أحدث الأخبار مع #الطبقة_الليبرالية


الميادين
منذ 14 ساعات
- سياسة
- الميادين
ترامبلاند: كيف اندفعت أميركا نحو التجريف والانهيار
من السمات المتتابعة المتوالية لانهيار الولايات المتحدة، بخاصة تدهور الدولة القومية وصول المصفوفة الدينية إلى"نقطة الصفر" والإفلاس، تراجع التصنيع والإنتاج، زيادة حادة في معدلات الوفيات تتجاوز بكثير معدلات روسيا، تفاقم حالات الانتحار وجرائم القتل، وسيادة العدمية الإمبراطورية التي يُعبّر عنها أميركياً هوس مزمن بالحروب الأبدية. وجاء عهد دونالد ترامب ليفاقم هذه الظواهر، ويبرز تمظهرها في سياسات إدارته الراهنة وتشريعاتها. تتعدد التفسيرات والتأويلات، لكن الكاتب الأميركي كريس هيدجز يعتقد أن انقلاب الشركات الكبرى وانهيار الديمقراطية الأميركية قد بدأ قبل ترامب بزمن طويل. إنه ببساطة يُخمد ما تبقى منها. فالفاشيون من اليمين الديني والأوليغاركيين، الذين يُناولون دونالد ترامب قلمه ويُعدّون أوامره التنفيذية، لا يُحاربون الدولة العميقة، أو اليسار الراديكالي، أو يحموننا من "أعداء السامية". إنهم يُحاربون الحقائق المُثبتة، وسيادة القانون، والشفافية والمساءلة التي لا تتحقق إلا بصحافة حرة، والحق في الاختلاف، وثقافة نابضة بالحياة، والفصل بين السلطات، والقضاء المستقل. فالركائز الأساسية للمجتمع المفتوح، كما فصّلها هيدجز في كتابه "موت الطبقة الليبرالية" (2010)، قد تدهورت قبل ترامب بوقت طويل. فالصحافة والبث العام، والأوساط الأكاديمية، والحزب الديمقراطي، وثقافة شركات مُبتذلة، وقضاء يخدم المليارديرات، وكونغرس اشترته جماعات الضغط، فُرِغت من محتواها ويسهل استهدافها. وقلة تريد النهوض دفاعاً عنها. لقد باعونا. "فقدان الطبقة الليبرالية يخلق فراغاً في السلطة يملؤه المضاربون، والمتربحون من الحروب، وعصابات الإجرام، والقتلة، وغالباً ما يقودهم ديماغوجيون كاريزميون"، ويفتح "فقدان الطبقة الليبرالية الباب لحركات شمولية تتصدر السخرية والاستهزاء بالطبقة الليبرالية والقيم التي تزعم الدفاع عنها. فوعود هذه الحركات خيالية وغير واقعية، لكن انتقاداتها للطبقة الليبرالية ترتكز على الحقيقة". وُلدت الفاشية من ليبرالية مُفلسة تخلت عن دورها التقليدي في الديمقراطية الرأسمالية. فلم تعد تُخفف وطأة أسوأ تجاوزات الطبقة الحاكمة والإمبراطورية بإدخال إصلاحات تدريجية مجزأة. بل تُؤنّب وتحبط عمالاً محرومين خانتهم. تُعطي وسائل الإعلام أولوية الوصول إلى الأقوياء قبل الحقيقة. فضخّمت الأكاذيب والدعاية للدفع نحو غزو العراق. وأشادت بأسواق المال، وأكدت أنه من الحكمة أن نعهد بمدخرات حياتنا إلى نظام مالي يديره مضاربون ولصوص، فأُهدرت مدخراتنا. وغذّت الجمهور بأكاذيب حول تدخل روسيا بالانتخابات، وخضعت تماماً للوبي الإسرائيلي، فشوّهت تغطية الإبادة الجماعية واحتجاجات الجامعات لشيطنة الفلسطينيين والمسلمين والمتظاهرين. ترقص على أنغام الشركات المعلنة والراعية. تحجب قطاعات سكانية كاملة، يجب أن يكون بؤسها ومظالمها محور تركيز رئيسي للصحافة. تحولت الجامعات إلى شركات! كبار الإداريين، ذوو ماجستير إدارة الأعمال، بخبرة ضئيلة أو معدومة في التعليم العالي، بجانب مدربين رياضيين لديهم القدرة على كسب أموال للجامعات، ينالون رواتب عالية بمئات آلاف الدولارات، ويتقاضى المدربون المتميزون ورؤساء الجامعات ملايين الدولارات. لا تتجاوز الوظائف الثابتة لأعضاء هيئة التدريس حالياً نسبة 10%، ونحو نصفهم موظفون مؤقتون بدوام جزئي أو مساعدون. وخُمسهم يعمل بدوام كامل، من دون تثبيت وظيفي. أصبحت الجامعات، بتقليصها الجذري للوظائف الثابتة والأجور المناسبة، امتداداً لاقتصاد العمل الحر. ويُضطر الأساتذة من خارج هيئة التدريس والخريجون إلى طلب رعاية صحية حكومية مخصصة للفقراء، أو العمل بوظائف تدريس إضافية في كليات أخرى، أو قيادة سيارات أجرة، أو العمل صرافين، أو توصيل الطعام، أو تمشية الكلاب، أو رعاية المنازل، أو خدمة الطاولات وتقديم المشروبات، أو العيش مع أربعة أو ستة أشخاص في شقة، أو اللجوء إلى أريكة صديق. أعضاء هيئة التدريس بأجور متدنية يفتقدون الأمن الوظيفي، فلا يثيرون قضايا تتحدى السردية السائدة لعدم المساواة الاجتماعية، والشركات المفترسة، وجرائم الإمبراطورية، والإبادة الجماعية الإسرائيلية، وحالة الحرب الدائمة. وإذا فعلوا ذلك يفصلون، بينما يُمنح كبار مسؤولي الجامعات مكافآت "لخفض النفقات" برفع الرسوم الدراسية وخفض أعداد الموظفين وخسف الأجور. يُطمئن عدم الاستقرار هذا المانحين الأثرياء أن النيوليبرالية التي تُخرب البلاد، وتمكين الإبادة الجماعية في غزة، لن يعترضها أكاديميون يخشون فقدان وظائفهم. ويُشاد بالأغنياء والأقوياء، بينما يُنسى العمال الفقراء، ومنهم العاملون في الجامعة. يستدعي هيدجز إشارة إيرفينغ هاو في مقال بعنوان "عصر التوافق هذا"، 1954، فإن "فكرة المهنة الفكرية – حياة مُكرسة لقيم لا تُحققها حضارة تجارية – فقدت جاذبيتها تدريجياً. وهذا، وليس التخلي عن برنامج مُعين، يُشكل هزيمتنا". يكتب هاو أن الاعتقاد بأن الرأسمالية هي المحرك المُحصّن للتقدم البشري "يُروّج له عبر جميع وسائل الاتصال: الدعاية الرسمية، والإعلانات المؤسسية، والكتابات الأكاديمية لأشخاص كانوا، قبل سنوات، من أبرز مُعارضيها". اليوم 13:35 اليوم 12:29 أبرز هاو أن "الضعفاء حقاً هم أولئك المثقفون – الواقعيون الجدد – الذين يلتصقون بمقاعد السلطة، فيتخلون عن حرية التعبير من دون اكتساب أي أهمية سياسية". وأضاف: "لأنه من الأمور الحاسمة في تاريخ المثقفين الأميركيين في العقود القليلة الماضية – وفي علاقة "الثروة" بـ"الفكر" – أنهم كلما امتصتهم مؤسسات المجتمع المعتمدة، فإنهم لا يفقدون تمردهم التقليدي فحسب، بل يتوقفون عن العمل كمثقفين". روّج الحزبان الحاكمان لخدعة النيوليبرالية لتفكيك الصناعة الأميركية، وفرض تقشف قاس، واستئصال حريات التنظيم، وإلغاء حماية الجمهور من الاستغلال. ومكّنا الشركات من النهب وترسيخ ثرواتها وسلطتها، وصعود الرأسمالية الاحتكارية وأعلى مستويات عدم المساواة بالدخل والثروة في التاريخ الأميركي. تضمن البنوك، وقطاعات الاتصالات، والنفط، والأسلحة، والزراعة، والصناعات الغذائية، أرباحها بتحديد الأسعار تواطؤاً، والالتفاف على الحماية المالية والصحية والبيئية، بل وحتى إلغائها، وإساءة معاملة عمالها. هذا الهجوم على لوائح "الصفقة الجديدة"، (أسست حقوق العمال في الثلاثينيات)، وستُمحى في عهد ترامب، حرم الطبقة العاملة من حقوقها، فصوّتت يائسةً لزعيم ديماغوجي لإنقاذها. مع جفاف تمويل الفنون، تُرك الفنانون والإذاعة العامة التي صُممت لإعطاء صوت لمن لا يرتبطون بمصالح الشركات، يبحثون عن منح ورعاة من الشركات. وكانت النتيجة ذبول النزاهة الفنية والصحفية. بحسب هيدجز، يرى فريدريك نيتشه في كتابه "ما وراء الخير والشر" أن قلة قليلة من الناس تمتلك الشجاعة الكافية للنظر في "الهاوية المنصهرة" للواقع الإنساني. يتجاهل معظمهم هذه الهاوية عمداً. أما الفنانون والفلاسفة، بالنسبة إلى نيتشه، فيستهلكهم فضول لا يشبع، وسعي حثيثٌ وراء الحقيقة ورغبةٌ في المعنى. يغامرون بالنزول إلى أعماق هذه الهاوية المنصهرة. يقتربون قدر استطاعتهم قبل أن تدفعهم ألسنة اللهب بعيداً. كتب نيتشه أن هذه النزاهة الفكرية والأخلاقية لها ثمن. أولئك الذين تحرقهم نار الواقع يصبحون "أطفالًا محترقين"، أيتاماً أبديين. الثقافة في ديمقراطية فاعلة تكون جذرية وتحوّلية. إنها تُعبّر عما يكمن في أعماقنا. تُضفي كلمات على واقعنا. تُشعرنا كما تُبَصِّرنا. تُمكّننا من التعاطف مع المختلفين أو المضطهَدين. تكشف ما يحدث حولنا. تُكرّم الغموض. كتب جيمس بالدوين: "إن الدور الدقيق للفنان، إذاً، هو إضاءة ذلك الظلام، وتوهج الطرق عبر الغابة الشاسعة، حتى لا نغفل، في كل ما نفعله، عن الهدف، وهو في نهاية المطاف، جعل العالم مسكناً أكثر إنسانية". تُشنّ الحرب على البحث الفكري المستقل والفن والثقافة لمنعنا من النظر في الأعماق، ومن جعل العالم "مسكناً أكثر إنسانية". لقد أُسكت "الأشخاص المحترقون" أو هُمِّشوا. وحُظر نحو 16 ألف كتاب في المدارس والمكتبات قبل تولي ترامب منصبه، والحظر يتسارع بتزايد عدد الكتب المحذوفة. تحتفي الثقافة في الدول الاستبدادية بماضٍ مثالي لم يكن موجوداً قط، وحاضرٍ مُضلّلٍ ذاتياً. يلاحظ هيدجز أن الثقافة الشعبوية تغذي عطش الإنسان للوهم والإثارة والسعادة والأمل، وتُروِّج لوطنية عمياء وأسطورة تقدم مادي الأبدي. وتحث على بناء صورٍ لمشاهير لتقديسها، وخاصةً بوسائل التواصل الاجتماعي. وكانت النتيجة انحطاطاً ثقافياً، ستُجسِّده "حديقة أبطال ترامب" المزمعة ومهرجان عيد الميلاد الباذخ المُخطَّط له في مركز كينيدي بواشنطن. يتموَّل سياسيون في الحزبين الحاكمين من أموالٍ مشبوهة يُقدِّمها مليارديرات وشركات. هؤلاء السياسيون، في نظام يُشرّع الرشوة، يُنفِّذون في الكونغرس أوامر مموّليهم. وقد وصف الفيلسوف السياسي، شيلدون وولين، هذا الشكل من الحكم بـ"الشمولية المقلوبة". لا تزال الشمولية المقلوبة تحتفظ بمؤسسات الديمقراطية الرأسمالية القديمة ورموزها وأيقوناتها ولغتها، لكن الشركات الكبرى استولت داخلياً على رافعات السلطة لتحقيق أرباح وسيطرة سياسية. وتستخدم النظام القانوني الدولي لنهب موارد العالم النامي، فتطيح بحكومات تتحدى هيمنة شركات تعطي الأولوية للربح على العدالة، وتُضعف قوانين العمل، وتنقض حقوق العمال. بحسب هيدجز، سيمثل نسف إدارة ترامب لهذه المؤسسات المتهالكة الفاسدة نهاية التجربة الأميركية، والتحوّل من الشمولية المقلوبة إلى الديكتاتورية. وسيُبشِر بعالم شركات بائس، يُشبه ولكن أشد قسوة، رأسمالية شمولية بمراقبة حكومية شاملة، ورقابة قاسية، وطبقة حاكمة غير منتخبة وغير خاضعة للمساءلة، وسحق الحركات الشعبية، بما فيها اتحادات العمال. أي انحدار لعالم تفكير سحري يُميز أنظمة الاستبداد، عالمٌ لا تمتّ فيه اللغة المستخدمة لوصف الذات والمجتمع بصلة للواقع. يُحيّد مشروع الاستبداد المؤسسات المستقلة، مهما ضعفت أو تدهورت. مؤخراً، أفادت أكسيوس أن ترامب "ينتقد بشدة" استطلاعات رأي "مزيفة" تُظهر تراجع شعبيته، ويدعو إلى وضع "وسائل الإعلام التي تنشرها قيد التحقيق بتهمة تزوير الانتخابات". وهذا هو شعور جميع الديكتاتوريين. احظروا الحقائق المزعجة. وبمجرد إسكات هذه المؤسسات أو الاستيلاء عليها، ستُسد شقوق في الصرح القديم سمحت بمعارضة مكتومة. سيصبح الخوف صمغاً للتماسك الاجتماعي. وسيُجرّم النقد الفاتر. وسيُموَّل الأمن الداخلي وإنفاذ قوانين الهجرة والجيش بسخاء، لخلق نسخة ترامب الخاصة من "الدولة العميقة" غير الخاضعة للمساءلة، وتُقطع تمويلات برامج اجتماعية أو تُغلق. ستكون عبادة "القائد العظيم" محور المشروع. وتجلّى الذل المطلق أمام القائد العظيم في احتفال ترامب بأول مئة يوم لإدارته، فارتدى أعضاؤها اللون الأزرق الداكن وقبعات بيسبول حمراء كُتب عليها "خليج أميركا". وفي تملّق نموذجي، قالت وزيرة العدل بام بوندي: "سيدي الرئيس، لقد فاقت أيام رئاستك المئة الأولى أي رئاسة أخرى في هذا البلد على الإطلاق. لم أرَ شيئاً كهذا من قبل، شكراً لك". سينال ترامب استعراضاً عسكرياً في عيد ميلاده، وعمودين لعَلمين مرتفعين 100 قدم في حديقة البيت الأبيض، وربما، إذا أُقرت مشاريع القوانين المقترحة في الكونغرس، سيُنقش وجهه على جبل راشمور، بجانب جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، وأبراهام لينكولن، وثيودور روزفلت. ويصبح يوم ميلاده عطلة فيدرالية، وتُطبع صورته على أوراق نقدية جديدة من فئة 250 دولاراً، وستعاد تسمية مطار دالاس الدولي في واشنطن، مطار دونالد ترامب الدولي. وسيبني حديقته القومية لأبطال أميركا. ويسعى لإلغاء التعديل الدستوري 22 للسماح له بولاية ثالثة، رئيساً مدى الحياة. "سيُعلّم (ترامب) الأطفال حب أميركا"، هكذا ترنّم ستيفن ميلر. "سيُعلّم الأطفال الوطنية. سيُعلّمون القيم المدنية في المدارس الراغبة في تمويل دافع الضرائب الفيدرالي. هكذا، بينما نُلغى وزارة التعليم ونُقدّم التمويل للولايات، سنحرص على عدم استخدام هذه الأموال لترويج الأيديولوجية الشيوعية". بحسب هيدجز، إنها أفاعي ترامب تُخمد ما تبقى من المجتمع المفتوح، وتضع لمسات نهائية لعمل قذر بدأه مليارديرات وشركات. هذه نهاية العملية، وليست البداية. لقد حظي ترامب بالكثير من العون. هناك كلمة يُوصف بها من فعلوا هذا: الخونة.


الجزيرة
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
لقطة لأميركا قبل السقوط
الفاشيون والأوليغارشيون الذين يسعدون بتقديم القلم وأوامر السلطة لدونالد ترامب لا يشنّون حربًا على "الدولة العميقة" أو "اليسار المتطرف" أو حتى من أجل "حمايتنا من معاداة السامية"، بل يشنّون حربًا على الحقيقة القابلة للتحقق، وعلى سيادة القانون، وعلى الشفافية والمساءلة. وهي قيم لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود صحافة حرة، وحق في المعارضة، وثقافة حيّة، وفصل للسلطات، بما في ذلك وجود قضاء مستقل. كل هذه الركائز التي يقوم عليها المجتمع المفتوح- كما أوضحت في كتابي "موت الطبقة الليبرالية"- كانت قد تآكلت قبل وقت طويل من وصول ترامب. الصحافة، بما في ذلك الإذاعات العامة، والمؤسسات الأكاديمية، والحزب الديمقراطي، وثقافة رأس مالية مبتذلة، وقضاء يخدم الطبقة المليارديرية، وكونغرس تم شراؤه من قبل جماعات الضغط، كلها تم تفريغها من جوهرها. لقد أصبحت أهدافًا سهلة. وقليلون يرغبون في الدفاع عنها. لقد باعتنا هذه المؤسسات. فليكن مصيرها الزوال. في كتابي الصادر عام 2010 كتبت: "إن فقدان الطبقة الليبرالية يخلق فراغًا في السلطة يُملأ بالمضاربين ومقاولي الحروب والبلطجية والقتلة، وغالبًا ما يقودهم ديماغوجيون كاريزميون. يفتح هذا الباب أمام الحركات الشمولية التي ترتقي إلى الصدارة من خلال السخرية من الطبقة الليبرالية والقيم التي تزعم الدفاع عنها. ووعود هذه الحركات الشمولية خيالية وغير واقعية، لكن انتقاداتها للطبقة الليبرالية تستند إلى حقائق". إعلان الفاشية تُولد من رحم الليبرالية المفلسة التي تخلّت عن دورها التقليدي في الديمقراطية الرأسمالية. لم تعد تخفف من شراسة الطبقة الحاكمة والإمبراطورية من خلال الإصلاحات الجزئية. بل باتت تلوم وتؤنب العمال الذين خذلتهم. وسائل الإعلام باتت تهتم أكثر بالوصول إلى السلطة لا بقول الحقيقة. ساعدت في نشر الأكاذيب والدعاية التي قادت إلى الحرب على العراق. مجّدت وول ستريت وأقنعتنا بأن من الحكمة تسليم مدخراتنا لنظام مالي تديره الذئاب. ثم نُهبت المدخرات. غرقت في أكاذيب "روسيا غيت". تخضع بالكامل للوبي الإسرائيلي، وتشوّه تغطية الإبادة في غزة واحتجاجات الجامعات لتشويه صورة الفلسطينيين والمسلمين والطلاب المتظاهرين. ترقص على أنغام مموليها من الشركات. وتحجب معاناة الفقراء والمهمشين عن التغطية الإعلامية. الجامعات تحوّلت إلى شركات. الإداريون الكبار، غالبًا من حملة شهادات MBA، بلا خبرة أكاديمية حقيقية، والمدربون الرياضيون الذين يمكنهم جني المال للجامعة، يحصلون على رواتب خيالية، تصل إلى ملايين الدولارات. أقل من 10% من أعضاء هيئة التدريس حاليًا في مسارات تثبيت وظيفي (tenure). أما نحو 45% فهم أساتذة بدوام جزئي أو عارضون. و20% بوظائف بدوام كامل، ولكن بلا أمان وظيفي. أصبحت الجامعات امتدادًا لاقتصاد العمل المؤقت. كثير من الأساتذة والمعيدين الجامعيين مضطرون للتقديم على إعانات "ميديكيد"، أو العمل في وظائف إضافية كسائقي "أوبر" أو "ليفت"، أو نوادل، أو موزعي طعام، أو رعاة كلاب، أو جالسين في شقق مزدحمة. هيئة تدريس فقيرة بلا أمان وظيفي لن تطرح أسئلة محرجة حول عدم المساواة الاجتماعية، أو جرائم الإمبراطورية، أو الإبادة في غزة، أو الحرب الدائمة. وإن فعلوا، يُطردون. في المقابل، تُمنح المكافآت للإداريين مقابل "خفض النفقات" عبر رفع الرسوم وتقليص الأجور. ويُطمئن هذا النهج المتبرعين الأغنياء بأن الأيديولوجيا النيوليبرالية التي تدمّر البلاد لن تُمسّ من قبل أساتذة يخشون فقدان وظائفهم. الفقراء، بمن فيهم موظفو الجامعات، منسيون. كما كتب إرفينغ هاو في مقالته عام 1954 بعنوان "عصر التوافق": "فكرة المهنة الفكرية – فكرة أن تكون الحياة مكرّسة لقيم لا يمكن تحقيقها في حضارة تجارية – قد فقدت بريقها تدريجيًا. وهذا، وليس التخلي عن برنامج معين، هو ما يشكّل هزيمتنا الحقيقية". ويضيف: "الناس الذين باتوا فعلًا بلا قوة هم أولئك المثقفون – الواقعيون الجدد – الذين يربطون أنفسهم بمقاعد السلطة، ويتخلّون عن حرية التعبير من دون أن يكتسبوا أي وزن سياسي". الحزبان الحاكمان سوّقا لنيوليبرالية أدّت إلى تجريد البلاد من صناعتها، وفرض إجراءات تقشف قاسية، وتفكيك قوانين حماية العمال، وتعزيز احتكار الشركات وتفاوت الثروات إلى مستويات تاريخية. البنوك، والاتصالات، والنفط، والسلاح، والزراعة، والصناعات الغذائية تضمن أرباحها من خلال التلاعب بالأسعار وتجاهل القوانين واستغلال العمال. وقد صوّتت الطبقة العاملة، في يأسها، لديماغوجي كمنقذ. ومع جفاف التمويل الفني، اضطر الفنانون، مثل الإذاعة العامة، إلى البحث عن رعاة من الشركات. فتدهورت النزاهة الفنية والصحفية. كتب فريدريك نيتشه في "ما وراء الخير والشر" أن قلة فقط تملك الشجاعة للنظر في "الهاوية المنصهرة" للواقع البشري. الفنانون والفلاسفة، وفقًا له، ينزلون إلى قاع هذه الهاوية سعيًا للحقيقة. لكن من يقترب منها يحترق ويعود متألّمًا. هؤلاء هم "أطفال محترقون"، أيتام أبديون. الثقافة في ديمقراطية سليمة راديكالية وتحولية. تعطي كلمات لما في داخلنا. تمنحنا القدرة على الإحساس والتعاطف مع المظلومين. تكشف ما يحدث حولنا. كتب جيمس بالدوين: "دور الفنان هو إضاءة الظلام، وفتح الطرق في الغابة الكثيفة، حتى لا نفقد في زحام أفعالنا الهدف الأسمى: أن نجعل من العالم مكانًا أكثر إنسانية". الحرب على الثقافة والفن والفكر الحر تهدف إلى منعنا من رؤية "الهاوية"، ومن محاولة جعل العالم إنسانيًا. أولئك "الأطفال المحترقون" تم إسكاتهم. أكثر من 16.000 كتاب مُنعت من المدارس والمكتبات قبل وصول ترامب للحكم، والمنع يتسارع. الثقافة في الأنظمة الاستبدادية تحتفي بماضٍ مثالي لم يوجد، وبحاضر زائف. الثقافة الجماهيرية تُشبع رغبتنا في الوهم، والفرح، والأمل. تروّج لأساطير التقدم الأبدي، وبطولات مزيفة، وتحثّنا على عبادة المشاهير أو أنفسنا على وسائل التواصل. النتيجة: تدهور ثقافي يتجلى في "حديقة الأبطال" لترامب، وفي العرض الميلادي الباذخ المرتقب في مركز كينيدي بواشنطن. الساسة في الحزبين الحاكمين يتلقون تمويلًا من "المال المظلم" المقدم من الأثرياء والشركات. هذا النظام هو "استبداد مقلوب"، بحسب الفيلسوف السياسي شيلدون وولين. يحتفظ بمظاهر الديمقراطية لكنه تحت سيطرة الشركات التي تستغل القانون الدولي لنهب العالم النامي والإطاحة بالحكومات المقاومة. الربح أولًا، لا العدالة. نسف إدارة ترامب لهذه المؤسسات المتعفنة سيكون نهاية للتجربة الأميركية. وسينتقل النظام من "الاستبداد المقلوب" إلى "الدكتاتورية المباشرة". ديستوبيا الشركات قادمة: تشبه في قسوتها نموذج الصين: رقابة شاملة، قيادة غير منتخبة، سحق النقابات، ومراقبة جماعية. يتطلب المشروع الاستبدادي تحييد كل مؤسسة مستقلة مهما بلغت هشاشتها. وفقًا لـ Axios، بدأ ترامب بمهاجمة "الاستطلاعات الكاذبة" التي تظهر تراجع شعبيته، مطالبًا بالتحقيق مع وسائل الإعلام التي تنشرها بتهمة "تزوير الانتخابات". هذا يشبه منطق كل مستبد: حظر الحقائق المزعجة. بعد القضاء على المؤسسات المستقلة، تُغلق الشقوق التي سمحت يومًا بمعارضة خافتة. الخوف يصبح أداة الوحدة. النقد يُجرّم. الأمن الداخلي والهجرة والدفاع تُغرق بالأموال، بينما برامج الرعاية تُجفف. هكذا تنشأ نسخة جديدة من "الدولة العميقة" غير الخاضعة للمساءلة. في قلب المشروع: عبادة القائد. خلال احتفال ترامب بـ100 يوم على ولايته، جلس وزراؤه أمامهم قبعات "خليج أميركا". وقالت المدعية العامة بام بوندي متملقة: "سيدي الرئيس، إن أول 100 يوم من حكمك فاقت أي رئاسة في تاريخ هذا البلد. لم أرَ شيئًا مثله من قبل، شكرًا لك". إيلون ماسك، مدير Tesla، ارتدى قبعة ثانية مكتوبًا عليها "خليج أميركا"، خلال اجتماع في البيت الأبيض يوم 30 أبريل/ نيسان 2025. ترامب سيحصل على عرض عسكري بمناسبة عيد ميلاده، وعلى علمين بطول 100 قدم أمام البيت الأبيض، وربما – إن أقر الكونغرس القوانين المقترحة – سيُنحت وجهه على جبل راشمور إلى جانب واشنطن وجيفرسون ولينكولن وروزفلت. سيصبح عيد ميلاده عطلة وطنية، وستُطبع صورته على عملات بقيمة 250 دولارًا، ويُعاد تسمية مطار دالاس الدولي إلى "مطار دونالد جيه ترامب الدولي". وسيبني "حديقته الوطنية لأبطال أميركا". وطبعًا، سيُلغى التعديل الـ22 ليترشح لولاية ثالثة. رئيس مدى الحياة! قال ستيفن ميلر، مستشار الرئيس: "سنعلم الأطفال حب أميركا. سنعلمهم الوطنية. سنعلمهم القيم المدنية في المدارس التي تريد تمويلًا فدراليًا. ومع إغلاق وزارة التعليم، سنضمن ألا يُستخدم التمويل لنشر الأيديولوجيا الشيوعية". مساعدو ترامب يطفئون آخر شموع المجتمع الحر، وينجزون ما بدأه المليارديرات من تدمير. هذه ليست بداية، بل نهاية. لقد حصل ترامب على الكثير من المساعدة. وهناك كلمة واحدة تصف من فعلوا هذا بنا: خونة.