منذ 7 ساعات
لماذا تبني أميركا أكبر سفارة لها في المنطقة على الأراضي اللبنانية؟
على وقع أزمات مالية وسياسية وأمنية خانقة، تبني الولايات المتحدة بهدوء أكبر سفارة لها في الشرق الأوسط على أطراف العاصمة اللبنانية بيروت. مشهد قد يبدو متناقضاً للوهلة الأولى، ولماذا تستثمر واشنطن في بلد منهار؟
لكن خلف هذا التناقض الظاهري، تتكشف معالم تحول استراتيجي عميق في النظرة الأميركية إلى لبنان، ليس كدولة بحد ذاتها، بل كنقطة ارتكاز جيوسياسية وسط تصدّع النظام الإقليمي بأكمله. فالسفارة ليست مجرد بعثة دبلوماسية، بل مركز عمليات متقدم يُهيئ الأرضية على ما يبدو لمرحلة ما بعد "حزب الله"، ويعيد رسم حدود النفوذ بين واشنطن وطهران، في لحظة تتراجع فيها باريس عن قيادة الملف اللبناني، وتتقدم واشنطن بحضور استخباراتي وسياسي غير مسبوقين.
أكثر من مليار دولار تكلفة المشروع
وكانت صور للمبنى قيد الإنشاء، في منطقة عوكر الواقعة على بعد 13 كيلومتراً شمال بيروت، نشرتها السفارة الأميركية في بيروت على حسابها على موقع "إكس"، أثارت جدلاً واسعاً وانقساماً في لبنان حول الهدف من وجود مبنى، بسبب حجمه الهائل ورفاهيته، في بلد يرزح أكثر من 80 في المئة من سكانه تحت خط الفقر. ويبدو المجمّع وكأنه مدينة خاصة، وتبلغ مساحته نحو 90 ألف متر مربع من المباني، و120 ألف متر مربع من المساحات المكشوفة. ويقوم ببناء هذا المشروع مكتب عمليات البناء ما وراء البحار (OBO) في الخارجية الأميركية. ووفقاً لبعض التقارير الصحافية فإن تلك المساحة تقارب ضعفين ونصف ضعف مساحة الأرض التي يقع عليها البيت الأبيض، أو أكثر من 21 ملعباً لكرة القدم.
وكانت السفيرة الأميركية السابقة في لبنان، إليزابيث ريتشارد، هي من وضعت حجر الأساس للمجمع، في أبريل (نيسان) 2017 لينطلق المشروع العمراني الضخم. وقالت السفيرة حينها، إن "وضع حجر الأساس لمجمع السفارة الجديد هو رسالة قوية للشعب اللبناني بأننا معكم على المدى الطويل. ونحن نعتزم مواصلة روح التعاون والشراكة التي سادت في رحلتنا سوياً منذ مئتي سنة تقريباً". وأضافت أن المشروع الجديد المطل "على عاصمة نابضة بالحياة وعلى البحر المتوسط الذي يحبس الأنفاس، يملأني بالتفاؤل حول المستقبل". وتابعت "آمل بأننا نتشاطر هذا التفاؤل الذي يدفع الجيل القادم إلى مواصلة العمل من أجل بناء لبنان آمن ومستقر ومزدهر".
وقالت السفارة على موقعها على الإنترنت إن "مرافِق السفارة الأميركية الجديدة في بيروت تمثل أفضل ما في الثقافة الأميركية من هندسة وتكنولوجيا واستدامة وفن وتنفيذ للبناء". وأن المجمع سيوفر منبراً آمناً ومستداماً وحديثاً وداعماً لموظفي السفارة في تمثيل الحكومة الأميركية في لبنان وفي الإدارة الدبلوماسية اليومية. وكان السفير الأميركي السابق في لبنان ديفيد هيل قد أعلن ومنذ عام 2015 عن مخطط بناء المجمع الجديد، مؤكداً أن هذا الاستثمار الذي تبلغ كلفته نحو مليار ومئتي مليون دولار، يؤكد على "الالتزام الطويل بالشراكة" بين الولايات المتحدة ولبنان. وكشف هيل أن "مساحات السفارة التي يرتادها الجمهور بشكل واسع، أي القسم القنصلي وقسم الدبلوماسية العامة، صُممت كي تخلق تجربة ممتعة لزوارنا حيث سيتم نصب أنواع الفنون الأميركية واللبنانية في هذه المساحات". يُذكر أن قيمة البناء هي ضعف الموازنة التي رُصدت لبناء السفارة في بغداد المقدرة بـ600 مليون دولار. وأشار موقع للاستخبارات الفرنسية حينها إلى أن المجمع الجديد سيكلف نحو مليار دولار، ويضم مستشفى ومركزاً تقنياً ومباني سكنية ومركزاً لجمع المعلومات لـ"سي آي أي".
موقع استخباراتي متقدم
وكالعادة أثارت صور السفارة جدلاً واسعاً في لبنان، فمنهم من رأى أن السفارة ليست مجرد بعثة دبلوماسية، بل مركز متقدم لعمليات استخباراتية أميركية على مستوى الشرق الأوسط، نظراً لضخامتها المحيرة التي تتجاوز بكثير الحاجة الاعتيادية لأي بعثة دبلوماسية في بلد صغير كلبنان. هذا التصور لم يأتِ من فراغ، فالمبنى يتميز بتحصينات أمنية عالية، ومساحة تبلغ عشرات آلاف الأمتار، ويتضمن مرافق متعددة تتجاوز العمل القنصلي، ما غذى الشكوك حول وظيفة هذا المجمّع. البعض يرى أن الولايات المتحدة تسعى إلى تحويل السفارة إلى نقطة مراقبة واختراق لجبهات إقليمية متعددة، من سوريا إلى "حزب الله"، ومن الممرات البحرية إلى التمدد الإيراني، وأنه سيكون بمثابة "مركز قيادة" سياسي- أمني في منطقة تنهار فيها الدولة وتتوسع فيها شبكات النفوذ. في المقابل، يعتبر آخرون أن هذه الشكوك تعكس أزمة ثقة داخلية مزمنة في لبنان، وسرديات سياسية توظف ضد واشنطن لأهداف أيديولوجية. بالنسبة لهؤلاء، فإن الأهداف الأميركية تتطلب بنية متطورة لحماية طاقم دبلوماسي في بلد غير مستقر، وأن حجم المبنى يعكس ببساطة مركزية لبنان في الحسابات الأميركية الأمنية وليس بالضرورة "تآمراً" على سيادته. لكن ما لا يمكن تجاهله، هو أن هذا المبنى، قبل أن يُفتتح رسمياً، بات مرآة لانقسام اللبنانيين حيال الدور الأميركي في بلادهم، بين من يرى فيه حماية وردعاً، ومن يعتبره علامة استتباع ووصاية. يشار إلى أن وزارة الخارجية الأميركية كانت قد أعلنت عن نيتها افتتاح السفارة في عام 2022، إلا أن الموعد تم ارجاؤه إلى العام الحالي 2025، وأخيراً وخلال جولة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في المنطقة، ارتفع منسوب التفاؤل لدى بعض اللبنانيين لدرجة أنهم توقعوا أن ترمب سيعرج على لبنان لافتتاح السفارة.
لبنان بوصفه منصة إقليمية لا دولة مستقلة
لم تعد النظرة الأميركية إلى لبنان محصورة في كونه دولة ذات سيادة تعاني من انهيار اقتصادي، بل بات يُنظر إليه كمنصة استراتيجية متعددة الاستخدامات، منصة للمراقبة، وللضغط، وللمساومة، وربما لاحقاً لإعادة بناء التوازن الإقليمي. من هذا المنظور، لا يُستغرب أن تستثمر واشنطن في بنية دبلوماسية وأمنية ضخمة في بلد يعاني من شلل المؤسسات وعدم استقرارها بين الحين والآخر. فجغرافية لبنان وموقعه على تماس مع سوريا وإسرائيل، ومع ما يحتويه من فصائل ومنظمات لا تتبع للدولة كـ "حزب الله" والفصائل الفلسطينية، تحول إلى صندوق أسود للمصالح المتشابكة، وأميركا تريد أن تضع يدها عليه.
في هذا السياق كان الكاتب والباحث في الشؤون الأميركية، وليد فارس، قد أشار في حديث صحافي، إلى أن الاستخبارات الأميركية تحتاج إلى موقع كهذا في المنطقة لمراقبة التهديدات الأمنية التي تتعرض لها الولايات المتحدة من النظام الإيراني والميليشيات العاملة معه، وكذلك من التنظيمات الأصولية. وأشار فارس إلى أن الموقع على شاطئ المتوسط يشكل مكاناً استراتيجياً متميزاً ويوفر قدرة أفضل على إقامة شبكة اتصالات مع البحرية الأميركية. ولهذا فإن الاستخبارات محظوظة لقدرتها على مراقبة منطقة واسعة من موقعها في لبنان تمتد من شاطئ المتوسط إلى حدود باكستان.
السفارة كقاعدة استخبارات متقدمة
وفي الحقيقة، ما يُبنى في عوكر ليس مجرد مقر إداري للسفراء، بل قلعة محصنة تدمج العمل الدبلوماسي بالأمني والتقني. حجمه الهائل، مساحته التي تفوق مساحة الفاتيكان، والتحصينات التي تُحيط به، كلها تشير إلى طابع غير تقليدي للبعثة. عملياً، نحن أمام مركز استخبارات إقليمي يمكن أن يتابع ما يجري في الجنوب اللبناني، وداخل سوريا، وعلى مقربة من الساحل الشرقي للمتوسط، أي مسرح صراع الطاقة الجديد، فضلاً عن كونه نقطة جمع معلومات حول النفوذ الإيراني والحركة الروسية في المنطقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مرحلة ما بعد "حزب الله"؟
لا يبدو أن واشنطن تعول على ضربة عسكرية تنهي وجود "حزب الله" في لبنان، بل على عملية تفكيك ناعمة ومديدة، تبدأ بخنق الحزب مالياً، وتستكمل عبر تفكيك شرعيته الداخلية. في هذا السياق، تلعب السفارة دور غرفة العمليات السياسية، حيث تُدار اللقاءات مع الشخصيات اللبنانية، وتُحدد الخطوط الحمر لأي تسوية مقبلة. الهدف النهائي لا يتمثل فقط في تحجيم "حزب الله"، بل في فرض معادلة جديدة، دولة لبنانية تحت رعاية دولية، لا دولة مرتهنة لمحور إقليمي.
أفول الدور الفرنسي وصعود الأميركي
منذ عام 2020، تراجعت قدرة فرنسا على التأثير في لبنان، رغم محاولات الرئيس إيمانويل ماكرون تقديم نفسه كحاضن للكيان اللبناني. فشل المبادرة الفرنسية في تشكيل حكومة، وعدم قدرة باريس على فرض أي مسار سياسي مستقر، فتح الباب أمام تقدم أميركي تدريجي. اليوم، تحولت واشنطن من داعم عن بعد إلى راعٍ مباشر للمسار اللبناني، ووجودها الميداني عبر السفارة هو ترسيخ لهذا التحول. لم تعد فرنسا "الأم الحنونة"، بل أصبحت شاهداً من بعيد على مسرح يتقدمه الأميركيون بثقة ووفرة موارد.
الرهان الأميركي على الجيش اللبناني
وعلى رغم هشاشة المؤسسة العسكرية، ما زالت واشنطن ترى في الجيش اللبناني الأداة الشرعية الوحيدة القابلة للاستثمار. لذلك، تشكل السفارة مركزاً للتنسيق بين وزارة الدفاع الأميركية والجيش، من حيث التدريب والدعم والرقابة. هذا الدعم ليس مجانياً، بل مشروط بالابتعاد عن أي تحالف مع "حزب الله"، والجاهزية لتولي دور أمني أكبر في حال فرضت تسوية إقليمية ترتيبات جديدة على الحدود اللبنانية– الإسرائيلية، أو داخل العمق اللبناني نفسه.
الولايات المتحدة تريد استعادة دورها الإقليمي عبر لبنان
وللإضاءة على هذا التحليل، سألت "اندبندنت عربية" الكاتب والمحلل السياسي جوني منير، رأيه حول الموضوع، والذي أشار إلى أن "دائماً ما تعكس السفارة اهتمام الدولة ذات الصلة بالمكان الموجودة فيه. لهذا عندما كان النفوذ الفرنسي هو الأعظم شأناً في لبنان، أقامت فرنسا حينها أكبر سفارة لا تزال حتى اليوم (قصر الصنوبر) وكانت مكان إقامة السفير أيضاً. ومن ثم بدأ نفوذ الولايات المتحدة عبر سفارتها قبل أن يتم تفجيرها (أبريل/ نيسان 1983)، ومعلوم أن المكان كان مستأجراً، وحاولت أن تبدأ بإنشاء مقر دائم وذلك منذ عام 2000، ووقع اختيارها حينها على موقع في منطقة الحدث أي على أبواب الضاحية الجنوبية لبيروت، وكان من الواضح حينها أنها تريد إقامة علاقات جيدة مع البيئة الشيعية. ولكن من بعد حرب يوليو (تموز) 2006، وفشلها في إخراج إيران من لبنان، وهذا هو المعنى الحقيقي للقرار 1559، عدلت عن رأيها واستقر الاختيار على مكان إنشاء المجمع الآن".
اليد العليا لأميركا
ويتابع الكاتب جوني منير، أنه "بالتالي إن بناء سفارة بهذا الحجم يعني أن هناك قراراً من قبل الولايات المتحدة بأن يكون نفوذها في البلد هو الأقوى، وهذا ما تثبته الأحداث الحالية. أيضاً هي تريد أن يكون حضورها ليس فقط للاهتمام بالشأن اللبناني، بل لإستعادة الدور الذي كانت تقوم به قبل الثمانينيات (قبل تفجير المبنى)، بحيث ترى المنطقة من خلال المرآة اللبنانية، أي استعادة دورها الإقليمي". ويضيف منير وبحسب معلوماته "إن طاقم عمل السفارة سيتعدى الـ1000 موظف، وأكبر قسم هو من سيتولى العلاقات العامة، والذي سيشرف على التواصل مع مختلف الشرائح اللبنانية. بحيث ستجس نبض المنطقة من خلال لبنان، لأن لبنان يضم مختلف التوجهات والرؤى الإقليمية، ما يعطيها ميزة التفوق باستشراف الأحداث مبكراً. ولكن الأهم في هذا الموضوع، عدم قلقها من مستقبل لبنان، وهي متمسكة بأن تكون صاحبة النفوذ الأكبر". ويختتم أن "إيران كانت قد شيدت سفارة كبيرة لها وانتقل طاقمها إلى المبنى الجديد في منطقة بئر حسن (فبراير/ شباط 2023)، لأنها كانت تعتقد أو ترسم سياستها بأنها ستكون صاحبة النفوذ الأول في لبنان. ولكن الحرب التي قامت أخيراً (حرب الإسناد) والعنوان الذي طُرح لاحقاً أي إخراج إيران من لبنان، وتمسك الولايات المتحدة بقرارها بأن تكون صاحبة النفوذ الأساس والكامل في البلد، يضع الأمور بمكان آخر، ومن هنا نستطيع فهم استمرارية الصراع بين الولايات المتحدة وإيران في لبنان، على رغم النتائج التي أفضت إليها الحرب العسكرية الإسرائيلية".
لبنان تحت المجهر الأميركي
في المحصلة، إن بناء أكبر سفارة أميركية في الشرق الأوسط في لبنان لا يعكس حرصاً على العلاقات الثنائية فقط، بقدر ما يكشف عن نية في التحكم بإيقاع اللعبة الإقليمية من نقطة التقاء الصراعات الكبرى. السفارة هي تجسيد مادي لعودة أميركا إلى لبنان بصفتها "الراعي الصلب"، لا الوسيط الناعم، في لحظة يتراجع فيها الفرنسيون، ويتحول فيها محور طهران نحو الزاوية. وبينما ينتظر اللبنانيون مخرجاً من أزمتهم، تُكتب من حولهم خرائط جديدة لا يكون فيها للبنان حق القرار، بل دور المنصة، والميدان، وربما الحقل التجريبي الأخير.