أحدث الأخبار مع #المثقفين


الجزيرة
منذ يوم واحد
- علوم
- الجزيرة
ملامح المعركة القادمة بين المثقف والذكاء الاصطناعي
ما تشهدُه الحركة العلميّة والمعرفية ببعدها التقني التكنولوجي من تحوّلات كبرى ومهولة في وسائل ووسائط التعليم والوظائف والأدوات، يجعل مسألة الحديث عن الثقافة والمثقف ببعده المعرفي، حديثًا ذا شجون ومثيرًا للنقاش وجالبًا للأسئلة، لما باتت تمثّله التقنية من تحدٍّ كبير للبعد المعرفي، في شخصية المثقف، باعتباره – أي المثقف- رجل المعرفة الأوحد هنا، وباعتبار العمليّة المعرفية عملية ثقافية أيضًا. ولكن قبل هذا مَن هو المثقّف أصلًا، وأين موقعه في زمن الذكاء الاصطناعي؟ صحيح أنَّ مثل هذا الطرح حول تعريف المثقف وأنماطه هو طرح جدلي دائم، لكني أزعم أنَّ ثمة تجاوزًا كبيرًا لهذه النقطة من الحديث بهذا الخصوص حول المثقف وتعريفاته المختلفة، وأن المقاربة الأهم اليوم لمفهوم المثقف لم تعد تلك المقاربة التقليدية للمثقف القارئ للكتب والحاوي لصنوف المعرفة؛ لأنّ مثل هذه الوظيفة اليوم لم تعد حكرًا على صاحبنا المثقّف في زمن الفضاء الإلكتروني المفتوح، والذي أصبحت فيه المعرفة متاحة، وفي متناول الجميع، ولم يعد المثقف ناقل المعرفة وحاملها الوحيد، وإنما المثقف، اليوم، هو موقف نقدي من كل ما يمسّ الإنسان والمجتمعات وحقوقها وكرامتها وحرياتها. وإذا كانت هذه المقاربة هي اليوم الأكثر حضورًا، أو المفترض أن تكون كذلك، وحاضرة في فهم طبيعة ووظيفة المثقّف الحقيقي، وهو الموقف النقدي، فإننا نكون بذلك قد فصلنا بين الجزء الآلي الأدائي، وبين ما يفترض أن تشكّله المعرفة في شخصية المثقف من بُعد روحيّ وأخلاقيّ ورساليّ يتجاوز فكرة العقل الحاسوبي الوظيفي الذي أصبحت تؤدّيه اليوم التقنية باقتدار، ولم يعد حكرًا على العقل البشري فحسب. ففي الزمن الرقْمي لم يعد لفكرة المثقف التقليدي أي معنى؛ لأنه لا يمكنه أن يتماشى أو يداني أو ينافس برامج الذكاء الاصطناعي اليوم بأنواعها، وما باتت تقدّمه من خدمة معلوماتية سريعة وبجودة عالية، وكأنها صادرة عن عقل بشري مجرد، مع فارق الدقة والسرعة في تقديم هذه المعلومة، حيث أصبح اليوم الذكاء الاصطناعي يهيمن على سوق المعلومة وبطريقة مدهشة، ما يجعل اليوم فكرة الذكاء الاصطناعي تحتلّ تدريجيًا، ويومًا بعد آخر، مجالات العقل البشريّ الذي ابتكر فكرة الذكاء الاصطناعيّ ذاتها. لذلك، فاليوم، الحديث عن فكرة المثقّف، وخاصة نمط المثقف الوظيفي تحديدًا، فإنه على وشْك فقدان وظيفته، وهي تلك الوظيفة التي يقوم بها مقابل ما لديه من معارف وعلوم تطبيقيّة أو حتّى إنسانيّة، وهي وظيفة ما يُسمّى بالتكنوقراط، وهو الشخص الذي يسخّر ما لديه من معارف وقدرات لأداء وظيفة معينة يتمكن من خلالها من القيام بما يُراد منه القيام به، لما لديه من المعارف والمعلومات والمهارات والخبرات أيضًا . فهذا النوع من المثقّفين اليوم باتوا أكثر عرضة للاستغناء عن وظائفهم وأدوارهم في هذه الحياة، في ظلّ ثورة الذكاء الاصطناعيّ التي باتت اليوم تقتحم كلّ المجالات، وتتدخل في كل التخصصات، وهي بالمناسبة ثورة ربما سيكون لها وجه إيجابي كبير، حيث ستعيد الاعتبار كثيرًا لمفهوم المثقف العضوي الغرامشي، ذلك المثقف الذي يعني الموقف النقدي والرساليّ وضمير أمّته، بحسب التعريف البيغوفيتشي (نسبة للمفكّر البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش)، وهو ما يفترض أن يقوم به المثقف في مجتمعه وأمّته، جامعًا بين المعرفة والقيم. أمّا المثقف الوظيفي، فأعتقد أنه سيقع في مأزِق توافر البديل الأكثر سرعة ودقة، ومما لا شكّ فيه أنه سيسلب المثقف الوظيفي أهم خصائصه، وهو توفير المعلومة، ودقتها وسرعة جلبها، على عكس روتينية المثقف الوظيفي، التي تتسم بالبطء الشديد والرتابة أيضًا. ولهذا، أعتقد أن الذكاء الاصطناعي اليوم سيشكل تهديدًا كبيرًا لقطاع عريض من الوظائف، وخاصة تلك التي تعتمد على ما يمكن تسميتُه بالمثقف الوظيفي، كالإداريين والأطباء والمهندسين والصحفيين والمترجمين والمحرّرين والمراجعين، وغيرهم الكثير. بالعودة إلى موضوع الذكاء الاصطناعي والمثقف الوظيفي، فلا شك أنّ المثقف الوظيفي سيفقد دوره تدريجيًا لصالح الذكاء الاصطناعي، وهو ما سينعكس مرحليًا لصالح إعادة الاعتبار لمفهوم ودور المثقف الحقيقي، الذي يفترض أنه سيستفيد من هذا التحوّل لصالح دوره ومكانته كناقد يجمع بين ميزتَين؛ وهما الثقافة التقنية والموقف النقدي معًا، وهو ما لا يتوفر لدى الطرفين: الذكاء الاصطناعي، والمثقف الوظيفي. ثمة الكثير والكثير من الفوارق والمفارقات، التي يجب أن تسجل في مقام الحديث عن العلاقة الجدلية الناشئة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف، بمعنى أنّ الذكاء الاصطناعي أداة عبقرية، لكنه بلا جسد، بلا ذاكرة حقيقية، وبلا رغبة في الحرية، بعكس المثقف الذي يظلّ ذلك الكائن الهشّ الذي يطرح الأسئلة المحرجة، يعانق التناقضات، ويصرّ على أن الحياة أكثر من مجرد معادلة خوارزميّة رياضية حاسوبية، ليظل المثقف حاضرًا كضمير وقيمة أخلاقية يتجلّى فيها سرّ الإنسان. فالذكاء الاصطناعي قد يعرف عنّا كل شيء، لكنه لا يعرف لماذا نضحك أو نبكي أو نحزن أو نُسرّ أو نُساء؛ أي أن الذكاء دون ضمير هو العبث بعينه، وهذا ربما ما قد يندرج ضمن ما كان يحذّر منه ألبير كامو في رفضه فكرة التكنولوجيا التي تسحق الإنسان. في نفس هذا السياق، ربما تأتي فكرة يورغان هابرماس في تحذيره من أن الذكاء الاصطناعي، أو ما يسميها بخوارزميات المنصات التي تشكل خطرًا على الديمقراطية، وعلى الفعل التواصلي البشري؛ لأن الذكاء الاصطناعي يفتقر لما يسمّيه هابرماس بالعقلانية التواصلية، أي عدم فهم السياق الأخلاقي من قبل الذكاء الاصطناعي، وبالتالي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزّز كفاءة الأنظمة، لكنه لا يستطيع أن يحلّ محلّ الفعل التواصلي بين البشر، وهذا برأي هابرماس يشكل خطرًا على البشرية بأن تصبح القرارات المصيرية حكرًا على خوارزميات لا تخضع للمساءلة. لهذا كله يرى هابرماس أنّ المثقف ليس خَصمًا للذكاء الاصطناعي، لكنه حارسٌ ضد اختزال العالم الإنساني إلى معادلات تقنية، وإذا تخلّى المثقفون عن هذا الدور، فسيصبح المستقبل مُدارًا بـ"عقلانية صماء" تفتقر إلى المعنى والأخلاق. وهنا تكمن أهمية وضع حدود واضحة بين العقل البشري والعقل الحاسوبي الخوارزمي لذكاء الآلة الصماء، أو ما بات يسمّى بالذكاء الاصطناعي. وهو ربما الاختبار الصعب الذي سقط فيه حتى هابرماس نفسه فيما يتعلق بموقفه من أحداث غزة منذ بدايتها وصمته الطويل عمّا يجري هناك. وختامًا؛ فإن أخطر ما يمكن أن يشكله الذكاء الاصطناعي على المثقف، هو أنه قد يقوده إلى حالة من الضمور النقدي، ويخلق حالة من الكسل الذهني. وهو ما يطرح فكرة أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف يجب ألا تقوم على فكرة الاستبدال؛ لأن مجال الذكاء الاصطناعي سيبقى في حدود حفظ المعلومة لا فهمها، وطرح الأسئلة الصعبة حولها، كما يفعل المثقف. وبالتالي يمكن أن تكون ثمة علاقة تحالف بينهما، لأنه لا يمكن للعقل الاصطناعي أن يحلّ محلّ البصيرة الإنسانية المتجلّية بالموقف الأخلاقي والقدرة على طرح الأسئلة الصعبة والمعقّدة، وامتلاك القدرة على قول "لا"، فضلًا عن رفض فكرة تشيئة الإنسان واختزاله كمجرد رقْم في معادلة خوارزميّة رياضيّة.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- علوم
- الجزيرة
معركة قادمة علي الأبواب مع الذكاء الاصطناعي
ما تشهدُه الحركة العلميّة والمعرفية ببعدها التقني التكنولوجي من تحوّلات كبرى ومهولة في وسائل ووسائط التعليم والوظائف والأدوات، يجعل مسألة الحديث عن الثقافة والمثقف ببعده المعرفي، حديثًا ذا شجون ومثيرًا للنقاش وجالبًا للأسئلة، لما باتت تمثّله التقنية من تحدٍّ كبير للبعد المعرفي، في شخصية المثقف، باعتباره – أي المثقف- رجل المعرفة الأوحد هنا، وباعتبار العمليّة المعرفية عملية ثقافية أيضًا. ولكن قبل هذا مَن هو المثقّف أصلًا، وأين موقعه في زمن الذكاء الاصطناعي؟ صحيح أنَّ مثل هذا الطرح حول تعريف المثقف وأنماطه هو طرح جدلي دائم، لكني أزعم أنَّ ثمة تجاوزًا كبيرًا لهذه النقطة من الحديث بهذا الخصوص حول المثقف وتعريفاته المختلفة، وأن المقاربة الأهم اليوم لمفهوم المثقف لم تعد تلك المقاربة التقليدية للمثقف القارئ للكتب والحاوي لصنوف المعرفة؛ لأنّ مثل هذه الوظيفة اليوم لم تعد حكرًا على صاحبنا المثقّف في زمن الفضاء الإلكتروني المفتوح، والذي أصبحت فيه المعرفة متاحة، وفي متناول الجميع، ولم يعد المثقف ناقل المعرفة وحاملها الوحيد، وإنما المثقف، اليوم، هو موقف نقدي من كل ما يمسّ الإنسان والمجتمعات وحقوقها وكرامتها وحرياتها. وإذا كانت هذه المقاربة هي اليوم الأكثر حضورًا، أو المفترض أن تكون كذلك، وحاضرة في فهم طبيعة ووظيفة المثقّف الحقيقي، وهو الموقف النقدي، فإننا نكون بذلك قد فصلنا بين الجزء الآلي الأدائي، وبين ما يفترض أن تشكّله المعرفة في شخصية المثقف من بُعد روحيّ وأخلاقيّ ورساليّ يتجاوز فكرة العقل الحاسوبي الوظيفي الذي أصبحت تؤدّيه اليوم التقنية باقتدار، ولم يعد حكرًا على العقل البشري فحسب. ففي الزمن الرقْمي لم يعد لفكرة المثقف التقليدي أي معنى؛ لأنه لا يمكنه أن يتماشى أو يداني أو ينافس برامج الذكاء الاصطناعي اليوم بأنواعها، وما باتت تقدّمه من خدمة معلوماتية سريعة وبجودة عالية، وكأنها صادرة عن عقل بشري مجرد، مع فارق الدقة والسرعة في تقديم هذه المعلومة، حيث أصبح اليوم الذكاء الاصطناعي يهيمن على سوق المعلومة وبطريقة مدهشة، ما يجعل اليوم فكرة الذكاء الاصطناعي تحتلّ تدريجيًا، ويومًا بعد آخر، مجالات العقل البشريّ الذي ابتكر فكرة الذكاء الاصطناعيّ ذاتها. لذلك، فاليوم، الحديث عن فكرة المثقّف، وخاصة نمط المثقف الوظيفي تحديدًا، فإنه على وشْك فقدان وظيفته، وهي تلك الوظيفة التي يقوم بها مقابل ما لديه من معارف وعلوم تطبيقيّة أو حتّى إنسانيّة، وهي وظيفة ما يُسمّى بالتكنوقراط، وهو الشخص الذي يسخّر ما لديه من معارف وقدرات لأداء وظيفة معينة يتمكن من خلالها من القيام بما يُراد منه القيام به، لما لديه من المعارف والمعلومات والمهارات والخبرات أيضًا . فهذا النوع من المثقّفين اليوم باتوا أكثر عرضة للاستغناء عن وظائفهم وأدوارهم في هذه الحياة، في ظلّ ثورة الذكاء الاصطناعيّ التي باتت اليوم تقتحم كلّ المجالات، وتتدخل في كل التخصصات، وهي بالمناسبة ثورة ربما سيكون لها وجه إيجابي كبير، حيث ستعيد الاعتبار كثيرًا لمفهوم المثقف العضوي الغرامشي، ذلك المثقف الذي يعني الموقف النقدي والرساليّ وضمير أمّته، بحسب التعريف البيغوفيتشي (نسبة للمفكّر البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش)، وهو ما يفترض أن يقوم به المثقف في مجتمعه وأمّته، جامعًا بين المعرفة والقيم. أمّا المثقف الوظيفي، فأعتقد أنه سيقع في مأزِق توافر البديل الأكثر سرعة ودقة، ومما لا شكّ فيه أنه سيسلب المثقف الوظيفي أهم خصائصه، وهو توفير المعلومة، ودقتها وسرعة جلبها، على عكس روتينية المثقف الوظيفي، التي تتسم بالبطء الشديد والرتابة أيضًا. ولهذا، أعتقد أن الذكاء الاصطناعي اليوم سيشكل تهديدًا كبيرًا لقطاع عريض من الوظائف، وخاصة تلك التي تعتمد على ما يمكن تسميتُه بالمثقف الوظيفي، كالإداريين والأطباء والمهندسين والصحفيين والمترجمين والمحرّرين والمراجعين، وغيرهم الكثير. بالعودة إلى موضوع الذكاء الاصطناعي والمثقف الوظيفي، فلا شك أنّ المثقف الوظيفي سيفقد دوره تدريجيًا لصالح الذكاء الاصطناعي، وهو ما سينعكس مرحليًا لصالح إعادة الاعتبار لمفهوم ودور المثقف الحقيقي، الذي يفترض أنه سيستفيد من هذا التحوّل لصالح دوره ومكانته كناقد يجمع بين ميزتَين؛ وهما الثقافة التقنية والموقف النقدي معًا، وهو ما لا يتوفر لدى الطرفين: الذكاء الاصطناعي، والمثقف الوظيفي. ثمة الكثير والكثير من الفوارق والمفارقات، التي يجب أن تسجل في مقام الحديث عن العلاقة الجدلية الناشئة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف، بمعنى أنّ الذكاء الاصطناعي أداة عبقرية، لكنه بلا جسد، بلا ذاكرة حقيقية، وبلا رغبة في الحرية، بعكس المثقف الذي يظلّ ذلك الكائن الهشّ الذي يطرح الأسئلة المحرجة، يعانق التناقضات، ويصرّ على أن الحياة أكثر من مجرد معادلة خوارزميّة رياضية حاسوبية، ليظل المثقف حاضرًا كضمير وقيمة أخلاقية يتجلّى فيها سرّ الإنسان. فالذكاء الاصطناعي قد يعرف عنّا كل شيء، لكنه لا يعرف لماذا نضحك أو نبكي أو نحزن أو نُسرّ أو نُساء؛ أي أن الذكاء دون ضمير هو العبث بعينه، وهذا ربما ما قد يندرج ضمن ما كان يحذّر منه ألبير كامو في رفضه فكرة التكنولوجيا التي تسحق الإنسان. في نفس هذا السياق، ربما تأتي فكرة يورغان هابرماس في تحذيره من أن الذكاء الاصطناعي، أو ما يسميها بخوارزميات المنصات التي تشكل خطرًا على الديمقراطية، وعلى الفعل التواصلي البشري؛ لأن الذكاء الاصطناعي يفتقر لما يسمّيه هابرماس بالعقلانية التواصلية، أي عدم فهم السياق الأخلاقي من قبل الذكاء الاصطناعي، وبالتالي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزّز كفاءة الأنظمة، لكنه لا يستطيع أن يحلّ محلّ الفعل التواصلي بين البشر، وهذا برأي هابرماس يشكل خطرًا على البشرية بأن تصبح القرارات المصيرية حكرًا على خوارزميات لا تخضع للمساءلة. لهذا كله يرى هابرماس أنّ المثقف ليس خَصمًا للذكاء الاصطناعي، لكنه حارسٌ ضد اختزال العالم الإنساني إلى معادلات تقنية، وإذا تخلّى المثقفون عن هذا الدور، فسيصبح المستقبل مُدارًا بـ"عقلانية صماء" تفتقر إلى المعنى والأخلاق. وهنا تكمن أهمية وضع حدود واضحة بين العقل البشري والعقل الحاسوبي الخوارزمي لذكاء الآلة الصماء، أو ما بات يسمّى بالذكاء الاصطناعي. وهو ربما الاختبار الصعب الذي سقط فيه حتى هابرماس نفسه فيما يتعلق بموقفه من أحداث غزة منذ بدايتها وصمته الطويل عمّا يجري هناك. وختامًا؛ فإن أخطر ما يمكن أن يشكله الذكاء الاصطناعي على المثقف، هو أنه قد يقوده إلى حالة من الضمور النقدي، ويخلق حالة من الكسل الذهني. وهو ما يطرح فكرة أن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والمثقف يجب ألا تقوم على فكرة الاستبدال؛ لأن مجال الذكاء الاصطناعي سيبقى في حدود حفظ المعلومة لا فهمها، وطرح الأسئلة الصعبة حولها، كما يفعل المثقف. وبالتالي يمكن أن تكون ثمة علاقة تحالف بينهما، لأنه لا يمكن للعقل الاصطناعي أن يحلّ محلّ البصيرة الإنسانية المتجلّية بالموقف الأخلاقي والقدرة على طرح الأسئلة الصعبة والمعقّدة، وامتلاك القدرة على قول "لا"، فضلًا عن رفض فكرة تشيئة الإنسان واختزاله كمجرد رقْم في معادلة خوارزميّة رياضيّة.


الرياض
منذ 7 أيام
- منوعات
- الرياض
الثقافة المحلية في المناهج وتعزيز الهوية
يرى البعض أن تضمين الثقافة المحلية في المناهج الدراسية يشكّل خطوة استراتيجية لتعزيز الهوية الوطنية، وترسيخ القيم الثقافية والمجتمعية في نفوس الأجيال الناشئة. وفي ظل التحولات المتسارعة والتحديات الثقافية العالمية، يبرز دور التعليم في حفظ الموروث وتعميق الانتماء. في هذا التحقيق، نستعرض آراء نخبة من الكتّاب والمثقفين حول أهمية هذه الخطوة، وأثرها في بناء جيل يعتز بثقافته، ويتفاعل مع العالم بثقة واتزان. عمق حقيقي للهوية تؤكد الباحثة تهاني القحطاني أن تعزيز الهوية الوطنية لم يعد خيارًا، بل ضرورة تربوية ووطنية، لا سيما في ظل المتغيرات المتسارعة. وترى أن الثقافة المحلية تمثّل الجذر العميق لهوية الإنسان، لما تحمله من عناصر تعكس تاريخ المجتمع وخصوصيته وتفاصيله اليومية. وتوضح: «حين تُدمج الثقافة المحلية في المناهج، فإن ذلك لا يقتصر على تزويد الطالب بالمعرفة، بل يمنحه نافذة لفهم ذاته ومجتمعه، ويعزز شعوره بالانتماء والاعتزاز بأصوله». وتضيف أن تدريس مفردات التراث، من الأدب الشعبي والفنون التقليدية إلى العادات والعمارة المحلية، يساهم في بناء وعي متوازن، يُحصّن الطالب من الانبهار بثقافات بعيدة عن واقعه. وتختم: «المتمسك بجذوره، الواثق بثقافته، هو الأقدر على تمثيل وطنه عالمياً دون أن يفرط في هويته. التعليم، بهذا المعنى، يتحول إلى أداة استراتيجية لإنتاج جيل يجمع بين الأصالة والانفتاح». رافد لبناء جيل مثقف ويصف الدكتور علي مبارك العوبثاني، الثقافة المحلية بأنها «شريان الحياة وغذاء الروح للمواطن الصالح». ويرى أن تضمينها في المناهج يتماشى مع رؤية المملكة 2030، التي تعد الثقافة من مقومات جودة الحياة. ويرى أن الثقافة المحلية تشمل كل ما يُمارَس في الحياة اليومية من قيم ومعتقدات وعادات وتراث، وهي تختلف من منطقة لأخرى، ما يمنحها ثراءً وتنوعًا فريدًا في المملكة. ويتمنى من وزارة التعليم تصميم مادة دراسية متكاملة تُعنى بالثقافة المحلية في جميع المناطق، مؤكداً أن هذه الخطوة تُنشئ جيلاً مثقفاً، منتجاً، معتزاً بهويته، وقادراً على تمثيل وطنه حضارياً والتواصل مع الثقافات الأخرى بوعي. ويضيف: عناصر الثقافة المحلية موجودة في بعض المناهج كاللغة العربية والدراسات الاجتماعية، لكنها متفرقة. تخصيص مادة مستقلة سيوسّع مدارك الطلاب، ويغرس فيهم الاعتزاز بتاريخهم وموروثهم الثقافي'. ويختم بالقول: من واجبنا كمثقفين وإعلاميين، أن نسهم في نشر الثقافة المحلية عبر جميع الوسائل، لتنشئة سفراء ثقافة يمثلون المملكة خير تمثيل. ضرورة تربوية وترى الدكتورة شيمة محمد الشمري، الأكاديمية والكاتبة، أن تضمين الثقافة المحلية في المناهج ضرورة وطنية، لا مجرد خيار تربوي، مؤكدة أنه يسهم في بناء وعي أصيل لدى الطالب، ويعزز الفخر بالهوية الثقافية. وتعتقد أنه حين يرى الطالب نفسه ومجتمعه ممثلَين في المنهج، فإنه يشعر بقيمة هويته. ومن خلال دراسة العادات والتقاليد والتاريخ المحلي، تنمو لديه المناعة الثقافية، ويقل الانبهار بالنماذج المستوردة. وتلفت إلى أن تضمين الثقافة المحلية يقلل التناقض بين المدرسة والمنزل، ويقوي ثقة الأسرة بالمؤسسة التعليمية، ويمنح المعلم أدوات تعليمية واقعية قريبة من بيئة الطالب. كما تشير إلى أثر هذا التوجه في تعزيز التماسك المجتمعي، وتقول: هو استثمار بعيد المدى في بناء شخصية وطنية متوازنة، وركيزة من ركائز الدبلوماسية الثقافية، خاصة لأبناء المقيمين، إذ يساعدهم على الاندماج والتفاعل الإيجابي مع ثقافة البلد المضيف. وتختم: تدريس الثقافة المحلية لا يعني الانغلاق، بل هو أساس الانفتاح الواعي، فالشخص العارف بهويته هو الأقدر على الحوار مع الآخر دون أن يفقد ذاته. رؤية متوازنة يدعو الدكتور سعد سعيد الرفاعي إلى وضوح المفاهيم قبل تضمين الثقافة المحلية في المناهج، متسائلاً: هل نقصد بها التراث الشعبي؟ اللهجات؟ العادات الخاصة بكل منطقة؟ وما الفرق بين الثقافة المحلية والثقافة الوطنية؟. ويشير إلى أن بناء المناهج يرتكز على ثلاثة محاور: المعرفة، والمتعلم، والمجتمع، ويقول: ضمن هذه المرتكزات، يمكن أن نجد مساحة للثقافة المحلية، لكن دون أن تمس وحدة الهوية الوطنية. ويحذر من تضمين الموروث الشعبي بصيغته العامية أو باللهجات المحلية في المناهج، ويرى أنه ليس من الخطأ أن تتضمن المناهج تعريفاً بالثقافات المحلية لمختلف المناطق، بشكل تبادلي، وباللغة العربية الفصحى، لتعريف الطلاب بثقافة الوطن ككل دون تمييز أو تجزئة. كما يلفت إلى أن المراكز الثقافية، والجمعيات، والنوادي الأدبية تلعب دوراً كبيراً في رعاية الثقافة المحلية، إلى جانب المنهج غير الرسمي. ويختم بالقول: ينبغي أن نكون حذرين في تضمين الثقافة المحلية، بحيث تكون معزِّزة للوحدة الوطنية، لا بديلاً عنها. ختاماً، يتفق المتحدثون في هذا التحقيق على أن الثقافة المحلية تمثل ركيزة أساسية في بناء الهوية الوطنية، وأن تضمينها في المناهج الدراسية يعزز الفهم الذاتي والانتماء، ويؤسس لوعي ثقافي قادر على التفاعل الحضاري دون الذوبان. غير أن هذا التضمين، كما يشير بعضهم، يجب أن يتم برؤية متزنة، تدمج بين التنوع والوحدة، وتحترم الخصوصية ضمن الإطار الوطني الجامع.


الشرق الأوسط
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الشرق الأوسط
قميص عبد الناصر حجاب
غرض النضال يبرر لأصحابه سلوكيات ينأى عنها المواطن العادي الذي لا يرى نفسه سوى شبيه بالأشباه، ونظير للأنظار، ليس متفضلاً عليهم بتضحية لم يطلبوها، ولا يدعي علماً يفوق علمهم، ولا يمنح نفسه موقع القائد بينهم. أسوأ سلوكيات ذلك المناضل أثراً الكذب تحقيقاً لغاية «نبيلة»، وإطلاق الأحكام على الآخرين، واغتيالهم معنوياً وشخصياً. ومن يعتمد الكذب لتوصيل فكرة يفقد فوراً الاتساق والنزاهة، وهما تاج رأس المثقف. من مثقفينا هؤلاء من أحب نسخته الحالية، لكنني أمقت المقت كله نسخته السابقة. والفارق بينهما تخليه عن شخصية المناضل، وغطرسته، ولفه ودورانه، وتقعره عن التفكير المستقيم المباشر. سمعت التسجيلات الأخيرة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر وفكرت فوراً في أنور السادات. كيف أحيط في بداية حكمه بشلة من هؤلاء المناضلين، بين سياسيين ومثقفين، ألبوا عليه واتهموه بالخيانة، ودعوا صراحة لقتله، ثم تباهوا بذلك حين حدث. لنكتشف أنه كان الصادق الوحيد بينهم. لا شك أن هؤلاء، لا سيما القريبون من دوائر الحكم في الستينات، علموا أن النظام في مصر قبل بالمسار السلمي خياراً استراتيجياً. أن جمال عبد الناصر أبلغ من حوله، بعد كارثة النكسة، أن مصر تعتزم المضي في ذلك الطريق، وأنه تعلم بالخبرة أن الأنظمة العروبية والبعثية تعتزم التضحية بآخر جندي مصري. علموا من ثم أن أنور السادات في هذا الجانب من القرار السياسي لم يأتِ بجديد، ولا خان عهداً. أنه كان شجاعاً، مضحياً، ناكراً للذات، منجزاً، في غلالة من الدهاء والكاريزما. استطاع في ثلاث سنوات فقط أن ينقل مصر من موقع إلى موقع. فكان مستحقاً للمديح والتمجيد لا التخوين والاغتيال. في مقابل نكرانه للذات، تعامل حملة قميص ناصر مع السادات وكأنهم أولياء الدم. وهو نهج اضطر السادات من البداية إلى أكبر أخطائه. وجد نفسه بلا ظهير شعبي وطلابي، فلجأ إلى الإسلامجية طلباً لهذا المدد. الآن، تمعنوا في المفارقة. لامته جماعات اليسار على ذلك الخيار الذي دفعته إليه دفعاً، لكنها تحالفت مع الإسلامجية، بالصوت والصورة، بالغناء والموسيقى، بالدعاية والنكاية، على غرض التخلص منه. ولا سيما بعد معاهدة السلام. كذبت جماعات اليسار إذن في مسار السلام، وتخابثت في مسار التعامل مع التطرف الديني. والنتيجة أننا خسرنا على الوجهين: خسرنا رجل الحرب والسلام بالاغتيال، وخسرنا حياتنا بالعيش تحت سيطرة التطرف. وخسرنا في نخبتنا الشجاعة والنزاهة والمَثَل. والأمم إن خسرت الشجاعة صار أكبر أمانيها تحجيم السقوط بدلاً من المغامرة من أجل النجاح. امتدت الناصرية إلى أبعد من عبد الناصر بكل أخطائه. صارت الناصرية اسماً كودياً لنظرة إلى الحياة العامة، يتفق عليها قطاع واسع من البشر. حين تنزع المفردات الدينية عن الإسلامجي يتحول فوراً إلى ناصري، وحين تضيف المفردات الدينية إلى اليساري والبعثي والعروبي يتحول فوراً إلى إسلامجي. كلاهما يعتقد أنه يملك الحق المطلق، المستعلي على من حوله. كلاهما يعتقد أن الصراع أفضل جوهرياً من السلام. كلاهما يحب السيطرة ويتغزل بالحرب. لا يختلفان إلا على مساحة السيطرة. وكلاهما لا يدرك قيمة القيمة، ولا منشأها ولا غرضها. هذا جوهر قدرتهم العجيبة على تدمير الخارج والداخل. مَن يدري ربما أوشك عبد الناصر أيضاً على الانفتاح لإنقاذ اقتصاد البلد. ربما فهم بالتجربة لماذا نرسم العدالة عمياء. لا فرق لديها بين مَن يملك ملايين ومَن لا يملك. ربما فهم أنها قيمة مختلفة عن الرحمة والصدقة والعطف. أن انحياز العدالة نحو الغني فساد، وانحيازها نحو الفقير فساد. انحيازها نحو المالك فساد، ونحو المستأجر فساد. بالمصادفة، لا نزال بعد أكثر من نصف قرن على وفاته لا نستطيع تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر من قوانينها الثورية الجائرة. على ما تسببت فيه من إفساد للاقتصاد وتدهور في حال البنايات القديمة، بين مالك يشعر نحوها بالمرارة، ومستأجر لا يعنيه تطويرها. تسجيلات عبد الناصر المنشورة مؤخراً دليل إدانة على رافعي قميص عبد الناصر طوال نصف قرن. وهي إعادة اعتبار للسادات، ولعشرات الكتاب والمثقفين الذين كانوا صادقين معنا، فعاشوا في ضنك من تشويه دوائر الثقافة لهم، وأغمطوا حقوقهم. لولا موهبة نجيب محفوظ الطاغية لكان واحداً منهم. هؤلاء هم الدليل الحي على أن ما انكشف من تسجيلات عبد الناصر ظل مدفوناً بفعل فاعل.