أحدث الأخبار مع #ابنباديس


الشروق
منذ 2 أيام
- سياسة
- الشروق
حكيم الجزائر محمد البشير الإبراهيمي في الذكرى الستين لوفاته
إي والله، حكيم بأتمّ معنى الكلمة، وقد عقّب هو نفسه على من قال عنه 'علّامة الجزائر'، بقوله 'أنا علّامة الجزائر، وعلَامة رفع لا علامة خفض'… وآية حكمته ما قرأناه له فيما وصل إلينا من آثاره التي نُشرت في خمس مجلدات، بإشراف ابنه الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وهي ما بقي مما كتب وما وصلنا من آثار حفظتها لنا الجرائد والمجلات… أما ما ألّف من كتب في فنون متنوعة فكثير، ولكنه ضاع مع ما ضاع من رسائل ومقالات أخرى وأحاديث إذاعية في العالم الإسلامي؛ بل ومقابلات مع الكثير من رجال الفكر والدعوة في العالم الإسلامي -بكل أسف- ومنها لقاؤه مع الأستاذ أبو الأعلى المودودي في زيارته لباكستان. قال لي الأستاذ محمد الهادي الحسني يوما 'عزمتُ على ألا أقرأ لأحد بعد اليوم إلا للإبراهيمي'، وحق له ذلك؛ لأن من يقرأ للإبراهيمي، يشعر أنه يقرأ كلاما غير عادي: مفردات وأسلوب وجمل متجانسة، لا تشعر بمفردة مقحمة في غير سياقها الذي وضعت فيه؛ بل لا يشعر بتكلّف أو تصنّع في شعر أو نثر أو سجع أو تصنّع في إيراد عبارات من مفردات عربية قديمة يريد الاستعلاء بها عن الناس… بل ويشعر من يقرأ للإبراهيمي، أنه يقرأ لأديب من الطراز العالي، حتى أن إعلام العراقيين استقبلوه في زيارته لبغداد في إطار الترويج للثورة بعناوين عريضة منها 'أمير البيان'، التي لم يعرف بها إلا شكيب أرسلان، ويقرأ لفيلسوف وعالم في تربية وعالم في الاجتماع ومؤرخ… وكل ذلك يكتب فيه كتابة المتخصِّص وليس ككاتب المقال الملزم بتسليمه كل أسبوع… وفي كل ذلك من الحكمة الكثير التي لم يؤتها الكثير من الناس. يرى الشيخ الإبراهيمي أن الشعب الجزائري قد استولى عليه استعماران: الاستعمار الغربي الفرنسي الذي حاول تجريده من إنسانيته بالتجهيل والتفقير والاستيلاء على مقدراته واستعباده وتجريده من مقوماته الثقافية والدينية، والاستعمار الذي تمثله الطرق الصوفية المنحرفة التي استولت على عقول الناس بالتدين المغشوش المختلط بالخرافة والشعوذة والبدعة. الشيخ محمد البشير الإبراهيمي لمن لا يعرفه، واحد من رجال الإصلاح في الجزائر ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد ابن باديس، تُوفي في 20 ماي 1965، أي قبل شهر من الانقلاب على خصمه السياسي أحمد بن بلة… وقد عاش 76 سنة بين الحجاز والشام والجزائر، كما عاش في الجزائر بين راس الواد ببرج بوعريريج وسطيف شرقا وتلمسان غربا وآفلو جنوبا… طالبا للعلم ومعلما ومدرِّسا ومنفيا وداعية إلى الله رفقة إخوانه من رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وإثباتا لدعوى حكمة الإبراهيمي اكتفي بهذه المناسبة بعرض ثلاثة نماذج من الحِكم البليغة التي زين بها مقالاته… وهي من الحكم التي تعدّ من مفردات الأصول في منهجية الفعل الإصلاحي عموما، وقد تبنتها جمعية العلماء ونسبتها للشيخ الإبراهيمي، لأنه هو الذي عبّر عنها في النصوص التي ننقلها عنه، ومن ناحية أخرى هو مع ابن باديس هما عمدة الجمعية والعمل الإصلاحي عموما في الجزائر، من حيث أنهما كانا يخططان وينفذان وفق رُؤى واضحة بالنسبة إليهما تمام الوضوح، ولذلك سهُل عليهما التعبير عنها بسهولة ويسر ودقة تامة. الحكمة الأولى: كشف عنها الإبراهيمي في مقال له عن بذور الأولى لتأسيس جمعية العلماء في الجزائر، وذلك في سنة 1913 عندما زاره ابن باديس في المدينة المنورة، وكان عمره يومها 24 سنة، وقد عكفا على مناقشة موضوع النهوض بالجزائر والكيفية المناسبة لذلك فقال 'كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي: ألا نتوسَّع له في العلم، وإنما نربّيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمّت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا'. آثار محمد البشير الإبراهيمي 5/280. ولبُّ الحكمة في هذه الفقرة هي قوله: 'فكرة صحيحة ولو مع علم قليل'، على خلاف ما يعتقد الناس في الغالب، من أن الإكثار من العلم هو المطلوب والذي ينبغي الاهتمام به، فقد اختار الرجلان التركيز على 'الفكرة الصحيحة' وليس على الإكثار من العلم؛ لأن العلم القليل مع الفكرة الصحيحة التي تعني صفاء الذهن وخلوَّ العقل من الخرافة والشعوذة والبدعة وانحراف السلوك، والخوف والجبن والخور، أولى من كثرة العلم مع وجود الخرافة والشعوذة والبدعة وانحراف السلوك؛ لأن صفاء الذهن واستقامة العقل ينمّيان العلم القليل ويزكيانه، أما الإكثار من العلم لا يقوى على تقويم الذهن وإخلاء العقل وتصفيته من الخرافة والشعوذة والبدعة. يرى الشيخ الإبراهيمي أن الشعب الجزائري قد استولى عليه استعماران: الاستعمار الغربي الفرنسي الذي حاول تجريده من إنسانيته بالتجهيل والتفقير والاستيلاء على مقدراته واستعباده وتجريده من مقوماته الثقافية والدينية، والاستعمار الذي تمثله الطرق الصوفية المنحرفة التي استولت على عقول الناس بالتدين المغشوش المختلط بالخرافة والشعوذة والبدعة. ولتحرير المجتمع من هذين الاستعمارين لا بد من بناء العقل وتمجيده، وتصفية الذهن وتنقيته من كل ما علق به مما يخالف صحيح الوحي وصريح العقل السليم. وبالفعل فقد عاد ابن باديس في ذلك العام 1913 وشرع في تنفيذ الخطة في جامع سيدي قموش والجامع الأخضر بقسنطينة، ثم لحق به الشيخ البشير بعد نحو سبع سنوات ليسير على النهج نفسه، ثم لحق بهم خلقٌ كثير من علماء الجزائر من داخل البلاد ومن القادمين من خارجها، وواصل الجميع العملية البنائية وفق تلك المنهجية المتفق عليها: 'فكرة صحيحة ولو مع علم قليل'… لأن الفكرة الصحيحة تجلب العلم وتُكثره، أما العلم بمفرده بكثرته فلا يقوى على مقارعة الانحرافات العقدية البدعية والسلوكية، ولذلك وجدنا علماء كبارا ولكنهم خرافيون وبدعيون بل ومتآمرون مع الطواغيت على الشعوب المغبونة. الحكمة الثانية: هي العمل على تحرير العقول، وفق المنهج والعبارة ذاتها التي وضعها الإبراهيمي في ذلك قوله: 'محال أن يتحرّر بدَنٌ يحمل عقلًا عبدًا'، (آثار الشيخ الإبراهيمي 3/56) ذلك أن العبد لا يمكن أن يكون إلا عبدا. والعبد ليس العبد المملوك فحسب، وإنما هو كل إنسان لا يملك عقلا حرّا يتفاعل مع الوجود وفق قناعاته ومقرراته النابعة عنها. ومن فقد هذا المستوى من الحرية يعدّ عبدا بسبب فقدانه الحرية العقلية، واعتبر الإبراهيمي ذلك من جوهر ما يعمل عليه العلماء في نشاطاتهم الإصلاحية بل اعتبر ما تم في الجزائر من ذلك 'من صنع يدها، لا فضل فيه لأحد سواها، وأوّل يدٍ بيضاء لها في هذا الباب هو تحرير العقول من الأوهام والضلالات في الدين والدنيا، وتحرير النفوس من تأليه الأهواء والرجال، وإن تحرير العقول لأساسٌ لتحرير الأبدان، وأصْلٌ له، ومحال أن يتحرّر بدَنٌ يحمل عقلًا عبدًا'، وجميع توجيهات الشيخ التربوية داخل الجمعية وخارجها يصبّ في هذا الاتجاه. يقول أحمد طالب الإبراهيمي: 'أنني عندما نجحت في امتحان البكالوريا سنة 1949، استشرتُ والدي عن نوعية الدراسة العليا التي ينصحني بإتّباعها، فقال لي رحمه الله: اختر ما شئت، شريطة أن تمارس مهنة حرة، ألا تصبح موظفا عند الحكومة الفرنسية'. حتى لا يستعبدك أحد ويضغط عليك بالوظيفة والسعي وراء الخبزة. أحمد طالب الإبراهيمي/ آثار محمد البشير الإبراهيمي 1/23. والحرية هي جوهر ما كانت تهدف إليه جمعية العلماء في نشاطاتها التربوية، سواء في الاختيار الأول وهو العمل على 'الفكرة الصحيحة' التي تهتم ببناء العقل وتجريده مما علق به من أدران الخرافة والجهل… أو في التوجيه العامّ المفضي إلى التحرر من ربقة الاستعمار وامتداداته المتنوعة؛ بل إن ابن باديس اعتبر 'المطالبة بالاستقلال' لا يعبِّر حقيقة عن السعي من أجل الحرية؛ لأن الاستقلال نتيجة تتحقق بمقدماتها… أما الاستقلال من حيث هو فتحنّ إليه الدواب، ولا يتحقق بالمطالبة، وإنما يتحقق بالانتزاع، ولا يُنتزع إلا بالنفوس الحرة الأبيّة. الحكمة الثالثة: هي 'فقه الفقه' وذلك في قوله 'إن في الفقه فقهًا لا تصل إليه المدارك القاصرة، وهو لباب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنة محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه؛ وهو الذي ورثه عنه أصحابُه وأتباعهم إلى يوم الدين، وهو الذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به، وهو الذي يجلب لهم عز الدنيا والآخرة، وهو الذي نريد أن نحييه في هذه الأمّة فتحيا به، ونصحّح به عقائدها، ونقوّم به فهومها، فتصحّ عباداتها وأعمالها، فإن العبادات هي أثرُ العقائد، كما أن الأعمال هي أثر الإرادات، وما يُبنى منها على الصحيح يكون صحيحًا، وما يُبنى على الفاسد فهو فاسد' (آثار محمد البشير الإبراهيمي 3/ 191)، وعبارة 'فقه الفقه' التي لم أقف عليها عند أحد ممن قرأتُ لهم، يمكن اعتبارها عنوان 'علم المقاصد'… وذلك هو جوهر التديُّن الذي يريده الله منا، سواء في الأمور معقولة المعنى أو في الأمور التي لا تخضع للعقل، وإنما هي من العبادة التي جاء بها الوحي الصحيح.


الشروق
منذ 2 أيام
- سياسة
- الشروق
النفاثات في العقد
كل من قرأ كتاب الشيخ أحمد حماني 'الصراع بين السنة والبدعة'، أو كما سماه الراحل أيضا: 'القصة الكاملة للسطو بالإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس'، يلاحظ ما بذله رائد النهضة الجزائرية من جهد واجتهاد، لأجل أن يحرر العقول من الخزعبلات، التي عشّشت فيها، وساهم الاستعمار في ترسيخها، من خلال رفع قيمة وسلطة الطرقيين و'المرابطين' كما كانوا يُسمّون في ذاك الزمن التعيس. وبحسب رواية الراحل أحمد حماني، وهو تلميذ الشيخ ابن باديس، فإن رائد النهضة لم يتوقف عند الخطب والكتابة، فكان يطرق أبواب المشعوذين، فإن عجز عن منعهم عن النصب على عامة الناس، استعمل القوة لردعهم، وكان لا يرى أي نهضة ممكنة للأمة من دون أن تُكنس هذه الطائفة من مجتمعنا ويُكنس خصوصا ما عشّش في عقول الناس بأن هؤلاء بإمكانهم الإتيان بالأذى وأيضا بالخير، ويعتبر ذلك شركا يُبعد فاعله عن الإسلام الذي جاءت فرنسا لأجل قبره. يحزّ في النفس أن نقرأ في الصحف عن مشعوذ جمع أموالا قارونية في ظرف وجيز، ويحزّ في النفس أكثر عندما نعلم بأن من ضحاياه أو دعونا نقُل من 'المسلّمين المكتّفين' كل أطياف المجتمع بما في ذلك من حملوا شهادات جامعية، وحتى لا نترك الأمور تسير إلى الاتجاه الخطأ، فإن هذه الحملة التي نظمها بعض الشباب عن حسن نية لأجل تطهير المقابر، يجب أن تتوقف حالا، فمن غير المعقول أن يؤمن هؤلاء بأن الصور التي وُجدت مدسوسة في التراب أو الأقفال والتمائم بإمكانها أن تؤذي آمنا في بيته أو مسالِمة تعيش حياتها في هدوء. قرأنا كل النسخ الأصلية من صحف الشيخ ابن باديس، من 'المنتقد' إلى 'الشهاب'، وكل الافتتاحيات التي كان يتفضل بها الشيخ ابن باديس مع رعيله الفاضل وطائفة من علماء الجمعية الأجلاء، وكانت صحيفة 'الشهاب' تضع ركنا خاصا بالفتاوى يتولى رائد النهضة الإجابة فيه عن تساؤلات أبناء الجزائر منذ قرن من الزمان، فلم تستوقفنا قطّ حكايات عين الحسود والسحر المتمكّن أو الجن الساكن في الأجساد أو الرقية التي يجب أن تنقذ هذا الشعب البائس، الذي تتهاطل عليه الشرور من المسمى 'شمهروش'، حتى إنك تخال السنوات الأخيرة للشيخ ابن باديس كانت منيرة وأسّست لفكر علمي وثوري، أنجب فكر مالك بن نبي وعبد الرحمان شيبان وأحمد زبانة وعبد الحميد مهري والعربي بن مهيدي… أكيد، أن التشوّهات التي تطال أعضاء الموتى، من قطع أصابع وأيدٍ أو دسّ في تراب القبور للصور والمسامير والشعور، هو جريمة يُسأل عنها الفاعلون وحتى مصالح البلدية العاجزة عن حماية ميّت في قبره، لكن التشوّهات التي طالت عقول الأحياء، أكثر إيلاما، فالسحر لا يحقق مراده، وقد قال تعالى: 'ولا يفلح الساحر حيث أتى'، والغيب لا يمتلك مفاتيحَه غيرُ الله، وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: 'ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير'، والذين ينظّفون القبور، عليهم أن يقتنعوا بأنهم ينظفونها من الوسخ والرجس، وليس من أذى الناس، وإلا دخلوا دائرة المؤمنين بقوة السحرة.. دائرة الشرك.


الشروق
١٥-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الشروق
الوطن والوطنية في فكر ابن باديس
من العبارات الشهيرة التي وضعها الإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس رحمه الله شعارا لمجلته 'المنتقد': (الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء)، ولم يكن هذا الإمام الفذ الحكيم يضع شعاراته وينشئها إلا وهو يقصد من ورائها غاية للتعليم والتوعية والبيان. ولعل سائل يسأل: هل كان الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله ضيِّقَ الأفق لا تضبطه دلائل الشرع حتى يؤمن بالحدود بين البلدان الإسلامية ويتعصب للفكرة 'الوطنية'؟ وما هذه الحدود التي فرّقت الأمة إلى أجزاء إلا صناعة الاستعمار الغربي الذي جاس خلال ديار المسلمين، ثم هي خلاصة تفاهمات شيطانية لسياسيين استعماريين هما: البريطاني سايكس، والفرنسي بيكو، حين جلسا على طاولة التفاوض لتقسيم تركة الخلافة الإسلامية ' الرجل المريض 'مع بعض قوى الاستعمار الأخرى سنة 1916م-1917م!؟. والحق أن الإمام ابن باديس رحمه الله كان يملك من الفقه الشرعي والواقعي والسياسي ما بوّأه ليكون صاحب بصر حديد، واجتهاد سديد، لا تحرّكه العواطف العواصف، بل تصدر آراؤه ومواقفه من عقل يحتكم إلى دلالات النصوص الشرعية، ويدرك حقائق الواقع والإحاطة بها، ولهذا كان حين يكتب في كثير من القضايا الشائكة يعرض رأيه بحنكة وسهولة، فيصل بقارئه إلى الغاية بكل هدوء وذكاء. لقد كان الإمام ابن باديس رحمه الله مرتبطا وجدانيا وعقليا بالوطن، ولم يكن هذا الارتباط يمنعه من الشعور بأن باقي الأوطان الإسلامية هي امتدادٌ لهذا 'الوطن الخاص' لأن خدمة الوطن الصغير تصب في دائرة خدمة الوطن الكبير الذي يجمعه الإسلام فتصبح هذه الحدود التي صنعتها السياسة مجرد خطوط وهمية لا تقدر على منع المسلم من الارتباط بأخيه المسلم حتى وإن تباعدت المسافات وحالت بينهم السدود، ولهذا يقول الإمام ابن باديس رحمه الله: 'نعم، إن لنا وراء هذا الوطن الخاص أوطاناً أخرى عزيزة علينا هي دائماً منا على بال، ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لابد أن نكون قد خدمناها وأوصلنا إليها النفع والخير، عن طريق خدمتنا لوطننا الخاص'. إنّ ارتباط الإنسان بالمكان هو ارتباط فطري وجداني سرعان ما يتسع هذا الارتباط الذي يبدأ من الوطن الصغير 'البيت والأسرة' إلى 'الوطن الخاص' الذي تتسع دائرته شيئا فشيئا إلى أن تصبح 'الإنسانية' وطنه الكبير، وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن باديس رحمه الله: 'أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص، وتفرض عليّ تلك الروابط لأجله، كجزء منه، فروضاً خاصة، وأنا أشعر بأن كل مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة، فأرى من الواجب أن تكون خدماتي أول ما تتصل بشيء تتصل به مباشرة…'. الإمام ابن باديس رحمه الله لم يكن يفصل الدين عن أي مفهوم قيمي، فالوطنية بالضرورة لا تنفصل عن الدين الذي يراه العاصم لها من التعصب للجنس والانحراف، والدّاعي إلى نبذ كل أنواع الظلم، وهذا ما عبّر عنه حين قال: 'نهضتنا نهضة بنينا على الدين أركانها، فكانت سلاما على البشرية، لا يخشاها والله النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته، بل ولا المجوسي لمجوسيته، ولكن يجب –والله- أن يخشاها الظالم لظلمه والدجال لدجله والخائن لخيانته'. على أن الإمام ابن باديس رحمه الله لم يكن يفصل الدين عن أي مفهوم قيمي، فالوطنية بالضرورة لا تنفصل عن الدين الذي يراه العاصم لها من التعصب للجنس والانحراف، والدّاعي إلى نبذ كل أنواع الظلم، وهذا ما عبّر عنه حين قال: 'نهضتنا نهضة بنينا على الدين أركانها، فكانت سلاما على البشرية، لا يخشاها والله النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته، بل ولا المجوسي لمجوسيته، ولكن يجب –والله- أن يخشاها الظالم لظلمه والدجال لدجله والخائن لخيانته'. إن ارتباط المسلم بوطنه الذي وُلد فيه وترعرع عاطفيا لا يخالف أبدا واجب ارتباطه بوطنه الأكبر الموحد تحت راية 'لا إله إلا الله محمد رسول الله'، وتعدد الأوطان الخاصة لا يلغي وحدة الأمة الكبيرة، فالحدود المفروضة بحكم الاتفاقيات الدولية التي أصبحت واقعا سياسيا لا يمكنها أن تمنع المسلمين -على الأقل على مستوى الشعوب- من التواد والتعاطف والتعاون والتناصح والتناصر إلى أن تعود وحدتهم السياسية كما كانت قبل سقوط الخلافة. وهذا الارتباط العاطفي الفطري بالوطن الخاص هو الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاطب مكة، مربَّع ولادته، ومرتع صباه، وموقع سكنى الأهل والأحباب، قائلا: (ما أطيبك من بلد، وأحبّك إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك) [رواه الترمذي رقم 3926]. إن فكرة الوطن والوطنية فكرة صحيحة كما يرى إمامنا ابن باديس رحمه الله حين ترتبط بالدين وتتخلص من أي شكل من أشكال العصبية والعنصرية المقيتة، وتتحول إلى دعامة اجتماعية للوحدة والتلاحم بين أبناء المكان الواحد، ولكن يبقى المسلم دائما يؤمن بواجب أن يجتمع المسلمون في كيان واحد -لا تهم التسميات والمصطلحات- تذوب فيه الحدود المصطنعة فلا يحتاج الواحد منهم إلى 'تأشيرة' لينتقل إلى أي أرض يُرفع فيها الأذان خمس مرات في اليوم، ويُكتب في بطاقة تعريفه أو جواز سفره 'مسلم' للتعبير عن جنسيته، وكفى بالإسلام هوية وانتسابا.


الشروق
١٥-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الشروق
الإمام ابن باديس أقلقهم حيا وميتا
الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – واحد من كبار علماء الأمة المحمدية في العصر الحديث، هيأه الله عز وجل وصنعه على عينه ليخدم الجزائر بفكره الإصلاحي التجديدي، وجهاده العظيم الشامل المتواصل، وجزاء ما قدمه من أعمال عظيمة لوطنه، واعترافا بأفضاله الكثيرة، رزقه الله القبول وحب عموم الجزائريين، ويُستثنى من ذلك من أُشرب قلبه كره كل ما له صلة بالإسلام ومبادئه ورجالاته، وبغض مواريث الأمة المعاكسة للتقاليد الغربية المادية، والمخالفة لأعراف عبدة الأهواء والشهوات… كتب أحدهم في وقت سابق بإحدى الجرائد مقالا يتهم فيه الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – والإمام محمد البشير الإبراهيمي –رحمه الله – والعلماء المصلحين –رحم الله من مات منهم وحفظ من هم على قيد الحياة- باتهامات غريبة من نسج خياله 'المسرحي' ونسي هذا المخلوق الغريب أن أي محاولة لتشويه صور علماء الجزائر ومصلحيها لن تنجح لأن أباطيله المنشورة لا يصدقها إلا من كان في قلبه مرض على مذهبه الذي أكل عليه الدهر وشرب، ولن تصمد أمام براهين الحقائق التاريخية التي ترد عليه بوضوح فتُذهب باطله فإذا هو زاهق… ومن غرائبه التي ادعاها في مقاله أن الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – مات وهو منبوذ من أهله، ولو أمعن النظر قليلا لعلم أن الشيخ توفي في بيت والده معززا مكرما يتولى والده وشقيقه المولود تمريضه في النهار، وفي الليل يتولى المهمة شقيقه عبد الحق، وقد كان يراسل من بيته العائلي، حيث كان يُمرّض ويُعتنى به، رسائله التوجيهيه إلى إخوانه العلماء، وآخر ما كتبه قبل وفاته بأيام رسالته الشهيرة في 14 أفريل سنة 1940 إلى الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي نفي من تلمسان إلى أفلو، يهنئه على موقفه المشرف والشجاع حين امتنع عن تأييد فرنسا في الحرب العالمية الثانية إذ جاء فيها ما يلي: ' أخي الكريم الأستاذ البشير الإبراهيمي السلام عليكم، لقد بلغني موقفكم المشرف العادل، لقد صنت الدين والعلم فصانك الله وحفظك، عظم الله قدرك في الدنيا والآخرة'. أما اعتماد هذا الكاتب غريب الأطوار على الرسالة التي أرسلها الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – إلى الإمام الطيب العقبي – رحمه الله – في 13 أوت سنة 1926 يخبره فيها اعتراضات والده على بعض نشاطاته، فهذا أمر يحدث بين كل أب وابن، فقد كان والده يرى من منطلق خوف أبوي فطري أن ابنه مقبل على معارضة دولة بأكملها جبارة لا ترحم من يناصبها العداء جهارا نهارا، ولهذه المعارضة مغارم كثيرة ستصيبه وتصيب عائلته الكبيرة، والنفوس مجبولة على حب السلامة، وقد كان والده في كل الأحوال سنده القوي بجاهه وماله، ولهذا أشاد الإمام ابن باديس – رحمه الله – بدور والده في حياته الذي حماه صغيرا وكبيرا على حد تعبيره إذ قال في خطابه في ختام حفل التكريم الذي خصه به إخوانه العلماء وتلامذته بمناسبة ختمه تفسير القرآن الكريم سنة 1938: 'إن الفضل يرجع أولا إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها، ومشربا أرده، و قاتني وأعاشني، وبراني كالسهم، وراشني، وحماني من المكاره صغيرا وكبيرا، وكفاني كلف الحياة فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني الشكر'.[ الشهاب4/14 شهر ربيع الثاني/جمادى الأولى سنة 1357هـ]…وللتذكير فإن الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – مدفون في مقبرة آل باديس مع آبائه وأجداده…فهل يُقال عن الإمام ابن باديس بعد هذا أن عائلته نبذته؟؟. لقد أراد هذا المخلوق، الذي نطق بلسان غيره من المخاصمين للحركة الإصلاحية ومن بعدها للحركة الإسلامية المعاصرة، أن يشوّه صورة الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – في أعين الجزائريين الذين يقدرونه تقديرا كبيرا بمحاولة تجريح أسرته العريقة النسيبة التي لم تخلُ منذ القدم من عالم أو أمير أو سلطان، مُطْلِقا بعض الأحكام الساذجة بناء على أحداث ووقائع أخرجها من سياقها التاريخي مستعملا المقص والتركيب على هواه لينتج لنا مشهدا دراميا لا يوافق الحقائق باسم كسر الطابوهات والأوثان… لقد ضحكتُ، ولكنه ضحك كالبكاء على رأي شاعرنا المتنبي، حين قرأت تحليل صاحبنا المغرم بالدراما التراجيدية حين زعم أن الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله –'توفي عن عمر 51 سنة متأثرا بهذه الضغوط النفسية من عائلته وبعض المقربين منه، حتى سارع رفاقه الذين وجدوا في موته طريقا لتقوية نفوذ الجمعية التي ازدادت امتثالا وخضوعا للقوانين الفرنسية الكولونيالية والاستفادة من توسيع مدارسها الخاصة، خاصة على مستوى ما كانت تدر على أصحابها من المال والجاه'..! إنها – تالله – أحكام تُوزّع لاستغباء القراء، فهل تحوّل صاحبنا من كاتب مسرحي إلى طبيب اكتشف بعبقريته الطبية أن الإمام ابن باديس – رحمه الله – قد تسببت الضغوطات النفسية من أسرته والمقربين منه في وفاته، وددتُ لو أرفق صاحبنا هذا الكشف الجديد الذي ذهل عنه غيره بوثائق طبية تقوي زعمه المضحك الفكاهي..! والحق أن أكثر المؤرخين ذهبوا، وبشهادة شقيقه الأستاذ عبد الحق الذي كان ملازما له في مرضه، إلى أن سبب وفاته كان شدة الإجهاد الناتج عن عمله المستمر في سبيل خدمة الدين والوطن، وحركته الدائمة في ربوع القطر الجزائري لنشر دعوة جمعية العلماء وتحقيق أهدافها الإصلاحية والثورية، ويُشاع مع هذا أن الإمام عبد الحميد بن باديس- رحمه الله- مات مسموما، ولكن هذه الإشاعة كذَّبها الأستاذ عبد الحق شقيق الإمام عبد الحميد، وسمعت هذا منه شخصيا، ومهما يكن من أمر فإن وفاة الشيخ لم يستفد منها سوى الاستعمار الفرنسي الذي كان يتابع نشاطه بحذر، ويترصد تحركاته في كل القُطر، ويتربص به الدوائر، أما إخوانه من العلماء الذين كانوا يعانون التضييق والنفي والحبس فقد أكملوا المسيرة بقيادة الإمام محمد البشير الإبراهيمي – رحمه الله – الذي انتخب رئيسا لجمعية العلماء خلفا لأخيه الإمام عبد الحميد – رحمه الله – وهو في منفاه بأفلو بسبب موقفه المعارض لتأييد فرنسا، ولو أراد لأكل من فوقه ومن تحته وما مسه نصب، ولنال أكبر المناصب بكلمة واحدة يقولها مداهنا ومنافقا كما فعل بعض الأذناب من الخائنين، ولكنه آثر الجهاد باللسان والقلم، وقيادة الحركة الإصلاحية والصبر على مغارمها في أصعب مرحلة بعد فقد توأمه الروحي الإمام عبد الحميد بن باديس، وحين أُعلنت الثورة كان من أسبق الزعماء الجزائريين تأييدا لها في بيان أمضاه مع الشيخ الفضيل الورتلاني – رحمه الله – في 02/11/1954 ونشرته الصحافة المصرية ووكالات الأنباء العالمية في 03/11/1954، ولم تتوقف بعد ذلك البيانات والبرقيات والمساعي الحثيثة لمساندة حركة الثورة التحريرية في داخل الجزائر الملتهبة، لا ينكرها إلا جاحد حاقد يرى الحقائق ويميل إلى إتباع الأباطيل.! قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ لقد عاد الإمام محمد البشير الإبراهيمي- رحمه الله – إلى الجزائر المستقلة بعد جهاد طويل، ولم ينل 'تقديسا رسميا' كما زعم صاحبنا، بل بسبب موقفه الحازم من السلطة في عهد الرئيس الراحل أحمد بن بلة- رحمه الله -، ونشره بيانه التاريخي المشهور الذي أغضب الحاكمين على رأس السلطة، أصابه الأذى المعنوي والمادي وتوفي في إقامته الجبرية…فأين تقديس السلطة له ؟؟ لقد بذل أبناء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالأمس، واليوم بعد استرجاع الجمعية حقها في النشاط، كل ما في وسعهم في خدمة البلاد والعباد، وهي كأي حركة إصلاحية بشرية غير معصومة، وما ادعى أبناؤها العصمة أبدا، إذ أصابت في حراكها وأخطأت، والمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد، وأبناؤها يفرقون بين التقدير والتوقير والاعتراف بالجميل من جهة، والتقديس الفارغ وصناعة الأوثان من جهة أخرى، فابن باديس والإبراهيمي وغيرهما من العلماء هم بشر قدموا ما عندهم، وبذلوا ما في وسعهم، في سبيل الله والوطن، وإن أخطاءهم البشرية، مغمورة في بحار حسناتهم، ولا ينقص ذلك من قدرهم شيئا، وستبقى الأجيال ذاكرة لمآثرهم وسيرتهم، وحامدة لأعمالهم ومسيرتهم…وإن محاولة صاحبنا إيهام الناس أن أبناء جمعية العلماء استعملوا 'سلطتهم' لتحويل ابن باديس إلى وثن وإخفاء 'تعاون أسرته مع الإدارة الاستعمارية، والتغطية على بعض مواقفه المتخاذلة على الصعيد الوطني تجاه فرنسا' على حسب تعبيره، لن يصدقها إلا المتوهمون أمثاله الذين يتعاملون مع سيرة ابن باديس على مذهب الذي يقرأ 'ويل للمصلين' ويسكت، لأن الإمام ابن باديس- رحمه الله- عاش حياته كلها معارضا لفرنسا…واقعيا في تعامله مع الأحداث والمستجدات…ينظر إلى مواضع خطوه قبل السير لأنه كان مسؤولا عن حاضر أمة ومستقبلها…يناور في مساحات المتغيرات المتعلقة بالوسائل والآليات ليربح مواقع جديدة تخدم دينه ووطنه، ولا يُهادن في مساحات الثوابت والمبادئ ولا يقبل المساومة فيها…ولا يحتاج هذا الكلام إلى شواهد لأن تراث الإمام عبد الحميد بن باديس –رحمه الله – وتاريخه ينطق بالحق ويسمع صوته كل منصف لا يجرمنّه شنآن قوم على أن لا يعدل سوى من جعل أصابعه في أذنيه..! أما بخصوص أسرته، فهل يوجد فرد واحد منهم وقف مع فرنسا في ظلمها وطغيانها أو أعلن الولاء لها بعد انفجار الثورة التحريرية، ووقف ضدها..؟ اللهم لا..! لقد كان تعامل كثير من الجزائريين – ومنهم أسرة الإمام ابن باديس وعلى رأسهم والده محمد المصطفى بن المكي الذي كان عضوًا في المجلس الأعلى للجزائر، ورئيسا لبلدية قسنطينة، ومندوبًا ماليًا – مع الإدارة الفرنسية من باب الاضطرار لتسيير أعمالهم ومصالحهم ومصالح غيرهم، وقد مات والد الشيخ عبد الحميد سنة 1951، ولم يُعرف عنه أنه ظاهر فرنسا ضد أي حق من حقوق أبناء الوطن، بل المعلوم والمشهود له أنه كان من المدافعين في مواقعه الإدارية عن حقوق الجزائريين، خلافا لبعض الأسماء التي استغلت مناصبها ووجاهتها ومكانتها عند فرنسا فساموا أبناء الجزائر سوء العذاب، فقطعوا الآذان، وهتكوا الأعراض، واغتصبوا الحقوق…إن صاحبنا الإعلامي المسكين فكّر ثم قدّر، ثم كتب يتهم أسرة الإمام عبد الحميد بن باديس ليشوّه صورة الشيخ ابن باديس، ويضرب جمعية العلماء بتزويره الحقائق، وتحريره للأباطيل..! إن صاحبنا حاطب ليل، وباخس كيل، جمع بعض الافتراءات ليصنع بها سهاما مسمومة ليوجهها نحو خصومه، ولو صح منه أنه طالب حق ومعرفة، لاختلف طرحه، وتهذب أسلوبه، واعتمد منهج البحث العلمي القويم بدل منهج الاتهام والتشويه والتجريح طلبا للإثارة الإعلامية ليس إلا…هداه الله وعافاه من الأوهام النفسية..


الشروق
١٣-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الشروق
يوم العلم
بعد يوم سيحيي شعبنا ما اصطلحنا على تسميته 'يوم العلم' (16 أفريل)، وهو اليوم الذي توفى فيه الله إمامنا ابن باديس، الذي وقف نفسه على الإسلام والجزائر. يظن أكثر الناس أن احتفالنا بهذا اليوم بدأ بعد تطهير وطننا من الرجس الفرنسي، ولكن الحقيقة، هي أن هذا الاحتفال بدأ بعيد وفاة الإمام، ردا على ما ظنته فرنسا وأولياؤها من أن 'المشروع الباديسي- دينيا وسياسيا وثقافيا- قد قبر. وهو ما عبر عنه شاعر الإصلاح والمصلحين محمد العيد آل خليفة بقوله: نم هانئا فالشعب بعدك راشد يختط نَهْجَكَ فِي الهُدَى ويسير لا تَخشَ ضَيْعَةً ما تركت لنا سدى فالوارثون لما تركت كثير لقد سنت هذه السنة الحسنة- الاحتفال بيوم العلم- جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فكانت تجند مدارسها ونَوَادِيهَا وَمَسَاجِدَهَا لإحياء هذا اليوم، اعترافا منها وتقديرا لما قام به هذا 'المفرد العلم في ميدان التربية والتعليم'. وهذا، ما شهد به الإمام الإبراهيمي، عندما طلب من أخيه الإمام ابن باديس افتتاح 'مدرسة دار الحديث' في تلمسان، حيث خاطبه قائلا: 'أخي الأستاذ الرئيس، لو علمت في القطر الجزائري، بل في العالم الإسلامي، رجلا في مثل حالتك، له يد على العلم مثل يديكم، وفَضْل مثل فضلكم، لآثرته دونكم، بفتح هذه المدرسة. ولكنني، لم أجد، فباسم تلمسان، وباسم الجمعية الدينية، أناولكم المفتاح، فهل لهذه المدرسة أن تتشرف بذلك؟' (مجلة الشهاب- أكتوبر 1937 ص (351). وبعد 19 جوان، أسندت وزارة التربية إلى الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، نجل الإمام الإبراهيمي، فطلب منه الرئيس بومدين اقتراح تاريخ للاحتفال بالعلم، إشعارا بأهميته، فاقترح تلقائيا يوم 16 أفريل 1940، يوم وفاة ابن باديس.. وهكذا، صدر مرسوم رئاسي بذلك.. (أحمد طالب الإبراهيمي: مذكرات جزائري دار القصبة، الجزء الثاني ص 45). لقد قطعت الجزائر أشواطا عملاقة في نشر العلم، وبذلت في سبيله أموالا طائلة، ونطمع أن تزيد، وسفهت كلام الفرنسيين السفهاء، الذين نشروا الجهل وحاربوا العلم، وزعموا أن العناصر الأهلية- الجزائريين- غير قابلة للتهذيب والتمدين. (مجلة الشهاب- جانفي 1938 ص (499)- وإن الجزائريين اليوم يعلمون الفرنسيين في جميع مراحل التعليم… إن معركتنا اليوم، وغدا، ودائما، هي معركة العلم، ولا سبيل لنا للخروج من التخلف وحماية وطننا، والانتفاع مما فيه من خيرات، والدفاع عنه ضد الأطماع الأجنبية إلا بالإنفاق على العلم، ووضع خطة لاسترجاع طاقاتنا العلمية حيثما وجدت. وكفانا من تبذير مالنا في التفاهات. رحم الله الإمام عبد الحميد بن باديس، الذي كان 'حركة دائمة، ولم يكن بركة نائمة'، وجعل اسمه للخلود ، وروحه للخلد .