#أحدث الأخبار مع #إدغارموران،البلاد البحرينيةمنذ يوم واحدعلومالبلاد البحرينيةالعلوم الطبيعية والإنسانية - توأمان في رحم الحضارةيشهد الخطاب الأكاديمي المعاصر محاولات متكررة لرسم حدود فاصلة بين ما يُسمى بالعلوم الطبيعية (الفيزياء، الكيمياء، الأحياء) وما يُعرف بالعلوم الإنسانية (الفلسفة، التاريخ، الأدب، علم الاجتماع). غير أن هذا الفصل المصطنع يتجاهل حقيقة أساسية: أن العلاقة بين هذين المجالين علاقة جدلية عميقة (Dialectical Relationship)، تقوم على التأثير المتبادل والتكامل المستمر، ولا يمكن لأيٍ منهما أن يتطور بمعزل عن الآخر. إن محاولات الفصل بينهما تعكس نظرة اختزالية للمعرفة (Reductionist View of Knowledge) لا تستوعب تشابك مجالاتهما وتداخل أبعادهما في تفسير الوجود الإنساني والكوني. يقول إدغار موران، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي: "المعرفة الحقيقية لا تنقسم إلى أقسام، بل هي منظومة تفكير معقدة تدرك الترابط بين الأشياء والظواهر." هذه الرؤية للمعرفة كنسيج متكامل تتعارض مع النزعة التجزيئية (Fragmentary Tendency) التي سادت الأوساط الأكاديمية لعقود طويلة. تتخصص العلوم الطبيعية في فهم قوانين الكون وتفسير الظواهر المادية من حولنا، مستندة إلى المنهج التجريبي (Empirical Method) والقياس الكمي (Quantitative Measurement) والرصد الدقيق. تقدم هذه العلوم للبشرية فهمًا عميقًا للعالم الطبيعي، وتسهم في تطوير التقنيات التي تُيسر حياتنا وتمد في أعمارنا، من الطب إلى الاتصالات إلى استكشاف الفضاء. غير أن هذه العلوم رغم دقتها وموضوعيتها، لا تستطيع وحدها أن تجيب عن الأسئلة المتعلقة بمعنى الحياة، أو القيم الأخلاقية(Ethical Values)، أو طبيعة الجمال، أو تعقيدات السلوك البشري والتفاعلات الاجتماعية. كما أنها تحتاج إلى إطار قيمي وأخلاقي يوجه تطبيقاتها ويضبط مسارها. لقد شهدنا في العقود الأخيرة كيف أن التطور المذهل في مجال التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية قد أثار قضايا أخلاقية عميقة تتعلق بحدود التدخل في الجينوم البشري، وحقوق الأجنة، وتعديل الصفات الوراثية. هذه القضايا لا يمكن للعالِم الطبيعي وحده البت فيها، بل تحتاج إلى حوار مجتمعي واسع يشارك فيه الفلاسفة ورجال الدين وعلماء الاجتماع والقانونيون. كما يقول الفيزيائي النمساوي إرفين شرودنغر في كتابه الطبيعة والإغريق: "العلم جزء من محاولتنا لفهم العالم وأنفسنا، لكنه لا يستطيع إخبارنا بما ينبغي علينا فعله، بل بما يمكننا فعله فقط." في المقابل، تتعامل العلوم الإنسانية مع الإنسان كذات مفكرة وشاعرة، وتدرس منتجاته الثقافية والفكرية والفنية، وتحاول فهم السلوك البشري في سياقاته المتنوعة. تقدم هذه العلوم للبشرية أدوات للتفكير النقدي والتأمل العميق والتعبير الإبداعي، وتساعد في بناء الهويات الثقافية وتشكيل المنظومات القيمية والأخلاقية. لكن هذه العلوم أيضًا لا يمكنها الاستغناء عن المعطيات التي تقدمها العلوم الطبيعية، خاصة في مجالات مثل علم النفس المعرفي أو الأنثروبولوجيا أو دراسة تطور اللغات. كما أنها تستفيد من التقنيات المتطورة في دراسة التراث وتحليل النصوص والأعمال الفنية. يمكننا أن نرى هذا التكامل بوضوح في علوم الآثار المعاصرة، حيث يستخدم الأثريون أحدث التقنيات العلمية مثل التأريخ بالكربون المشع، والتصوير المقــطعي، والتحليل الطيــفي، واختبارات الحمـــض النـــــــووي لدراسة المواقع الأثرية والقطع التاريخية. هذه الأدوات العلمية تمكّن المؤرخين من إعادة بناء صورة أكثر دقة للحضارات القديمة وفهم تطورها الاجتماعي والثقافي. يرى الفيلسوف الألماني هانز يوناس بأن "التكنولوجيا الحديثة تقود البشرية لعواقب بعيدة المدى تتطلب أطرا أخلاقية جديدة". تتجلى العلاقة الجدلية بين العلوم الطبيعية والإنسانية في العديد من المجالات. فلا يمكن، على سبيل المثال، تطوير تقنيات متقدمة دون فهم السياقات الثقافية والاجتماعية التي ستُستخدم فيها. وقد أدركت الشركات التكنولوجية العملاقة هذه الحقيقة، فأصبحت توظف خريجي العلوم الإنسانية لفهم احتياجات المستخدمين وسلوكياتهم، ولصياغة رسائل تسويقية مؤثرة، ولتصميم منتجات تتناسب مع القيم الثقافية المختلفة. ومن الأمثلة البارزة على هذا التكامل ما نشهده في مجال تصميم الذكاء الاصطناعي، حيث تلعب العلوم الإنسانية دورًا محوريًا في تطوير نظم أخلاقية تحكم عمل الخوارزميات، وتضمن عدم انحيازها ضد فئات معينة، وتحدد مسؤوليات صانعيها. فلا يمكن أن نترك تطوير هذه التقنيات الثورية للمبرمجين والمهندسين وحدهم، بل تحتاج إلى إشراك الفلاسفة وعلماء الاجتماع وخبراء القانون والأخلاق في إدارتها وتطويرها. تؤكد الأستاذة الأمريكية في دراسات العلوم والتكنولوجيا الاجتماعية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا شيري توركل على أن التكنولوجيا "لا تقوم بالأشياء نيابةً عنا فحسب، بل تقوم بتغييرنا؛ إنها لا تغير ما نفعله فقط، بل تغيرنا نحن وتغير من نكون." ولذا فهي تدعو إلى اعتماد منهجيات تأملية تستند إلى علم النفس وعلم الاجتماع والتخصصات الإنسانية مثل الفلسفة والأدب لفهم تأثير التكنولوجيا على المجتمع. كما يظهر تكامل العلوم الطبيعية والإنسانية بوضوح في دراسة الأوبئة والأمراض المعدية. فرغم أن فهم المرض بيولوجيًا ضروري لتطوير اللقاحات والعلاجات، إلا أن مكافحة انتشاره تتطلب فهمًا عميقًا للسلوكيات البشرية والعادات الاجتماعية والسياقات الثقافية. ولذلك نجد أن فِرَق مكافحة الأوبئة تضم إلى جانب الأطباء والبيولوجيين خبراء في علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا. وقد أظهرت جائحة كوفيد-19 بشكل جلي أهمية هذا التكامل، حيث كانت المعرفة الطبية وحدها غير كافية لاحتواء الفيروس. وكانت هناك حاجة ماسة لفهم ديناميكيات انتشار المعلومات المضللة (Misinformation Dynamics)، ودوافع الامتثال أو عدم الامتثال للإجراءات الوقائية، وتأثير الأبعاد السياسية والاقتصادية على استجابة المجتمعات. هذه العوامل كلها تقع في صميم اهتمامات العلوم الإنسانية والاجتماعية. وفي مجال العمارة والتخطيط الحضري، نرى كيف تتلاقح العلوم الهندسية مع العلوم الإنسانية لإنتاج مساحات عمرانية لا تراعي فقط الاعتبارات التقنية كالمتانة والكفاءة، بل تستجيب أيضًا للاحتياجات النفسية والاجتماعية للسكان، وتعكس الهويات الثقافية المحلية، وتعزز الشعور بالانتماء والرفاهية. هذا التكامل أدى إلى ظهور تخصصات بينية مثل علم النفس المعماري (Architectural Psychology) وعلم الاجتماع الحضري (Urban Sociology). إن العلوم الطبيعية والإنسانية كالعين والأذن في جسد المعرفة البشرية؛ تختلف وظيفة كل منهما، لكنهما يتكاملان لتقديم صورة شاملة عن العالم. يشير الفيلسوف الألماني هانز-جورج غادامير في كتابه الحقيقة والمنهج إلى أهمية الحوار بين العوالم المعرفية المختلفة، خاصة بين العلوم الطبيعية (التي تعتمد على المنهج التجريبي) والعلوم الإنسانية (التي تركز على الفهم والتأويل والمعنى)، مؤكدا على أن الفهم الإنساني لا يمكن أن يكون كاملاً دون إشراك التراث الثقافي، والتاريخ، واللغة، والتقاليد في هذه العملية. وهكذا، فإن العلاقة الجدلية بين العلوم الطبيعية والإنسانية ليست مجرد تعاون تكتيكي أو تقاطع عرضي، بل هي تعبير عن وحدة المعرفة البشرية وتكاملها. وكلما ازداد التواصل والتفاعل بين هذين المجالين، كلما اقتربنا من فهم أعمق وأشمل للإنسان والكون. وإذا نظرنا إلى تاريخ المعرفة البشرية، نجد أن العصور الذهبية للحضارات - سواء في الإغريقية القديمة أو في الحضارة الإسلامية خلال عصرها الذهبي أو خلال عصر النهضة الأوروبية - كانت هي الفترات التي لم تشهد فصلا حادا بين العلوم الطبيعية والإنسانية. فكان العالِم الكبير في تلك العصور موسوعيًا، يجمع بين معارف متنوعة ويرى الترابط بين مختلف مجالات المعرفة. يؤكد المؤرخ الأمريكي توماس كون على أن تاريخ العلم يكشف بأن التقدم العلمي يتأثر بالسياقات الاجتماعية والثقافية والفكرية الأوسع، وليس فقط بالمنطق الداخلي للعلم نفسه. ومن هنا يأتي خطر التخصص المُفرِط (Excessive Specialization) الذي نشهده في عصرنا الحالي، والذي قد يؤدي إلى تفتيت المعرفة وتجزئتها بشكل يُفقِدها قدرتها على تقديم رؤية متكاملة للوجود. ولتجاوز هذا الخطر، لا بد من تعزيز الحوار المستمر بين التخصصات المختلفة، وتشجيع البرامج البينية (Interdisciplinary Programs) في الجامعات، وبناء أرضية مشتركة للتفاهم بين مختلف فروع المعرفة. في كتابها ليس من أجل الربح: لماذا تحتاج الديمقراطية إلى الدراسات الإنسانية، تؤكد الفيلسوفة الأمريكية مارثا نوسباوم على أن التركيز المتزايد على التعليم التقني القائم على الربح على حساب العلوم الإنسانية يُقوّض تنمية التفكير النقدي والتعاطف والقدرة على التعامل مع القضايا الاجتماعية والأخلاقية المعقدة - وهي مهارات تعتبرها أساسية للمواطنة الديمقراطية والازدهار البشري. ثمة ميل متزايد نحو تهميش العلوم الإنسانية لحساب العلوم التطبيقية والتقنية، تحت ذريعة أن الأخيرة هي المحرك الأساسي للتقدم الاقتصادي والتنمية المادية. هذا التوجه يتجلى في تقليص الميزانيات المخصصة لأقسام العلوم الإنسانية في الجامعات، وتراجع الإقبال الطلابي عليها، وانخفاض التمويل المخصص للأبحاث في هذه المجالات. غير أن هذا التهميش ينطوي على مخاطر جسيمة تهدد المشروع الحضاري الإنساني برمته. إن تهميش العلوم الإنسانية يؤدي أولًا وقبل كل شيء إلى إضعاف الإبداع المجتمعي، ويحدّ من التقدم الشمولي للحضارة. فالعلوم الإنسانية بما تقدمه من تفكير نقدي ورؤى متعددة للواقع، تمثل حاضنة أساسية للإبداع والابتكار. وقد أثبتت الدراسات أن خريجي العلوم الإنسانية يتميزون بمهارات التفكير النقدي والتحليلي، والقدرة على النظر إلى المشكلات من زوايا متعددة، وهي مهارات أساسية في عصر يشهد تحولات متسارعة وتحديات غير مسبوقة. ومن الملاحظ أن الشركات التكنولوجية الكبرى في وادي السيليكون وغيرها بدأت تدرك أهمية هذه المهارات وتبحث عن خريجين يمتلكون خلفية قوية في العلوم الإنسانية إلى جانب معرفتهم التقنية. فشركة آبل، على سبيل المثال، تؤكد دائمًا أن سر نجاحها يكمن في الجمع بين التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، وهو ما جعلها تتفوق على منافسيها في تصميم منتجات تلامس احتياجات المستخدمين وتراعي الجوانب الجمالية والإنسانية. وقد عبّر ستيف جوبز الرئيس التنفيذي لشركة آبل عن هذه الفلسفة بقوله: "إن الإيمان بأن التكنولوجيا وحدها ليست كافية يكمن في صميم هوية آبل؛ التكنولوجيا التي تتزاوج مع الفنون الحرة وتتحد مع العلوم الإنسانية هي التي تمنحنا نتائج تجعل قلوبنا تغني." كما أن العلوم الإنسانية ضرورية لتنشئة ذهنية ناقدة ومبدعة قادرة على مساءلة المسلمات وتجاوز الأطر الجاهزة. فدراسة الفلسفة، على سبيل المثال، تدرب العقل على التفكير المنهجي العميق وتفكيك الأفكار المعقدة، بينما تساعد دراسة الأدب على تنمية الخيال وفهم التجارب الإنسانية المتنوعة، وتسهم دراسة التاريخ في فهم الحاضر واستشراف المستقبل من خلال تحليل تجارب الماضي. وكما أسلفنا سابقا، فقد ثبت تاريخيًا أن المجتمعات التي تعطي أهمية متوازنة للعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية هي الأكثر قدرة على الابتكار والتطور. فالنهضة الأوروبية مثلاً، كانت وليدة استعادة الاهتمام بالفلسفة والآداب والفنون اليونانية والرومانية القديمة، وليست فقط نتيجة للتقدم العلمي والتقني. وكذلك فإن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ارتبط بازدهار علوم اللغة والأدب والفلسفة جنبًا إلى جنب مع الرياضيات والفلك والطب. أما الوجه الثاني لتأثير تهميش العلوم الإنسانية فيتمثل في خلل التوازن المعرفي في المجتمع. إذ يؤدي هذا التهميش إلى تضخم الاهتمام بالتطور التقني دون مواكبةٍ في النضج الأخلاقي والإنساني، مما يخلق فجوة خطيرة بين القدرة على الفعل والحكمة في توجيه هذا الفعل. ويظهر هذا الخلل بوضوح في التحديات المعاصرة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية، حيث يتسارع التطور التقني بوتيرة تفوق قدرتنا على استيعاب آثاره الاجتماعية والأخلاقية. وقد حذر العالم البريطاني ستيفن هوكينج من هذا الخلل بقوله: "إن تطور الذكاء الاصطناعي الكامل قد يعني نهاية الجنس البشري، إذ سيبدأ في العمل بشكل مستقل، ويعيد تصميم نفسه بوتيرة متسارعة باستمرار. أما البشر، المحكومون بتطور بيولوجي بطيء، لن يتمكنوا من المنافسة، وسيتم تجاوزهم واستبدالهم". فعلى سبيل المثال، تطرح تقنيات التعديل الجيني مثل كريسبر(CRISPR) إمكانات هائلة لعلاج الأمراض الوراثية، لكنها تثير في الوقت نفسه تساؤلات عميقة حول حدود التدخل البشري في التكوين الجيني، وعن إمكانية ظهور طبقية جينية في المجتمع، وعن حقوق الأجيال القادمة في تراث جيني غير معدل. هذه التساؤلات لا يمكن الإجابة عنها فقط من منظور علمي تقني، بل تتطلب إسهام الفلسفة والأخلاق والقانون وعلم الاجتماع. في كتابه التقنية والعلم كأيديولوجيا، يبين الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس كيف يمكن للتكنولوجيا أن تصبح شكلاً من أشكال الهيمنة التي تحدّ من استقلالية الإنسان، خاصة عندما تعمل هذه التكنولوجيات خارج الأطر والسياقات الأخلاقية الأوسع ودون الرقابة الديمقراطية. ومن الأمثلة الواضحة على خطورة تهميش العلوم الإنسانية ما نشهده من ضعف في السياسات العامة التي تتجاهل المعطيات النفسية والاجتماعية والثقافية. فكثيرًا ما تفشل المشروعات التنموية والإصلاحية لأنها تركز على الجوانب التقنية والاقتصادية وتهمل العوامل الثقافية والاجتماعية. على سبيل المثال، قد تفشل حملة صحية رغم توفر الموارد المادية والخبرات الطبية إذا تجاهلت فهم العادات والمعتقدات السائدة في المجتمع المستهدف. أما الجانب الثالث من آثار تهميش العلوم الإنسانية فيتمثل في تراجع المنظومة القيمية التي تحكم المجتمع. فالعلوم الإنسانية، ولا سيما الفلسفة والأخلاق والدراسات الدينية، تلعب دورًا محوريًا في بلورة منظومة القيم التي تحكم المجتمع وتوجه سلوك أفراده وتحدد أولوياتهم. وحين يتراجع الاهتمام بهذه العلوم، تضعف الأطر الأخلاقية التي تحكم التطور العلمي والتقني وتوجهه نحو خدمة الإنسان وتحقيق سعادته. وقد تجلى هذا الضعف في الأزمات الأخلاقية التي تواجهها المجتمعات الحديثة، مثل أزمة المناخ وانهيار التنوع البيولوجي وتفاقم اللامساواة الاقتصادية واستغلال بيانات المستخدمين دون موافقة مستنيرة. هذه الأزمات في جوهرها ليست أزمات تقنية، بل هي نتاج نظام قيمي يُعلي من شأن الربح السريع والنمو الاقتصادي غير المحدود على حساب العدالة والاستدامة والخصوصية وكرامة الإنسان. وكما تقول الفيلسوفة وعالمة البيئة الهندية فاندانا شيفا: "الأزمة البيئية ليست مجرد قضية علمية أو تقنية، بل هي أزمة قيمية وأخلاقية"، وأن "التكنولوجيا وحدها لا تكفي، بل نحتاج إلى تغيير جذري في علاقتنا مع الطبيعة". كما وتؤكد على أنه "لا يمكن حل مشكلة تغير المناخ بالمزيد من الأجهزة التقنية، فهي أزمة قيم تُحوّل الحياة نفسها إلى سلعة"، محذرة في الوقت نفسه من خطورة فصل الأخلاق عن التكنولوجيا. أما الوجه الرابع لتأثير تهميش العلوم الإنسانية فيظهر في تآكل الهوية الثقافية للمجتمعات. فالعلوم الإنسانية، ولا سيما دراسات اللغة والأدب والتاريخ والفنون، تلعب دورًا حاسمًا في الحفاظ على الذاكرة الجماعية للمجتمع وصيانة تراثه الثقافي وتطوير لغته وآدابه بما يضمن استمرارية هويته وحيويتها. وقد عبّر عن هذا المعنى المفكر إدوارد سعيد بتأكيده على أهمية القراءة النقدية للتراث الثقافي والأدب والتاريخ في تشكيل الهوية الثقافية للمجتمع وكوسيلة للمقاومة ضد الهيمنة الثقافية وبوصفها ضرورة لفهم الذات، محذرا من خطورة الانقطاع عن التراث النقدي الذي يؤدي بالضرورة إلى الإغتراب الذاتي والمعرفي. حين تتراجع هذه العلوم، يفقد المجتمع ارتباطه بجذوره الحضارية، ويصبح أكثر عرضة للاستلاب الثقافي والذوبان في ثقافة عالمية استهلاكية تفتقر إلى العمق والأصالة. وهذا ما نلاحظه في كثير من المجتمعات التي تعاني من أزمة هوية حادة، حيث تتراجع اللغات المحلية لصالح اللغات العالمية، وتندثر التقاليد والفنون الأصيلة، وتنقطع الصلة بين الأجيال الجديدة والتراث الثقافي لمجتمعاتها. كذلك نرى تجليات تهميش العلوم الإنسانية في ضعف الخطاب الإعلامي والسياسي وافتقاره للعمق والرؤية، وفي انتشار الفكر الأحادي الذي يرفض التعددية والاختلاف، وفي تراجع قيم التسامح والتفاهم بين الثقافات، وكلها مؤشرات على أزمة عميقة تهدد التعايش الإنساني وتخلق بيئة خصبة للتطرف والعنف. ويرتبط بهذا أيضًا تصاعد ظاهرة "ما بعد الحقيقة" (Post-truth) في الخطاب العام، حيث تتراجع قيمة الحقيقة الموضوعية أمام الروايات العاطفية المثيرة، ويصبح الرأي العام أكثر عرضة للتلاعب والتضليل. وهذه الظاهرة هي في جانب منها نتيجة لضعف التفكير النقدي وتراجع ثقافة الحوار والنقاش العقلاني، وهي جميعها مهارات تنميها العلوم الإنسانية وتعززها. يؤكد الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور على أهمية الأطر الأخلاقية والقيم الثقافية في جعل الحياة الإنسانية ذات معنى، وأن فقدان هذه الأطر يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالاغتراب في المجتمعات الحديثة. ومن النماذج الصارخة لمخاطر تهميش العلوم الإنسانية ما شهده العالم من أزمات أمنية وإنسانية متعاقبة، حيث غالبًا ما تكون الاستراتيجيات الأمنية والعسكرية البحتة عاجزة عن معالجة جذور الصراعات والتوترات التي تكمن في عوامل ثقافية واجتماعية ودينية معقدة. وقد أثبتت التجارب أن المقاربات التي تأخذ بعين الاعتبار البعد الثقافي والإنساني هي الأكثر نجاحًا في بناء السلام المستدام وتعزيز التعايش بين المجتمعات. ولذلك، فإن إعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية ليس ترفًا فكريًا، بل هو ضرورة حضارية ملحة لضمان تقدمٍ متوازن ومستدام يجمع بين التطور المادي والرقي الروحي والأخلاقي. وهذا يتطلب جهودًا حثيثة على مستوى السياسات التعليمية والبحثية، وعلى مستوى الخطاب الثقافي والإعلامي، لإبراز قيمة العلوم الإنسانية ودورها المحوري في بناء الإنسان والمجتمع. وكما يؤكد الفيلسوف الأمريكي جون ديوي: "التعليم ليس إعدادًا للحياة، بل هو الحياة نفسها" مشيرا إلى إيمانه بأن "العملية التعليمية لها جانبان – أحدهما نفسي والآخر اجتماعي؛ ولا يمكن إهمال أحدهما أو جعله تابعًا للآخر دون أن تترتب على ذلك نتائج سيئة". وتقتضي إعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية تبني رؤية تكاملية للمعرفة، تتجاوز التقسيم التقليدي بين "العلوم "الصلبة" (Hard Sciences) و"العلوم الناعمة" (Soft Sciences)، وتدرك أن التقدم الحقيقي للبشرية يتطلب تضافر جميع فروع المعرفة. كما تتطلب إعادة النظر في فلسفة التعليم وأهدافه، بحيث لا تقتصر على إعداد الطلاب لسوق العمل فحسب، بل تهدف أيضًا إلى بناء شخصية متكاملة قادرة على المساهمة الفاعلة في المجتمع، والتفاعل الإيجابي مع التحديات المتسارعة التي تواجه البشرية. إن تأثير تهميش العلوم الإنسانية يتجاوز بكثير القضايا الأكاديمية أو التعليمية البحتة، ليطال جوهر المشروع الحضاري البشري ومستقبله. ولعل أحد أهم دروس الأزمات المتلاحقة التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، من الأزمات المالية إلى الأوبئة والتغير المناخي، هو أن العلم والتقنية وحدهما لا يكفيان لبناء مستقبل يحفظ كرامة الإنسان ويرتقي بحياته، بل لا بد من تكاملهما مع العلوم الإنسانية التي تقدم البوصلة الأخلاقية والرؤية الفلسفية التي توجه التقدم التقني نحو خير الإنسان والحفاظ على كوكبه. وفي الختام، يمكننا القول إن التكامل بين العلوم الطبيعية والإنسانية ليس ترفًا فكريًا بل ضرورة حضارية. فالتحديات الكبرى التي تواجه البشرية اليوم – من التغير المناخي إلى الأوبئة العالمية إلى الثورة الرقمية وتأثيراتها – هي تحديات معقدة متعددة الأبعاد، تتطلب مقاربات شاملة تجمع بين مختلف العلوم والمعارف. في هذا السياق، يؤكد عالم الفيزياء والبيئة فريتيوف كابرا: "نحن نحتاج اليوم إلى رؤية إيكولوجية عميقة للمعرفة (Deep Ecological View of Knowledge) لا ترى العالم كمجموعة من االأشياء المنعزلة المنفصلة، بل كشبكة من الظواهر المترابطة والمتداخلة بشكل جوهري والتي تعتمد على بعضها البعض".
البلاد البحرينيةمنذ يوم واحدعلومالبلاد البحرينيةالعلوم الطبيعية والإنسانية - توأمان في رحم الحضارةيشهد الخطاب الأكاديمي المعاصر محاولات متكررة لرسم حدود فاصلة بين ما يُسمى بالعلوم الطبيعية (الفيزياء، الكيمياء، الأحياء) وما يُعرف بالعلوم الإنسانية (الفلسفة، التاريخ، الأدب، علم الاجتماع). غير أن هذا الفصل المصطنع يتجاهل حقيقة أساسية: أن العلاقة بين هذين المجالين علاقة جدلية عميقة (Dialectical Relationship)، تقوم على التأثير المتبادل والتكامل المستمر، ولا يمكن لأيٍ منهما أن يتطور بمعزل عن الآخر. إن محاولات الفصل بينهما تعكس نظرة اختزالية للمعرفة (Reductionist View of Knowledge) لا تستوعب تشابك مجالاتهما وتداخل أبعادهما في تفسير الوجود الإنساني والكوني. يقول إدغار موران، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي: "المعرفة الحقيقية لا تنقسم إلى أقسام، بل هي منظومة تفكير معقدة تدرك الترابط بين الأشياء والظواهر." هذه الرؤية للمعرفة كنسيج متكامل تتعارض مع النزعة التجزيئية (Fragmentary Tendency) التي سادت الأوساط الأكاديمية لعقود طويلة. تتخصص العلوم الطبيعية في فهم قوانين الكون وتفسير الظواهر المادية من حولنا، مستندة إلى المنهج التجريبي (Empirical Method) والقياس الكمي (Quantitative Measurement) والرصد الدقيق. تقدم هذه العلوم للبشرية فهمًا عميقًا للعالم الطبيعي، وتسهم في تطوير التقنيات التي تُيسر حياتنا وتمد في أعمارنا، من الطب إلى الاتصالات إلى استكشاف الفضاء. غير أن هذه العلوم رغم دقتها وموضوعيتها، لا تستطيع وحدها أن تجيب عن الأسئلة المتعلقة بمعنى الحياة، أو القيم الأخلاقية(Ethical Values)، أو طبيعة الجمال، أو تعقيدات السلوك البشري والتفاعلات الاجتماعية. كما أنها تحتاج إلى إطار قيمي وأخلاقي يوجه تطبيقاتها ويضبط مسارها. لقد شهدنا في العقود الأخيرة كيف أن التطور المذهل في مجال التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية قد أثار قضايا أخلاقية عميقة تتعلق بحدود التدخل في الجينوم البشري، وحقوق الأجنة، وتعديل الصفات الوراثية. هذه القضايا لا يمكن للعالِم الطبيعي وحده البت فيها، بل تحتاج إلى حوار مجتمعي واسع يشارك فيه الفلاسفة ورجال الدين وعلماء الاجتماع والقانونيون. كما يقول الفيزيائي النمساوي إرفين شرودنغر في كتابه الطبيعة والإغريق: "العلم جزء من محاولتنا لفهم العالم وأنفسنا، لكنه لا يستطيع إخبارنا بما ينبغي علينا فعله، بل بما يمكننا فعله فقط." في المقابل، تتعامل العلوم الإنسانية مع الإنسان كذات مفكرة وشاعرة، وتدرس منتجاته الثقافية والفكرية والفنية، وتحاول فهم السلوك البشري في سياقاته المتنوعة. تقدم هذه العلوم للبشرية أدوات للتفكير النقدي والتأمل العميق والتعبير الإبداعي، وتساعد في بناء الهويات الثقافية وتشكيل المنظومات القيمية والأخلاقية. لكن هذه العلوم أيضًا لا يمكنها الاستغناء عن المعطيات التي تقدمها العلوم الطبيعية، خاصة في مجالات مثل علم النفس المعرفي أو الأنثروبولوجيا أو دراسة تطور اللغات. كما أنها تستفيد من التقنيات المتطورة في دراسة التراث وتحليل النصوص والأعمال الفنية. يمكننا أن نرى هذا التكامل بوضوح في علوم الآثار المعاصرة، حيث يستخدم الأثريون أحدث التقنيات العلمية مثل التأريخ بالكربون المشع، والتصوير المقــطعي، والتحليل الطيــفي، واختبارات الحمـــض النـــــــووي لدراسة المواقع الأثرية والقطع التاريخية. هذه الأدوات العلمية تمكّن المؤرخين من إعادة بناء صورة أكثر دقة للحضارات القديمة وفهم تطورها الاجتماعي والثقافي. يرى الفيلسوف الألماني هانز يوناس بأن "التكنولوجيا الحديثة تقود البشرية لعواقب بعيدة المدى تتطلب أطرا أخلاقية جديدة". تتجلى العلاقة الجدلية بين العلوم الطبيعية والإنسانية في العديد من المجالات. فلا يمكن، على سبيل المثال، تطوير تقنيات متقدمة دون فهم السياقات الثقافية والاجتماعية التي ستُستخدم فيها. وقد أدركت الشركات التكنولوجية العملاقة هذه الحقيقة، فأصبحت توظف خريجي العلوم الإنسانية لفهم احتياجات المستخدمين وسلوكياتهم، ولصياغة رسائل تسويقية مؤثرة، ولتصميم منتجات تتناسب مع القيم الثقافية المختلفة. ومن الأمثلة البارزة على هذا التكامل ما نشهده في مجال تصميم الذكاء الاصطناعي، حيث تلعب العلوم الإنسانية دورًا محوريًا في تطوير نظم أخلاقية تحكم عمل الخوارزميات، وتضمن عدم انحيازها ضد فئات معينة، وتحدد مسؤوليات صانعيها. فلا يمكن أن نترك تطوير هذه التقنيات الثورية للمبرمجين والمهندسين وحدهم، بل تحتاج إلى إشراك الفلاسفة وعلماء الاجتماع وخبراء القانون والأخلاق في إدارتها وتطويرها. تؤكد الأستاذة الأمريكية في دراسات العلوم والتكنولوجيا الاجتماعية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا شيري توركل على أن التكنولوجيا "لا تقوم بالأشياء نيابةً عنا فحسب، بل تقوم بتغييرنا؛ إنها لا تغير ما نفعله فقط، بل تغيرنا نحن وتغير من نكون." ولذا فهي تدعو إلى اعتماد منهجيات تأملية تستند إلى علم النفس وعلم الاجتماع والتخصصات الإنسانية مثل الفلسفة والأدب لفهم تأثير التكنولوجيا على المجتمع. كما يظهر تكامل العلوم الطبيعية والإنسانية بوضوح في دراسة الأوبئة والأمراض المعدية. فرغم أن فهم المرض بيولوجيًا ضروري لتطوير اللقاحات والعلاجات، إلا أن مكافحة انتشاره تتطلب فهمًا عميقًا للسلوكيات البشرية والعادات الاجتماعية والسياقات الثقافية. ولذلك نجد أن فِرَق مكافحة الأوبئة تضم إلى جانب الأطباء والبيولوجيين خبراء في علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا. وقد أظهرت جائحة كوفيد-19 بشكل جلي أهمية هذا التكامل، حيث كانت المعرفة الطبية وحدها غير كافية لاحتواء الفيروس. وكانت هناك حاجة ماسة لفهم ديناميكيات انتشار المعلومات المضللة (Misinformation Dynamics)، ودوافع الامتثال أو عدم الامتثال للإجراءات الوقائية، وتأثير الأبعاد السياسية والاقتصادية على استجابة المجتمعات. هذه العوامل كلها تقع في صميم اهتمامات العلوم الإنسانية والاجتماعية. وفي مجال العمارة والتخطيط الحضري، نرى كيف تتلاقح العلوم الهندسية مع العلوم الإنسانية لإنتاج مساحات عمرانية لا تراعي فقط الاعتبارات التقنية كالمتانة والكفاءة، بل تستجيب أيضًا للاحتياجات النفسية والاجتماعية للسكان، وتعكس الهويات الثقافية المحلية، وتعزز الشعور بالانتماء والرفاهية. هذا التكامل أدى إلى ظهور تخصصات بينية مثل علم النفس المعماري (Architectural Psychology) وعلم الاجتماع الحضري (Urban Sociology). إن العلوم الطبيعية والإنسانية كالعين والأذن في جسد المعرفة البشرية؛ تختلف وظيفة كل منهما، لكنهما يتكاملان لتقديم صورة شاملة عن العالم. يشير الفيلسوف الألماني هانز-جورج غادامير في كتابه الحقيقة والمنهج إلى أهمية الحوار بين العوالم المعرفية المختلفة، خاصة بين العلوم الطبيعية (التي تعتمد على المنهج التجريبي) والعلوم الإنسانية (التي تركز على الفهم والتأويل والمعنى)، مؤكدا على أن الفهم الإنساني لا يمكن أن يكون كاملاً دون إشراك التراث الثقافي، والتاريخ، واللغة، والتقاليد في هذه العملية. وهكذا، فإن العلاقة الجدلية بين العلوم الطبيعية والإنسانية ليست مجرد تعاون تكتيكي أو تقاطع عرضي، بل هي تعبير عن وحدة المعرفة البشرية وتكاملها. وكلما ازداد التواصل والتفاعل بين هذين المجالين، كلما اقتربنا من فهم أعمق وأشمل للإنسان والكون. وإذا نظرنا إلى تاريخ المعرفة البشرية، نجد أن العصور الذهبية للحضارات - سواء في الإغريقية القديمة أو في الحضارة الإسلامية خلال عصرها الذهبي أو خلال عصر النهضة الأوروبية - كانت هي الفترات التي لم تشهد فصلا حادا بين العلوم الطبيعية والإنسانية. فكان العالِم الكبير في تلك العصور موسوعيًا، يجمع بين معارف متنوعة ويرى الترابط بين مختلف مجالات المعرفة. يؤكد المؤرخ الأمريكي توماس كون على أن تاريخ العلم يكشف بأن التقدم العلمي يتأثر بالسياقات الاجتماعية والثقافية والفكرية الأوسع، وليس فقط بالمنطق الداخلي للعلم نفسه. ومن هنا يأتي خطر التخصص المُفرِط (Excessive Specialization) الذي نشهده في عصرنا الحالي، والذي قد يؤدي إلى تفتيت المعرفة وتجزئتها بشكل يُفقِدها قدرتها على تقديم رؤية متكاملة للوجود. ولتجاوز هذا الخطر، لا بد من تعزيز الحوار المستمر بين التخصصات المختلفة، وتشجيع البرامج البينية (Interdisciplinary Programs) في الجامعات، وبناء أرضية مشتركة للتفاهم بين مختلف فروع المعرفة. في كتابها ليس من أجل الربح: لماذا تحتاج الديمقراطية إلى الدراسات الإنسانية، تؤكد الفيلسوفة الأمريكية مارثا نوسباوم على أن التركيز المتزايد على التعليم التقني القائم على الربح على حساب العلوم الإنسانية يُقوّض تنمية التفكير النقدي والتعاطف والقدرة على التعامل مع القضايا الاجتماعية والأخلاقية المعقدة - وهي مهارات تعتبرها أساسية للمواطنة الديمقراطية والازدهار البشري. ثمة ميل متزايد نحو تهميش العلوم الإنسانية لحساب العلوم التطبيقية والتقنية، تحت ذريعة أن الأخيرة هي المحرك الأساسي للتقدم الاقتصادي والتنمية المادية. هذا التوجه يتجلى في تقليص الميزانيات المخصصة لأقسام العلوم الإنسانية في الجامعات، وتراجع الإقبال الطلابي عليها، وانخفاض التمويل المخصص للأبحاث في هذه المجالات. غير أن هذا التهميش ينطوي على مخاطر جسيمة تهدد المشروع الحضاري الإنساني برمته. إن تهميش العلوم الإنسانية يؤدي أولًا وقبل كل شيء إلى إضعاف الإبداع المجتمعي، ويحدّ من التقدم الشمولي للحضارة. فالعلوم الإنسانية بما تقدمه من تفكير نقدي ورؤى متعددة للواقع، تمثل حاضنة أساسية للإبداع والابتكار. وقد أثبتت الدراسات أن خريجي العلوم الإنسانية يتميزون بمهارات التفكير النقدي والتحليلي، والقدرة على النظر إلى المشكلات من زوايا متعددة، وهي مهارات أساسية في عصر يشهد تحولات متسارعة وتحديات غير مسبوقة. ومن الملاحظ أن الشركات التكنولوجية الكبرى في وادي السيليكون وغيرها بدأت تدرك أهمية هذه المهارات وتبحث عن خريجين يمتلكون خلفية قوية في العلوم الإنسانية إلى جانب معرفتهم التقنية. فشركة آبل، على سبيل المثال، تؤكد دائمًا أن سر نجاحها يكمن في الجمع بين التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، وهو ما جعلها تتفوق على منافسيها في تصميم منتجات تلامس احتياجات المستخدمين وتراعي الجوانب الجمالية والإنسانية. وقد عبّر ستيف جوبز الرئيس التنفيذي لشركة آبل عن هذه الفلسفة بقوله: "إن الإيمان بأن التكنولوجيا وحدها ليست كافية يكمن في صميم هوية آبل؛ التكنولوجيا التي تتزاوج مع الفنون الحرة وتتحد مع العلوم الإنسانية هي التي تمنحنا نتائج تجعل قلوبنا تغني." كما أن العلوم الإنسانية ضرورية لتنشئة ذهنية ناقدة ومبدعة قادرة على مساءلة المسلمات وتجاوز الأطر الجاهزة. فدراسة الفلسفة، على سبيل المثال، تدرب العقل على التفكير المنهجي العميق وتفكيك الأفكار المعقدة، بينما تساعد دراسة الأدب على تنمية الخيال وفهم التجارب الإنسانية المتنوعة، وتسهم دراسة التاريخ في فهم الحاضر واستشراف المستقبل من خلال تحليل تجارب الماضي. وكما أسلفنا سابقا، فقد ثبت تاريخيًا أن المجتمعات التي تعطي أهمية متوازنة للعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية هي الأكثر قدرة على الابتكار والتطور. فالنهضة الأوروبية مثلاً، كانت وليدة استعادة الاهتمام بالفلسفة والآداب والفنون اليونانية والرومانية القديمة، وليست فقط نتيجة للتقدم العلمي والتقني. وكذلك فإن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ارتبط بازدهار علوم اللغة والأدب والفلسفة جنبًا إلى جنب مع الرياضيات والفلك والطب. أما الوجه الثاني لتأثير تهميش العلوم الإنسانية فيتمثل في خلل التوازن المعرفي في المجتمع. إذ يؤدي هذا التهميش إلى تضخم الاهتمام بالتطور التقني دون مواكبةٍ في النضج الأخلاقي والإنساني، مما يخلق فجوة خطيرة بين القدرة على الفعل والحكمة في توجيه هذا الفعل. ويظهر هذا الخلل بوضوح في التحديات المعاصرة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية، حيث يتسارع التطور التقني بوتيرة تفوق قدرتنا على استيعاب آثاره الاجتماعية والأخلاقية. وقد حذر العالم البريطاني ستيفن هوكينج من هذا الخلل بقوله: "إن تطور الذكاء الاصطناعي الكامل قد يعني نهاية الجنس البشري، إذ سيبدأ في العمل بشكل مستقل، ويعيد تصميم نفسه بوتيرة متسارعة باستمرار. أما البشر، المحكومون بتطور بيولوجي بطيء، لن يتمكنوا من المنافسة، وسيتم تجاوزهم واستبدالهم". فعلى سبيل المثال، تطرح تقنيات التعديل الجيني مثل كريسبر(CRISPR) إمكانات هائلة لعلاج الأمراض الوراثية، لكنها تثير في الوقت نفسه تساؤلات عميقة حول حدود التدخل البشري في التكوين الجيني، وعن إمكانية ظهور طبقية جينية في المجتمع، وعن حقوق الأجيال القادمة في تراث جيني غير معدل. هذه التساؤلات لا يمكن الإجابة عنها فقط من منظور علمي تقني، بل تتطلب إسهام الفلسفة والأخلاق والقانون وعلم الاجتماع. في كتابه التقنية والعلم كأيديولوجيا، يبين الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس كيف يمكن للتكنولوجيا أن تصبح شكلاً من أشكال الهيمنة التي تحدّ من استقلالية الإنسان، خاصة عندما تعمل هذه التكنولوجيات خارج الأطر والسياقات الأخلاقية الأوسع ودون الرقابة الديمقراطية. ومن الأمثلة الواضحة على خطورة تهميش العلوم الإنسانية ما نشهده من ضعف في السياسات العامة التي تتجاهل المعطيات النفسية والاجتماعية والثقافية. فكثيرًا ما تفشل المشروعات التنموية والإصلاحية لأنها تركز على الجوانب التقنية والاقتصادية وتهمل العوامل الثقافية والاجتماعية. على سبيل المثال، قد تفشل حملة صحية رغم توفر الموارد المادية والخبرات الطبية إذا تجاهلت فهم العادات والمعتقدات السائدة في المجتمع المستهدف. أما الجانب الثالث من آثار تهميش العلوم الإنسانية فيتمثل في تراجع المنظومة القيمية التي تحكم المجتمع. فالعلوم الإنسانية، ولا سيما الفلسفة والأخلاق والدراسات الدينية، تلعب دورًا محوريًا في بلورة منظومة القيم التي تحكم المجتمع وتوجه سلوك أفراده وتحدد أولوياتهم. وحين يتراجع الاهتمام بهذه العلوم، تضعف الأطر الأخلاقية التي تحكم التطور العلمي والتقني وتوجهه نحو خدمة الإنسان وتحقيق سعادته. وقد تجلى هذا الضعف في الأزمات الأخلاقية التي تواجهها المجتمعات الحديثة، مثل أزمة المناخ وانهيار التنوع البيولوجي وتفاقم اللامساواة الاقتصادية واستغلال بيانات المستخدمين دون موافقة مستنيرة. هذه الأزمات في جوهرها ليست أزمات تقنية، بل هي نتاج نظام قيمي يُعلي من شأن الربح السريع والنمو الاقتصادي غير المحدود على حساب العدالة والاستدامة والخصوصية وكرامة الإنسان. وكما تقول الفيلسوفة وعالمة البيئة الهندية فاندانا شيفا: "الأزمة البيئية ليست مجرد قضية علمية أو تقنية، بل هي أزمة قيمية وأخلاقية"، وأن "التكنولوجيا وحدها لا تكفي، بل نحتاج إلى تغيير جذري في علاقتنا مع الطبيعة". كما وتؤكد على أنه "لا يمكن حل مشكلة تغير المناخ بالمزيد من الأجهزة التقنية، فهي أزمة قيم تُحوّل الحياة نفسها إلى سلعة"، محذرة في الوقت نفسه من خطورة فصل الأخلاق عن التكنولوجيا. أما الوجه الرابع لتأثير تهميش العلوم الإنسانية فيظهر في تآكل الهوية الثقافية للمجتمعات. فالعلوم الإنسانية، ولا سيما دراسات اللغة والأدب والتاريخ والفنون، تلعب دورًا حاسمًا في الحفاظ على الذاكرة الجماعية للمجتمع وصيانة تراثه الثقافي وتطوير لغته وآدابه بما يضمن استمرارية هويته وحيويتها. وقد عبّر عن هذا المعنى المفكر إدوارد سعيد بتأكيده على أهمية القراءة النقدية للتراث الثقافي والأدب والتاريخ في تشكيل الهوية الثقافية للمجتمع وكوسيلة للمقاومة ضد الهيمنة الثقافية وبوصفها ضرورة لفهم الذات، محذرا من خطورة الانقطاع عن التراث النقدي الذي يؤدي بالضرورة إلى الإغتراب الذاتي والمعرفي. حين تتراجع هذه العلوم، يفقد المجتمع ارتباطه بجذوره الحضارية، ويصبح أكثر عرضة للاستلاب الثقافي والذوبان في ثقافة عالمية استهلاكية تفتقر إلى العمق والأصالة. وهذا ما نلاحظه في كثير من المجتمعات التي تعاني من أزمة هوية حادة، حيث تتراجع اللغات المحلية لصالح اللغات العالمية، وتندثر التقاليد والفنون الأصيلة، وتنقطع الصلة بين الأجيال الجديدة والتراث الثقافي لمجتمعاتها. كذلك نرى تجليات تهميش العلوم الإنسانية في ضعف الخطاب الإعلامي والسياسي وافتقاره للعمق والرؤية، وفي انتشار الفكر الأحادي الذي يرفض التعددية والاختلاف، وفي تراجع قيم التسامح والتفاهم بين الثقافات، وكلها مؤشرات على أزمة عميقة تهدد التعايش الإنساني وتخلق بيئة خصبة للتطرف والعنف. ويرتبط بهذا أيضًا تصاعد ظاهرة "ما بعد الحقيقة" (Post-truth) في الخطاب العام، حيث تتراجع قيمة الحقيقة الموضوعية أمام الروايات العاطفية المثيرة، ويصبح الرأي العام أكثر عرضة للتلاعب والتضليل. وهذه الظاهرة هي في جانب منها نتيجة لضعف التفكير النقدي وتراجع ثقافة الحوار والنقاش العقلاني، وهي جميعها مهارات تنميها العلوم الإنسانية وتعززها. يؤكد الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور على أهمية الأطر الأخلاقية والقيم الثقافية في جعل الحياة الإنسانية ذات معنى، وأن فقدان هذه الأطر يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالاغتراب في المجتمعات الحديثة. ومن النماذج الصارخة لمخاطر تهميش العلوم الإنسانية ما شهده العالم من أزمات أمنية وإنسانية متعاقبة، حيث غالبًا ما تكون الاستراتيجيات الأمنية والعسكرية البحتة عاجزة عن معالجة جذور الصراعات والتوترات التي تكمن في عوامل ثقافية واجتماعية ودينية معقدة. وقد أثبتت التجارب أن المقاربات التي تأخذ بعين الاعتبار البعد الثقافي والإنساني هي الأكثر نجاحًا في بناء السلام المستدام وتعزيز التعايش بين المجتمعات. ولذلك، فإن إعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية ليس ترفًا فكريًا، بل هو ضرورة حضارية ملحة لضمان تقدمٍ متوازن ومستدام يجمع بين التطور المادي والرقي الروحي والأخلاقي. وهذا يتطلب جهودًا حثيثة على مستوى السياسات التعليمية والبحثية، وعلى مستوى الخطاب الثقافي والإعلامي، لإبراز قيمة العلوم الإنسانية ودورها المحوري في بناء الإنسان والمجتمع. وكما يؤكد الفيلسوف الأمريكي جون ديوي: "التعليم ليس إعدادًا للحياة، بل هو الحياة نفسها" مشيرا إلى إيمانه بأن "العملية التعليمية لها جانبان – أحدهما نفسي والآخر اجتماعي؛ ولا يمكن إهمال أحدهما أو جعله تابعًا للآخر دون أن تترتب على ذلك نتائج سيئة". وتقتضي إعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية تبني رؤية تكاملية للمعرفة، تتجاوز التقسيم التقليدي بين "العلوم "الصلبة" (Hard Sciences) و"العلوم الناعمة" (Soft Sciences)، وتدرك أن التقدم الحقيقي للبشرية يتطلب تضافر جميع فروع المعرفة. كما تتطلب إعادة النظر في فلسفة التعليم وأهدافه، بحيث لا تقتصر على إعداد الطلاب لسوق العمل فحسب، بل تهدف أيضًا إلى بناء شخصية متكاملة قادرة على المساهمة الفاعلة في المجتمع، والتفاعل الإيجابي مع التحديات المتسارعة التي تواجه البشرية. إن تأثير تهميش العلوم الإنسانية يتجاوز بكثير القضايا الأكاديمية أو التعليمية البحتة، ليطال جوهر المشروع الحضاري البشري ومستقبله. ولعل أحد أهم دروس الأزمات المتلاحقة التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، من الأزمات المالية إلى الأوبئة والتغير المناخي، هو أن العلم والتقنية وحدهما لا يكفيان لبناء مستقبل يحفظ كرامة الإنسان ويرتقي بحياته، بل لا بد من تكاملهما مع العلوم الإنسانية التي تقدم البوصلة الأخلاقية والرؤية الفلسفية التي توجه التقدم التقني نحو خير الإنسان والحفاظ على كوكبه. وفي الختام، يمكننا القول إن التكامل بين العلوم الطبيعية والإنسانية ليس ترفًا فكريًا بل ضرورة حضارية. فالتحديات الكبرى التي تواجه البشرية اليوم – من التغير المناخي إلى الأوبئة العالمية إلى الثورة الرقمية وتأثيراتها – هي تحديات معقدة متعددة الأبعاد، تتطلب مقاربات شاملة تجمع بين مختلف العلوم والمعارف. في هذا السياق، يؤكد عالم الفيزياء والبيئة فريتيوف كابرا: "نحن نحتاج اليوم إلى رؤية إيكولوجية عميقة للمعرفة (Deep Ecological View of Knowledge) لا ترى العالم كمجموعة من االأشياء المنعزلة المنفصلة، بل كشبكة من الظواهر المترابطة والمتداخلة بشكل جوهري والتي تعتمد على بعضها البعض".