره بوفاتها، ولهذا قدم فيلما متميزا خلّدها، مستخدما أسلوب 'الخيال الحقيقي' (True Fiction)، فوظّف تقنيات الوثائقي لمزج الخيال بالتجربة الوثائقية، في إطار ملامسة آسرة ومؤثرة عاطفيا. انعكس ذلك لاحقا في أفلامه الوثائقية الأخرى، مثل 'سينا' (Senna) عام 2010، و'دييغو مارادونا' (Diego Maradona) عام 2019، و'فيدرير: الاثنا عشر يوما الأخيرة' (Federer: Twelve Final Days) عام 2024. بالإضافة إلى 6 أفلام روائية، عمّقت مساره ورؤيته المتوازنة ما بين الوثائقي والروائي الطويل. وعلى وفق هذه الخلفية، يمكننا المضي في القراءة الفكرية والجمالية لفيلم '2073'، حيث تتجه تلك القراءة إلى زوايا متعددة، عالج فيها الوثائقي السمات الفرعية التي كونت المعمار الوثائقي الكلي، وهي وحدها إشكالية، لأن إنجاز معالجة رصينة لوثائقي متعدد السمات الفرعية قد يقود إلى نوع من الترهل في معالجة القصة الأساسية المطروحة، وما ينبغي أن يروى للمشاهد. الأسئلة الكبرى: لماذا وصلنا إلى هذا المصير؟ نجد أن المخرج 'آصف كاباديا' في هذا الفيلم قد أدرك تلك الحدود الإشكالية، ولهذا فقد كانت كل التفرعات التي بني عليها الوثائقي ترتكز على سؤال مركّز، خلاصته: لماذا وصلنا إلى هذه النقطة؟ ولماذا دخلنا هذا المأزق؟ ولماذا دخلنا نفق العالم الدستوبي؟ إن هذه الأسئلة تختصر المهمة الأساسية في هذا الفيلم. واقعيا وجدنا إجابات مشهدية متلاحقة، قدمت لنا عالما مثخنا بأزماته فيه 10 ملايين إنسان يموتون سنويا بسبب التلوث، وأكثر من 100 ألف شخص يموتون سنويا بسبب الصراعات والحروب، وأكثر من 700 مليون إنسان من حول العالم يعيشون في فقر مدقع. هذا على صعيد الإنسان، أما على صعيد البيئة والمكان، فالإنسان يمعن في إيذاء بيئته، مع أنه لا يستطيع العيش دونها ودون كونها بيئة صالحة للعيش، ومع ذلك فهو يقطع أكثر من 15 مليار شجرة سنويا، ولم يبق إلا 36% من الغطاء النباتي على مستوى العالم. ومع الأسف، فإن العالم في ذات الوقت ينتج 10 أطنان من البلاستيك في الثانية الواحدة، ونجد أن ما يرمى في البيئة المحيطة من نفايات بلغت نسبته 79%، وهو ما يعرف بالتلوث البلاستيكي، هذا عدا عن مشكلات التصحر، وذوبان ملايين الأطنان من الجليد في القطب، والانبعاثات الغازية. بعد هذه الخلفية، ينقلنا الوثائقي إلى محو المكان، عن طريق الحرائق التي صارت لازمة متكرّرة في كثير من البلدان والقارات، وهناك حيث البيئة المحترقة يكمن العالم الدستوبي، متكاملا مع ما ذكرناه من توصيف لصور التدمير. وعلى وقع مشاهد الخراب، ومنه لقطات من خراب المدن السورية بسبب الحرب، ثم الفيضانات، ثم بيت واحد معزول وسط الطوفان، يُطرح السؤال: أين الإنسان؟ 'إن الماضي والتاريخ سوف يتلاشيان قريبا' تقول شخصية الوثائقي الرئيسية فيما يشبه الرثاء للتاريخ والمكان: ذات يوم، قالت جدتي إن ذكرياتها كانت تتلاشى من بين أصابعها كالرمل، وإننا لم نكن نعلم، لكن ذلك ما حدث، وقالت إن الماضي والتاريخ سوف يتلاشيان قريبا. وها نحن أولاء مع الإنسان وهو في تيه في مدينة نيو سان فرانسيسكو، وهي عاصمة الأمريكتين في ذلك العالم المستقبلي الدستوبي المأزوم، حيث يتفشى العنف المفرط، ويفرض حظر التجوال، فلا ترى عينك إلا الكلاب الضالة ومسلحي الشوارع. يتردد صوت وسط الصراعات والدماء، تطلقه الممثلة الرئيسية: ليست في نفسي رحمة ولا شفقة تجاه مجتمع يسحق الناس، ثم يعاقبهم على عجزهم عن تحمل الأذى. 'ملوك هذا الزمان'.. سادة البيانات والرقابة الرقمية هنا سوف نكون أمام محور مفصلي، وما نزال بصدد السمات الفرعية في الوثائقي، والتدرج في الصعود بعالم الأزمات التي أوصلتنا إلى عالم خرب في العام 2073، ويختصر الوثائقي إحدى العوارض الجانبية للثورة للرقمية وانتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وهي تتمثل في نشر الخوف والكراهية عبر الإنترنت في جميع أنحاء العالم. ثم يتزامن ذلك مع استفحال ظاهرة جماعات الضغط، ورصد دور وسائل التواصل الاجتماعي، ومساعدتها في صعود القادة الشعبويين ذوي الطابع الاستبدادي، فضلا عن ضرب الصحافة الحرة من الهند إلى الفلبين إلى بريطانيا إلى الولايات المتحدة، والسكوت على مآسي الإنسان في كثير من الساحات. فمن ذلك سحق الفلسطينيين في ديارهم، وملاحقة الإيغور في الصين، بغسل الدماغ، وتقنيات التعرف على الوجوه والأصوات، لتسهيل القمع والإذلال، في حين أن ملايين البشر من حول العالم تعيش على المزابل. في وسط هذا الزخم التعبيري من المشاهد التي اشتغل عليها المونتاج بحرفية عالية، يكون قد وُلد 'ملوك هذا الزمان'، ويصفهم الوثائقي بأنهم ملوك العصر، الذين لم يصوّت لهم أحد ليصعدوا ويتسيّدوا، لكنهم مع ذلك يملكون المال والتأثير، وبأيديهم قوة المعلومات التي يمتلكونها عن البشر، إنهم سادة التقنية الرقمية وزمن الذكاء الاصطناعي، التي حولتنا إلى نوع جديد من البشر. ملوك هذا الزمن هم حشد من الشخصيات، نتابع أخبارهم يوميا، وهم مالكو منصات التواصل الاجتماعي التي يستخدمها مليارات البشر، ومالكو أبحاث الذكاء الاصطناعي، والمتنبئون بمستقبل البشرية، وكل هؤلاء يجندون خوارزمياتهم لملاحقة الإنسان، بلونه وعرقه وموطنه وخصوصياته واهتماماته وأفكاره، وما إلى ذلك. ومع كل ذلك، يبرر الوثائقي تلك المأساة المتفاقمة بأن جذورها لم تبدأ في زمننا الحاضر، بل منذ بدء العصر الصناعي، ووقوع التحول في الاستعباد الجسدي، وفقدان الإنسان ذاته، ابتداء من عمالة الأطفال، إلى استغلال اليد العاملة وطول ساعات العمل، وهو ما يسميه 'تسليع الجسد'. الحاصل أننا صرنا نعيش استعدادا لما هو آت في عالم يشبه الخيال العلمي، اختفت فيه الإرادة الفردية، ويخضع 72% من سكانه لحكم استبدادي بشكل أو آخر، أما الأثرياء فيستعدون لكارثة كبرى، وهي القنبلة النووية الحرارية، فضلا عن الكارثة المناخية والأوبئة، مما يجعل الأرض غير صالحة للعيش. 'يكذبون على الشاشات ويفلتون من العقاب' بدأ 'كاباديا' العمل على فيلم '2073' خلال إغلاق كوفيد-19، وفي أعقاب استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهنا يتذكر أجواء الإعداد والعمل على الفيلم، التي استغرقت أربع سنوات، قائلا: كانت قد تكوّنت عندي فكرة، خلاصتها أن كثيرا من الناس يكذبون على شاشات التلفزيون ويفلتون من العقاب. لم يكن كل ذلك منطقيا، وقد رأيت العبارات التي استُخدمت عذرا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يُعاد استخدامها، ثم خلال انتخابات 'ترامب'، حرفيا كلمة بكلمة. لذا فإن هذا الفيلم هو محاولتي لفهم ما يحدث في العالم. ثم يقول: نحن سائرون عبر المشهد المظلم للمجتمع الحديث، الذي يشهد أكبر عدد من الانتخابات من حول العالم، ونقطة التحول الوحيدة المثالية أمامنا هي التحول نحو الحكم الاستبدادي. فلا يسار في أي مكان، ليس لدينا إلا الوسط، واليمين الوسط، واليمين المتطرف، واليمين الفاشي، والمستبدون. ويبدو أن كل شيء قد تغير في هذا العالم، ويبدو أن ليس لدينا إلا منهج واحد، يُنسخ ويلصق من قبل الجميع وعلى الجميع. وبعد هذه الرحلة في عوالم 'كاباديا'، لا بد من الإشارة إلى أنه بقي عقدا من الزمن على قائمة المراقبة الأمريكية، بعد أن أبلغ عنه سائق أجرة، لأنه كان يصورّ الغروب في مانهاتن وهو في طريقه إلى المطار، فلما شك به السائق أبلغ السلطات عنه. ولما أبدى حزنه على ما يجرى في فلسطين ولبنان من مآس في تغريدة من بضعة أسطر، اتُهم بمعاداة السامية، ثم حُذف اسمه من مؤسسة 'غريرسون' البريطانية الشهيرة، التي تعنى بدعم السينما الوثائقية، ولم تشفع له توضيحاته وحُسن نياته.