logo
#

أحدث الأخبار مع #إبراهيمسنوبيأحمد،

'الخرطوم'.. خمس قصص إنسانية خرجت من رحم الثورة
'الخرطوم'.. خمس قصص إنسانية خرجت من رحم الثورة

الجزيرة

time٢٨-٠٤-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • الجزيرة

'الخرطوم'.. خمس قصص إنسانية خرجت من رحم الثورة

لبعض الوثائقيات سحر غامض، يصيب متلقيها بفضيلة الطمع المعرفي، بحثا عن إضافة علمية، يستكمل بها بقايا الصورة، التي قد تحتاج في بعض الأحيان إلى لمسات من الرتوش التوضيحية. نجد قبسا وفيرا من تلك الفتنة السحرية في الفيلم الوثائقي السوداني الهوى والهوية 'الخرطوم' (2025)، الذي اشترك في إخراجه إبراهيم سنوبي أحمد، وتيماء محمد، وراوية الحاج، وآنس سعيد، وفيليب كوكس، وقد عُرض عرضه العالمي الأول في مهرجاني 'صاندانس' بالولايات المتحدة، وبرلين السينمائي بألمانيا. ورافق أجواء العرض جدل صاخب فنيا وسياسيا، ولا ينبع ذلك الضجيج من رؤية فنية جذابة فحسب، بل من القدرة على الإمساك بتلابيب الواقع، وصهر مكوناته الصلبة، في مزيج بصري، لا يخلو من طرح جريء لإشكاليات المشهد السوداني الراهن، المحمل بكثافة معتمة، تخفي خلف ظلامها الدامس كمًّا لا بأس به من التشابكات المعقدة. ترى ما الذي يجري في السودان ولا تلتقطه أعين الكاميرات؟ من هذا السؤال، يغزل الفيلم خيوطه السردية، القائمة على 5 حكايات منفصلة ومتصلة في الآن ذاته، تدور جميعا في فلك توابع التناحر السياسي المستعر الأوصال بين الجيش السوداني من جهة، وقوات الدعم السريع على الناحية الأخرى، وذلك على خلفية إزاحة القوى العسكرية نظام الرئيس عمر البشير في أبريل/ نيسان 2019. وبناء على ما ذكرنا، قد يبدو الفيلم -على المستوى الظاهري الملموس- مهموما بالتعبير عن مآلات هذا الصراع السلطوي، وهذا صحيح بدرجة كبيرة، لكن ثمة رؤية أخرى ينسج السرد خيوطها بدأب مستتر، ويمكن حصرها بين جدران الحلم الإنساني المشروع في الحياة، الذي يعيد صياغة الأمل مرة أخرى، بعد طول سبات. وهل تعود الروح إلى الجسد الميت؟ شذرات سردية تشكل فسيفساء الصورة للوصول إلى إجابة يقينية للسؤال الذي ذكرنا، ينبغي أن ننظر إلى رقعة الفيلم السردية (80 دقيقة)، ويقوم بنيانها المعماري على التنقل بخفة وسلاسة بين شخصيات الفيلم الخمس، حيث يسهب كل منهم في وصف مسار حياته السابق، وتوقعاته وأمنياته للاحق منها. وهكذا نصبح أمام سردية متسعة الأرجاء، تكشف ما تيسر من وقائع وأحلام، تشكل بمجموعها صورة واقعية صادقة عن المجتمع السوداني الحالي، بكل تشعباته وانتماءاته المتباينة الاتجاهات والرؤى. فالمشاهد الأولى من الفيلم تؤجج هذا المعنى وتعززه، إذ تطالعنا على الشاشة لقطات متفرقة، تظهر شخصيات الفيلم أثناء الاحتجاجات الشعبية على استبداد السلطات العسكرية الحاكمة يومئذ. ثم ننتقل إلى المشهد التالي، فنرى الأبطال الخمسة أثناء جلوسهم معا؛ وهم الشاب جواد الذي وهب حياته لمساعدة ضحايا النزاعات مع العسكر، والسيدة خادم الله بائعة المشروبات الساخنة في شوارع العاصمة الخرطوم، ثم الطفلان 'ويلسون' و'لوكين' العاملان بجمع الزجاجات البلاستيكية من فضلات القمامة، وآخرهم مجدي الموظف الحكومي. وهكذا نصبح أمام نسيج متجانس الأعمار والخلفيات الثقافية والعرقية، ينتقل الحكي بينهم، فيعرض قطعة من هذه الحكاية، وأخرى من الزاوية المقابلة، حتى تجتمع عناصر لوحة الفسيفساء السردية، التي تزيح بتواصلها معا كثيرا من الغموض عن تفاصيل العمق السوداني. ثم تصحبنا الكاميرا إلى مشهد الفيلم الأيقوني، فنرى الأبطال الخمسة يقفون أمام شاشة المؤثرات البصرية (الكروما)، ثم ينطلق شريط الصوت بالنشيد الوطني، وشريط الصورة يعرض مشاهد من التاريخ القديم أو المعاصر. فالفيلم يقدم سرديته متكئا على رصيد تقليدي وآخر حداثي، يضيف كثيرا إلى تجربة المشاهدة ذاتها، فيتداخل ما وراء الكاميرا مع ما أمامها، وكأننا نشاهد فيلما بداخل آخر، وذلك كسر مقصود للإيهام، يتواءم قطعا مع هوية الفيلم الوثائقية. هذا على مستوى معمارية الفيلم، أما ما يسكن هذا البناء من أفكار، فإن السؤال عن ماهية الخيط الرفيع الذي يجمع بين تلك الطوائف المتباينة، لا يكفّ عن طرق آذهاننا طوال المشاهدة، فما الذي يجمع بين هذا وذاك؟ شعب بين المطرقة والسندان قبل أن يجيب السرد ذلك التساؤل، يقدم ما يمكن أن نسميه تمهيدا أو مدخلا لقراءة الأحداث، فيخبرنا أن أكثر من 10 ملايين سوداني، فروا بحياتهم من جحيم الاشتباكات المستعرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، بعد رفضها المثول لتعليمات الجيش، وهنا أصبح الطرف المضاد عدوا، يستوجب قتاله وإزاحته من المشهد، وأصبحت البلاد على إثر هذا التعنت ساحة مفتوحة للعراك العسكري. ونتيجة لهذه الصراعات السيزيفية، أصبح المواطن السوداني محاصرا بين سندان هذا الجانب ومطرقة الجانب الآخر، وأصبح خيار الهروب هو الحل الأمثل، وبذلك تُشكل تلك الجحافل الخائفة تغريبة جديدة، لا تبدو لأفقها نهاية مرتقبة. وعند هذه النقطة، يمكن الوصول بمنتهى السهولة واليسر إلى السبب الجوهري لاجتماع هؤلاء الشخصيات معا، فالأزمة وما يرافقها من حنين مؤلم للعودة إلى الوطن، كلها معطيات منطقية تجمع تحت ظلالها هؤلاء الناس، الذي لا همّ لهم سوى العودة إلى مرافئهم الأولى. ترافقنا الكاميرا في جولة حرة، نرى فيها أبطالنا، كل منهم يواجه الكاميرا، وكأنه يرى ذاته المنعكسة في المرآة، يطلق قذائف مخاوفه ويفصح عن آماله، فالواقع أن بنيان الفيلم السردي قائم على ثنائية الألم والأمل، وكلما ازداد توغلنا في السرد، تنجلي هذه الحقيقة على نحو أكثر إيضاحا. آمال مشروعة تحاصرها المخاوف كانت البداية مع جواد، وهو شاب يعيش الآن في العاصمة المصرية القاهرة، ويعمل في مطعم لإعداد الوجبات الشعبية السودانية، ويسهب معبّرا عن خوفه التلقائي من أن يصبح لاجئا. أما خادم الله، فلا تخشى شيئا، فقد اقتصر خوفها على مصير ابنتها، ودفعها للهجرة الطوعية إلى نيروبي، التي لجأ إليها الطفلان 'ويلسون' و'لوكين' أيضا، وتلك نتيجة تلقائية لانخفاض منسوب الأمان، فالعمل والحياة في خضم شارع مهتاج بالثورة، لا يبشر بسكينة أبدا. أما مجدي الموظف الهادئ الطباع، فلا يرغب إلا في لملمة شمله المبعثر مع ولده وزوجته البعيدين عنه في مصر. وهكذا يصبح المتفرج أثناء المشاهدة، هو المتلقي الطوعي لهذا الكم الذي لا نهاية له من المخاوف، وما يصاحبها من آمال مشروعة بحياة أفضل، وحتى تصبح جلسات البوح تلك مكتملة الأركان، لا بد من الرجوع إلى الوراء قليلا، حتى تتكشف عناصر الصورة كاملة. ملامح ما قبل الثورة وما بعدها بالنظر إلى خريطة الفيلم الزمنية، نجد أنها لا تسير وفق وتيرة زمنية واحدة، بل تنطوي على أزمنة عدة، فقد انطلق فريق الإخراج في التصوير قبل اندلاع شرارات الحرب، فأصبحت حصيلة المادة المصورة جزءا أصيلا من بنيان الفيلم، وتحت ضغط اشتعال الأوضاع، اضطر صناع العمل وأبطاله إلى استكمال التصوير خارج السوادن، كل بحسب منفاه الاختياري الجديد. لذلك يمكن القول إن النسيج الفيلمي يحتوي على الزمن الآني، أي وقت تصوير مشاهده الحالية بعد مغادرة السودان، بالإضافة إلى ما قبل الرحيل، وأحيانا يُدعم هذا النسيج بشذرات أخرى عن الماضي القريب مما قبل ثورة 2019، وبذلك نصبح أمام صورة بانورامية للسودان خلال السنوات الماضية. ولا يسير هذا المسار الزمني وفق أسلوب خطي، بل يعمد إلى الالتواء والتعرج، فلمحة من الحاضر وأخرى من الماضي، وهكذا بلا حاجة إلى ترتيب مسبق، فالمعني من هذه الحالة الشعورية هو التعبير عن أحلام الشخصيات وآلامها، وتقديم صورة متسعة عن تاريخ المكان. ولتكتمل حدود التجربة، يلجأ الأسلوب الفني إلى إعادة صياغة الأحداث، بتوليفها إلكترونيا بتقنية الخلفية الخضراء (الكروما)، فالذكريات يعاد تدويرها وصياغتها مرة أخرى، فكل منا له شريحة عقلية ذاتية التذكر، يحفظ في تلافيفها الماكرة ما يكفي ويفيض من الذكريات الحسنة والمؤلمة على حد السواء، مثلما يقول فنان السينما المخرج الروسي 'أندريه تاركوفسكي': الإنسان موهوب بذاكرة تثير فيه الإحساس بالاستياء وعدم الرضا، إنها تجعلنا سريعي التأثر، وعرضة للألم. هنا الاشتغال الواضح على ما تطمره ذكريات هذه الشخصيات بكل ما بها من مرارة وألم، وحجر أساس الذكريات التي يستند عليها هذا التعاطي، يعود إلى إعادة تسجيل اللحظة الحاسمة، التي دفعتهم إلى المغادرة بعيدا، ومن ثم نصبح أمام حدث محفز بالمعنى الدرامي، أي الحدث الذي يؤدي تلقائيا إلى تبدل المسار الدرامي. وحينها تتباين تلك اللحظة من إنسان لآخر، فخادم الله التي عاصرت مقتل أحد المواطنين بغتة بأيدي أحد عناصر قوات الدعم السريع، وكذلك مجدي الذي أخفى سلاحه الحكومي، بعيدا عن أعين الميليشيات المتلصصة، إضافة إلى ما عاصره الطفلان 'ويلسون' و'لوكين' من قهر واضح المعالم. في ظلال تلك الأوضاع الملبدة بالحصار، هل من رجاء في جديد أفضل؟ قوة داخلية تشعل فتيل المقاومة يخبرنا التاريخ أن الكاتب الفرنسي 'فيكتور هوغو' أثناء مكوثه القسري في المنفى، حاول مرارا استعادة قدرته على الكتابة، حتى طاوعته يده مرة أخرى. وأما روائي روسيا الأبرز 'فيودور دوستويفسكي'، فحين أصابه ذلك خانته قواه، وانزوى في البعد، منتظرا عودته إلى وطنه. ولنا أن نقيس تلك التجارب على وقائع شخصيات فيلمنا، ففي داخل منهم قوة تعينه على استكمال حياته، بالطريقة التي يراها مناسبة وموائمة للمرحلة الحالية. ومن ثم نصبح أمام إجابة راسخة اليقين للسؤال السالف ذكره. وبنظرة واسعة المدى على تطورات حياتهم، يمكن الوصول إلى صيغة تفاهمية بشأن هروبهم، فالحقيقة أن ما قد يظهر للبعض أنه هروب أو انسلاخ طوعي عن المكان، ما هو إلا فعل مقاومة، فليس الهروب إلا إعادة تعبئة لوقود الحياة، الشحيح مصدره في أمكنتهم، لذا فإن البحث عن مكان جديد ملائم، أشبه بإعادة شحن لبطاريات الحياة النافذة. وعندئذ يمكننا الوصول إلى مفتاح فهم الفيلم وقراءته، وهو يقع بين حدود قوة الحياة وجاذبيتها، التي تبطن دوامتها المهلكة قوة مغناطيسية وافرة الجاذبية، تُمد من يقع في دائرة تأثيرها بالشحنات اللازمة للاستكمال والمواصلة، وبتطبيق تلك المقولات النظرية على أبطالنا الخمسة، نكتشف صحة معطياتها. فمجدي الذي أحب الحمام الزاجل، واحترف صيده وتربيته، ما يزال يواصل ممارسة هذه الهواية الفريدة مع ابنه، بعد أن التأم شملهما. وكذلك جواد وأسرته، يواصلون حياتهم بطريقة أو بأخرى، في انتظار ورود اللحظة المناسبة للعودة. أما خادم الله فقد أنشأت مشروعا لتقديم المشروبات الساخنة في العاصمة الكينية نيروبي، وهي المدينة التي تحتضن كذلك 'ويلسون' و'لوكين' مع أوصيائهما. فالواقع أن الشخصيات لديها من الطاقة والإصرار ما يكفي ويفيض للاستمرار والمقاومة، ولا تأتي تلك القدرة من خلفية ذاتية فحسب، بل إن للمكان أيضا سلطة روحية، تلقي بأطيافها الخفية على أبطالنا، فإذا كان الابتعاد القسري في الماضي هو الاختيار المثالي، فإن مقومات المكان الداخلية ما تزال حية، ولا يدرك كنهها إلا من خبر قبسا منها. وفي هذا السياق، يطالعنا جواد مرة أخرى، معبّرا بفرح طفولي عن إحساسه بالفخر بجنسيته السودانية، وتحديدا بعد نجاح الثورة الشعبية في إزاحة السلطة الديكتاتورية للرئيس البشير، فالحقيقة التي لا تقبل الشك أو التأويل، هي أن الجميع يترقب الفرصة الملائمة للعودة، التي لا يدرك أحد متى موعدها على وجه الدقة، وفي الانتظار مقاومة. 'وجه قناص تالف وسلاح وممحاة قد تزيل الوطن' يُتصور دوما أن الصراع الدرامي لا ينشأ إلا في حضرة الأفلام الروائية أو الخيالية فقط، لكن الحقيقة أن الحياة ذاتها ما هي إلا دراما طويلة الأجل، تتضمن قدرا وفيرا من الصراعات الرئيسية أو الفرعية، وبما أن الفيلم الوثائقي، يرصد في مجمله قصة واقعية، فإن الوثائقيات أيضا لها صراعاتها، التي تعمل على رصدها وتقديمها، وكل بحسب أسلوبه. وبالعودة إلى فيلمنا، يمكننا تحديد موطن الصراع، وتقوم أركانه حول الرغبة في الانتقال المشروع من الهامش إلى المتن، ولا يكتمل ذلك إلا بالعبور إلى الناصية المقابلة، وتحقيق الحلم المرجو. قد تبدو تلك الفكرة مراوغة في بسطاتها، لكنها تتضمن قدرا ميسورا من التعقيد، ولتقديم صياغة مثالية عنها يطعم الأسلوب الإخراجي السياق العام بلمسات عفوية صادقة، تغلف النسيج الفيلمي بحساسية وشاعرية ملموس مذاقها، مما يضفي على التجربة قيمة مضاعفة، قوامها ليس المحتوى الفكري المشتبك مع محيطه فحسب، بل القدرة الآسرة على التعبير عن واقع ملتبس بالضباب، وإحالته إلى مرآة صافية خالية من الشوائب. وفي إطار متقارب يقول الكاتب والشاعر السوداني أمير تاج السر: 'لا شيء يقتل فعلا سوى وجه قناص تالف وسلاح وممحاة قد تزيل الوطن'. وما صراعات أعضاء الجسد الواحد، إلا وحش فاغر فاه، لا يلتهم في حقيقة الأمر سوى ذاته.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store