#أحدث الأخبار مع #المصطلحاتالجزيرةمنذ 12 ساعاتترفيهالجزيرةحين يُغني الانتشار عن الاعتباركنت أريد توثيق هذه الخواطر من خلال مقطع مصور، وما زلت، ولا ضير أن أقيدها بالكلمات والحروف، علني أُحقق بذلك غايتين؛ فالنفس تميل إلى الكتابة، والسائد في عالم اليوم لغة المقاطع المصورة (الفيديو)، بمختلف أشكالها وطرقها وسرعاتها كذلك. وكي لا أنجرف في الحديث عن سطوة هذه المقاطع السريعة، التي نستهلكها حتى الثمالة، أريد التنبيه إلى أمرٍ بالغ الأهمية؛ ففي حديثي هذا لا أقصد أحدًا بعينه، ولا أستهدف شخصًا أو منصة أو غير ذلك، إنما هو حديث عام عن حالة استشرت في السنوات الماضية، وأردت تسليط الضوء على مثلبة تُقوّض ولا تبني، ونماذج تقلل من قدر صاحبها ولا ترفعه، وإليكم هذه القصة. شاركت مرةً في اجتماع ضمّ نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين المخضرمين، وكان من بين المواضيع تحرير لفظ "الباحث"، وبيان الشروط التي يجب أن يتحلى بها المرء قبل إطلاق اللقب عليه، خاصة مع شيوع استخدام اللفظ، ودورانه على الألسنة في السنوات الماضية. وكانت المشاركات قيمة بلا شك، ولكنني طرحت وجهة نظرٍ مختلفة قليلًا عن الأخريات، إذ إنّ تحرير المصطلح لن يعني بحال من الأحوال ضبطه، وبالمحصلة ضبط استخدامه، وتحديد على من يُطلق. فالواقع أن كثيرين ممن يتصدرون المشهد على أنهم باحثون، وخاصة في التطورات ذات الصلة بالشأن العام وقضايا المنطقة، لا تنطبق عليهم أيٌ من الشروط التي طرحها الأساتذة الكرام، بل ترى الواحد منهم (أي الباحث المتوهم) لا تكاد تجد له ورقة أو فصلًا في كتاب، أو مقالًا رصينًا، أو مشاركة دائمة مكتوبة، ثم يتصدر في وسائل الإعلام. وبكل تأكيد، فإن هذه الجزئية وما يتصل بها بحاجة إلى مزيد من البحث والإيضاح، ولكني في هذا الحديث أريد توسيع دائرة النظر أكثر. هذا المثال الذي حاولت البدء به جزء من مشكلة مستشرية، متعلقة بالقفز على التخصصات، وتصدّر الحديث في كثير من القضايا والعلوم، من باب الاهتمام، ومن ثَم سعة الاطلاع، من دون أي التفاتة إلى أهمية التخصص، مهما كان شكله وطريقته وآلياته، وحول هذه الأخيرة، ولأنني متخصص في التاريخ، خضت غماره منذ سنوات طويلة طالبًا جامعيًّا وقارئًا نهمًا، ثم معلمًا وواضعًا لمناهج دراسية ركزت على التاريخ الإسلامي، أزعم أنني قادرٌ على معرفة الغث من السمين في الأطروحات التي تُقدَّم، وما يتم تداوله في المنصات والبرامج. يُمكن للمرء أن ينفق ساعات طويلة وهو يقلب المراجع والكتب ليكتب نصًّا صغيرًا عن حقبة تاريخية ما، أو حدثٍ بعينه، ولكنه كذلك يستطيع من خلال بحث بسيط في مواقع التواصل الاجتماعي، وصفحات الشابكة، أن يسجل مقطعًا قصيرًا عن حدثٍ تاريخي أو ملمحٍ حضاري ومن المفيد ها هنا الإشارة إلى أن ميدان التاريخ من الميادين التي طرق بابها كثرة من غير الدارسين في الأروقة الأكاديميّة (وهو ما سأعود إليه لاحقًا)، وبعيدًا عن تقييم ما قدموه تقييمًا دقيقًا، فإن عددًا منهم ترك بصمة واضحة، وتجاوز مرحلة التخصص الدراسي الأكاديمي المجرد من خلال سعة الاطلاع، والإصرار على المراجعات الدائمة، مع وجود ملاحظات لا يخلو منها أي عملٍ بشريّ، بسبب الخلفية الأيديولوجية، ومحاولة الدفاع المستميت عن شخصيات بعينها من التاريخ، وما سوى ذلك. أعود إلى الفكرة الأولى، وأضرب لكم حقل التاريخ مثلًا.. بطبيعة الحال، يُمكن للمرء أن ينفق ساعات طويلة وهو يقلب المراجع والكتب ليكتب نصًّا صغيرًا عن حقبة تاريخية ما، أو حدثٍ بعينه، ولكنه كذلك يستطيع من خلال بحث بسيط في مواقع التواصل الاجتماعي، وصفحات الشابكة، أن يسجل مقطعًا قصيرًا عن حدثٍ تاريخي أو ملمحٍ حضاري، وغير ذلك من شؤون. الأول جهدٌ متراكم رصين، والثاني تقميش سريع لمادة سيتم استهلاكها سريعًا، ولا ضير بهما، ولكن الضرر عندما يطغى المنتَج المستهلَك السريع على الإنتاج المتراكم، ويتحول صانع المحتوى إلى "مؤرخ"، ويتصدر في قضايا التاريخ والحديث عن الحضارات، بل ينزاح من تخصصه "المهمّ"، لكي يقفز في تخصص آخر لا يعدو فيه أن يكون مهتمًّا أو قارئًا، وإن كان باحثًا فبها ونعمت.. ولي في ذلك قصة كذلك.. على أثر اندحار النظام المجرم في سوريا، وتحرير البلاد، بدأت منصات التواصل باقتراح مضامين ومقاطع حول سوريا واقعًا وتاريخًا وغير ذلك، ولفت نظري مرة -وكنت في طريقٍ طويل في المواصلات العامة- واحدٌ من الشخصيات الفاضلة الكريمة المحترمة، يتحدث في ديوانية عن "تاريخ سوريا"، وقد رأيت له مقاطع كثيرة يتحدث فيها عن التاريخ مع علمي أن تخصصه شيء آخر، وهو مبدعٌ به. شاهدت في القطار نحو نصف المقطع المسجل، وهالني المغالطات التي وردت في المقطع، وهي معلومات لا أحسب أي متخصصٍ في التاريخ يقع بها، بل بعضها أشبه ما يكون بالمعلومات العامة، ولم يكن الحديث إلا عن البدايات الأولى والمراحل المبكرة لجزءٍ من سوريا في التاريخ قبل الإسلام وبعده، وأذكر أنني عددت نحو 4 أو 5 أغلاطٍ فظيعة في نصف المقطع فقط، فتوقفت عن الاستماع، وكلما شاهدت مقاطع للأستاذ الفاضل (ولا أدعي أنها سيئة، ولكنني لا أستطيع منع نفسي من أخذ موقف بعد النموذج الذي استمعت إليه) أسأل نفسي عن الهدف من هذا التطفل، إن لم نقل غير ذلك. سئل العلامة الشيخ سعيد الكملي مرة عن قضية مما انتشر في المعاملات الاقتصادية، فأجاب -بكل بساطة وثقة- بأنه لا يعلم، وهو المشهود له بالعلم والفهم وسعة الاطلاع لا أحاكم ما يقدمه الشخص من مقطعٍ واحد، ولكن هذه النماذج متكررة كثيرًا، في التاريخ وعلم النفس والشريعة والتربية وغيرها.. لم يعد "التحصيل" معيارًا لكي يتصدر البعض للحديث، بل أصبحت قدرة الحديث بنفسها هي المدخل الذي يسمح لأيٍّ كان أن يتحدث عما يريد وكيفما أراد، وإن أضفنا على الحديث طبقة من المُعدِّين الحاذقين، والإلمام بالإنجليزية، أو دعمًا من المنص معاينة التغييرات (يُفتح في علامة تبويب جديدة) ات الكبرى، فستجد الشخص نفسه يتحدث تارة عن اليهود، وطورًا عن الحضارة، وثالثة عن التاريخ السياسي لدولة معينة، ورابعة عن كنه علم التاريخ.. ولا حاجة لتوسيع الأمثلة لئلا يُفهم من كلامي استهداف لأشخاص أقدرهم، ولكن راعني هذا الحال، وهو مما لا يليق بهم من دون شك. وهنا لا بد من الوقوف عند ملمح مهم.. التفاعل مع هؤلاء من قبل المنصات أو المتلقي لا يتم بناءً على التحصيل والتراكم المعرفي، وجدارة ما يقولونه، وإنما لامتلاكهم جمهورًا واسعًا، ونتيجة لحضورهم الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي، وانعكاس ذلك على مشاهدة ما يقدمونه مرئيًّا بكثافة، وهو ما أدى إلى تحويل معيار العمق والمعرفة إلى معيار الانتشار والحضور، وهذا – في تقديري- خلط خطير بين من يُعرف بعطائه العلمي، وبين من يُسلَّط عليه الضوء لأسباب تتصل بمنصات التواصل وسرعة التداول، وأحيانًا بسبب موقعه الجغرافي والبيئة التي تحيطه. ومشكلة هذا التحول أن الجمهور -مع الوقت- يربط الشهرة بالجدارة، ويتعامل مع المتصدر على أنه مرجع، لا لمحتواه بل لانتشاره، وهذه معضلة معرفية وأخلاقية تستحق التأمل والوقوف عندها طويلًا. سئل العلامة الشيخ سعيد الكملي مرة عن قضية مما انتشر في المعاملات الاقتصادية، فأجاب -بكل بساطة وثقة- بأنه لا يعلم، وهو المشهود له بالعلم والفهم وسعة الاطلاع، وفي الحديث عن التاريخ -مثلًا- أخاله هو وأمثاله من كبار الحفاظ أهلًا للحديث عن التاريخ، فلهم ملكات المحدث، وفوقها سعة اطلاع وفقه، ومعرفة بالأدب والأنساب واللغة وغيرها؛ ما يجعل ما يحدِّثون به الطلاب، وما يقولونه في البرامج والمنصات، دررًا لا يخفت وهجها! فاستمع له أو للعلامة الددو -حفظ الله الجميع- وستقف مذهولًا أمام هذه الحافظة المهولة، واللغة العالية من دون تكلف، وفوق ذلك الوقوف عند الحق، والرجوع عن الخطأ حال وجوده، ولا أريد أن أضرب أمثلة من الطرف المقابل، فما سبق فيه كفاية. أخيرًا، لا أشترط البتة التحصيل الأكاديمي الخالص، ففي هذا الباب أحاديث كثيرة وشجون؛ فهذا في بعض التخصصات أمرٌ دخيل وربما يكون غير أساسيّ، ولكنه في تخصصات أخرى ضرورة ملحّة. وليس لي أصلًا أن أحدّد ما يتكلم فيه الناس، وما ليس لهم حق الكلام فيه، ولكنّني أدعو إلى أن ينضبط هؤلاء فيما يُحسنونه، وألا يتطفلوا على ما لا يُحسنونه، ففي بعض الأحيان يكون حديثهم عن قضيةٍ ما، أو نقد علمٍ آخر، وبالًا على سامع لا يعي خطورة ما لديه وما يعانيه، أو على متلقٍ ليس لديه إدراك للبحث عن المعلومة الصحيحة. وأختم بتلك القصة اللطيفة التي رواها الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- في أحد كتبه؛ ففيها منفعة عظيمة وعبرة: إعلان "سألني صيدلي عن حكم من أدرك الإمام راكعًا ولم يقرأ الفاتحة، أتسقط الركعة عنه أم يعيدها؟ قلت: الجمهور على سقوط الركعة عنه، وهناك من يرى قضاءها، فاختر لنفسك ما يحلو. قال: أعرف ذلك، ولكن أريد مناقشة من يرى عدم قضاء الركعة! قلت له: ما جدوى ذلك عليك؟ ولماذا تتكلف ما لا تُحسن وتترك ما تُحسن. قال: ما معنى ما تقول؟ قلت: أنت صيدلي، وجميع الأدوية في دكانك من صنع الصهيونيين.. أو الشيوعيين فإذا تركت أنت وزملاؤك هذا الميدان، ميدان صناعة الدواء، واشتغلت باللغو، أفتحسب ذلك يرفعك عند الله وعند الناس؟ إنك -للأسف- تسهم في سقوط الأمة، وتجعلها غير جديرة بالحياة. قال: إنني أبحث في حكم شرعي، ولا أشتغل باللغو. قلت: الحكم الشرعي -كما قرره أهل الذكر- بين أمرين، خذ منهما ما شئت، ولا يجوز أن تحول الموضوع إلى لبان يمضغه الفارغون.. إن كل ما يصرفك عن ميدان الدواء هو في حقيقته عبث أو عيب أو ذنب تؤاخذ به، أما أن تؤلف رابطة عنوانها: جماعة من يقضون الركعة إذا لم تقرأ الفاتحة، فهذا سخف.. ما قيمة هذا الرأي أو ذاك حتى تُحشى به عقول الناس؟".
الجزيرةمنذ 12 ساعاتترفيهالجزيرةحين يُغني الانتشار عن الاعتباركنت أريد توثيق هذه الخواطر من خلال مقطع مصور، وما زلت، ولا ضير أن أقيدها بالكلمات والحروف، علني أُحقق بذلك غايتين؛ فالنفس تميل إلى الكتابة، والسائد في عالم اليوم لغة المقاطع المصورة (الفيديو)، بمختلف أشكالها وطرقها وسرعاتها كذلك. وكي لا أنجرف في الحديث عن سطوة هذه المقاطع السريعة، التي نستهلكها حتى الثمالة، أريد التنبيه إلى أمرٍ بالغ الأهمية؛ ففي حديثي هذا لا أقصد أحدًا بعينه، ولا أستهدف شخصًا أو منصة أو غير ذلك، إنما هو حديث عام عن حالة استشرت في السنوات الماضية، وأردت تسليط الضوء على مثلبة تُقوّض ولا تبني، ونماذج تقلل من قدر صاحبها ولا ترفعه، وإليكم هذه القصة. شاركت مرةً في اجتماع ضمّ نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين المخضرمين، وكان من بين المواضيع تحرير لفظ "الباحث"، وبيان الشروط التي يجب أن يتحلى بها المرء قبل إطلاق اللقب عليه، خاصة مع شيوع استخدام اللفظ، ودورانه على الألسنة في السنوات الماضية. وكانت المشاركات قيمة بلا شك، ولكنني طرحت وجهة نظرٍ مختلفة قليلًا عن الأخريات، إذ إنّ تحرير المصطلح لن يعني بحال من الأحوال ضبطه، وبالمحصلة ضبط استخدامه، وتحديد على من يُطلق. فالواقع أن كثيرين ممن يتصدرون المشهد على أنهم باحثون، وخاصة في التطورات ذات الصلة بالشأن العام وقضايا المنطقة، لا تنطبق عليهم أيٌ من الشروط التي طرحها الأساتذة الكرام، بل ترى الواحد منهم (أي الباحث المتوهم) لا تكاد تجد له ورقة أو فصلًا في كتاب، أو مقالًا رصينًا، أو مشاركة دائمة مكتوبة، ثم يتصدر في وسائل الإعلام. وبكل تأكيد، فإن هذه الجزئية وما يتصل بها بحاجة إلى مزيد من البحث والإيضاح، ولكني في هذا الحديث أريد توسيع دائرة النظر أكثر. هذا المثال الذي حاولت البدء به جزء من مشكلة مستشرية، متعلقة بالقفز على التخصصات، وتصدّر الحديث في كثير من القضايا والعلوم، من باب الاهتمام، ومن ثَم سعة الاطلاع، من دون أي التفاتة إلى أهمية التخصص، مهما كان شكله وطريقته وآلياته، وحول هذه الأخيرة، ولأنني متخصص في التاريخ، خضت غماره منذ سنوات طويلة طالبًا جامعيًّا وقارئًا نهمًا، ثم معلمًا وواضعًا لمناهج دراسية ركزت على التاريخ الإسلامي، أزعم أنني قادرٌ على معرفة الغث من السمين في الأطروحات التي تُقدَّم، وما يتم تداوله في المنصات والبرامج. يُمكن للمرء أن ينفق ساعات طويلة وهو يقلب المراجع والكتب ليكتب نصًّا صغيرًا عن حقبة تاريخية ما، أو حدثٍ بعينه، ولكنه كذلك يستطيع من خلال بحث بسيط في مواقع التواصل الاجتماعي، وصفحات الشابكة، أن يسجل مقطعًا قصيرًا عن حدثٍ تاريخي أو ملمحٍ حضاري ومن المفيد ها هنا الإشارة إلى أن ميدان التاريخ من الميادين التي طرق بابها كثرة من غير الدارسين في الأروقة الأكاديميّة (وهو ما سأعود إليه لاحقًا)، وبعيدًا عن تقييم ما قدموه تقييمًا دقيقًا، فإن عددًا منهم ترك بصمة واضحة، وتجاوز مرحلة التخصص الدراسي الأكاديمي المجرد من خلال سعة الاطلاع، والإصرار على المراجعات الدائمة، مع وجود ملاحظات لا يخلو منها أي عملٍ بشريّ، بسبب الخلفية الأيديولوجية، ومحاولة الدفاع المستميت عن شخصيات بعينها من التاريخ، وما سوى ذلك. أعود إلى الفكرة الأولى، وأضرب لكم حقل التاريخ مثلًا.. بطبيعة الحال، يُمكن للمرء أن ينفق ساعات طويلة وهو يقلب المراجع والكتب ليكتب نصًّا صغيرًا عن حقبة تاريخية ما، أو حدثٍ بعينه، ولكنه كذلك يستطيع من خلال بحث بسيط في مواقع التواصل الاجتماعي، وصفحات الشابكة، أن يسجل مقطعًا قصيرًا عن حدثٍ تاريخي أو ملمحٍ حضاري، وغير ذلك من شؤون. الأول جهدٌ متراكم رصين، والثاني تقميش سريع لمادة سيتم استهلاكها سريعًا، ولا ضير بهما، ولكن الضرر عندما يطغى المنتَج المستهلَك السريع على الإنتاج المتراكم، ويتحول صانع المحتوى إلى "مؤرخ"، ويتصدر في قضايا التاريخ والحديث عن الحضارات، بل ينزاح من تخصصه "المهمّ"، لكي يقفز في تخصص آخر لا يعدو فيه أن يكون مهتمًّا أو قارئًا، وإن كان باحثًا فبها ونعمت.. ولي في ذلك قصة كذلك.. على أثر اندحار النظام المجرم في سوريا، وتحرير البلاد، بدأت منصات التواصل باقتراح مضامين ومقاطع حول سوريا واقعًا وتاريخًا وغير ذلك، ولفت نظري مرة -وكنت في طريقٍ طويل في المواصلات العامة- واحدٌ من الشخصيات الفاضلة الكريمة المحترمة، يتحدث في ديوانية عن "تاريخ سوريا"، وقد رأيت له مقاطع كثيرة يتحدث فيها عن التاريخ مع علمي أن تخصصه شيء آخر، وهو مبدعٌ به. شاهدت في القطار نحو نصف المقطع المسجل، وهالني المغالطات التي وردت في المقطع، وهي معلومات لا أحسب أي متخصصٍ في التاريخ يقع بها، بل بعضها أشبه ما يكون بالمعلومات العامة، ولم يكن الحديث إلا عن البدايات الأولى والمراحل المبكرة لجزءٍ من سوريا في التاريخ قبل الإسلام وبعده، وأذكر أنني عددت نحو 4 أو 5 أغلاطٍ فظيعة في نصف المقطع فقط، فتوقفت عن الاستماع، وكلما شاهدت مقاطع للأستاذ الفاضل (ولا أدعي أنها سيئة، ولكنني لا أستطيع منع نفسي من أخذ موقف بعد النموذج الذي استمعت إليه) أسأل نفسي عن الهدف من هذا التطفل، إن لم نقل غير ذلك. سئل العلامة الشيخ سعيد الكملي مرة عن قضية مما انتشر في المعاملات الاقتصادية، فأجاب -بكل بساطة وثقة- بأنه لا يعلم، وهو المشهود له بالعلم والفهم وسعة الاطلاع لا أحاكم ما يقدمه الشخص من مقطعٍ واحد، ولكن هذه النماذج متكررة كثيرًا، في التاريخ وعلم النفس والشريعة والتربية وغيرها.. لم يعد "التحصيل" معيارًا لكي يتصدر البعض للحديث، بل أصبحت قدرة الحديث بنفسها هي المدخل الذي يسمح لأيٍّ كان أن يتحدث عما يريد وكيفما أراد، وإن أضفنا على الحديث طبقة من المُعدِّين الحاذقين، والإلمام بالإنجليزية، أو دعمًا من المنص معاينة التغييرات (يُفتح في علامة تبويب جديدة) ات الكبرى، فستجد الشخص نفسه يتحدث تارة عن اليهود، وطورًا عن الحضارة، وثالثة عن التاريخ السياسي لدولة معينة، ورابعة عن كنه علم التاريخ.. ولا حاجة لتوسيع الأمثلة لئلا يُفهم من كلامي استهداف لأشخاص أقدرهم، ولكن راعني هذا الحال، وهو مما لا يليق بهم من دون شك. وهنا لا بد من الوقوف عند ملمح مهم.. التفاعل مع هؤلاء من قبل المنصات أو المتلقي لا يتم بناءً على التحصيل والتراكم المعرفي، وجدارة ما يقولونه، وإنما لامتلاكهم جمهورًا واسعًا، ونتيجة لحضورهم الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي، وانعكاس ذلك على مشاهدة ما يقدمونه مرئيًّا بكثافة، وهو ما أدى إلى تحويل معيار العمق والمعرفة إلى معيار الانتشار والحضور، وهذا – في تقديري- خلط خطير بين من يُعرف بعطائه العلمي، وبين من يُسلَّط عليه الضوء لأسباب تتصل بمنصات التواصل وسرعة التداول، وأحيانًا بسبب موقعه الجغرافي والبيئة التي تحيطه. ومشكلة هذا التحول أن الجمهور -مع الوقت- يربط الشهرة بالجدارة، ويتعامل مع المتصدر على أنه مرجع، لا لمحتواه بل لانتشاره، وهذه معضلة معرفية وأخلاقية تستحق التأمل والوقوف عندها طويلًا. سئل العلامة الشيخ سعيد الكملي مرة عن قضية مما انتشر في المعاملات الاقتصادية، فأجاب -بكل بساطة وثقة- بأنه لا يعلم، وهو المشهود له بالعلم والفهم وسعة الاطلاع، وفي الحديث عن التاريخ -مثلًا- أخاله هو وأمثاله من كبار الحفاظ أهلًا للحديث عن التاريخ، فلهم ملكات المحدث، وفوقها سعة اطلاع وفقه، ومعرفة بالأدب والأنساب واللغة وغيرها؛ ما يجعل ما يحدِّثون به الطلاب، وما يقولونه في البرامج والمنصات، دررًا لا يخفت وهجها! فاستمع له أو للعلامة الددو -حفظ الله الجميع- وستقف مذهولًا أمام هذه الحافظة المهولة، واللغة العالية من دون تكلف، وفوق ذلك الوقوف عند الحق، والرجوع عن الخطأ حال وجوده، ولا أريد أن أضرب أمثلة من الطرف المقابل، فما سبق فيه كفاية. أخيرًا، لا أشترط البتة التحصيل الأكاديمي الخالص، ففي هذا الباب أحاديث كثيرة وشجون؛ فهذا في بعض التخصصات أمرٌ دخيل وربما يكون غير أساسيّ، ولكنه في تخصصات أخرى ضرورة ملحّة. وليس لي أصلًا أن أحدّد ما يتكلم فيه الناس، وما ليس لهم حق الكلام فيه، ولكنّني أدعو إلى أن ينضبط هؤلاء فيما يُحسنونه، وألا يتطفلوا على ما لا يُحسنونه، ففي بعض الأحيان يكون حديثهم عن قضيةٍ ما، أو نقد علمٍ آخر، وبالًا على سامع لا يعي خطورة ما لديه وما يعانيه، أو على متلقٍ ليس لديه إدراك للبحث عن المعلومة الصحيحة. وأختم بتلك القصة اللطيفة التي رواها الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- في أحد كتبه؛ ففيها منفعة عظيمة وعبرة: إعلان "سألني صيدلي عن حكم من أدرك الإمام راكعًا ولم يقرأ الفاتحة، أتسقط الركعة عنه أم يعيدها؟ قلت: الجمهور على سقوط الركعة عنه، وهناك من يرى قضاءها، فاختر لنفسك ما يحلو. قال: أعرف ذلك، ولكن أريد مناقشة من يرى عدم قضاء الركعة! قلت له: ما جدوى ذلك عليك؟ ولماذا تتكلف ما لا تُحسن وتترك ما تُحسن. قال: ما معنى ما تقول؟ قلت: أنت صيدلي، وجميع الأدوية في دكانك من صنع الصهيونيين.. أو الشيوعيين فإذا تركت أنت وزملاؤك هذا الميدان، ميدان صناعة الدواء، واشتغلت باللغو، أفتحسب ذلك يرفعك عند الله وعند الناس؟ إنك -للأسف- تسهم في سقوط الأمة، وتجعلها غير جديرة بالحياة. قال: إنني أبحث في حكم شرعي، ولا أشتغل باللغو. قلت: الحكم الشرعي -كما قرره أهل الذكر- بين أمرين، خذ منهما ما شئت، ولا يجوز أن تحول الموضوع إلى لبان يمضغه الفارغون.. إن كل ما يصرفك عن ميدان الدواء هو في حقيقته عبث أو عيب أو ذنب تؤاخذ به، أما أن تؤلف رابطة عنوانها: جماعة من يقضون الركعة إذا لم تقرأ الفاتحة، فهذا سخف.. ما قيمة هذا الرأي أو ذاك حتى تُحشى به عقول الناس؟".