logo
#

أحدث الأخبار مع #أبوالطيبالمتنبى

طاهر المعتصم يكتب: محمد المكى إبراهيم.. شاعر الأمة والمفكر الدبلوماسى
طاهر المعتصم يكتب: محمد المكى إبراهيم.. شاعر الأمة والمفكر الدبلوماسى

المصري اليوم

time٣٠-٠٤-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • المصري اليوم

طاهر المعتصم يكتب: محمد المكى إبراهيم.. شاعر الأمة والمفكر الدبلوماسى

الكتابة عن محمد المكى إبراهيم ليست بالأمر الهيّن، بل هى أقرب ما تكون لمحاولة القبض على الضوء، أو كما قال أبو الطيب المتنبى فى وصفه لشعب بوان: «دنانير تفرُّ من البنان». فالرجل موسوعة نابضة بالإبداع، تتقاطع فيها طرائق الشعر والصحافة والدبلوماسية، ويتنقل فيها من أعماق السودان وظلال جامعة الخرطوم فى ستينياتها الذهبية، إلى أرخبيلات زنجبار وقرنفلاتها العطرة، فإلى قلب العالم الجديد فى بلاد العم سام. فى عام ١٩٣٩، أطلق محمد المكى إبراهيم صرخته الأولى فى ضواحى مدينة الأبيض، عاصمة إقليم كردفان غربى السودان، وقتها كانت مدافع الحرب العالمية الثانية تهزّ أركان الدنيا. نشأ فى تلك المدينة التى كانت، شأنها شأن مدن سودانية عديدة، بوتقة للتمازج الثقافى والتسامح الدينى، ومقصدا لتجار المحاصيل والمواشى من العرب والأوروبيين، حيث تعانق مآذن المساجد أجراس الكنائس فى مشهد نادر. ويقول شاعرنا، مستعيدا حنين تلك الأيام، إنه عمل مع والده فى الزراعة وتربية المواشى، ما زرع فى وجدانه ارتباطا أصيلا بالأرض وتقلبات المواسم. محمد المكى إبراهيم تلقى تعليمه الأولى فى الأبيض، ثم التحق بمدرسة خورطقت الشهيرة، إحدى أعرق ثلاث مدارس وقتها، وهناك بزغت موهبته الشعرية مبكرا، حيث أبدع فى الجمعيات الأدبية. ومن خورطقت اتجه صوب جامعة الخرطوم، طالبا بكلية القانون فى ستينيات القرن الماضي؛ ذلك العقد الذى وُصف بأنه زمن النجوم اللامعة فى السياسة والفكر والفن والرياضة، بل وحتى فى التمرد، إذ كانت له وسامة تشى جيفارا ومثاليته. كان السودان آنذاك حديث الخروج من براثن الاستعمار، ولم تمضِ سوى أعوام قليلة حتى تسلّطت قبضة العسكر على الحكم، فأطاحت بأول تجربة ديمقراطية فى انقلاب ١٩٥٨. فى أروقة جامعة الخرطوم، وجد محمد المكى إبراهيم مشهدا ثقافيا صاخبا، وزامَل الشاعر النور عثمان أبكر، ليكونا معا نواة جماعة «الغابة والصحراء»، التى تحوّلت لاحقا إلى تيار فكرى وأدبى بارز، انضم إليهم من غير بعيد محمد عبد الحى، صاحب رائعة «العودة إلى سنار»، وغيرهم ممن سعوا للإجابة على السؤال الأزلـى: من نحن؟ فى وطن أفريقى تتجذر فيه الثقافة العربية. ثم اندلعت ثورة أكتوبر عام ١٩٦٤، وكانت جامعة الخرطوم شرارتها الأولى، مصبوغا بدم القرشى طالب الجامعة وشهيد الثورة الأول. فجادت قريحة محمد المكى إبراهيم بالجزل النادر، وسطع نجمه كأحد شعراء الثورة، وتم تتويجه بـ«شاعر الأكتوبريات»، بقصائده التى خلدت تلك اللحظة الفارقة، وعلى رأسها «أكتوبر الأخضر»، التى لحّنها وأداها بلحنٍ خالد الموسيقار السودانى الكبير محمد وردى (١٩٣٢–٢٠١٢)، فارتفعت بها هامات جيلٍ بأكمله، وما زالت تتردد فى جنبات الذاكرة الوطنية كل ما حان وقتها. الحقول اشتعلت قمحًا ووعدًا وتمنّى والكنوز انفتحت فى باطن الأرض تنادى باسمك الشعب انتصر حاجز السجن انكسر والقيود انسدلت جزلة عرسٍ فى الأيادى كان أكتوبر فى أمّتنا منذ الأزل كان خلف الصبر والأحزان يحيا صامدًا منتظرًا فى العام ١٩٦٥ وجامعة الخرطوم تدخل فى عطلة طويلة، يغادر داخلية الطلبة هو ورفيقه النور عثمان بابكر ملبيا دعوة زميلهم محمد عبدالحى للاقامة خلال فترة عطلة الجامعة معه بمنزل جدته، بدلا عن السفر إلى مسقط رأسيهما، فيستثمروا تلك الفترة فى تأسيس تيار شعرى جديد هو تيار الغابة والصحراء، ويعكف محمد المكى ذو الخمس وعشرين ربيعا فى تأليف كتابه الأول (الفكر السودانى.. اصوله وتطوره) والذى نشرته (مطبعة ارو التجارية) فى طبعته الأولى ١٩٧٦ والثانية ١٩٨٩م، يقول الباحث السودانى محمد الجيلانى لكاتب المقال، انه أول تأسيس نظرى لفكر سودانى، ود المكى فى كتابه هذا تتبع أصول الثقافة السودانية، الميلاد الحقيقى للثقافة العربية فى السودان يبدأ بعهد الفونج ١٥٠٥-١٨٢١. يقول فى كتابه (ولكن هذا لا يعنى أن العربية لم تدخل السودان إلا مع ذلك العهد لأنه ثابت أن الثقافة العربية اكتسبت مكانها المشروع بين ثقافات السودان فى طليعة الغزو وليس على أعقابه، فقد تسربت مع قوافل الحجيج. وفى إخراج التجار وحقائب الدعاة والمسافرين وعلى الدوام كان المسجد يقام والاذان يدوى فى ممالك السودان المسيحية لتأتى على صداه جحافل الفتح العربى بل إن تاريخ الثقافة العربية فى السودان يضرب فى أعماق التاريخ إلى بعد أعمق من ذلك يعود إلى ما قبل الإسلام وإلى أيام الخلفاء الأوائل، ولكن تلك البواكير لم تخرج عن مستوى اللقاء العابر إلى مجالات التأصل والترسيخ) كما أصدر «بين نار الشعر ونار المجاذيب - حياة وشعر محمد المهدى المجذوب»، «ظلال وأفيال»، و«فى ذكرى الغابة والصحراء». خلال سنوات الجامعة، انقطع شاعرنا عن الدراسة، لفترة عام أو يزيد قضاها فى ألمانيا، برفقة زميله فى تأسيس جماعة الغابة والصحراء الشاعر النور عثمان بابكر، هذه الرحلة بحسب شاعرنا كان لها الأثر البالغ فى الانفتاح الإيجابى نحو العالم، وازداد بحثًا فى موضوع الهوية، وعند أوبته لاستكمال دراسته الجامعية ونيل إجازة الحقوق، استمرت أعماله الشعرية فى الانهمار. ديوان (أمتي) هو الأول لشاعرنا، ويقول تخلصت من قصائد كثيرة، من بينها قصيدة يعرفها من حولى، وهم مغرمون بها جدًا، تعرضت فيها بالهجاء لشعراء العرب الصعاليك مثل عروة بن الورد والشنفرى الأزدى، والسليك بن السلكة وغيرهم، وضم قصيدة (قطار الغرب) التى كتبها أثناء فترة دراسته الثانوية فى مدرسة (خور طقت)، مستدعيا فيها الماضى مع الحاضر، راسما ملامح الشخوص فى رحلة القطار ومصورا اعتلاجات النفس البشرية، وذلك خلال رحلة القطار من مدينة الأبيض عاصمة كردفان إلى الخرطوم عاصمة البلاد. للفنة البيضاء عليها الاسم باللون الأبيض باللغتين، عليها الاسم هذا بلدى والناس لهم ريح طيب بسمات وتحايا ووداع متلهِّب كل الركاب لهم أَحباب هذه امرأة تبكى هذا رجل يخفى دمع العينين بكمام الجلباب: «سلم للأهل ولا تقطع منا الجواب» وارتجَّ قطار الغرب، تمطَّى فى القضبان ووصايا لاهثة تأتى وإشارات ودخان وزغاريد فهناك عريس فى الركبان ثم صدر ديوانه الثانى (بعض الرحيق أنا.. والبرتقالة أنت) والذى غاص فى بحار اللغة ليخرج بتعبير (خلاسية)، فى اجتهاده فى قضية الهوية السودانية بين الأفريقانية والعربية، وذلك فى القصيدة التى حمل اسمها الديوان، وهى الأشهر فى جيلنا وحتى الآن يتداولها الشباب. وثالث ورابع دواوينه (يختبئ البستان فى الوردة) ١٩٨٤م، (وفى خباء العامرية) ١٩٨٨، وهنا انقل كلمة الشاعر السودانى (حاتم الكناني) فى احتفال تكريم منتدى دال الثقافى – رد الله غربته ورد لنا بلادنا التى نحب - والكلمة عن تأثير الديوان على الشعراء. (حين وقعت فى يدى المجموعة الشعرية (يختبئ البستان فى الوردة) للشاعر محمد المكى إبراهيم، كنت فى مقتبل الشعر، وكانت ذاكرتى شديدة الحفظ والتأثر والميل إلى تقليد عيون الشعر العربى القديمة والحديثة، ولم تنهض بعدُ قريحتى لتستوعب الخدش الذى تسببت فيه قصيدة التفعيلة من لدن الكأس التى تحطمت لعبد الله الطيب واجتراحات السياب وصلاح عبد الصبور، ونازك الملائكة وقضايا شعرها الحر. كان التقليد حد التمدرس الذاتى على كتابة القصيدة يبرز أولًا فى كتابتى، حتى أن ذلك ليبدو جليًا حين قرأنى أبناء جيلى فى الشعر فى أوائل الألفية والقصيدة لدى شاعرنا محمد المكى شاملة للحسنيين: تحتفى بالبساطة العميقة، وفى قاعها تشكيلة من الكائنات البحرية، وعلى السطح تبدو مرآة الواقع عاكسة وجه الشعر والشاعر والحياة. أزعم أن لى نسبًا شعريًا ينتمى للخؤولة مع قصائد شاعر محمد المكى، والخؤولة، لو علمتم، جنس من الأمومة لكنها مُذكّرة. وأزعم أيضًا أن تأثير (يختبئ البستان) – رغم أنه نقطة من بحر محمد المكى – لم يزل حتى الآن يطبع تصورى الشخصى عن كتابة الشعر. أظن أن أول أثر تركته المجموعة هو عنوانها الخافق بأسرار الوردة: يختبئ المُعقّد فى البسيط، والكثرة فى الوحدة، والتنوع فى الجنس الواحد، مما أشرت إليه فى هذه العجالة الاحتفائية: تختبئ الأشياء فى وجودها والأرض فى حدودها وتسكن المعانى أسماءها المشجرة. تبدأ المجموعة برثائية رقيقة لأحد أعمدة الشعر السودانية فى القرن العشرين – محمد المهدى المجذوب – مرورًا بــ(مدينتك الهدى والنور) – متلبسة بإيقاع المدائح النبوية فى السودان – وتنتهى بالقصيدة التى اجْتُرح منها العنوان، وهى تمثيل لفكرة المجموعة وفلسفة الشاعر فى الكتابة والنظر إلى الحياة. تساؤل القصيدة الواقع بحرارة). ستقولون باسم الإله الرحيم انتضينا السيوف لنعملها فى زمان الجهالة وأسائلكم: أين صك الوكالة؟ من أقامك يا حامل السيف ربا على الناس والله حى يدبر أمرًا ويمكر مكرًا كبيرًا تعالى عقب تخرجه عمل فى مهنة القضاء الواقف لحوالى عام، قبل أن يلتحق بالسلك الدبلوماسى وينتقل إلى وزارة الخارجية، مترقيًا فى سلم العمل، متنقلًا فى محطات عدة، منها مكتب مندوب السودان فى الأمم المتحدة، وفى سفارة السودان بالمملكة العربية السعودية، وفى مملكة السويد، ثم سفيرًا فى براغ، وانتقل إلى باكستان، وأخيرًا الكنغو فجادت قريحته بقصائد أطلق عليها (الزنزباريات) كناية عن (زنزبار)، بعد انقلاب البشير عام ١٩٨٩ ضيق عليه فى عمله، فهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فى سبتمبر ٢٠٢٤، أسدل الجفن للمرة الأخيرة بقاهرة المعز التى وصل إليها بعد اندلاع الحرب فى السودان تعكف لجنة قومية لإقامة ليلة كبرى فى الرابع من مايو القادم بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، تخليدًا لذكرى شاعر الأمة السودانية صانع مجدها وموثق معاناتها وانتصاراتها، وهو القائل: من غيرنا يعطى لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصرْ من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدةَ والسيرْ من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمةْ جيل العطاءِ المستجيش ضراوة ومصادمةْ المستميتِ على المبادئ مؤمنًا المشرئب إلى السماء لينتقى صدر السماءِ لشعبنا جيلى أنا

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store