١٥-٠٣-٢٠٢٥
كيف للفيزياء أن تلتقي بالثقافة؟
لطالما سحرني بجاذبيته، وكأنني أدخل في حفرة الأرنب كما يقولون، فيتغير المكان والزمان عندما تطأ قدماك المساحة المحيطة بمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خلفية للثقافة والبحوث بالمحرق في مملكة البحرين. تفاصيل المكان الممزوج بين التراث والثقافة والفن، ذلك المزيج الفتّان، يجعلك تندمج فيه طوعًا، وتضع كل ما على كاهلك، كل ثقل، لتُفرغ كل حواسك لتجربة لا تراها إلا عند ذلك المركز لا سواه. وكم أخذ ذلك المكان قلوب العاشقين للفكر والثقافة والتراث، فلا عجب أن يكون محط رحال المفكرين والباحثين والمثقفين والكتّاب والفنانين.
قام أحد الإخوة بمشاركتي محاضرة ستُقام بهذا المركز، وما شدني عنوان المحاضرة: 'المظهر الجيد، ما هو دور إدارة العلامات التجارية في المنظمات الدولية، خصوصًا في CERN؟' للسيدة فابيان لاندوا، وهي المشرفة على تصميم هوية معهد 'CERN'، وواضعة أُسس التواصل البصري الخاص بهذا المعهد. يكون التحدي مختلفًا للعاملين في مجال صناعة الهويات البصرية، وكذلك الخائضين في مجال رسم الاستراتيجيات للعلامات عند الحديث عن مواضيع النخبة، لكن هذه المرة ليست نخبة المنتجات أو الخدمات، لكنها نخبة العلم والعلماء، وفي أحد أكثر حقول العلم تعقيدًا، وهو 'فيزياء الجسيمات'.
كانت تجول بخاطري عشرات الأسئلة، حول كيفية صناعة العلامة لهكذا مشروع علمي، حتى دخلت في نفق الزمكان بعد المحاضرة، لتتكشّف لي عوالم جديدة كنت أقرأ عنها من قبل لاهتمامي بالعلوم.
لكنني كنت أقرب إليها هذه المرة بشكل مُذهل، وما زاد دهشتي أن يكون كل ما رأيته يأتي من 'مركز مهتم بالثقافة والبحوث' في مدينة المحرق!.
فقد فتح المركز بُعدًا آخر لامتداد تأثيره ليتعدى موضوع الفكر والثقافة لتدخل العلوم ضمن معادلة صناعة التغيير.
رحلتي هناك كانت بمعية الدكتور المخضرم محمد مصطفى المدير العلمي للمركز، وتخصصه فيزياء جسيمات أولية، وهو من العلماء العرب القلائل ممن استفاد من أبحاثه مركز 'CERN'!
فما هو مركز 'CERN'؟
'CERN' واحد من مراكز الأبحاث الرائدة في العالم للفيزياء الأساسية، والذي تأسس في 1954 من قبل 12 دولة أوروبية، وعدد الأعضاء 22 دولة و6 دول كأعضاء منتسبين.
حيث يوفر مصادم الهادرون الكبير LHC في CERN البنية التحتية للعلماء لاكتساب معرفة أكثر عن أصغر مكونات المادة وتفاعلاتها، وأصل ومنشأ وتطور الكون. ويعمل فيه أكثر من 16 ألف عالم من أكثر من 110 جنسيات مختلفة، ويعمل فيه حوالي 70 % من علماء فيزياء الجسيمات في العالم، مع واحدة من أكبر المسارعات العلمية في تاريخ البشرية. مع استخدام أكثر الأدوات تعقيدًا.
لم يكن الأمر بالنسبة لمركز الشيخ إبراهيم متمثلًا في سمو الشيخة مي آل خليفة، مجرد استعراض لهذا المركز وما يهدف إليه، بل كان الأمر أكبر من ذلك بكثير، وهو تمكين المعرفة عبر الترابط مع أحد أكبر مراكز الأبحاث تعقيدًا في العالم، وما يتبعه من رفع مستوى علمي هائل ومتقدم جدًّا على مستوى العالم.
بوابة للتمكين المعرفي
فعندما تتجوّل في معرض 'CERN' الثابت التابع لمركز الشيخ إبراهيم، لن تقتصر رحلتك على السفر عبر الزمان والمكان والعلوم فقط، مع حرفية في التقديم وجمال في الإخراج وذكاء في التجربة في ذلك المكان، إنما الأمر يتعدى لتمكين روّاد العلم من الطلبة في المدارس الثانوية والجامعة للالتحاق بالتدريب في مركز 'CERN' بذاته في فرنسا!
يعد تعليم الباحثين جزءًا أساسيًّا من تأثير 'CERN' على المجتمع، حيث يتم تسجيل أكثر من 2400 طالب دكتوراه ويتم الانتهاء من 600 رسالة دكتوراه كل عام. ونسبة الحصول على وظيفة لخريجي هذا المركز مرتفعة في شتى المجالات.
لترى مسارات علمية جديدة رفع مستواها مركز الشيخ إبراهيم بالتعاون مع مركز 'CERN' من خلال مخرجات طلبة من البحرين، آتت أكلها بسرعة، من حيث عدد من تم ابتعاثهم وزيارتهم إلى هذا المركز، فضلًا عن إضافة نوعية من طلبة جامعة البحرين بالتعاون مع شركة البا في المساهمة ببناء رافعة كهربائية خاصة لإحدى الأدوات الضخمة لمصادر الهادرون الكبير LHC.
بطاقة الابتكار ونقل المعرفة من مركز 'CERN'
تطور سيرن أحدث التقنيات في 18 مجالًا مختلفًا، من بينها:
- ابتكار تقنية شاشة اللمس.
- من أكبر منتجي البيانات الضخمة في العالم WLCG، وذلك من التصادمات بطاقات عالية جدًّا.
- تطوير مسرعات خطية مصغرة للعلاج بالبروتون، لمعالجة الأورام.
- تطوير الماسح الضوئي PET المستخدم في التصوير الطبي.
- تطوير حساب جرعة الإشعاع الدقيق لأنظمة تخطيط علاج السرطان والتطبيقات الفضائية.
هذا فضلًا عن دورها في الجانب العلمي الاقتصادي بتطوير فيزياء الجسميات لتخزين البيانات وتحليلها، والتعاون مع شركات كبرى مثل Intel, Huawei , Oracle, Siemens.
إضافة إلى مساهمة مركز 'CERN' في ريادة الأعمال عبر تسعة مراكز احتضان الأعمال BICs للمساعدة في استخدام تكنولوجيات سيرن المبتكرة من المفهوم التقني إلى واقع السوق في مجالات التكنولوجيا الحيوية وعلوم المواد.
صناعة الأثر
ما فجّر ذهولي هو قدرة مركز الشيخ إبراهيم على جلب هذه المعرفة وتمكينها لا بشكلها التقليدي عبر التعريف والتسويق لمركز 'CERN' بمحاضرات فقط، إنما استدامة معرفية من خلال بعثات وزيارات للعبة والدارسين والباحثين لهذا المركز العلمي الفريد من نوعه، ليكون الأثر ممتدًّا، وقطافه ناضجة ونتائجه ملموسة، عبر تمكين الشباب البحريني من تلك المعرفة والتجربة ليزداد في رصيدهم، وقد حصل بعضهم على درجة دكتوراه، وآخرون حصلوا على فرص للعمل في شركات عالمية.
تجربة معرفية لا مثيل لها
نحن نتحدث عن أعقد العلوم ومن أكثر المراكز العلمية تقدمًا في العالم، وقد افتتح معرض دائم له في البحرين، لتكون البحرين أول دولة خليجية تقوم بذلك.
ويمتد الأمر للتدريب والزيارات، كل ذلك تحت مظلة مركز الشيخ إبراهيم الذي يصنع خارطة معرفية تتعدى مساحته الجغرافية الصغيرة.
ما يعمله مركز الشيخ إبراهيم هو تمكين معرفي بانتخاب ذكي وفريد لمجاله، مع فتح نفق الزمان للشباب البحريني والباحثين للانطلاق عبر بوابة هذا المركز بالمحرق إلى آفاق علمية لاكتشاف الكون من خلال علم متقدم وتقنية قلّ مثيلها في العالم، لرفع سقف الاستحصال العلمي عاليًا جدًّا.
وكأنّني أتخيّل هذا المركز قاطرة بسرعة الزمن، تدعو الآخرين للحاق بركب العلوم والمعرفة، وتسريع وتيرة الاستفادة المثلى من هكذا مراكز علمية هائلة.
كان دخولي دومًا لمركز الشيخ إبراهيم لحفرة الأرنب كما فعلت أليس في بلاد العجائب، إلا أنه بعد محاضرة السيدة فابيان لاندوا، وزيارة مركز 'CERN' بمعية الدكتور الفريد محمد يوسف، فإن دخولي بعد ذلك لمركز الشيخ إبراهيم سيكون مثل دخول نفق الزمكان.
حينها أدركت كيف يمكن للفيزياء أن تلتقي بالثقافة، فالثقافة فعل فكر، يمكنه التزاوج العفوي مع فعل علم وتجربة كالفيزياء.