منذ 15 ساعات
كيف غيرت «لايكا» الصغيرة مستقبل الصورة إلى الأبد؟
هل تتخيل أن كاميرا صغيرة من طراز 1925، غيّرت وجه التصوير الصحفي، على امتداد 100 عام، واستطاعت أن تترك بصمة لا تمحى في التاريخ البصري، كانت كاميرا لايكا الأولى (أ) أول كاميرا 35 مم متاحة تجارياً. ونقطة انطلاق حقيقة لثورة التصوير المستقلة، الرحلة نحو ابتكارها لا تنفصل عن عبقرية المخترع والمبتكر أوسكار بارناك، الذي كان يمتلك شغفاً حقيقياًً بعالمية التصوير ورؤية مستقبلية لابتكار جهاز يغير قواعد فن الفوتوغرافيا وبتصميمها الحديث، أنجزت ما لم تستطع الكاميرات الثقيلة ذات الألواح الضخمة أن تفعله من قبل، وأطلقت عهداً جديداً في التصوير المحمول.
كاميرا الجيب
كان بارناك، الذي قاد قسم الاختبار في شركة «إرنست لاييت ويرك»، يحمل حلماً كبيراً، وفكرته بدأت تتبلور قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى وتحديداً في عام 1911. لقد صمم وبنى ما يُعرف بـ«أور-لايكا»، وهو جهاز يعتمد على استخدام فيلم سينمائي قياسي بقياس 35 ملم مع ثقوب، ليُستخدم في التصوير الفوتوغرافي الثابت. كانت فكرته بسيطة بأناقة، ولكنها عميقة التأثير، إذ كانت تتلخص في إنشاء كاميرا صغيرة الحجم، يمكن وضعها في جيب جاكيت، ومع ذلك تتيح إنتاج صور سلبية عالية الجودة يمكن تكبيرها بسهولة يمكن للمحترفين والمصورين الهواة على حد سواء استخدامها لتوثيق كل تفاصيل الحياة، من أبسط اللحظات إلى الأحداث الكبرى.
رغم أن «أور-لايكا» بقيت في البداية جهازاً شخصياً يملكه بارناك، إلا أن تصميمها الرائد وضع الأساس المباشر لنجاح كاميرا «لايكا» الأولى (أ) التي كشف عن تفاصيلها ضمن معرض «لايبزيغ»، وذلك قبل أن تدخل ضمن عجلة الإنتاج الرسمي في عام 1925، قامت شركة «إرنست لاييت ويرك» بتصنيع مجموعة صغيرة من النماذج التجريبية المعروفة باسم سلسلة «0»، حيث حملت أرقام تسلسل من 101 حتى حوالي 125، لم تكن هذه النماذج موجهة للبيع التجاري في البداية، بل كانت تستخدم لاختبار السوق وتطوير التصميم الذي سيغير عالم التصوير تماماً، كأدوات حاسمة ساهمت في إرساء دعائم عصر صحافة الصور، جعلتها تتصدر قائمة المجموعات النادرة والمحفوظة في المتاحف حول العالم، وتُعد حلم كل جامع ومتحف، لما تحمله من تاريخ وإنجازات غير مسبوقة.
وفي السنوات التي تلت، أصبحت لايكا رمزاً حقيقياً للثورة في عالم التصوير الصحفي والوثائقي. لم تكن مجرد أداة، بل كانت شريكاً في خلق صور عفوية، صادقة، تلتقط اللحظة بدقة متناهية، وتعبّر عن روح المجتمع والأحداث التاريخية بشكل لم يكن ممكناً من قبل، حملها العديد من كبار المصورين من هنري كيرتير بريسون إلى وولكر إيفانز، وكل منهما استثمر في قدرتها على إظهار التفاصيل الدقيقة والعفوية.
وفي عام 2025، تحتفل شركة لايكا بمئوية إطلاقها لأول نموذج من سلسلة «لايكا» الأولى (أ) عبر تنظيم معارض في 29 مدينة حول العالم، مع عرض نموذج من سلسلة لايكا-0، وهو واحد من 22 نموذجاً أولياً تم تصنيعه تحت إشراف بارناك، للمزاد العلني. ولعل خير دليل على ذلك هو استعراض مجموعة من الصور التي صنعت التاريخ وتركت أثراً لا يمحى.
ففي عام 1945، وفي لحظة حاسمة من تاريخ العالم، كانت صورة ألفريد آيزنستايدت، التي التقطها في احتفالات نهاية الحرب العالمية الثانية في تايمز سكوير، واحدة من أشهر الصور التي تعبر عن فرحة النصر. وبيعت مقابل مبلغ كبير في مزاد علني عام 2019، حيث بيعت مقابل 114 ألف يورو.
أما المصورة الألمانية إيلزه بينغ، فقد كانت من أوائل من أدركن قوة الكاميرا الصغيرة، فانتقلت إلى باريس عام 1930، حيث بدأت تتلقى مهام تجارية، وطورت رؤيتها الفنية عبر تصوير مشاهد المدينة، كما التقطت صورتها الذاتية الشهيرة في عام 1931، التي تظهر انعكاسات متعددة في مرآة واحدة، معبرة عن رؤيتها الفريدة للواقع والذات.
وفي الخمسينيات، التقى المصور الأمريكي دينيس ستوك بالممثل الشاب جيمس دين، وتطورت بينهما علاقة عمل وصداقة، حيث قام ستوك بتوثيق حياة النجم في نيويورك، والتقط صوراً عفوية، تعبر عن شخصيته الحقيقية، وتُعد من أكثر الصور التي تعبر عن روح الشباب والتمرد. واحدة من هذه الصور، التي تظهر دين وهو يرتدي ملابس دافئة، أصبحت أيقونة وألهمت فيلماً سينمائياً في عام 2015.
هندسة بصرية
ومن جانب آخر كان المصور العالمي هنري كارتيه بريسون دائم السعي وراء ما أسماه «اللحظة الحاسمة»، ويُبرز تنظيم الأشكال بطريقة تعبر عن جوهره، فصورته الشهيرة في عام 1938 على ضفاف نهر مارن، تصور مشهداً هادئاً لمجموعة من الأصدقاء في نزهة وتظهر حسّه الهندسي وفهمه العميق للهندسة البصرية، وتؤكد أن التصوير هو فن حبس اللحظة، واحتضان الصمت في لقطة.
ومن الطبيعة إلى عوالم الطبيعة كان توماس هوبركر من أوائل من وثقوا حياة الملاكم الأسطوري محمد علي، حيث التقط صوراً له خلال تدريباته ومبارياته، وخصوصاً صورة عام 1966، التي تظهر علي وهو يرفع يديه في لحظة انتصار، وتُعبر عن روح التحدي والثقة. كانت الصور عفوية، غير مصطنعة، لأنها لم تكن تتطلب من علي أن يتظاهر، بل كانت لحظات طبيعية، تحتاج فقط إلى عين يقظة ومستعدّة لاقتناصها في الوقت المناسب.
لحظات حاسمة
وفي قلب الثورة، كانت صورة تشي غيفارا التي التقطها المصور الكوبي ألبرتو كوردا في عام 1960، خلال جنازة ضحايا انفجار ميناء هافانا، واحدة من أكثر الصور رمزية في التاريخ. إذ يظهر غيفارا، بعباءة بيريّة topped بخمسة نجوم، يقف بثبات وبتعبير من «اللامبالاة المطلقة»، وهو يحمل علماً مَخيطاً يدوياً، لتصبح الصورة رمزاً للتمرد والثورة. رغم أن كوردا لم يتلقَ مقابلاً مادياً على عمله، إلا أن صورته أصبحت بمثابة شعار عالمي للثورة، ومصدر إلهام للأجيال، وشهادة على قوة الصورة في التعبير عن روح التغيير والتمرد.
تلك الصور التي صنعت التاريخ، وأثرت في الوعي الجمعي، تؤكد أن الصورة ليست مجرد لحظة عابرة، بل هي شهادة حية على الأحداث، وأداة قادرة على توثيق الإنسان وقضاياه، وتخليد اللحظات الحاسمة التي غيّرت مجرى التاريخ. فكل صورة، مهما كانت صغيرة، تحمل في طياتها قوة لا تضاهى، وتذكرنا بأن اللحظة التي نلتقطها يمكن أن تكون أبدية، وأن الكاميرا ليست إلا أداة لنقل الحقيقة، وحبس الزمن في إطار لا يُنسى.