#أحدث الأخبار مع #الطفل_الفلسطينيالجزيرةمنذ 5 أيامترفيهالجزيرةسينما فلسطين.. من السردية المختطفة إلى الحكاية المستعادةيخرج الطفل الفلسطيني من أحد أحياء القدس الشرقية، يحمل بيده بالونة هيليوم بيضاء كبيرة، رسم عليها وجه الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بخط أسود واضح، بزيه التقليدي والكوفية. لا شي في خلفية المشهد سوى صوت الريح وخطى الطفل، وهو يمشي بهدوء وسط المدينة. في طريقه، تمرّ البالونة فوق جنود الاحتلال الإسرائيلي، فوق الحواجز العسكرية، فوق الجدران، وأبراج المراقبة. يراقبها الجنود بقلق، لا يفهمون ماذا يفعلون. تتابع الكاميرا البالونة وهي ترتفع ببطء نحو السماء، تمرّ فوق الأسلاك والجدران، بلا مقاومة. إنها صورة بصرية هادئة، لكنها مليئة بالقوة؛ صورة عرفات ترتفع فوق النظام العسكري الإسرائيلي، لا تحتاج إلى سلاح ولا صراخ، والطفل ينظر إلى السماء، ويتابعها بعينيه في لحظة مفعمة بالفخر والمقاومة الرمزية. يعيد ذلك المشهد البديع -من فيلم 'يد إلهية' (2002) للمخرج إيليا أبو سليمان- إلى الأذهان تلك السنوات الأولى لاسترداد السردية الفلسطينية المسروقة، وتحولها إلى موقع الفاعل لا المفعول به، والسارد الحاضر بقوة، لا المحكي عنه المغيب. إنها أيضا بدايات تحول الفيلم الفلسطيني إلى أداة مقاومة بليغة وقوية عابرة للحدود، تتجاوز كل أنواع الحواجز التي تشبه الجنود في المعبر، وهم يقفون عاجزين عن منعها من الخروج من الحدود المرسومة. كانت فلسطين تحكى بلسان الغير أزمنة طوالا، ويتناوب الإعلام الغربي والمؤسسات الإنسانية والأفلام الدولية على تقديمها أرضا منكوبة، وقضية مأساوية، وضحية صامتة تنتظر من يروي حكايتها، لكن ما شهدناه في العقدين الماضيين يعد تحوّلا محوريا، فقد أصبحت فلسطين هي السارد وهي الحاكي، الذي يكتب نفسه، ويعيد إنتاج ذاكرته وهويته بالصوت والصورة من داخل الخنادق والمعابر والمخيمات. لم تعد الكاميرا الفلسطينية تقف على أطلال البيوت، وتتسول الشفقة والدموع، بل دخلت إلى الغرف، وفتحت الأدراج، ونبشت الصور والدموع المؤجلة، وراحت تصنع من كل تفصيل حكاية. إنه التحول من سينما البيان السياسي إلى الفعل السردي الإبداعي، ومن الظهور في ملاحق الأخبار إلى كيان فنيّ مستقلّ، له لغته وصورته وقدرته على قول ما لا تقوله نشرات الأخبار. 'ضحية صامتة'.. سرقة السردية قبل الأرض لم تكن سرقة الأرض بمعزل عن سرقة السردية، بل كانت موازية لها، وسبقتها أحيانا، لتعد الضمير العالمي لاستقبال جريمة سرقة الأرض، على أنها قدر لا مفر منه، وتصوير القضية على أنها ليست إلا مجموعة من البشر في الملاجئ، ينبغي البحث عن حل لأوضاعه خارج نطاق فلسطين. في بدايات القرن العشرين، ومع صعود المشروع الصهيوني، صُورت فلسطين في السينما –سواء الغربية والصهيونية وحتى العربية أحيانا– على أنها 'ضحية صامتة' أو 'أرض تنتظر من يحييها'، واتسمت معالجات السردية الفلسطينية الأولى بالبحث عن التعاطف والشفقة، ونزع الفاعلية عن الشخصية الفلسطينية. وكانت السمات الرئيسية في الأفلام المتعلقة بفلسطين هي التركيز على الجانب الإنساني برصد معاناة اللاجئين، دون تطرق إلى أسباب الصراع السياسية أو حقوقهم الوطنية، وكما افتقد الفلسطينيون من يمثلهم في الواقع السياسي العالمي، فقد افتقدوا من يقوم بأدوارهم على الشاشة، نظرا للضغوط على الممثلين، ولذلك كان التمثيل في الساحة الفنية محدودا، فكانت الشاشة نهبا لخصومهم، أو لمن أراد ادعاء ملكية السردية الفلسطينية. ظهرت أفلام دعائية مبكرة تروّج لفكرة أن فلسطين 'أرض بلا شعب لشعب بلا أرض'، وصورت الفلسطينيين على أنهم غائبون، أو غير متحضرين. ومن أبرز تلك الأفلام 'عودة إلى صهيون' (Return to Zion)، الذي أنتجته الحركة الصهيونية عام 1917، وصوِّر في فلسطين، ويُظهر المهاجرين اليهود وهم يزرعون ويبنون، في مقابل مشاهد لفلسطينيين يظهرون متفرجين أو مشوشين، بلا قيمة سردية. بعد نكبة 1948، بدأت وكالات دولية -منها الأونروا- بإنتاج أفلام إغاثية، تظهر الفلسطينيين ضحايا للبؤس لا للنكبة السياسية، لذا كان التركيز على المعاناة الإنسانية بلا مساءلة للجذور السياسية، وظهرت تلك الأفلام في الخمسينيات في نشرات الأونروا الدورية. وفي سعي السينما العربية لإبداء التضامن، قدمت الفلسطيني شخصية باكية لا فاعلة، فكان التركيز على النكبة بصفتها جراحا فردية لا فعلا استعماريا مستمرا، ولعل النموذج الأشهر في هذا المجال فيلم 'فتاة من فلسطين' للمخرج محمود ذو الفقار (1948)، وهو أول فيلم مصري يتناول القضية مباشرة، ويروي قصة طيار مصري يسقط في قرية فلسطينية، وتنقذه فتاة فلسطينية. وفي عام 1955، أسهمت السينما الوثائقية بصورة الضحية المثالية، في فيلم 'معسكر اللاجئين في غزة'، للمخرج حسن حلمي، وهو يوثق حياة اللاجئين في مخيمات غزة بعد النكبة، مسلطا الضوء على معاناتهم الإنسانية، وقدم المخرج سعد نديم فيلم 'فليشهد العالم' (1957)، ليستكمل توثيق معاناة اللاجئين الفلسطينيين. لم تكن السردية بأفضل منها على مستوى الغرب، فقد غيّبت الفلسطيني تماما، وقدمت السردية الصهيونية عن اليهودي القادم إلى أرض الميعاد، كما ورد في فيلم 'الخروج' (Exodus) للمخرج 'أوتو بريمنغر' (1960)، الذي قام ببطولته 'بول نيومان'. أما فيلم 'أطفال الغضب' (Children of Rage)، للمخرج 'آرثر سيدلمان' (1975)، فيعد من أوائل الأفلام الغربية التي تناولت الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من منظور إنساني، ويروي قصة طبيب إسرائيلي يساعد مقاتلا فلسطينيا جريحا. ثم عاد المخرج الهولندي 'يوهان فان دير كيوكن' في العام نفسه، فاستخدم سردية اللاجئ والضحية والمسكين بفيلمه الوثائقي 'الفلسطينيون' (The Palestinians). دور مزدوج للتمويل الأجنبي لم تستسلم السردية المخطوفة، وحاول جيل جديد من المبدعين الفلسطينيين استعادتها، لكن الإمكانات لم تكن متاحة في سوق الإنتاج السينمائي، فكان التمويل أحد الحلول في محاولة لتحرير الكاميرا، وظهرت المنظمات والمنصات الدولية، بوصفها ساحة إشكالية ومزدوجة التأثير، تتقاطع فيها التطلعات السياسية بالمعايير 'الإنسانية' المفروضة من الخارج، مما يفرض شروطا ضمنية على شكل الحكاية الفلسطينية ومضمونها. يأتي التمويل من مؤسسات منها الاتحاد الأوروبي، وصناديق دعم السينما العالمية مثل 'معهد سندانس' و'إدفا بيرثا للتمويل'، ويتيح لبعض المخرجين الفلسطينيين إنتاج أفلامهم، في ظل غياب دعم وطني مؤسسي. لكن هذا التمويل يقابَل بشروط غير مكتوبة، تتعلق بتخفيف حدة الخطاب السياسي المباشر، والتركيز على الجوانب الإنسانية الفردية (لاجئ، امرأة، طفل، معاق) بدلا من تمثيل الفلسطيني فاعلا سياسيا، وتجنّب تقديم إسرائيل على أنها قوة استعمارية صريحة، واستبدال ذلك بخطاب 'الصراع المتساوي'. ومع أن فيلم 'عمر' (2014) للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد نجح في الوصول إلى الأوسكار، وكان جريئا في تناول خيانة شاب ضعيف للقضية تحت الضغط الاحتلالي، فإن كثيرين انتقدوا اعتماده على دعم أوروبي، و'تجريده' من رموز المقاومة الواضحة، وتقديمه لبطله في إطار نفسي فردي أكثر من كونه مقاوِما سياسيا. أما فيلم 'خمس كاميرات محطّمة' (2011)، فهو مموَّل من جهات دولية، ويقدّم سردا توثيقيا مهما، لكنه يركّز على مقاومة سلمية، بلا سياق سياسي شامل حول النكبة أو المشروع الاستعماري في بدايته، ومن ثم يتحول إلى المقاومة، وهو ما يسهّل تداوله في المهرجانات الأوروبية، بلا إدانة واضحة لبنية الاحتلال. ومع أن هذه الأفلام مهمة لإبقاء القضية الفلسطينية حاضرة في الفضاء الدولي، فإنها غالبا تعيد إنتاج الفلسطيني في دور 'الضحية الإنسانية' أو 'الناجي الأخلاقي'، لا 'المناضل السياسي'، مما يعزز نوعا جديدا من خطف السردية، يبدو فيها الفلسطيني بحاجة لـ'شرعية أخلاقية'، تمنحها له عدسة الآخر الأوروبي. معركة استرداد السردية في الداخل والخارج كانت نكسة 1967 لحظة فاصلة في تاريخ السينما الفلسطينية، فبدت لحظة إيقاظ للوعي بضرورة فرض الوجود ظلا لآخرين، فشهدت تحولا نوعيا في التعبير عن الذات بالسينما، متجاوزة مرحلة التمثيل السلبي أو البكائي، الذي طبع صورة الفلسطيني في إنتاجات عربية وغربية في الخمسينيات والستينيات. بدأت ملامح هذا التحول بوضوح في السبعينيات، مع ولادة ما سُمي 'سينما المقاومة الفلسطينية'، التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالمشروع السياسي والثقافي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا جاءت التحولات في السردية الفلسطينية على شاشة السينما، نتيجة التأثير المتبادل بين المشروع السياسي (منظمة التحرير)، والتجربة الفردية للمخرجين في المنافي أو الداخل المحتل، وبدأ الفلسطيني يكتب تاريخه بالصوت والصورة، ويتحوّل من موضوع في خطاب الآخر إلى منتِج لخطابه، مستعينا بتاريخ من التجارب الفنية والإنسانية التي أسهمت في بناء 'سينما فلسطينية' لا تكتفي بالشهادة، بل تطمح للفعل الجمالي والسياسي. وأنشأت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1970 وحدة السينما والإعلام الموحّد، فأصبحت جهازا رسميا لإنتاج الأفلام وتوثيق الكفاح الوطني، في إطار ما أطلق عليه 'المعركة الإعلامية والثقافية'. كان هذا التأسيس تعبيرا عن وعي جديد بأهمية الصورة في الصراع، لا سيما في ظل هيمنة الرواية الصهيونية في الإعلام الغربي. وبدأت الوحدة تنتج أفلاما روائية ووثائقية تعكس تجربة المقاومة، وحياة المخيمات، وعمليات الفدائيين، وسعت لنقل صورة الفلسطيني من 'الضحية' إلى 'المقاتل'. من أشهر هذه الأعمال: 'بالروح بالدم'، للمخرج مصطفى أبو علي (1971)، ويوثق حياة الفدائيين في الأردن ولبنان. 'العودة إلى حيفا'، للمخرج قاسم حول (1974)، وهو مأخوذ عن رواية غسان كنفاني، ويعد من أولى المحاولات لتحويل الأدب المقاوم إلى صورة سينمائية. 'ليس لهم وجود'، لمصطفى أبو علي (1974)، الذي يرد بصريا على زعم 'غولدا مائير' بأن 'لا وجود للفلسطينيين'. ومع أن الصوت السياسي كان عاليا في هذه الوثائقيات، فإنها أسّست خطابا سينمائيا يعترف للفلسطيني بملكيته لروايته وصورته، فكانت الكاميرا في كثير من الأحيان سلاحا مكافئا للبندقية، وكانت عروض هذه الأفلام في محافل دولية جزءا حملة منظمة التحرير السياسية، ومادة تثقيفية في مخيمات اللاجئين. وقد ولد في نهاية الثمانينيات جيل جديد من صناع السينما الفلسطينيين، الذي انتقلوا أو فضلوا صناعة أعمالهم خارج الأطر الرسمية، سواء في داخل الأرض المحتلة أو خارجها، وبذلك تحررت هذه الأعمال من حس الستينيات الإرشادي، واتخذت أدوات فنية وسردية تطرح أسئلة الهوية والشتات واليومي، وتعيد تعريف المقاومة بمعناها الثقافي والاجتماعي. وبرز اسم المخرج ميشيل خليفي من الداخل الفلسطيني بفيلمه 'عرس الجليل' (1987)، الذي بدأ استرداد السردية الفلسطينية، وقد صُور كله داخل فلسطين، ويدور حول حفل زفاف في قرية يضطر سكانها إلى دعوة الحاكم العسكري الإسرائيلي لحضوره. وكان في أوروبا سينمائيون فلسطينيون، منهم مي مونّة، ورندا الشهّال، وإيليا سليمان، فأنتجوا أفلاما تعكس الشتات والقلق الوجودي، وأسسوا رؤية بصرية حديثة، فمن تلك الأفلام 'سجل اختفاء' لإيليا سليمان (1996)، وقد أعادت تشكيل ملامح الخطاب الفلسطيني بطريقة تأملية وساخرة، تبتعد عن التقريرية السياسية، وتفتح أسئلة الهوية والوجود والمكان. حكايات الكفاح بعدسات أبطالها.. ملامح السردية الجديدة جاءت السينما الفلسطينية الأصيلة، لتعيد تشكيل صورة الفلسطيني شخصيةً كاملة، تنتمي لمكان، وتحمل هما تاريخيا، وتخوض صراعا إنسانيا معقدا، واعتمد هذا التشكيل على مفهوم 'السرد المضاد'، أي الخطاب الذي يناقض ويسائل الروايات السائدة، ويعيد تعريف الهوية والتاريخ من وجهة نظر المهمّشين. ففي الحالة الفلسطينية، كان لا بد من استرداد الحكاية التي تروي تفاصيل الحياة تحت الاحتلال، لا فقط من باب الإدانة أو التوثيق، بل لبناء وعي بصري مختلف، ينتمي إلى الذات الفلسطينية ويعبّر عنها. وظهر ذلك واضحا في فيلم 'الزمن الباقي' لإيليا سليمان (2009)، فلا نجد مشاهد مواجهة مباشرة، بل نتابع حياة ساكنة في مدينة الناصرة، يراقب فيها الاحتلال من خلف نافذة المطبخ، أو على شرفة بيت. ليست المقاومة هنا بندقية بل صبرا يوميا، والحكاية ليست صراخا بل سكونا عميقا. هذا الخيار الجمالي يعكس فلسفة سردية، تُرى في التفاصيل اليومية، التي تشمل نظرات العيون والصفوف والطبخ والعتمة، بوصفها مادة أساسية لإنتاج الوعي. أما المخيم، فهو في أفلام منها 'عائد إلى حيفا' (1973)، و'ملح هذا البحر' (2008)، فليس موقعا للجوء فحسب، بل مساحة رمزية للانتظار والذاكرة الممنوعة. لا يظهر اللاجئ في هذه الأعمال متسولا للعدالة، بل صاحب حق واضح، يحاول إعادة تعريف العلاقة بينه وبين المكان المسلوب، فالبطلة ثريا في 'ملح هذا البحر' تعود من الشتات إلى رام الله، مطالبة بحقها القانوني في ميراث جدّها، فيجد المشاهد نفسه أمام شخصية فاعلة، لا ضحية تنتظر الخلاص من الخارج. ويعد الشتات في أفلام آن ماري جاسر ورشيد مشهراوي ساحة صراع هويات، لا تقل تعقيدا عن الداخل المحتل، ففي فيلم 'عيد ميلاد ليلى' (2008)، نجد بطل الفيلم -وهو قاضٍ في رام الله- يتجول وسط الفوضى اليومية، محاولا شراء كعكة عيد ميلاد لابنته، ويصبح هذا الفعل البسيط استعارة عن مقاومة التفكك المجتمعي والوجداني، في ظل سلطة مقيدة واحتلال خانق. وهكذا أصبحت السردية المضادة نظرة لفلسطين، بوصفها قضية إنسانية مستمرة، تروى بلغتها وبأدواتها، لا يظهر الفلسطيني فيها مادة درامية، بل يصنع الحكاية، مدركا لذاته وللزمن الذي يكتب عليه أن يعيش فيه، ويعيد كتابته. السارد الفنان.. قوة سحرية تدافع عن قضية عادلة لم تكن السينما الفلسطينية في صيغتها المضادة تدافع عن 'قضية عادلة'، بل كانت هجوما على المنظومة السردية التي اعتادت أن تملي من يروي، ولمن، وكيف. هي مشروع وعي ومقاومة، يتجاوز أحيانا الإمكانات التقنية والتمويل، ليعيد طرح سؤال مركزي: من يملك الكاميرا؟ ومن يكتب المشهد؟ بهذا المعنى، فإن استرداد السردية الفلسطينية في السينما لم يكن رفاهية ثقافية، بل فعل تحرر، وساحة أخرى من ساحات المواجهة. قدم السرد الجديد التفاصيل اليومية تحت الاحتلال في فيلم 'يد إلهية' لإيليا سليمان (2002)، فتتجلى المقاومة في سلوكيات يومية رمزية وصامتة أحيانا. مشهد الرجل الذي يطارد دبابة بالنظرات، والمرأة التي تمر بين الجنود ولا يجرؤ أحد على لمسها، يعيد بناء الفلسطيني من شخصية منهزمة إلى ذات لها قوة سحرية، وإن كانت صامتة. ثم أصبح المخيم مركزا للمعنى، وساحة للفعل السياسي والوجداني، بعد أن كان خلفية للحزن، وذلك ما رسمه فيلما مي المصري 'أطفال شاتيلا' و'يوميات بيروت'، اللذان قدما المخيم فضاء للصراع والهوية، لا للبؤس فقط. في فيلم 'اصطياد أشباح' لرائد أنضوني (2017)، يعيد المخرج بناء زنازين التحقيق الإسرائيلية من الذاكرة، ويدخل المعتقلين السابقين في تجربة إعادة تمثيل تعذيبهم. وليس المشهد تمثيلا فقط، بل كشفا للذاكرة الجسدية المسحوقة، ومحاولة لاستعادة السيطرة عليها بالفن. ويعيد السينمائي الفلسطيني طرح أسئلة الشتات والهوية الممزقة، كما ظهر في فيلم 'الملجأ الأخير' (1990) لرشيد مشهراوي، الذي يرصد الفلسطيني في المنفى وهو يعيد بناء علاقته بالمكان واللغة والذاكرة، ويجعل الشتات منصة للسؤال السياسي، لا مجرد حالة إنسانية. أحلام مي المصري تعد المخرجة الفلسطينية مي المصري من أبرز الأصوات السينمائية، التي أسهمت في استرداد السردية الفلسطينية من منظور نسوي وإنساني، وقد ظهر في أعمالها مثل فيلم 'أحلام المنفى' (2001)، وفيلم '3000 ليلة' (2015). تستحضر مي المصري الذاكرة الجمعية الفلسطينية بعدسة الأمومة والمنفى والاعتقال، وتدمج ببراعة بين الوثائقي والروائي، لتقديم سردية مقاومة ومغايرة، لتلك التي رسّخها الإعلام الغربي أو الخطاب الصهيوني. ففي 'أحلام المنفى'، توثق شهادات 5 فتيات فلسطينيات نشأن في الشتات بين سوريا ولبنان والأردن والضفة الغربية، وتفتح كاميرتها على لحظات من الحياة اليومية، والمشاعر الحميمة، والذكريات المتناثرة التي تحملها كل فتاة عن وطن لم تعشه، وبدلا من تقديم المرأة الفلسطينية ضحية صامتة، فإنها تجعلها فاعلة في رواية التاريخ، وحاملة للهوية الوطنية. وتظهر في العمل أهمية 'الذاكرة النسائية'، بوصفها سردية مضادة، تقاوم النسيان السياسي والثقافي، الذي فُرض على اللاجئات الفلسطينيات، وتقدم المخرجة نموذجا للمرأة اللاجئة شاهدة وراوية وشخصية تسعى لإعادة تعريف الوطن. وفي فيلم '3000 ليلة'، تنتقل إلى السينما الروائية، ولا تتخلى عن تقنيات التوثيق، فتروي قصة المعلمة الفلسطينية ليال، التي تعتقل ظلما في سجن إسرائيلي، وتلد طفلها هناك. بُني الفيلم على مقابلات أجرتها المخرجة مع سجينات سياسيات كن في السجون الإسرائيلية، مما يضفي على العمل مصداقية واقعية عالية، مع أنه فيلم روائي. يركّز الفيلم على تجربة الأمومة تحت القمع والاعتقال، فيصبح الجسد الأنثوي الفلسطيني ميدانا للمقاومة والصمود، بدل أن يكون رمزا للضعف. تشتبك سردية السجن مع سردية الوطن، وتقدَّم المرأة الفلسطينية هنا بطلة إنسانية، تتحدى قسوة المكان، وتسعى لحماية ابنها، دون أن تتخلى عن كرامتها أو هويتها. وقد نجحت المخرجة في خلق لغة سينمائية خاصة بها، تمزج بين الواقعي والدرامي، وبين الوثائقي والشعري، فهي لا تصوّر الواقع فقط، بل تعيد تشكيله دراميا بما يخدم السردية الفلسطينية. رشيد مشهراوي.. مخرج من قلب مخيمات غزة ينتمي رشيد مشهراوي إلى الجيل الذي بدأ العمل السينمائي من داخل فلسطين، لا من الشتات، فقد نشأ في مخيم الشاطئ للاجئين في غزة، وتحمل أفلامه طابعا واقعيا توثيقيا واضحا، وغالبا ما تدور في أحياء مزدحمة ومخيمات متداعية، لتروي تفاصيل الحياة اليومية تحت الحصار. ففي فيلم 'حيفا' (1996)، يروي مشهراوي قصة رجل بسيط يعيش بين ذكرياته وهواجسه، في سردية تمزج بين الانكسار الشخصي والانقسام السياسي، أما فيلمه الوثائقي 'دار الحنان' (2002)، فيصوّر حياة أطفال مرضى السرطان في مستشفى فلسطيني، مسلطا الضوء على الإهمال الطبي والحصار الإسرائيلي، لكنه يفعل ذلك من زاوية إنسانية لا خطابية. ويجسد مشهراوي 'الواقعية الاجتماعية' التي لا تهرب من السياسة، بل تدخلها في صلب المعاناة اليومية، مقدما الفلسطيني إنسانا من لحم ودم متعبا ومأزوما ويوميّا، لا بطلا رمزي فقط. إيليا سليمان.. سخرية من عمق الداخل الفلسطيني في مقابل المخرج رشيد مشهراوي، يمثل إيليا سليمان أسلوبا فنيا متفردا، يقوم على السخرية الباردة والصمت التعبيري. ونرى ذلك في ثلاثيته الشهيرة: 'يد إلهية' (2002). 'سجل اختفاء' (1996). 'إن شئت كما في السماء' (2019). يستعرض المخرج في هذه الأفلام تجربته فلسطينيا داخل إسرائيل، ثم لاجئا دائما، بمشاهد تجريدية ومفارقات عبثية، تقارب أفلام 'جاك تاتي' أو 'باستر كيتون'. وهو يمتنع عن استخدام الحوار، ويستعيض عنه بلغة بصرية شاعرية، فيصبح الصمت أداة مقاومة، والتهكم سلاحا ضد النظام الاستعماري. فهو لا يصرخ، بل يبتسم في وجه القمع، وفي أحد مشاهد 'التدخل الإلهي'، تظهر فتاة فلسطينية تقهر الجنود الإسرائيليين بجمالها وسكونها، وتلك صورة رمزية تحاكي غير المرئي والمستحيل في واقع الاحتلال. آن ماري جاسر.. ثورة سردية في حكايات نساء الهامش آن ماري جاسر مخرجة وكاتبة فلسطينية من بيت لحم، تقدم في أفلامها زاوية سردية نسوية واضحة، مركّزة على تفاصيل الحياة اليومية، وعوالم النساء والأطفال. ففي فيلمها الروائي الأول 'ملح هذا البحر' (2008)، تروي قصة امرأة فلسطينية أمريكية، تعود لتطالب بحقها في بيت جدها الذي صادره الاحتلال. يطرح الفيلم قضية العودة من منظور فردي، لكنه لا يقع في فخ الشكوى، بل يرسم مسارا داخليا للبطلة نحو الفهم والمواجهة. أما في فيلمها 'واجب' (2017)، فتسلّط الضوء على العلاقة بين أب وابنه في الناصرة، أثناء توزيع دعوات زفاف، في بناء درامي بسيط، لكنه يفجّر الخلافات السياسية والثقافية، بين جيل الشتات وجيل الداخل. تتميز آن ماري بلغتها السينمائية الدقيقة، واعتمادها على أداء غير مفتعل، غالبا بممثلين غير محترفين، مما يمنح أفلامها واقعية حسّية عميقة، ويبرز هشاشة الشخصيات وكرامتها. باسل خليل.. خلطة روح الدعابة والهم السياسي يتبنى المخرج الفلسطيني البريطاني باسل خليل مقاربة معاصرة، تزاوج بين روح الدعابة والهمّ السياسي، بأسلوب أقرب إلى 'السينما العالمية' في إنتاجها وإيقاعها. وقد قدم عام 2015 فيلمه القصير 'السلام عليك يا مريم' (Ave Maria)، الذي رُشح للأوسكار، ويقدّم فيه مشهدا ساخرا، يحدث في دير للراهبات في الضفة الغربية، حين يطلب مستوطن يهودي من الراهبات مساعدته في إصلاح سيارته. ومع أنه بسيط زمنيا ومكانيا، فإنه يقدّم نموذجا لفلسطين، بصفتها واقعا يمكن النظر إليه بمفارقة إنسانية، ويتخذ الكوميديا وسيلة لتفكيك الصورة النمطية عن الفلسطيني. السينما الفلسطينية تفرض نفسها في المحافل في السنوات العشر الماضية، لم تعد السينما الفلسطينية تطلب الاعتراف أو تسأل 'هل تروننا؟'، بل أصبحت تعلن بثقة: 'ها نحن أولاء'. جاء ذلك التحول نتيجة نضوج فني، وتراكم جمالي وسياسي، عبر أجيال متعددة من السينمائيين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة والشتات، ممن نقلوا الحكاية الفلسطينية من دائرة التمثيل السلبي إلى سردية كاملة تعكس الواقع، وتعيد تشكيله بعين فنية ناقدة. بدأت السينما الفلسطينية منذ السبعينيات تراكم سرديتها المضادة عبر 'سينما المقاومة'، لكن العقد الماضي شهد نقلة نوعية على صعيد الشكل والمضمون، والأهم من ذلك على مستوى التقدير الدولي. فقد صارت الأفلام الفلسطينية حاضرة بانتظام في مهرجانات الصف الأول، مثل مهرجان 'كان'، فشارك فيه إيليا سليمان بفيلم 'إن شئت كما في السماء' في المسابقة الرسمية، وهو حدث نادر لسينما عربية مستقلة. وشاركت مي المصري في مهرجان برلين بفيلم '3000 ليلة' (2015)، الذي نال اهتماما كبيرا بسبب حساسيته الإنسانية العالية، وموضوعه السياسي الحاد حول معاناة الأسيرات الفلسطينيات. وشارك باسل خليل في مهرجان البندقية بفيلمه القصير 'السلام عليك يا مريم'، وهو فيلم رُشح لاحقا للأوسكار، مما يعكس اعترافا فنيا دوليا واضحا. ورُشح فيلم 'إن شئت كما في السماء' لجائزة السعفة الذهبية في 'كان'، وفاز فيلم '200 متر' لأمين نايفة بجائزة الجمهور في مهرجان البندقية 2020، في قسم أيام البندقية، ونال فيلم 'العبور' لباسل خليل جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان كليفلاند، ورشح لاحقا للأوسكار 2021. يؤكد تنوع الأجيال والأصوات -من مي مصري إلى آن ماري جاسر، ومن إيليا سليمان إلى المواهب الجديدة- ثراء المشروع السينمائي الفلسطيني وأصالته وقدرته الهائلة على التجديد، لكن التحدي الأكبر يبقى داخليا، وهو كيفية دعم بنية الإنتاج المحلي التحتية، وتأمين تمويل مستقل، وحماية حرية التعبير لضمان بقاء العدسة فلسطينية أصيلة، لا تخضع لرؤى المانحين ولا الأهداف الخارجية. ولأن استعادة السرد ليست عملا فنيا فحسب، بل عملا سياسيا وثقافيا معقدا، فإنها تتطلب مؤسسات قوية، وتدريبا متواصلا لأجيال جديدة من صناع الأفلام. والأهم من ذلك خلق جماهيرية عربية وعالمية. ففي الوقت الذي تتزايد فيه محاولات طمس الرواية الفلسطينية وتشويهها، أصبحت السينما ساحة للمقاومة، لا بالعدسة أداةً، بل أيضا بالصورة حقا، وبالسرد استعادةً للذات من قلب المعاناة.
الجزيرةمنذ 5 أيامترفيهالجزيرةسينما فلسطين.. من السردية المختطفة إلى الحكاية المستعادةيخرج الطفل الفلسطيني من أحد أحياء القدس الشرقية، يحمل بيده بالونة هيليوم بيضاء كبيرة، رسم عليها وجه الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بخط أسود واضح، بزيه التقليدي والكوفية. لا شي في خلفية المشهد سوى صوت الريح وخطى الطفل، وهو يمشي بهدوء وسط المدينة. في طريقه، تمرّ البالونة فوق جنود الاحتلال الإسرائيلي، فوق الحواجز العسكرية، فوق الجدران، وأبراج المراقبة. يراقبها الجنود بقلق، لا يفهمون ماذا يفعلون. تتابع الكاميرا البالونة وهي ترتفع ببطء نحو السماء، تمرّ فوق الأسلاك والجدران، بلا مقاومة. إنها صورة بصرية هادئة، لكنها مليئة بالقوة؛ صورة عرفات ترتفع فوق النظام العسكري الإسرائيلي، لا تحتاج إلى سلاح ولا صراخ، والطفل ينظر إلى السماء، ويتابعها بعينيه في لحظة مفعمة بالفخر والمقاومة الرمزية. يعيد ذلك المشهد البديع -من فيلم 'يد إلهية' (2002) للمخرج إيليا أبو سليمان- إلى الأذهان تلك السنوات الأولى لاسترداد السردية الفلسطينية المسروقة، وتحولها إلى موقع الفاعل لا المفعول به، والسارد الحاضر بقوة، لا المحكي عنه المغيب. إنها أيضا بدايات تحول الفيلم الفلسطيني إلى أداة مقاومة بليغة وقوية عابرة للحدود، تتجاوز كل أنواع الحواجز التي تشبه الجنود في المعبر، وهم يقفون عاجزين عن منعها من الخروج من الحدود المرسومة. كانت فلسطين تحكى بلسان الغير أزمنة طوالا، ويتناوب الإعلام الغربي والمؤسسات الإنسانية والأفلام الدولية على تقديمها أرضا منكوبة، وقضية مأساوية، وضحية صامتة تنتظر من يروي حكايتها، لكن ما شهدناه في العقدين الماضيين يعد تحوّلا محوريا، فقد أصبحت فلسطين هي السارد وهي الحاكي، الذي يكتب نفسه، ويعيد إنتاج ذاكرته وهويته بالصوت والصورة من داخل الخنادق والمعابر والمخيمات. لم تعد الكاميرا الفلسطينية تقف على أطلال البيوت، وتتسول الشفقة والدموع، بل دخلت إلى الغرف، وفتحت الأدراج، ونبشت الصور والدموع المؤجلة، وراحت تصنع من كل تفصيل حكاية. إنه التحول من سينما البيان السياسي إلى الفعل السردي الإبداعي، ومن الظهور في ملاحق الأخبار إلى كيان فنيّ مستقلّ، له لغته وصورته وقدرته على قول ما لا تقوله نشرات الأخبار. 'ضحية صامتة'.. سرقة السردية قبل الأرض لم تكن سرقة الأرض بمعزل عن سرقة السردية، بل كانت موازية لها، وسبقتها أحيانا، لتعد الضمير العالمي لاستقبال جريمة سرقة الأرض، على أنها قدر لا مفر منه، وتصوير القضية على أنها ليست إلا مجموعة من البشر في الملاجئ، ينبغي البحث عن حل لأوضاعه خارج نطاق فلسطين. في بدايات القرن العشرين، ومع صعود المشروع الصهيوني، صُورت فلسطين في السينما –سواء الغربية والصهيونية وحتى العربية أحيانا– على أنها 'ضحية صامتة' أو 'أرض تنتظر من يحييها'، واتسمت معالجات السردية الفلسطينية الأولى بالبحث عن التعاطف والشفقة، ونزع الفاعلية عن الشخصية الفلسطينية. وكانت السمات الرئيسية في الأفلام المتعلقة بفلسطين هي التركيز على الجانب الإنساني برصد معاناة اللاجئين، دون تطرق إلى أسباب الصراع السياسية أو حقوقهم الوطنية، وكما افتقد الفلسطينيون من يمثلهم في الواقع السياسي العالمي، فقد افتقدوا من يقوم بأدوارهم على الشاشة، نظرا للضغوط على الممثلين، ولذلك كان التمثيل في الساحة الفنية محدودا، فكانت الشاشة نهبا لخصومهم، أو لمن أراد ادعاء ملكية السردية الفلسطينية. ظهرت أفلام دعائية مبكرة تروّج لفكرة أن فلسطين 'أرض بلا شعب لشعب بلا أرض'، وصورت الفلسطينيين على أنهم غائبون، أو غير متحضرين. ومن أبرز تلك الأفلام 'عودة إلى صهيون' (Return to Zion)، الذي أنتجته الحركة الصهيونية عام 1917، وصوِّر في فلسطين، ويُظهر المهاجرين اليهود وهم يزرعون ويبنون، في مقابل مشاهد لفلسطينيين يظهرون متفرجين أو مشوشين، بلا قيمة سردية. بعد نكبة 1948، بدأت وكالات دولية -منها الأونروا- بإنتاج أفلام إغاثية، تظهر الفلسطينيين ضحايا للبؤس لا للنكبة السياسية، لذا كان التركيز على المعاناة الإنسانية بلا مساءلة للجذور السياسية، وظهرت تلك الأفلام في الخمسينيات في نشرات الأونروا الدورية. وفي سعي السينما العربية لإبداء التضامن، قدمت الفلسطيني شخصية باكية لا فاعلة، فكان التركيز على النكبة بصفتها جراحا فردية لا فعلا استعماريا مستمرا، ولعل النموذج الأشهر في هذا المجال فيلم 'فتاة من فلسطين' للمخرج محمود ذو الفقار (1948)، وهو أول فيلم مصري يتناول القضية مباشرة، ويروي قصة طيار مصري يسقط في قرية فلسطينية، وتنقذه فتاة فلسطينية. وفي عام 1955، أسهمت السينما الوثائقية بصورة الضحية المثالية، في فيلم 'معسكر اللاجئين في غزة'، للمخرج حسن حلمي، وهو يوثق حياة اللاجئين في مخيمات غزة بعد النكبة، مسلطا الضوء على معاناتهم الإنسانية، وقدم المخرج سعد نديم فيلم 'فليشهد العالم' (1957)، ليستكمل توثيق معاناة اللاجئين الفلسطينيين. لم تكن السردية بأفضل منها على مستوى الغرب، فقد غيّبت الفلسطيني تماما، وقدمت السردية الصهيونية عن اليهودي القادم إلى أرض الميعاد، كما ورد في فيلم 'الخروج' (Exodus) للمخرج 'أوتو بريمنغر' (1960)، الذي قام ببطولته 'بول نيومان'. أما فيلم 'أطفال الغضب' (Children of Rage)، للمخرج 'آرثر سيدلمان' (1975)، فيعد من أوائل الأفلام الغربية التي تناولت الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من منظور إنساني، ويروي قصة طبيب إسرائيلي يساعد مقاتلا فلسطينيا جريحا. ثم عاد المخرج الهولندي 'يوهان فان دير كيوكن' في العام نفسه، فاستخدم سردية اللاجئ والضحية والمسكين بفيلمه الوثائقي 'الفلسطينيون' (The Palestinians). دور مزدوج للتمويل الأجنبي لم تستسلم السردية المخطوفة، وحاول جيل جديد من المبدعين الفلسطينيين استعادتها، لكن الإمكانات لم تكن متاحة في سوق الإنتاج السينمائي، فكان التمويل أحد الحلول في محاولة لتحرير الكاميرا، وظهرت المنظمات والمنصات الدولية، بوصفها ساحة إشكالية ومزدوجة التأثير، تتقاطع فيها التطلعات السياسية بالمعايير 'الإنسانية' المفروضة من الخارج، مما يفرض شروطا ضمنية على شكل الحكاية الفلسطينية ومضمونها. يأتي التمويل من مؤسسات منها الاتحاد الأوروبي، وصناديق دعم السينما العالمية مثل 'معهد سندانس' و'إدفا بيرثا للتمويل'، ويتيح لبعض المخرجين الفلسطينيين إنتاج أفلامهم، في ظل غياب دعم وطني مؤسسي. لكن هذا التمويل يقابَل بشروط غير مكتوبة، تتعلق بتخفيف حدة الخطاب السياسي المباشر، والتركيز على الجوانب الإنسانية الفردية (لاجئ، امرأة، طفل، معاق) بدلا من تمثيل الفلسطيني فاعلا سياسيا، وتجنّب تقديم إسرائيل على أنها قوة استعمارية صريحة، واستبدال ذلك بخطاب 'الصراع المتساوي'. ومع أن فيلم 'عمر' (2014) للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد نجح في الوصول إلى الأوسكار، وكان جريئا في تناول خيانة شاب ضعيف للقضية تحت الضغط الاحتلالي، فإن كثيرين انتقدوا اعتماده على دعم أوروبي، و'تجريده' من رموز المقاومة الواضحة، وتقديمه لبطله في إطار نفسي فردي أكثر من كونه مقاوِما سياسيا. أما فيلم 'خمس كاميرات محطّمة' (2011)، فهو مموَّل من جهات دولية، ويقدّم سردا توثيقيا مهما، لكنه يركّز على مقاومة سلمية، بلا سياق سياسي شامل حول النكبة أو المشروع الاستعماري في بدايته، ومن ثم يتحول إلى المقاومة، وهو ما يسهّل تداوله في المهرجانات الأوروبية، بلا إدانة واضحة لبنية الاحتلال. ومع أن هذه الأفلام مهمة لإبقاء القضية الفلسطينية حاضرة في الفضاء الدولي، فإنها غالبا تعيد إنتاج الفلسطيني في دور 'الضحية الإنسانية' أو 'الناجي الأخلاقي'، لا 'المناضل السياسي'، مما يعزز نوعا جديدا من خطف السردية، يبدو فيها الفلسطيني بحاجة لـ'شرعية أخلاقية'، تمنحها له عدسة الآخر الأوروبي. معركة استرداد السردية في الداخل والخارج كانت نكسة 1967 لحظة فاصلة في تاريخ السينما الفلسطينية، فبدت لحظة إيقاظ للوعي بضرورة فرض الوجود ظلا لآخرين، فشهدت تحولا نوعيا في التعبير عن الذات بالسينما، متجاوزة مرحلة التمثيل السلبي أو البكائي، الذي طبع صورة الفلسطيني في إنتاجات عربية وغربية في الخمسينيات والستينيات. بدأت ملامح هذا التحول بوضوح في السبعينيات، مع ولادة ما سُمي 'سينما المقاومة الفلسطينية'، التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالمشروع السياسي والثقافي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا جاءت التحولات في السردية الفلسطينية على شاشة السينما، نتيجة التأثير المتبادل بين المشروع السياسي (منظمة التحرير)، والتجربة الفردية للمخرجين في المنافي أو الداخل المحتل، وبدأ الفلسطيني يكتب تاريخه بالصوت والصورة، ويتحوّل من موضوع في خطاب الآخر إلى منتِج لخطابه، مستعينا بتاريخ من التجارب الفنية والإنسانية التي أسهمت في بناء 'سينما فلسطينية' لا تكتفي بالشهادة، بل تطمح للفعل الجمالي والسياسي. وأنشأت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1970 وحدة السينما والإعلام الموحّد، فأصبحت جهازا رسميا لإنتاج الأفلام وتوثيق الكفاح الوطني، في إطار ما أطلق عليه 'المعركة الإعلامية والثقافية'. كان هذا التأسيس تعبيرا عن وعي جديد بأهمية الصورة في الصراع، لا سيما في ظل هيمنة الرواية الصهيونية في الإعلام الغربي. وبدأت الوحدة تنتج أفلاما روائية ووثائقية تعكس تجربة المقاومة، وحياة المخيمات، وعمليات الفدائيين، وسعت لنقل صورة الفلسطيني من 'الضحية' إلى 'المقاتل'. من أشهر هذه الأعمال: 'بالروح بالدم'، للمخرج مصطفى أبو علي (1971)، ويوثق حياة الفدائيين في الأردن ولبنان. 'العودة إلى حيفا'، للمخرج قاسم حول (1974)، وهو مأخوذ عن رواية غسان كنفاني، ويعد من أولى المحاولات لتحويل الأدب المقاوم إلى صورة سينمائية. 'ليس لهم وجود'، لمصطفى أبو علي (1974)، الذي يرد بصريا على زعم 'غولدا مائير' بأن 'لا وجود للفلسطينيين'. ومع أن الصوت السياسي كان عاليا في هذه الوثائقيات، فإنها أسّست خطابا سينمائيا يعترف للفلسطيني بملكيته لروايته وصورته، فكانت الكاميرا في كثير من الأحيان سلاحا مكافئا للبندقية، وكانت عروض هذه الأفلام في محافل دولية جزءا حملة منظمة التحرير السياسية، ومادة تثقيفية في مخيمات اللاجئين. وقد ولد في نهاية الثمانينيات جيل جديد من صناع السينما الفلسطينيين، الذي انتقلوا أو فضلوا صناعة أعمالهم خارج الأطر الرسمية، سواء في داخل الأرض المحتلة أو خارجها، وبذلك تحررت هذه الأعمال من حس الستينيات الإرشادي، واتخذت أدوات فنية وسردية تطرح أسئلة الهوية والشتات واليومي، وتعيد تعريف المقاومة بمعناها الثقافي والاجتماعي. وبرز اسم المخرج ميشيل خليفي من الداخل الفلسطيني بفيلمه 'عرس الجليل' (1987)، الذي بدأ استرداد السردية الفلسطينية، وقد صُور كله داخل فلسطين، ويدور حول حفل زفاف في قرية يضطر سكانها إلى دعوة الحاكم العسكري الإسرائيلي لحضوره. وكان في أوروبا سينمائيون فلسطينيون، منهم مي مونّة، ورندا الشهّال، وإيليا سليمان، فأنتجوا أفلاما تعكس الشتات والقلق الوجودي، وأسسوا رؤية بصرية حديثة، فمن تلك الأفلام 'سجل اختفاء' لإيليا سليمان (1996)، وقد أعادت تشكيل ملامح الخطاب الفلسطيني بطريقة تأملية وساخرة، تبتعد عن التقريرية السياسية، وتفتح أسئلة الهوية والوجود والمكان. حكايات الكفاح بعدسات أبطالها.. ملامح السردية الجديدة جاءت السينما الفلسطينية الأصيلة، لتعيد تشكيل صورة الفلسطيني شخصيةً كاملة، تنتمي لمكان، وتحمل هما تاريخيا، وتخوض صراعا إنسانيا معقدا، واعتمد هذا التشكيل على مفهوم 'السرد المضاد'، أي الخطاب الذي يناقض ويسائل الروايات السائدة، ويعيد تعريف الهوية والتاريخ من وجهة نظر المهمّشين. ففي الحالة الفلسطينية، كان لا بد من استرداد الحكاية التي تروي تفاصيل الحياة تحت الاحتلال، لا فقط من باب الإدانة أو التوثيق، بل لبناء وعي بصري مختلف، ينتمي إلى الذات الفلسطينية ويعبّر عنها. وظهر ذلك واضحا في فيلم 'الزمن الباقي' لإيليا سليمان (2009)، فلا نجد مشاهد مواجهة مباشرة، بل نتابع حياة ساكنة في مدينة الناصرة، يراقب فيها الاحتلال من خلف نافذة المطبخ، أو على شرفة بيت. ليست المقاومة هنا بندقية بل صبرا يوميا، والحكاية ليست صراخا بل سكونا عميقا. هذا الخيار الجمالي يعكس فلسفة سردية، تُرى في التفاصيل اليومية، التي تشمل نظرات العيون والصفوف والطبخ والعتمة، بوصفها مادة أساسية لإنتاج الوعي. أما المخيم، فهو في أفلام منها 'عائد إلى حيفا' (1973)، و'ملح هذا البحر' (2008)، فليس موقعا للجوء فحسب، بل مساحة رمزية للانتظار والذاكرة الممنوعة. لا يظهر اللاجئ في هذه الأعمال متسولا للعدالة، بل صاحب حق واضح، يحاول إعادة تعريف العلاقة بينه وبين المكان المسلوب، فالبطلة ثريا في 'ملح هذا البحر' تعود من الشتات إلى رام الله، مطالبة بحقها القانوني في ميراث جدّها، فيجد المشاهد نفسه أمام شخصية فاعلة، لا ضحية تنتظر الخلاص من الخارج. ويعد الشتات في أفلام آن ماري جاسر ورشيد مشهراوي ساحة صراع هويات، لا تقل تعقيدا عن الداخل المحتل، ففي فيلم 'عيد ميلاد ليلى' (2008)، نجد بطل الفيلم -وهو قاضٍ في رام الله- يتجول وسط الفوضى اليومية، محاولا شراء كعكة عيد ميلاد لابنته، ويصبح هذا الفعل البسيط استعارة عن مقاومة التفكك المجتمعي والوجداني، في ظل سلطة مقيدة واحتلال خانق. وهكذا أصبحت السردية المضادة نظرة لفلسطين، بوصفها قضية إنسانية مستمرة، تروى بلغتها وبأدواتها، لا يظهر الفلسطيني فيها مادة درامية، بل يصنع الحكاية، مدركا لذاته وللزمن الذي يكتب عليه أن يعيش فيه، ويعيد كتابته. السارد الفنان.. قوة سحرية تدافع عن قضية عادلة لم تكن السينما الفلسطينية في صيغتها المضادة تدافع عن 'قضية عادلة'، بل كانت هجوما على المنظومة السردية التي اعتادت أن تملي من يروي، ولمن، وكيف. هي مشروع وعي ومقاومة، يتجاوز أحيانا الإمكانات التقنية والتمويل، ليعيد طرح سؤال مركزي: من يملك الكاميرا؟ ومن يكتب المشهد؟ بهذا المعنى، فإن استرداد السردية الفلسطينية في السينما لم يكن رفاهية ثقافية، بل فعل تحرر، وساحة أخرى من ساحات المواجهة. قدم السرد الجديد التفاصيل اليومية تحت الاحتلال في فيلم 'يد إلهية' لإيليا سليمان (2002)، فتتجلى المقاومة في سلوكيات يومية رمزية وصامتة أحيانا. مشهد الرجل الذي يطارد دبابة بالنظرات، والمرأة التي تمر بين الجنود ولا يجرؤ أحد على لمسها، يعيد بناء الفلسطيني من شخصية منهزمة إلى ذات لها قوة سحرية، وإن كانت صامتة. ثم أصبح المخيم مركزا للمعنى، وساحة للفعل السياسي والوجداني، بعد أن كان خلفية للحزن، وذلك ما رسمه فيلما مي المصري 'أطفال شاتيلا' و'يوميات بيروت'، اللذان قدما المخيم فضاء للصراع والهوية، لا للبؤس فقط. في فيلم 'اصطياد أشباح' لرائد أنضوني (2017)، يعيد المخرج بناء زنازين التحقيق الإسرائيلية من الذاكرة، ويدخل المعتقلين السابقين في تجربة إعادة تمثيل تعذيبهم. وليس المشهد تمثيلا فقط، بل كشفا للذاكرة الجسدية المسحوقة، ومحاولة لاستعادة السيطرة عليها بالفن. ويعيد السينمائي الفلسطيني طرح أسئلة الشتات والهوية الممزقة، كما ظهر في فيلم 'الملجأ الأخير' (1990) لرشيد مشهراوي، الذي يرصد الفلسطيني في المنفى وهو يعيد بناء علاقته بالمكان واللغة والذاكرة، ويجعل الشتات منصة للسؤال السياسي، لا مجرد حالة إنسانية. أحلام مي المصري تعد المخرجة الفلسطينية مي المصري من أبرز الأصوات السينمائية، التي أسهمت في استرداد السردية الفلسطينية من منظور نسوي وإنساني، وقد ظهر في أعمالها مثل فيلم 'أحلام المنفى' (2001)، وفيلم '3000 ليلة' (2015). تستحضر مي المصري الذاكرة الجمعية الفلسطينية بعدسة الأمومة والمنفى والاعتقال، وتدمج ببراعة بين الوثائقي والروائي، لتقديم سردية مقاومة ومغايرة، لتلك التي رسّخها الإعلام الغربي أو الخطاب الصهيوني. ففي 'أحلام المنفى'، توثق شهادات 5 فتيات فلسطينيات نشأن في الشتات بين سوريا ولبنان والأردن والضفة الغربية، وتفتح كاميرتها على لحظات من الحياة اليومية، والمشاعر الحميمة، والذكريات المتناثرة التي تحملها كل فتاة عن وطن لم تعشه، وبدلا من تقديم المرأة الفلسطينية ضحية صامتة، فإنها تجعلها فاعلة في رواية التاريخ، وحاملة للهوية الوطنية. وتظهر في العمل أهمية 'الذاكرة النسائية'، بوصفها سردية مضادة، تقاوم النسيان السياسي والثقافي، الذي فُرض على اللاجئات الفلسطينيات، وتقدم المخرجة نموذجا للمرأة اللاجئة شاهدة وراوية وشخصية تسعى لإعادة تعريف الوطن. وفي فيلم '3000 ليلة'، تنتقل إلى السينما الروائية، ولا تتخلى عن تقنيات التوثيق، فتروي قصة المعلمة الفلسطينية ليال، التي تعتقل ظلما في سجن إسرائيلي، وتلد طفلها هناك. بُني الفيلم على مقابلات أجرتها المخرجة مع سجينات سياسيات كن في السجون الإسرائيلية، مما يضفي على العمل مصداقية واقعية عالية، مع أنه فيلم روائي. يركّز الفيلم على تجربة الأمومة تحت القمع والاعتقال، فيصبح الجسد الأنثوي الفلسطيني ميدانا للمقاومة والصمود، بدل أن يكون رمزا للضعف. تشتبك سردية السجن مع سردية الوطن، وتقدَّم المرأة الفلسطينية هنا بطلة إنسانية، تتحدى قسوة المكان، وتسعى لحماية ابنها، دون أن تتخلى عن كرامتها أو هويتها. وقد نجحت المخرجة في خلق لغة سينمائية خاصة بها، تمزج بين الواقعي والدرامي، وبين الوثائقي والشعري، فهي لا تصوّر الواقع فقط، بل تعيد تشكيله دراميا بما يخدم السردية الفلسطينية. رشيد مشهراوي.. مخرج من قلب مخيمات غزة ينتمي رشيد مشهراوي إلى الجيل الذي بدأ العمل السينمائي من داخل فلسطين، لا من الشتات، فقد نشأ في مخيم الشاطئ للاجئين في غزة، وتحمل أفلامه طابعا واقعيا توثيقيا واضحا، وغالبا ما تدور في أحياء مزدحمة ومخيمات متداعية، لتروي تفاصيل الحياة اليومية تحت الحصار. ففي فيلم 'حيفا' (1996)، يروي مشهراوي قصة رجل بسيط يعيش بين ذكرياته وهواجسه، في سردية تمزج بين الانكسار الشخصي والانقسام السياسي، أما فيلمه الوثائقي 'دار الحنان' (2002)، فيصوّر حياة أطفال مرضى السرطان في مستشفى فلسطيني، مسلطا الضوء على الإهمال الطبي والحصار الإسرائيلي، لكنه يفعل ذلك من زاوية إنسانية لا خطابية. ويجسد مشهراوي 'الواقعية الاجتماعية' التي لا تهرب من السياسة، بل تدخلها في صلب المعاناة اليومية، مقدما الفلسطيني إنسانا من لحم ودم متعبا ومأزوما ويوميّا، لا بطلا رمزي فقط. إيليا سليمان.. سخرية من عمق الداخل الفلسطيني في مقابل المخرج رشيد مشهراوي، يمثل إيليا سليمان أسلوبا فنيا متفردا، يقوم على السخرية الباردة والصمت التعبيري. ونرى ذلك في ثلاثيته الشهيرة: 'يد إلهية' (2002). 'سجل اختفاء' (1996). 'إن شئت كما في السماء' (2019). يستعرض المخرج في هذه الأفلام تجربته فلسطينيا داخل إسرائيل، ثم لاجئا دائما، بمشاهد تجريدية ومفارقات عبثية، تقارب أفلام 'جاك تاتي' أو 'باستر كيتون'. وهو يمتنع عن استخدام الحوار، ويستعيض عنه بلغة بصرية شاعرية، فيصبح الصمت أداة مقاومة، والتهكم سلاحا ضد النظام الاستعماري. فهو لا يصرخ، بل يبتسم في وجه القمع، وفي أحد مشاهد 'التدخل الإلهي'، تظهر فتاة فلسطينية تقهر الجنود الإسرائيليين بجمالها وسكونها، وتلك صورة رمزية تحاكي غير المرئي والمستحيل في واقع الاحتلال. آن ماري جاسر.. ثورة سردية في حكايات نساء الهامش آن ماري جاسر مخرجة وكاتبة فلسطينية من بيت لحم، تقدم في أفلامها زاوية سردية نسوية واضحة، مركّزة على تفاصيل الحياة اليومية، وعوالم النساء والأطفال. ففي فيلمها الروائي الأول 'ملح هذا البحر' (2008)، تروي قصة امرأة فلسطينية أمريكية، تعود لتطالب بحقها في بيت جدها الذي صادره الاحتلال. يطرح الفيلم قضية العودة من منظور فردي، لكنه لا يقع في فخ الشكوى، بل يرسم مسارا داخليا للبطلة نحو الفهم والمواجهة. أما في فيلمها 'واجب' (2017)، فتسلّط الضوء على العلاقة بين أب وابنه في الناصرة، أثناء توزيع دعوات زفاف، في بناء درامي بسيط، لكنه يفجّر الخلافات السياسية والثقافية، بين جيل الشتات وجيل الداخل. تتميز آن ماري بلغتها السينمائية الدقيقة، واعتمادها على أداء غير مفتعل، غالبا بممثلين غير محترفين، مما يمنح أفلامها واقعية حسّية عميقة، ويبرز هشاشة الشخصيات وكرامتها. باسل خليل.. خلطة روح الدعابة والهم السياسي يتبنى المخرج الفلسطيني البريطاني باسل خليل مقاربة معاصرة، تزاوج بين روح الدعابة والهمّ السياسي، بأسلوب أقرب إلى 'السينما العالمية' في إنتاجها وإيقاعها. وقد قدم عام 2015 فيلمه القصير 'السلام عليك يا مريم' (Ave Maria)، الذي رُشح للأوسكار، ويقدّم فيه مشهدا ساخرا، يحدث في دير للراهبات في الضفة الغربية، حين يطلب مستوطن يهودي من الراهبات مساعدته في إصلاح سيارته. ومع أنه بسيط زمنيا ومكانيا، فإنه يقدّم نموذجا لفلسطين، بصفتها واقعا يمكن النظر إليه بمفارقة إنسانية، ويتخذ الكوميديا وسيلة لتفكيك الصورة النمطية عن الفلسطيني. السينما الفلسطينية تفرض نفسها في المحافل في السنوات العشر الماضية، لم تعد السينما الفلسطينية تطلب الاعتراف أو تسأل 'هل تروننا؟'، بل أصبحت تعلن بثقة: 'ها نحن أولاء'. جاء ذلك التحول نتيجة نضوج فني، وتراكم جمالي وسياسي، عبر أجيال متعددة من السينمائيين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة والشتات، ممن نقلوا الحكاية الفلسطينية من دائرة التمثيل السلبي إلى سردية كاملة تعكس الواقع، وتعيد تشكيله بعين فنية ناقدة. بدأت السينما الفلسطينية منذ السبعينيات تراكم سرديتها المضادة عبر 'سينما المقاومة'، لكن العقد الماضي شهد نقلة نوعية على صعيد الشكل والمضمون، والأهم من ذلك على مستوى التقدير الدولي. فقد صارت الأفلام الفلسطينية حاضرة بانتظام في مهرجانات الصف الأول، مثل مهرجان 'كان'، فشارك فيه إيليا سليمان بفيلم 'إن شئت كما في السماء' في المسابقة الرسمية، وهو حدث نادر لسينما عربية مستقلة. وشاركت مي المصري في مهرجان برلين بفيلم '3000 ليلة' (2015)، الذي نال اهتماما كبيرا بسبب حساسيته الإنسانية العالية، وموضوعه السياسي الحاد حول معاناة الأسيرات الفلسطينيات. وشارك باسل خليل في مهرجان البندقية بفيلمه القصير 'السلام عليك يا مريم'، وهو فيلم رُشح لاحقا للأوسكار، مما يعكس اعترافا فنيا دوليا واضحا. ورُشح فيلم 'إن شئت كما في السماء' لجائزة السعفة الذهبية في 'كان'، وفاز فيلم '200 متر' لأمين نايفة بجائزة الجمهور في مهرجان البندقية 2020، في قسم أيام البندقية، ونال فيلم 'العبور' لباسل خليل جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان كليفلاند، ورشح لاحقا للأوسكار 2021. يؤكد تنوع الأجيال والأصوات -من مي مصري إلى آن ماري جاسر، ومن إيليا سليمان إلى المواهب الجديدة- ثراء المشروع السينمائي الفلسطيني وأصالته وقدرته الهائلة على التجديد، لكن التحدي الأكبر يبقى داخليا، وهو كيفية دعم بنية الإنتاج المحلي التحتية، وتأمين تمويل مستقل، وحماية حرية التعبير لضمان بقاء العدسة فلسطينية أصيلة، لا تخضع لرؤى المانحين ولا الأهداف الخارجية. ولأن استعادة السرد ليست عملا فنيا فحسب، بل عملا سياسيا وثقافيا معقدا، فإنها تتطلب مؤسسات قوية، وتدريبا متواصلا لأجيال جديدة من صناع الأفلام. والأهم من ذلك خلق جماهيرية عربية وعالمية. ففي الوقت الذي تتزايد فيه محاولات طمس الرواية الفلسطينية وتشويهها، أصبحت السينما ساحة للمقاومة، لا بالعدسة أداةً، بل أيضا بالصورة حقا، وبالسرد استعادةً للذات من قلب المعاناة.