منذ 11 ساعات
صمت الأسواق العالمية.. ربما يكون الصرخة الأشد
جيليان تيت
قبل ثلاثة عقود، انبهرتُ بمفهوم «الصمت الاجتماعي» - أو تلك الفكرة التي طرحها مثقفون وعلماء مثل عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بأن ما لا نتحدث عنه غالباً ما يكون هو أهم مما نفعله. والآن يخيم هذا الصمت على الأسواق من حولنا رغم ما شهدته الأيام القليلة الماضية من ضجة مرعبة حول الأحداث الجيوسياسية، خصوصاً تحذير الرئيس دونالد ترامب من أن أمريكا «قد تنضم أو لا تنضم» إلى هجمات إسرائيل على إيران.
ولا تزال البيانات الاقتصادية القاتمة تتوالى، فقد خفض البنك الدولي توقعاته للنمو العالمي (إلى 2.3 %) وأمريكا (إلى 1.4 %)، محذراً من أنه إذا انتهت فترة التوقف التي استمرت 90 يوماً لما يسمى بـ «يوم التحرير» لرسوم ترامب الجمركية في 31 يوليو، فسنرى توقف التجارة العالمية في النصف الثاني من هذا العام.
كذلك، فقد خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي توقعاته للنمو في الولايات المتحدة بشكل حاد ورفع توقعاته للتضخم. وهذا ما يمكن أن يعادل ركوداً تضخمياً خفيفاً. ومع ذلك، فقد ارتفعت أسواق الأسهم الأمريكية بهدوء في الأسابيع الأخيرة، ليصل إجمالي ارتفاعها إلى أكثر من 20 % منذ أوائل أبريل - متعافية بذلك بوضوح من اللحظة التي أغمي عليها فيها بعد إعلان تعريفة «يوم التحرير». بل هي في الواقع قريبة من أعلى مستوياتها القياسية.
وبينما كانت عوائد السندات لأجل 10 سنوات، عند 4.4 %، أي أعلى بنحو نقطة مئوية من مستوياتها في الخريف الماضي، فقد استقرت أخيراً أيضاً - حتى مع تدهور التوقعات المالية الأمريكية. لذا فإن «الصمت» الذي يسود الأسواق الكبرى اليوم ليس تعبيراً عن تصاعد المخاطر، بل هو تعبير عن غياب الذعر بين المستثمرين حتى الآن.
فماذا وراء هذا الصمت والتحفظ؟ قد يكمن أحد التفسيرات فيما أسماه الزميل في «فاينانشال تايمز»، روبرت أرمسترونج «تأثير التاكو»، أي ذلك الافتراض بأن ترامب دائماً ما يتراجع عن تهديداته. وهناك تفسير آخر يتمثل في مشكلة ثانية: وهي التأخر الزمني. فعلى سبيل المثال، درس البنك المركزي الدنماركي أخيراً كيفية تفاعل أسواق الأسهم مع الصدمات التجارية منذ عام 1990. وخلص البحث إلى أنه في حين أن عدم اليقين في السياسة التجارية له آثار سلبية كبيرة على النشاط الاقتصادي، إلا أن الأمر يستغرق ما يصل إلى عام حتى تقع الآثار فعلي.
وبالمثل، حذّر بنك التسويات الدولية الأسبوع الماضي من أننا نواجه تأثيرات سلبية كبيرة من عدم اليقين في كل من الاستثمار ونمو الناتج. ومع ذلك، فإنه يحسب أن التأثير الأكبر على الاستثمار سيحدث في عام 2026 - أي ليس هذا العام - بمعدل انخفاض بنسبة 2 % في معدل الإنفاق الرأسمالي في الولايات المتحدة واليابان العام المقبل. وعلى صعيدٍ منفصل، ظهرت مجموعة من الأبحاث تظهر مدى تأثير تهديدات ترامب بترحيل ملايين العمال غير الموثقين على الاقتصاد الأمريكي. وبينما تتصدر مداهمات إدارة الهجرة والجمارك عناوين الصحف حالياً، لن يظهر الأثر الاقتصادي الحقيقي إلا بعد عامين. وعلى سبيل المثال، يقدر معهد «بيترسون» أنه في حال ترحيل 1.3 مليون مهاجر، سيؤدي ذلك إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.2% فقط هذا العام، ولكن النسبة سترتفع إلى 1.2% في عام 2028. ومن هنا تأتي مشكلة التأخر الزمني.
هناك أيضاً تفسير ثالث محتمل لغياب الذعر حالياً: إرهاق الكوارث. وبشكل أكثر تحديداً، يواجه المستثمرون سيلاً من الصدمات المربكة لدرجة أنهم (في أحسن الأحوال) أصبحوا معتادين على التعامل مع الألم دون ذعر، أو (في أسوأ الأحوال) مصابين بالذهول لدرجة أنهم لا يستطيعون استيعابه. يمكنك تسمية هذه، إن شئت، مشكلة «الموت بألف جرح». وفي الوقت الحالي، لا توجد صدمة واحدة قوية بما يكفي لإشعال شرارة انهيار السوق.
نعم، إذا قفز سعر النفط فوق 100 دولار للبرميل وسط تصعيد إضافي في حرب الشرق الأوسط وإغلاق مضيق هرمز، فسيكون ذلك ضاراً بالتأكيد. ولا يمكن استبعاد هذا السيناريو - على الأقل، وفقاً لفيليب فيرليجر، خبير اقتصادات الطاقة.
وما يواجهه المستثمرون اليوم هو «مخاطرة ذيل وشيكة» - أي تلك الأحداث المتطرفة التي تقع في أطراف منحنى التوزيع - وليست كارثة ملموسة وشيكة. أو لنستخدم تشبيهاً آخر: الأسواق لا تتصارع مع صدمة «نوبة قلبية واحدة» (كما حدث أثناء جائحة كوفيد -19)، بل مع سرطان اقتصادي ينتشر لكن ببطء، في شكل حالة من عدم اليقين المنتشر حول الأذى المحتمل في المستقبل. إذن هذا ليس عام 2020.
ومن هنا تأتي الانفجارات القصيرة لتقلبات السوق - كما يقيسها مؤشر الخوف والتي تهدأ بعد ذلك. وهذا هو أيضاً سبب عدم اتساق الرسالة الصادرة من فئات الأصول المختلفة. وكما يقول جاك أبلين، كبير مسؤولي الاستثمار في مؤسسة «كريسيت»: تتصرف الأسهم الأمريكية مثل ترامب، وتطارد المكاسب قصيرة الأجل. وتتصرف السندات طويلة الأجل مثل ماسك، مهووسة بالحقائق طويلة الأجل وغير المريحة.
وهذا يعيدنا إلى مشكلة الصمت الاجتماعي، فبينما يحاول المستثمرون تحليل مخاطر الذيل المربكة، فإن معظمهم محاصرون بشكوك عميقة - إلى درجة تجعل حتى المحترفين يشعرون بالتوتر. ويعني ذلك في النهاية أن انهيار أسواق الأسهم قد لا يتطلب الكثير؛ ولكنه يعني أيضاً أن لا أحد يعلم متى (أو إن كان) سيحدث. فأحياناً يكون الصمت هو الصرخة الأشد.