أحدث الأخبار مع #التفكك


الميادين
منذ 5 أيام
- سياسة
- الميادين
الجامعة العربية في غرفة الإنعاش: قمّة على الورق وأمّة تنزف في غزة
ثمانون عاماً مرّت على تأسيس الجامعة العربية، وما بين المهد والكهولة، عبرت الأمّة من حلم التحرّر إلى كابوس التفكّك، ومن صوت "قمّة الخرطوم" إلى صمت "قمّة بغداد". في الذكرى الثمانين، لا نحتفل بإنجاز مؤسسي، بل نقف أمام مشهد جنائزي تتقاطع فيه قذائف العدو على غزة مع بيانات المجاملة في القاعات المكيّفة. في زمن تُمسخ فيه الجغرافيا، وتُفرّغ فيه الرموز من معناها، يصبح السؤال الحتمي: هل باتت الجامعة العربية عبئاً على ما تبقّى من الحلم العربي؟ أم أنّ اللحظة التاريخية، رغم خذلانها، ما زالت تختزن في باطنها احتمالات بعث؟ هذا المقال محاولة لفهم ما إذا كنا نكتب شهادة الوفاة… أم نبحث عن شهادة ميلاد جديدة. في الذكرى الثمانين لتأسيس الجامعة العربية، وبينما كان القادة العرب يتأهّبون للتصوير الجماعي في قمّة بغداد، كانت الطائرات الصهيونية تحصد أرواح الأطفال والنساء في قطاع غزة، في واحد من أكثر أيام العدوان كثافة ووحشية. مشهدان متوازيان لا يلتقيان: صورة رسمية تبتسم للكاميرات، ودماء تسيل على أطراف الذاكرة العربية. المفارقة كانت أكثر إيلاماً حين جاء تمثيل العديد من الدول الخليجية في القمة ضعيفاً وبارداً، بعد أيام فقط من مشاركتهم على أعلى مستوى في احتفاء غير مسبوق بعودة دونالد ترامب، الرئيس الأميركي الذي لم يخفِ دعمه المطلق للعدوان على غزة، ولا رغبته في دعم سياسات تهجير أهلنا من أرضهم. وهو ذاته الذي تلقّى من بعض العواصم الخليجية تريليونات الدولارات على شكل استثمارات وتحالفات، في مشهد يكشف بوضوح انتقال مراكز القرار من ساحات التضامن العربي إلى محاور القوة الدولية. فبأيّ حقّ نسمّيها "جامعة" عربية، إن لم تكن تجمعنا في أشدّ لحظاتنا احتياجاً للتماسك؟ وكما كان متوقّعاً، خرجت القمة العربية الأخيرة – أو ما يشبهها – ببيان ختامي بدا في ظاهره مُشخِّصاً بدقة للأزمات التي تنهش جسد الأمة، لكنه سرعان ما فقد ثقله حين غابت عنه الآليات، وافتقد أدوات الضغط التي تمنحه القدرة على الفعل. لم يتضمّن البيان خطوات ملموسة ولا جداول زمنية، ولا حتى مقترحات قابلة للتنفيذ، ليبقى مجرّد اجترارٍ لما نعرفه، بلا وعد أو التزام. فبينما كانت غزة تحترق، لم تجد الشعوب في البيان ما يبعث على الأمل أو يُذكِّرها بأنّ للجامعة سطوة أو تأثيراً. كأنّ الكلمات كُتبت لا لتُطبّق، بل لتُنسى. هذا الهزال لم يفاجئ أحداً، بل أكد حقيقة مُرّة: أنّ الجامعة العربية، بصيغتها الحالية، أصبحت تمثّل إرادات أنظمة أكثر مما تعكس نبض شعوب. لم تعد منصة لمواجهة التحدّيات المصيرية، بل ساحة لصياغة بيانات تستهلكها نشرات الأخبار ولا تلامس وجدان الجماهير. منذ سنوات، تتكرّس محاولات ـــــ لم تعد خجولة ـــــ لاستبدال الجامعة العربية بإطار جديد تحت مسمّى "منظّمة الشرق الأوسط"، تُمنح فيه "إسرائيل" مقعداً دائماً ومكانة مضمونة، وتُعاد فيه صياغة العلاقات العربية على أساس المصلحة لا المبدأ، والتطبيع لا التحرير، بينما تُترك فلسطين لقَدَرٍ تُعيد رسمه الدبابات والطائرات. هذا التصوّر لا يأتي من فراغ، بل ينبع من سردية استعمارية قديمة ـــــ متجدّدة ـــــ ترى في العروبة مشروعاً منهكاً، وتعتبر أنّ الأمن الإقليمي لا يُبنى إلا بالشراكة مع "تل أبيب"، حتى لو على حساب الحقّ التاريخي والدم العربي. اليوم 10:25 18 أيار 07:51 وما القمم الأخيرة سوى شواهد دامغة على هذا الانحدار: بيانات إنشائية في وجه الكارثة اليمنية، ومواقف متردّدة أمام المأساة السورية والليبية، وصمت مُطبق أمام اندفاعة التطبيع، حتى بدا أنّ الجامعة باتت تتنازل طوعاً عن آخر فتات من دورها، لا بفعل الإكراه وحده، بل تحت وطأة الانهيار في الإرادة السياسية. صحيح أنّ هناك من يطرح تغييرات رمزية، كإزالة لفظ "العربية" من أسماء بعض الدول، بدعوى "تجديد الهوية" أو "مواكبة الواقع الإقليمي الجديد"، لكنّ الخطر لا يكمن في الأسماء، بل فيما يُراد إخفاؤه خلف هذه الأسماء. فالاسم ليس إلا الغلاف، أما المضمون فهو محوٌ تدريجي لذاكرة سياسية ممتدة، وضربٌ ممنهج للإطار الذي حمل ـــــ رغم تعثّره ـــــ أحلام أجيال في الوحدة والتحرّر والسيادة. نحن لا نواجه مجرّد تعديل شكلي، بل مشروعاً يسعى لتحويل الانتماء من رابطة حضارية وتاريخية إلى وظيفة إقليمية بلا عمق ولا جذور. حين تُمسّ الأسماء، يُستهدف المعنى… وحين يُستهدف المعنى، تُهدّد الفكرة. يكفي أن نتذكّر قمّة الخرطوم عام 1967، التي جاءت بعد هزيمة يونيو، لتعلن موقفاً لا يُنسى في التاريخ العربي: "لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض" مع العدو الصهيوني. كانت تلك الجامعة ـــــ حين كانت تعبّر عن إرادة نضالية ـــــ قادرة على تثبيت موقف سياسي جامع، حتى في زمن الهزائم. أما اليوم، فحتى المواقف الرمزية باتت عزيزة، وصوت الجامعة لا يكاد يسمع. وفي هذا السياق، تحضرنا كلمات المفكّر الكبير جمال حمدان حين قال: "الخطر الحقيقي أن يُصاب العرب بفقدان المناعة التاريخية... أن يُبتلعوا وهم واقفون على أرجلهم"، في إشارة واضحة إلى أنّ التفكّك ليس فقط في الجغرافيا، بل في الروح والمعنى. كما كتب إدوارد سعيد: "الهوية ليست ما نرثه فقط، بل ما ندافع عنه ونصنعه رغم أنوف محاولات الطمس"، وهذه الهوية الجامعة هي المستهدفة في جوهرها. وفي وجه هذا المشروع التفكيكي، علينا أن نستدعي أيضاً مقولة عبد الرحمن الكواكبي: "الاستبداد يفسد العقل، ويفسد الدين، ويفسد الأخلاق، ويفسد الاجتماع"… أليست الجامعة العربية، كما أرادوها اليوم، ثمرة استبداد عربي مزمن، يُطبّع ويهادن ثمّ يُبرّر الهزيمة كحكمة؟ ورغم كلّ هذا التراجع، فإنّ الشعوب العربية لم توقّع بعد على شهادة وفاة الجامعة. ما زال في الوعي الجمعي نبضٌ يقاوم، وفي ميادين الغضب الشعبي ومواسم التضامن مع فلسطين، وموجات الرفض لكلّ استبداد، إشارات حيّة إلى أنّ الشعوب لا تموت… وإن صمتت حيناً. ما زال في ضمير الأمة توق إلى كيان يعبّر عنها، لا يُقزّمها في حدود الجغرافيا، ولا يحوّلها إلى أرقام في تقارير رسمية، بل يراها كما هي: أمة لها ذاكرة، وحقّ، ورسالة. الأمل في أن تُبعث الجامعة ـــــ أو ما يشبهها ـــــ من جديد، لا باعتبارها "نادي أنظمة" مغلقاً، بل فضاءً مفتوحاً لإرادة الشعوب، وعدالة القضايا، وتكامل المصير. مشروع لا يُبنى فوق ركام الفشل فحسب، بل يتغذّى على نقده، ويتأسس على الإيمان بأنّ مستقبلنا يُصنع في الشارع، لا في دهاليز الدبلوماسية المعقّمة. لن تكون قمة بغداد ـــــ على هزالها ـــــ آخر القمم، لكن إن استمرت الجامعة العربية على هذا النهج الباهت، فإنها ماضية بثبات نحو فقدان ما تبقّى لها من شرعيّة رمزية وتاريخية. فالمسألة لم تعد مسألة إصلاح مؤسسة، بل سؤال وجودها وجدواها في زمن تتهاوى فيه الأطر الجامعة، ويُعاد رسم الخرائط على مقاس الأقوى لا الأصلح. قد يغيّرون الأسماء، ويعيدون طلاء اللافتات، ويضعون "إسرائيل" في قلب نظام إقليمي جديد… لكن ما لا ينبغي أن نسمح به هو تصفية الفكرة التي صنعت هذا الفضاء المشترك رغم العواصف: فكرة العروبة الواعية، الجامعة، المتجاوزة للأنظمة والأعلام والحدود. فالعروبة، كما كتب عنها جمال حمدان، ليست شعاراً سياسياً، بل "مقدّرة تاريخية وجغرافية، إذا غابت عن العرب، غابوا عن العالم والتاريخ". وهي ليست مؤسسة تُفكّك في غرف مغلقة، بل وجدان حيّ يُبعث كلما نادت الشعوب، ولبّت النخبة، واستيقظ الوعي.


الميادين
٠٨-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الميادين
جمهورية بلا عقد اجتماعي: تفكك سوريا الجديدة وصعود بديل دموي
أخطر ما يواجه سوريا الجديدة ليس الخطر الخارجي، بل هو التفكك من الداخل، وانفجار التناقضات الكامنة في صلب تجربتها الانتقالية قبل أن تكتمل ملامحها. انشقاقات تعصف بهيئة الحكم في سوريا! لم يكن سقوط النظام السوري في الثامن من ديسمبر 2024 نهاية مرحلة، بل بداية لتحوّل أكثر جذرية وارتباكًا، حيث تمددت لحظة الانهيار من حدود الدولة القديمة إلى عمق الدولة الجديدة التي وُلدت على أنقاضها. فبدلاً من أن يكون الفراغ السياسي مدخلًا لبناء جمهورية تشاركية، تُؤسس لشرعية جامعة وعقد اجتماعي جديد، انفتح الباب أمام مشهد بالغ الهشاشة، تتنازع فيه قوى الأمس وادّعاءات الغد، من دون أن يتبلور مركز حقيقي قادر على احتواء التناقضات أو تمثيل التنوع السوري المركّب. وبينما نصّبت التوازنات الميدانية أحمد الشرع، المعروف بالجولاني، رئيسًا انتقاليًا لسوريا الجديدة، في لحظة نادرة من التوافق الإقليمي والدولي، لم تكن الأرض تحت قدميه إلا زلزالًا مؤجلًا. إذ سرعان ما بدأت التصدعات تظهر من قلب بنية سلطته، لا من خارجها؛ ففصائل أجنبية قاتلت تحت راية "تحرير الشام" رأت في انتقاله من أمير إلى رئيس خيانة للمطلق، وانحرافًا عن مسار لم يكن في جوهره مشروع دولة، بل مشروع تمكين ديني بلا حدود. وفي خضم هذا السياق الملتبس، وقع بين أيدينا تقرير استخباري بالغ السرية، يُحذر من تطورات ميدانية خطيرة في ريف دمشق وحمص وحماة، حيث تشهد هيئة تحرير الشام تصدعات داخلية متسارعة، وانشقاقات تقودها فصائل أجنبية متشددة أعلنت مبايعتها لتنظيم جديد يُعرف باسم "القرشي"، يعيد طرح نفسه كامتداد راديكالي لتنظيم داعش، ولكن بأدوات أكثر مرونة، وأهداف أكثر دموية. التقرير لا ينقل وقائع عابرة، بل يضيء على لحظة خطرة تتجاوز مجرد التمرد العسكري، لتصل إلى قلب معركة الشرعية في الجمهورية الوليدة: من يملك الحق في تمثيل سوريا ما بعد الأسد؟ وهل تستطيع الدولة الجديدة أن تصمد أمام اختبارها الأول، أم أننا أمام ولادة جمهورية بلا عقد اجتماعي، تتنازعها سكاكين الداخل قبل أن تلتئم جراح الخارج؟ انشقاقات تعصف بهيئة الحكم يفيد التقرير بوجود موجة انشقاقات واسعة داخل هيئة تحرير الشام، تقودها فصائل أجنبية (شيشانية، إيغورية، وعربية)، أعلنت مبايعتها لتنظيم جديد يُعرف بـ"تنظيم القرشي". هذا التنظيم يُعيد طرح نفسه كامتداد أكثر راديكالية لداعش، لا يسعى إلى سلطة سياسية انتقالية، بل إلى تفجير البنية الوليدة لسوريا الجديدة، وفرض مشروع دموي يقوم على فكرة "الثأر والخلافة" لا على الدولة. وتُعتبر مبايعة القيادي الجزائري "أبو البراء المهاجر" (قائد كتيبة المهاجرين سابقًا) لهذا التنظيم لحظة فارقة، إذ تعني انتقال مكونات قتالية مدرَّبة وخبيرة إلى معسكر معادٍ للرئاسة الانتقالية. الرئيس الانتقالي بين السلطة والشرعية الجولاني، الذي صار اليوم رئيسًا انتقاليًا لسوريا الجديدة، يجد نفسه أمام تحدٍ غير تقليدي: فهو لا يواجه النظام السابق أو "الاحتلالات الأجنبية"، بل يواجه تمردًا من داخل الجسم الجهادي الذي أنشأه وتربّى في كنفه. فالفصائل المنشقة تتهمه بالتخلي عن مشروع "الخلافة الإسلامية"، والانفتاح على القوى الدولية، وتقييد "العمل الجهادي" بتفاهمات سياسية. بل إن بعض المصادر يشير إلى سخط عارم بين المقاتلين الأجانب، الذين يرون في "تحرير الشام" نسخة مخففة من السلطة، لا تختلف في جوهرها عن الأنظمة التي ثاروا عليها. وهكذا يتحول الصراع إلى صراع على شرعية الحكم، لا على السيطرة العسكرية فحسب. تنظيم "القرشي" يتقدم... على أنقاض التحالفات التنظيم الجديد لا يخفي نواياه. فهو لا يسعى لتقاسم السلطة، بل يُعدّ العدة لهدمها. خطابه يقوم على مفردات دموية: سبي، تطهير، قتال طائفي، مجازر انتقامية... وهي كلها أدوات تعبئة لإعادة استقطاب المقاتلين الذين خابت آمالهم في التحولات السياسية الأخيرة. وتُظهر تقارير ميدانية أن التنظيم يتمدد في ريف حمص وحماة ودمشق، ويجذب مجندين جدداً من معسكرات سابقًا محسوبة على "القاعدة" و"داعش"، مستغلًا التراجع الأيديولوجي والواقعي للمشروع الانتقالي الذي يقوده الجولاني. صراع على روح سوريا ما بعد الأسد إن ما يجري الآن لم يعد صراعًا على النفوذ، بل معركة تحديد هوية سوريا الجديدة: هل هي دولة قابلة للتعدد والتفاوض؟ أم أرضٌ مفتوحة للصراع العقائدي والمذهبي؟ بين من يرى الدولة فضاءً سياسيًا مشتركًا، ومن يراها حقلًا لغنائم دينية وأدوات للتطهير، تتحدد طبيعة المرحلة الانتقالية، ومعها مصير البلاد بأسرها. الفشل في احتواء الصراع قد يُسقط الدولة الوليدة إذا لم تنجح الرئاسة الانتقالية في احتواء هذا التمرّد بمزيج من الحسم الأمني والانفتاح السياسي، فإن الجمهورية الجديدة ستكون عرضة لانهيار داخلي، أشد خطورة من النظام الذي سبقها. إذ لا تزال مؤسسات الدولة في طور التشكيل، ولا يوجد جيش وطني موحّد، أو عقد اجتماعي واضح، أو تمثيل متوازن لكل المكونات. بل إن استمرار الصراع يُغري أطرافًا إقليميين بالعودة عبر الوكلاء، ويُهدد بنسف أي جهود لإعادة الإعمار أو عودة اللاجئين أو بناء الثقة الداخلية. حين يولد الفراغ من رحم الانتصار إن أخطر ما يواجه سوريا الجديدة ليس الخطر الخارجي، بل هو التفكك من الداخل، وانفجار التناقضات الكامنة في صلب تجربتها الانتقالية قبل أن تكتمل ملامحها. فرغم الانتصار الظاهري بإسقاط النظام السابق وتولّي قيادة جديدة زمام الأمور، فإن غياب عقد اجتماعي حقيقي، وضعف مؤسسات الضبط، وتضارب المرجعيات الفكرية، يجعل من الدولة الوليدة كيانًا معرّضًا للانهيار من الداخل أكثر مما كان معرّضًا للخطر من الخارج. وإذا لم تُبادر القيادة الانتقالية إلى بناء إجماع وطني على أسس مدنية وتمثيلية، وتعزيز الاحتكار الشرعي للعنف عبر مؤسسات موحدة، فإنها ستجد نفسها تدريجيًا محاصرةً بين نارين: نار تنظيم يتغذى من نقمة العقائديين، ونار مجتمع بدأ يفقد ثقته بحلم الدولة الذي لم يولد بعد. ما بعد الأسد، إذن، ليس ضمانًا لعبور المرحلة، بل هو الامتحان الأصعب: هل تنتصر سوريا لذاتها هذه المرة؟ أم أن لحظة الخلاص ستتحول إلى شرارة انفجار آخر، تُلتهم فيه التجربة الوليدة قبل أن تخط سطورها الأولى؟