logo
#

أحدث الأخبار مع #إليزابيثزوت

كيمياء المرأة الإنسانة - قراءة فكرية اجتماعية في رواية دروس في الكيمياء لـبوني غارموس
كيمياء المرأة الإنسانة - قراءة فكرية اجتماعية في رواية دروس في الكيمياء لـبوني غارموس

البلاد البحرينية

time١٢-٠٥-٢٠٢٥

  • علوم
  • البلاد البحرينية

كيمياء المرأة الإنسانة - قراءة فكرية اجتماعية في رواية دروس في الكيمياء لـبوني غارموس

العلم ليس شأنًا ذكوريًا، العلم ليس كتابًا مغلقًا في يد رجل يرتدي معطفًا أبيض ونظارات سميكة، ليس نظريات محفوظة، ولا معادلات تُكتب لتُفهم داخل المختبرات فقط، العلم ليس لا حكرًا على فئة دون الأخرى. العلم حياة.. ونمارسه بلا وعي، منذ لحظة تشكّلنا في ظلمات الأرحام، في نومنا، واستيقاظنا، في حركة الشمس، ودوران الأرض، في تفاصيل أجسادنا، في لون بشرتنا وتعدد ألواننا، في أنفاسنا، في قياس حرارة قلوبنا، وحتى في كيمياء عقولنا. الجسد خريطة من التجارب، والمطبخ مختبر مفتوح، واسع، متعدد الأوجه. ربة المنزل عالِمة، حتى إن لم تُمنح لقبًا أكاديميًا. طعامنا علم، وتباين ألوانه وفوائده علم. تقطيع المكونات بأحجام متساوية علم، دمج النكهات، ضبط الحرارة، كيل البهارات، ضبط الملح، توافق التوابل.. كلها كيمياء. ومعيار التوقيت كيمياء دقيقة لا يتقنها إلا من فهم التفاعل بين الوقت والجوهر. المرأة في الحرب وبعدها في أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت المرأة صمّام الأمان لاستمرار عجلة الإنتاج، والمحرّك البديل الذي أبقى المصانع تدور، والحياة تستمر في غياب الرجل. لكن ما إن وضعت الحرب أوزارها، حتى أُعيد تشكيل صورتها الاجتماعية وفق قوالب مثالية ضيقة، قوالب رسمها الرجل بمعاييره الخاصة، لتُرضي نظرته واحتياجاته وتُريحه. أُعيدت لتكون: أيقونة الجمال ذات الخصر النحيل، الشعر المصفف بعناية، الكعب العالي المذبب الذي يُدمي القدمين، الأم المثالية، الممرضة الحنون، القاصّة الأفضل لأطفالها... دمية خلف الفرن، دمية وراء حوض جلي الصحون، دمية أمام كومة الغسيل، ودمية أمام شاشة التلفاز. لكن المرأة، بطبيعتها المتحدية، ترفض الصفوف الخلفية. تأنف أن تكون ظلًا أو خيارًا طارئًا، وترفض أن تُستدعى عند الحاجة فقط، ثم تُنسى، هي تريد أن تكون حاضرة بوجود الرجل، لا في غيابه. شريكة لا بديلة، صوتًا لا صدى، عنصرًا أصيلًا في الصف الأول.. لا مكمّلة على الهامش. إليزابيث زوت.. الغاز النبيل في مرحلةٍ ما أثناء دراستي المدرسية والجامعية، تطرقتُ إلى دراسة الغازات النبيلة، وهي عناصر كيميائية نادرة، مستقرة بطبيعتها، لا تتفاعل بسهولة مع العناصر الأخرى بسبب اكتمال غلافها الإلكتروني. وكذلك كانت إليزابيث زوت مكتملة بفكرها، وتكوينها، وقناعاتها. لشدة صراحتها وسلاطة لسانها، كانت ترفض التملق وطأطأة الرأس، وتكره المجاملات. حرّة العقل والفكر، لذلك كانت علاقاتها الاجتماعية قليلة، أو تكاد تكون معدومة. فهي مكتفية بذاتها، ومشغولة بتكوينها، ومؤمنة بكفاية فكرها. كالفن.. حبّ بعقل العالِم لا بعيون العاشق كان كالفن الرجل المثالي للمرأة التي تحترم عقلها. كان نِدًّا لها: فكرًا بفكر، وعقلًا بعقل، ولغة حوار راقية بين الإنسان الذكر والإنسانة الأنثى. لم يُحبّها لجمالها، ولا لجسدها، بل لأنه، بعد أن نظر إليها بعدسة ميكروسكوبه الدقيقة، اطّلع على المرأة العالِمة داخلها. أحبّها لأنها كانت شريكة حقيقية. هو العالِم، الناضج، المحروم من دفء لم يطلبه.. بل سعى لصنعه. لم يكن مستهلكًا للعاطفة، بل خالقًا لها، معها وبها. ماد... الذرة المثالية التي تنتمي لعلاقة واعية ومن هذا الاتّحاد، وُلدت ماد... صرخة غضب ناعمة لجيل جديد. جيل ناتج من علاقةٍ سويّة، قائمة على عقلٍ علمي، واحترامٍ إنساني. هي "ذرة مثالية" برابطٍ قوي، كما في الوصف الكيميائي، شخصية كُتبت بشيءٍ عالٍ من المثالية، إلا أنها تطرح سؤالًا عميقًا: ماذا لو ربّينا أبناءنا على احترام العقل؟ ماذا لو تحرّرت الفتاة من الخوف، والقيد، والتسطيح؟ ماذا لو أحبّ الرجل عقل المرأة قبل جسدها؟ المطبخ كمختبر.. المقاومة الناعمة خلف الشاشة ولتنشئ جيلًا حرّ الفكر، قوي الرأي، صلبًا، معتدًّا بنفسه، ارتأت إليزابيث أن تكون مؤثّرة من خلف شاشة التلفاز، لا دمية مستسلمة أمامه. فقدّمت أشهى الأطباق، بمكوّنات من الحكمة، والعلم، والحرية، والاستقلال. كانت تبثّ من خلال حديثها وصفاتٍ لا تُؤكل فقط، بل تُفهم. كل حرارة محسوبة، كل مكوّن موزون، كل توقيت مضبوط.. المطبخ عندها لم يكن مكانًا للتكرار، بل معملًا للتفكير. تحوّلت وظيفتها المفروضة إلى رسالة مبطّنة، تصل للمرأة الجالسة أمام الشاشة، وتقول لها بلغة ناعمة وحاسمة: افهمي، اختاري، كوني. فمن مختبر الطهو.. وُلدت المرأة الإنسانة. رسائل اليزابيث زوت لم تكن إليزابيث زوت تعلّم النساء كيف يطبخن فقط، بل كيف يفكرن، يعترضن، ويعدن اكتشاف أنفسهن من خلال الكيمياء اليومية. قالت ذات مرة: "الطبخ كيمياء، والكيمياء هي الحياة، قدرة المرء على تغيير كل شيء - بما في ذلك نفسه - تبدأ هنا". وفي حلقة أخرى، ربطت بين أدوات المطبخ وأدوات العيش: "الإقدام في المطبخ يضفي إلى إقدام في الحياة". وكانت تربط بين الروابط الكيميائية والعلاقات البشرية، وتقدّم مفهوماً جديدًا للشراكة: "ربما كان زواجكما أقرب إلى الرابطة التساهمية.. وهذا يعني أنكما تملكان قوى تشكل شيئًا أفضل حين تتحد. مثل الماء". ثم أردفت، بخفة فلسفية: "الحفلة تصبح أفضل بفضل الفطيرة التي أعددتها والنبيذ الذي أحضره، إلا إن كنتِ لا تحبين الحفلات – وأنا لا أحبها؛ ففي هذه الحالة فكّري في الرابطة التساهمية كأنها سويسرا". ما قبل النسوية.. الرفض الصامت في خمسينات القرن الماضي في خمسينات القرن العشرين، لم تكن الحركة النسوية قد اندلعت بعد، لكنها كانت تختمر بهدوء. رفضٌ صامت بدأ في قلوب النساء اللواتي ضقن ذرعًا بصورة الدمية المنزلية، وبدأن يتسلّحن بالتعليم والعمل والوعي. إليزابيث زوت كانت واحدة منهن، بل كانت موجة تمهيدية لانفجار النسوية في الستينات. لم ترفع شعارات، بل رفعت رأسها. لم تخرج في مظاهرات، بل دخلت المختبر. رفضت الظلم، لا بالصوت العالي، بل بالعقل الصافي والقرار الصلب. لقد سبقت زمانها، فبينما كانت معظم النساء تكتفين بالحلم، كانت هي تحوّل الحلم إلى معادلة.. قابلة للتحقيق. ماذا كسبت المرأة؟ وماذا خسرت؟ من خلال قراءتي لرواية دروس في الكيمياء للكاتبة بوني غارموس، رأيت هذه التحولات في ضوء تجربة إليزابيث زوت، التي جسّدت بوضوح مكاسب الحركة النسوية وخسائرها كذلك. المكتسبات: الوعي بالكينونة الإنسانية المستقلة: لم تعد المرأة ترى نفسها ظلًا للرجل، بل عقلًا قائمًا، وصوتًا فاعلًا، وقرارًا كاملًا. الاستقلال المادي من خلال العمل: لم تُحصر بعد اليوم في السكرتارية أو الأعمال المكتبية، بل بدأت تخترق مجالات كانت حكرًا على الرجال، كالمختبرات، والإنتاج التلفزيوني، والبحث العلمي. اقتحام التعليم العالي والتخصصات الدقيقة: أصبحت تسعى للشهادات الجامعية والدراسات العليا في تخصصات صلبة، مثل الطب والكيمياء والهندسة، لا بوصفها فضولًا نسويًا، بل حقًا مكتسبًا. كسر الصور النمطية عن الأنشطة "الذكورية": سواء في الرياضة، أو السياسة، أو الفضاء العام، أو حتى مجرد الجلوس على طاولة القرار. الخسائر: التخلي عن المرجعيات الأخلاقية والدينية والاجتماعية: أحيانًا تحت راية التحرر، لكن دون بدائل حقيقية تحفظ التوازن الداخلي أو المجتمعي. شيوع المساكنة والعلاقات خارج الزواج: كُرّست بوصفها شكلاً جديدًا من "الحب الحر"، لكنها غالبًا ما خلت من الأمان القانوني والعاطفي. تفكك النموذج الأسري السوي: تراجعت الأمومة من كونها نُبلًا فطريًا إلى عبء اجتماعي، وحُوصرت داخل مفهوم "القيد" بدل أن تُرى كشراكة وخلق. غياب الأمان الجسدي رغم زخم الحريات: فرغم الشعارات المرتفعة، لا تزال جرائم الاغتصاب والتحرش تتفاقم. وفي عام 2025، احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميًا بـ 99,938 حالة اغتصاب سنويًا. مفارقة قاسية: حرية بلا حماية.. تحرر بلا تحصين. "دروس في الكيمياء" رواية نسوية من الجلدة إلى الجلدة، لكنها نسوية غير مبتذلة. نسوية تحترم إنسانية المرأة، واختياراتها، وجسدها.. بدون تسليع، وبدون إسفاف، وبدون تسطيح. رواية مؤلمة، تراجيدية، لكنها تنتهي بنهايات مبهجة، سعيدة، كأفلام الكريسماس. وقد أنهيتُها في ليلة العيد، فبدت النهاية وكأنها تهمس لي: "سيأتي الفرج، وإن أبطأ. فالضوء لا يُقاس بعجلته، بل بأثره حين يحلّ.. وما تأخّر إلا ليغمر القلب حين يصل." وها هي إليزابيث، رغم كل ما مرت به، تشدّ على أسنانها، تمضي، وتذكّرني بقلم الرصاص، ذلك الرمز البسيط، الذي لا يكتب فقط... بل يصحّح. به ندوّن، نختبر، نُخطئ، ثم نعود لنُعيد الكتابة. هو إعلان داخلي بأن المرأة ليست نصًا نهائيًا، بل مشروعٌ دائمٌ للكتابة.. وللتحرير. فكلّ امرأة تحتاج إلى لحظة هدوء، لحظة تأمل، يعاد فيها ضبط المعايير الداخلية، قبل أن تنهض من جديد... أكثر وعيًا، أكثر قوة، وأكثر امتلاءً بذاتها.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store