logo
#

أحدث الأخبار مع #بتهوفن

«ساعي البريد».. شِعرية التفاصيل اليومية واللغة البسيطة
«ساعي البريد».. شِعرية التفاصيل اليومية واللغة البسيطة

الدستور

time١٥-٠٥-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • الدستور

«ساعي البريد».. شِعرية التفاصيل اليومية واللغة البسيطة

مهدي نصير قرأتُ قبل أيامٍ قليلةٍ ديوان الدكتور كمال ميرزا «ساعي البريد» وهو الديوان الثاني للدكتور ميرزا بعد ديوانه الأول «شريعةُ الإسمنت» الصادر عام 2022 عن دار أزمنة للنشر والتوزيع، وأعترف أنني لأوَّلِ مرةٍ أقرأ شِعراً للدكتور كمال ميرزا، وأثارتني وأثَّرتْ بي هذه القصائد الطازجة والبسيطة والقريبة بتفاصيلها الظاهرية من مفردات وأشياء حياتنا اليومية التي يوظفُّها الشاعر لإزاحتها عن مدلولاتها المباشرة إلى مدلولاتٍ جديدةٍ تشتبك مع اليومي وترتقي وتنفصل عنه في جدليةٍ يتقنها الشاعر الذي يبحث عن شيءٍ غامضٍ يسكن خلف وتحت وبين هذه الأشياء والمفردات التي تتزاحم من حولنا وتحمل جينات حياتنا اليومية منبثَّةً فيها. قصيدة الدكتور ميرزا في هذا الديوان قصيدة نثر عاليةٌ بلغتها وبإيقاعاتها وبنثريتها التي تأخذ من الواقع الحياتي البسيط مادةً ومناخاً وحاملاً لقصيدته، هي قصائدُ بسيطةٌ تحمل في إيقاعاتها الخاصة هذا الاغتراب والتهميش والقلق اليومي الذي نعيشه ويعيشه ويعبر عنه الشاعر بلغةٍ تُخفي وتُظهر هذا القلق العارم الذي يجتاح كينونتنا ووجودنا وهويتنا، نقرأ بعض ذلك في هذا المقطع من قصيدةٍ قصيرةٍ بعنوان « الجرذان مرةً أخرى: «في المدنِ الكبيرةِ من الممكنِ أن تموتَ في مبنىً مهجورٍ أو زقاقٍ مُعتمٍ ولا يُعثَرُ عليكَ إلّا بعدَ يومينِ مع أنّ الجرذانَ قد استدلّتْ عليكَ منذُ اللحظةِ الأولى!» في هذه المجموعة رسائل كثيرةٌ تبحثُ عن «ساعي البريد» الذي سيحملها، وكلُّها رسائل حزنٍ وتعبٍ واغترابٍ وبحثٍ عن معنىً لحياتنا التي تفقد كثيراً من معانيها، نقرأ بعضاً من هذا الحزن في قصيدةٍ قصيرةٍ بعنوان «هروب « نقرأ فيها بعض هذا الغضب الهادئ في سطحه والعميق التوتر في جوفه : «اهربْ انتخبْ لنفسكَ مدينةً تصلحُ للغربةِ مدينةً لم تذرعْ شوارِعَهَا من قبلُ مدينةً لا تعرِفُكَ أرصفتُهَا مدينةً تربِطُ لسانَكَ وتسلِبُكَ فصاحتَكَ المأثورةَ وتجعلُكَ تبدو كالأبلهِ وأنتَ تسألُ المارّةَ عن أتفهِ الأشياء مدينةً ليسَ لكَ فيها تفاصيلُ في الأزقةِ وذكرياتٌ وراءَ الجدرانِ وأحبةٌ حبيسونَ في تلك الزنازينِ المُحْكَمَةِ التي نسمِّيها منازل! اهربْ سيحبُّكَ أبناءُ المدنِ البعيدةِ جداً فأنتَ «مِن ريحةِ» غربةٍ يشتهونَهَا أمّا هنا فالجميعُ يكرهونَكَ لأنّكَ تذكِّرُهُم بكلِّ ما يريدونَ نسيانَهُ!» في قصائد هذه المجموعة هناك احتجاجٌ عميقٌ ضدَّ تسطيحِنا وتحويل اللغة والثقافة لمحفزات حواس أحاديةٍ لا تأخذ من اللغةِ إلا ظاهرَها الذي تمَّ معالجته وأتمتته وتوجيهه، نقرأ بعضَ هذا الاحتجاج العميق على تحويلنا لكائنات بافلو- لغوية (أي إلى كائناتٍ لغويةٍ ضد شِعرية)، في قصيدة « بتهوفن « في هذه المجموعة تتحول موسيقى بتهوفن العظيمة لمُنبِّهٍ – فقط منبِّه - يرتبط بحضور بائع جرَّات الغاز !!، اقرأوا معي هذا المقطع من هذه القصيدة : «تتوقفُ موسيقى «بيتهوفن» فجأةً وشيئاً فشيئاً يصَّعَّدُ صوتُ المصعدِ الذي نجحَ السكانُ أخيراً في إصلاحِهِ بعدَ تسويةٍ مُجحفةٍ مع الجارِ في الطابقِ الأرضيِّ يفتحُ ويغلقُ بابُهُ الذي فقدَ لياقتَهُ منذُ الشهرِ الأولِّ يعلو صوتُ الخطواتِ و»قرقعةُ» الجِرارِ وهي تدنو بثقةٍ من شقةٍ لم نوفِ قرضَهَا بعدُ « يُصعِّدُ الشاعر احتجاجه بهدوءٍ ويطلب من ساعي البريد الغائب أن يُعيدَ اللغةَ الشعريةَ لتخاطب الحواس كلَّها بعيداً عن بقعِ الآخرين وبعيداً عن اللغة المؤتمتة والأحادية الجانب، اقرأوا معي هذا المقطع من قصيدةٍ قصيرةٍ بعنوان « ما وراء النص : «أنا أوراقٌ متى طُويَتْ لن تستطيعي قراءتَهَا كدفاترَ عتيقةٍ وحبرُنَا الذي لم يجفَّ بعدُ لا تطمسيهِ ببقعِ الآخرين! هم لا يعنيهُم من نصِّكِ سوى ظاهرِهُ ووحدي أغوصُ في ثنايا متنِكِ الذي أحفظُهُ غيبّاً لأتهجّى بحواسّيَ الخمسِ ما تخفينَ بين السطور!» في هذه المجموعة قرأتُ شاعراً أصيلاً ولغةً بسيطةً وعميقةً وإيقاعاتٍ حملت الكثير مما أرادت هذه الرسائل أن تقوله لنا . إيقاعياً قصيدة الدكتور ميرزا قصيدة نثرٍ تموج بإيقاعاتٍ داخليةٍ (شِعرية الموقف وشعرية المفارقة والجِدَّة واللاتوقع)، وتموجُ أيضاً بإيقاعاتٍ خارجيةٍ (نسيج تراكيب اللغة وإيقاعات نواها القصيرة وليس كتلَها الكبيرة الخليلية المكررة، هذه الإيقاعات مزيجٌ غيرُ مُنتظَمٍ من هذه التفاعيل مما أعطى للإيقاع الخارجي ظِلالاً قديمةً تنتسب لهذا النسيج الإيقاعي وتتمرَّد على صوته الواحد المكرر باتجاه تعدد الأصوات وتعدد التفاعيل - وبدون قصدٍ من الشاعر - وهذا سرُّ طزاجتها وخصوصيتها) سأقرأ ذلك الإيقاع في هذا النموذج من قصيدةٍ بعنوان « اعتذار « : «بخجلٍ شديدٍ (فعلتن فعولن) ونبرةٍ لا تخلو من إحساسٍ بالعارِ (مفاعلن فعلن فعلن فعلن فعلن فعلُ) وإقرارٍ فادحٍ بالذنبِ (فعولن مستفعلن مفعولن) قالت الجثّةُ المُثخنةُ للسكينِ الثَلِمَة: (فاعلن فاعلن فاعلُ فعولن فعلن فَعِلن) -عذراً (فعلن) لا يوجدُ فيَّ مساحةٌ ناصعةٌ لتزرعي فيها جرحاً طازجاً (فعلن فَعِلن متفاعلن متْفعلن مُتفْعلن فعلن فعلن فاعلن) لكن هلّا تعطّفتِ قليلاً (فعلن فعلن فعولن فاعلاتن) ودققتِ النظرَ (فعولن متْفعلن) ستجدينَ غالباً موضعاً أكثرَ التئاماً من غيرِهِ (فعلتن مفاعلن فاعلن فاعلن فعولن مستفعلن) تستطيعينَ غرزَ طعنَتَكِ الطائشةِ (صمت) هناك (فاعلن فاعلن فعولُ فاعلن فَعِلُ(ن) فعولُ) واعتذرُ مرّة أخرى (فعولُ فَعِلن فعو فعلن) أنّني لم أكنْ جثةً لائقةً بمقامِ نصلِكِ السامي! «(فاعلن فاعلن فاعلن متْفعلن فَعِلن مفاعلن فعلن) . انتَ وانتَ تقرأ هذه القصيدة لا يمكنك التنبوء بما يريد أن يقوله الشاعر ولا إلى أين يقود قصيدته فهو يفاجؤكَ في كلِّ سطرٍ من سطورها وهذا يمنحكَ كقاريء إيقاع الترقب والمتابعة والمفاجأة، وهذا إيقاعٌ يشارك القاريء والمتلقي بتشكيله عبر عقله وأذنه وعاطفته لا عبر أذنه فقط والتي تُستلب وتطرب لإيقاعاتٍ تعرفها وتعودت عليها ويمكنها أن تتنبأ بتتالياتها بكلِّ بساطة / وهذا يُخرج الشِّعر عن خصوصيته وعن اصالته وعن هويته، وهذا في جوهره هوَ الفارق العميق بين قصيدة النثر ذات الإيقاع المتحرك والمتعدد (والقائم جوهراً على إيقاع الجملة أو السطر الشِّعري فقط بعيداً عن التكرار الوزني للتفاعيل الخليلية الكبيرة في الأسطر التالية) والذي يشارك المتلقي بتشكيله وبين القصيدة الكلاسيكية ذات الإيقاع الثابت والمكرَّر، في قصيدة النثر الحقيقية يفاجؤكَ الإيقاعُ كما تفاجؤكَ اللغةُ، وفي القصيدة الكلاسيكية العمودية خصوصاً منها لا تفاجؤكَ القصيدة – في الأغلب - لا بلغتها ولا بإيقاعها، أما في الإيقاع اللغوي الخارجي لقصيدة النثر في هذه المجموعة الشعرية فكما هو مبين في التقطيع العروضي المبين أعلاه والذي يبين انتماء نسيج هذه القصائد لحركة النوى الإيقاعية التأسيسية للشعر العربي : (الوتد علن، والسبب الخفيف فا، والسبب الثقيل فَعَ، وفونيم الصمت أو ما يسميه اللسانيون العرب فونيم المفصل وهو صمتٌ في القراءة عند تتالي أكثر من متحركاتٍ أربع في السطر الشعري / أي أن النسيج الإيقاعيَّ الخارجي لقصيدة النثر يُبنى على تتاليات النُّوى الإيقاعية التأسيسية المشار إليها أعلاه وبحيث لا يتتالى أكثر من متحركاتٍ أربعة في النصِّ الشِّعري) . ملاحظةٌ أخيرةٌ : لم تكن كلُّ قصائد المجموعة بسويةٍ فنيةٍ واحدةٍ، فبعضُها أو معظمُها كان عالياً كالقصائد التي استخدمتها في التحليل وأشرتُ لها في هذه الورقة، وبعضها القليل كان رتيباً ومباشراً خصوصاً في بعض الرسائل في المجموعة وأظنها كانت أنويةً لقصائد استعجل بكتابتها الشاعر تحت ضغط اللحظة التي نعيشُها، نقرأ بعض ذلك في قصيدة « رسالةٌ إليَّ « وهي اقرب قصائد المجموعة لشعر الجملة المكررة والإيقاعات المكرَّرة في قصيدة التفعيلة (الجملة الشعاراتية المباشرة) : «أنا شواهدُ القبور أنا تأريخُ العصور أنا الأممُ الفانياتُ أنا الثواني والدهور أنا سهولٌ مشرعاتٌ على فضاءاتٍ ونور أنا زِقاقٌ معتماتٌ أنا مداميكٌ ودور أنا قِفارٌ مجدباتٌ أنا جنّاتُ الزهور أنا اليأسُ قانطاً أنا بركانٌ يثور أنا النصُّ ظاهرُ النصِّ أنا ما بينَ السطور أنا الحقُّ والباطلُ والجوهرُ والقشور!» ختاماً أبارك للدكتور الشاعر كمال ميرزا إصداره الجديد المميز والذي يحمل عنواناً أيضاً دالاً ويؤشر لحاجة الشِّعر لساعي بريدٍ معاصرٍ لإيصال مضامينه التي ما عاد هناكَ ساعٍ يحملها، وهذه مفارقةٌ خفيةٌ في عنوان هذه المجموعة الناقصِ قصداً فعبارة ساعي البريد لوحدها لا تشكِّل جملةً مكتملةً بل هي نصفُ جملة، وكأن هذا الإبهام في عنوان المجموعة يعطي للقارئ الفرصة للمشاركة بإكمال الجملة الناقصة كأن يقولَ مثلاً : البحثُ عن « ساعي البريد «أو أوراقُ أو رسائلُ « ساعي البريد « ، هذه المجموعة يمكننا أيضاً أن نقرأها كرثاءٍ بعيدٍ لساعي البريد التاريخي الذي ضاع وتمَّ تدميره أمام الفردانية المطلقة للذات المتوحشة والمُستلَبة والمهمَّشةِ والمُهشَّمة والتي لا تسمع إلا صوتها وأنانيتها وغرائزها والتي يغذيها هذا التسطيح للعالم الذي يفقد آلهته القادرة على إنقاذه، والشعرُ العميق هو بعضُ هذه الآلهة.

الشيخ محمد رفعت كما لم نعرفه من قبل.. محطات فى حياة «قيثارة السماء»
الشيخ محمد رفعت كما لم نعرفه من قبل.. محطات فى حياة «قيثارة السماء»

بوابة ماسبيرو

time٠٧-٠٣-٢٠٢٥

  • منوعات
  • بوابة ماسبيرو

الشيخ محمد رفعت كما لم نعرفه من قبل.. محطات فى حياة «قيثارة السماء»

منزل الشيخ كان منتدى ثقافياً وأدبياً وفنياً وكانت تربطه صداقة قوية بمحمد عبد الوهاب من أى نبع سماوى صافٍ يتدفق صوت الشيخ محمد رفعت؟ وكيف صار أحد أهم ملوك مصر المتوجين على عرش التلاوة؟ قد تحتاج الإجابة لكوكبة من الباحثين، لكن جماهير المستمعين غير معنيين بمثل تلك الأسئلة، فما دامت صوته الباكى يأتينا عبر الأثير، يمكننا أن نطير ونحلق فى مدارات النور الإلهى غير عابئين بالدنيا وما فيها. لم يكن غريبا أن يتعلق وجدان المصريين بصوته، فالرجل هو أول من قرأ القرآن فى بث مباشر عبر أثير الإذاعة المصرية يوم افتتاحها عام 1934، ومنذ هذا التاريخ تناقلت الأجيال صوته الشادى، وهام به أهل مصر على اختلاف أعمارهم حتى استحق أن يلقب بـ "قيثارة السماء" لذلك.. يصر أبناؤنا على أن ندير مؤشر الراديو بحثاً عن تلاوته قبيل غروب الشمس، وألا نكسر صيام رمضان إلا على صدى صوت آذانه الشهير.. الكثير عن أبرز المحطات فى حياة الشيخ محمد رفعت تجدونها فى التقرير التالى.. أما عن حياته، فقد اجتهد كثير من الباحثين فى جمع محطاتها البارزة، ومن أبرزهم: الكاتب فؤاد مرسى فى كتاب "معجم رمضان" والذى أشار إلى أن محمد رفعت ولد بحى المغربلين فى منطقة الدرب الأحمر بالقاهرة يوم التاسع من مايو عام 1882.. ولد الشيخ رفعت مبصراً لكنه أصيب بمرض كُف فيه بصره وهو فى الخامسة من عمره، فاتجه به والده إلى نور كتاب الله، وألحقه بكتاب مسجد فاضل باشا بـ "درب الجماميز" حيث أتم حفظ القرآن وتجويده قبل العاشرة، لدرجة أنه راجع والده حين كان يقرأ إحدى الآيات، وكان الوالد يمشى ويرتل الطفل على كتفه، وهنا أنزل الأب محمدا ولطمه على وجهه، وعاد الأب إلى منزله غاضبا ليفتح المصحف ويجد ابنه على حق فى الآية التى صححها. أدركت الوفاة والده، فوجد "رفعت" نفسه عائلا لأسرته، ولجأ إلى القرآن الكريم يعتصم به، ولا يرتزق منه، وأصبح يرتل القرآن الكريم فى المآتم ليوفر لقمة العيش لأمه وأخويه وخالته التى كانت تعيش معهم، حتى عُين فى سن الخامسة عشرة قارئاً للسورة بمسجد فاضل باشا، فذاع صيته، وكانت ساحة المسجد والطرقات تضيق بالمصلين ليستمعوا إلى الصوت الملائكى، وكانت تحدث حالات من الوجد والإغماء من شدة التأثر بصوته الفريد، وظل يقرأ القرآن ويرتله فى هذا المسجد قرابة الثلاثين عاما، وفاءاً منه للمسجد الذى بدأ فيه. القارئ الفنان لم يكتف الشيخ محمد رفعت بموهبته الصوتية الفذة، ومشاعره المرهفة فى قراءة القرآن، بل عمق هذا بدراسة علم القراءات وبعض التفاسير، واهتم بشراء الكتب ودراسة الموسيقى الرفيعة والمقامات الموسيقية، فدرس موسيقى "بتهوفن" و "موتسارت" و"فاجنر"، وكان يحتفظ بالعديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية فى مكتبه، وتعلم العزف على آلة العود. يواصل الباحث فؤاد مرسى: كانت الإذاعة الأهلية قد عرضت عليه أن يسجل الأغانى المأخوذة من الشعر القديم المحترم، ووافق رفعت شريطة عدم ذكر اسمه، فغنى "أراك عصى الدمع" و "وحقك أنت المنى والطلب" و"سلوا قلبى"، لكنه اشترط عدم إذاعة اسمه أو الإفصاح عنه، وبعد إذاعة إحدى الأغنيات التى سجلها تعرف "عبد الوهاب" على صوته. وقد عمل الشيخ رفعت قبل ذلك لجمال صوته منشدا للمدائح النبوية، كما أنه كان صديقاً لمحمد عبد الوهاب وزكريا أحمد وصالح عبد الحى ونجيب الريحانى وبديع خيرى لدرجة أن عبد الوهاب قال إنه كان طفلا واستمع إلى صوت الشيخ رفعت يرتل القرآن بعد صلاة الفجر وكانت البلابل والعصافير وعناقيد الكروانات تسبح كجوقة فى خلفية صوته. مع قرب افتتاح الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية أواخر مايو 1934 عرض عليه سعيد لطفى باشا مستشار الإذاعة أن يفتتح الإذاعة بصوته، وهنا ثار الشيخ رفعت وغضب وقال: "إن كلام الله نزل من السماء ولا يليق بمقامه أن تذاع إلى جانبه الأغانى الخليعة التى تقدمها الإذاعة(!) ومع إلحاح الإذاعة عليه، لجأ الشيخ رفعت إلى الشيخ السمالوطى أحد أعضاء هيئة كبار العلماء ليقول له إنه بعد الإذاعة الأهليه أنشأوا إذاعة يريدوننى أن أقرأ القرآن فيها، وقد قلت لهم: إن القرآن لم يخلق ليرتل أمام الميكروفونات الصماء، فقال له السمالوطى: إن قراءة القرآن حلال فى الإذاعة، وأخذ الشيخ رفعت يلح فى سؤاله ويؤكد له السمالوطى أكثر من مرة أنها حلال، وعليه أن يذهب إلى الإذاعة ويقرأ القرآن، فأعاد رفعت الكرة قائلاً: إنه سيقرأ القرآن والناس يستمعون إليه فى المقاهى والحانات وصالات القمار، فقال له السمالوطى أنت ستتلوا القرآن فى مكان طاهر. أليس كذلك؟ فقال له: نعم. فقال له: لاتخش شيئاً، لكن الشيخ رفعت امتلك ضميرا لا تأخذه سنة واحدة، فذهب إلى شيخ الأزهر نفسه – الشيخ الظواهرى- فقال له: "أعرف ما جئت بتسأل عنه يا شيخ رفعت، وتعال معى وأمسك الشيخ الظواهرى بيد الشيخ رفعت وجعله يتحسس جهازا فى ركن بالبيت إته الراديو أجل يا شيخ رفعت لقد جئت به لأستمع إليك". وعندما افتتحت الإذاعة المصرية يوم الخميس الموافق 31- 5- 1934 كان الشيخ رفعت أول من افتتحها بصوته العذب وقرأ: "إنا فتحنا لك فتحاً مبينا".. وقد جاء صوت الشيخ رفعت ندياً خاشعا وكأنه يروى آذانا وقلوبا عطشى إلى سماع آيات القرآن، وكأنها تُقرأ لأول مرة، فلمع اسم الشيخ، وعشقت الملايين صوته، بل أسلم البعض عندما سمع الصوت الجميل. ففى ذات يوم التقى "على خليل" شيخ الإذاعيين، وكان بصحبته ضابط طيار انجليزى بالشيخ رفعت، فأخبره "على خليل" أن هذا الضابط سمع صوته فى كندا فجاء إلى القاهرة ليرى الشيخ رفعت، ثم أسلم هذا الضابط بعد ذلك. لكن الشيخ رفعت لم يكن مستريحا لتلاوة القرآن فى الإذاعة، حيث كانت تحت سيطرة الاحتلال الانجليزى، لدرجة أنه تم منع الرجل من أن يشرب قهوته داخل الاستديو، رغم أنه يظل ساعة كاملة على الهواء يقرأ. كما أن هناك أحد الانجليز حاول منعه من الصلاة داخل الاستديو قائلا له: "غلإذاعة ليست جامعاً لتصلى فيه" كنوز شيخ التلاوة والغريب أن الشيخ رفعت ظل يقرأ للإذاعة دون أن تسجل له، لذا حين مرض الشيخ لم تجد الإذاعة شيئاً تقدمه له، إلا أنه كان هناك أحد الباشوات ويدعى زكريا مهران، كان كلما استمع لصوت الشيخ قام بتسجيله دون أن يعرف الشيخ رفعت، حيث لم تكن هناك أيه علاقة بينهما، ذلك لأن محمد رفعت كان يرفض التسجيل، لذا تعب أولاده محمد محمد رفعت، الابن الأكبر، وأحمد محمد رفعت وحسين محمد رفعت فى جمع هذه التسجيلات التى كان زكريا باشا مهران قد نقلها إلى موطنه الأصلى فى القوصية - محافظة أسيوط - وحين ذهبوا إليه قال لهم: هذا ما أملكه من تسجيلات الشيخ رفعت وقد بلغ عددها 278 اسطوانة تضم 19 سورة مدتها 21 ساعة. حرفة الزهد.. وغنيمة الرضا ورغم الأموال العديدة التى عرضت على الشيخ رفعت فى حياته، فإنه كان يرفض رفضا باتا التكسب أو السعى وراء المادة، فقد تنافست إذاعات العالم الكبرى مثل: إذاعة برلين، ولندن، وباريس، أثناء الحرب العالمية الثانية، لتستهل افتتاحها وبرامجها العربية بصوت الشيخ محمد رفعت، لتكسب الكثير من المستمعين، إلا أنه لم يكن يعبأ بالمال والثراء، وأبى أن يتكسب بالقرآن، كما عُرض عليه سنة 1935 أن يذهب للهند مقابل 15 ألف جنيه مصرى، فاعتذر، فوسّط نظام حيدر أباد الخارجية المصرية، وضاعفوا المبلغ إلى 45 ألف جنيه، فأصر الشيخ على اعتذاره، وصاح فيهم غاضباً: "أنا لا أبحث عن المال أبداً، فإن الدنيا كلها عرضٌ زائل". ولم يسافر إلا إلى المسجد النبوى الشريف، كما عرض عليه المطرب "محمد عبد الوهاب" أن يسجل له القرآن الكريم كاملا مقابل أى أجر يطلبه، فاعتذر الشيخ، خوفاً من أن يمس اسطوانة القرآن سكران أو جُنُب. صاحب المقام اجتمع فى صوت الشيخ رفعت كل مميزات الحنجرة العربية من الأنغام والأوتار الصوتية الخلاقة، فضلاً عن استيعابه المتصل لمعانى القرآن الكريم، وتمثيله إياها للناس كأنما يلمسونها بالأيدى ويرونها بالأعين، فلا نحس فى نبرات صوته شيئاً من الخروج عن مجرى النغم" وكان يقرأ من جميع النغمات والطبقات، وبالتدرج على الأصوات المرعية فى الأداء، فكان يبدأ بالبياتى، فالحُجاز، فالنهاوند، ثم الرَست، ثم السيكا والرمل والجهاركاه" امتاز محمد رفعت بأنه كان عفيف النفس، زاهداً فى الحياة، وكأنه جاء من رحم الغيب لخدمة القرآن، فلم يكن طامعا فى المال لاهثا خلفه، وإنما كان ذا مبدأ ونفس كريمة، فكانت مقولته: "إن سادن القرآن لا يمكن أبدا أن يهان أو يدان" ضابطة لمسار حياته. وليس شك أن الشيخ محمد رفعت كان ألمع نجوم رمضان. وقد يحسب أبناء الجيل الناشئون من الاستماع إلى أشرطته، أنه كان بلا منافس، وهذا غير صحيح، فقد كان له منافس خطير فى السيدة زينب هو المرحوم الشيخ "ندا".. ولم يكن صوت الشيخ ندا فى حلاوة صوت الشيخ رفعت، لكن صوته كان يمتاز بقوة خارقة. كان إذا رفع صوته من صحن المسجد الزينبى سمعه الناس فى الشوارع المجاورة بلا ميكروفون. ومع تمتع الشيخ بحس مرهف ومشاعر فياضة، فكان أيضاً إنساناً فى أعماقه، يهتز وجدانه هزاً عنيفاً فى المواقف الإنسانية، وتفيض روحه بمشاعر جياشة تجد تعبيراً عن نفسها إلا فى دموع خاشعات تغسل ما بالنفس من أحزان، فقد حدث أن ذهب لزيارة أحد أصدقائه المرضى، وكان فى لحظاته الأخيرة، وعند انصرافه أمسك صديقه بيده ووضعها على كتف طفلة صغيرة، وقال: "تُرى، من سيتولى تربية هذه الصغيرة التى ستصبح غداً يتيمة؟"، فلم يتكلم محمد رفعت، وفى اليوم التالى كان يتلوا القرآن فى أحد السرادقات، وعندما تلا سورة الضحى، ووصل إلى الآية الكريمة" (فأما اليتيم فلا تقهر)، وانقطع صوته بالبكاء وانهمرت الدموع من عينيه كأنها سيل، لأنه تذكر وصية صديقه، ثم خصص مبلغاً من المال لهذه الفتاة حتى كبرت وتزوجت. وعرف عنه العطف والرحمة، فكان يجالس الفقراء والبسطاء، وبلغت رحمته أنه كان لا ينام حتى يطمئن على فرسه، ويطعمه ويسقيه، ويوصى أولاده برعايته، وهو إحساس خرج من قلب ملئ بالشفقة والشفافية والصفاء، فجاءت نغماته منسجمة مع نغمات الكون من حوله. كان منزله منتدىً ثقافياً وأدبياً وفنياً، حيث ربطته صداقة قوية بمحمد عبد الوهاب، الذى كان يحرص على قضاء أغلب سهراته فى منزل الشيخ بالسيدة زينب، وكثيراً ما كانت تضم هذه الجلسات أعلام الموسيقى والفن، وكان الشيخ يغنى لهم بصوته الرخيم الجميل قصائد كثيرة، منها: "أراك عصى الدمع"، أما محمد عبد الوهاب فكان يجلس بالقرب منه فى خشوع وتبتل، وتدور بينهما حوارات ومناقشات حول أعلام الموسيقى العالمية. كان بكاءً بطبعه، يقرأ على الهواء مرتين أسبوعياً من خلال الإذاعة (يومى الثلاثاء والجمعة) مدة 45 دقيقة كل مرة، والدموع تنهمر من عينيه. وقد شاء الله أن يصاب الشيخ محمد رفعت بعدة أمراض لاحقة وجعلته يلزم الفراش، وعندما يشفى يعاود القراءة، حتى أصيب بمرض الفُواق (الزغطة) الذى منعه من تلاوة القرآن، بل ومن الكلام أيضاً، حيث تعرض فى السنوات الثمانية الأخيرة من عمره لورم فى الأحبال الصوتية، منع الصوت الملائكى النقى من الخروج، ومنذ ذلك الوقت حُرم الناس من صوته فيما عدا ثلاثة أشرطة، كانت الإذاعة المصرية سجلتها قبل اشتداد المرض عليه، ثم توالت الأمراض عليه، فأصيب بضغط الدم، والتهاب رئوى حاد، وكانت أزمة الفُواق (الزغطة) تستمر معه ساعات. فى وداع صوت الملاك وحول الأيام الأخيرة فى صوت الشيخ محمد رفعت، ينقل الباحث فؤاد مرسى عن الناقد الفنى كمال النجمى قوله: فى سنة 1943 رأيت مشهداً مبكياً من مأساة القارئ العبقرى صاحب أرقى حنجرة وأسمى فن غنائى فى عصرنا يعتمد على بديهة الارتجال. رأيت مأساته فى لحظات رهيبة تشبه الحلم المرعب، وقد أحاط به مئات المستمعين، وكانت عادتى أن أقصد يوم الجمعة مبكراً إلى مسجد فاضل باشا بالجماميز لأجد مكانا قريبا من الشيخ، فقد كان صوته على تعدد مقاماته واكتماله صغير الحجم لا يستوعب دقة نبراته إلا القريبون من مجلسه. وفى المرة الأخيرة التى سمعت فيها الشيخ كان يتلو سورة الكهف فى المسجد كعادته فقاوم الفراق "الزغطة" التى غص بها حلقه، وقرأ ما سمحت به نوباتها المتكررة ثم سيطرت "الزغطة" على الموقف وملأت حلق الشيخ وحبس صوته تماماً، حنى الشيخ العظيم رأسه، جريح القلب لا يدرى ما يصنع. ثم أخرج من جيبه زجاجة صغيرة فيها سائل أحمر يبدو أنه دواء وصفه له بعض الأطباء، فأطاعه صوته فى آيتين أو ثلاث ثم قهره الداء وتوقف حائراً لبعض الوقت ثم غادر مجلسه تاركاً إياه لشيخ آخر. وفى تلك اللحظة المأسوية انفجر الناس فى المسجد بالبكاء، وعلا نحيب المقرئين الشبان الذين كانوا يلتفون حول الشيخ رفعت كل أسبوع ليتعلموا طريقته وصناعته، وتحول الموقف إلى مأتم رهيب للصوت العبقرى الذى ضاع. وهنا نادى الكاتب أحمد الصاوى محمد بعمل اكتتاب شارك فيه مواطنون من مختلف الأديان وقسس ليسهموا فى نفقات علاجه، لكن أبناءه رفضوا قبول الاكتتاب الذى وصل إلى خمسين ألف جنيه، فزاد إكبار الناس وإجلالهم له، وظل الشيخ رفعت طريح الفراش 9 سنوات مرددا: "أراد الله أن يمنعنى. ولا راد لقضاء الله. الحمد لله"، وفضّل بيع بيته الذى كان يسكن فيه فى حى "البغالة" بالسيدة زينب، وقطعة أرض أخرى، لينفق على مرضه. عندئذ توسط الشيخ أبو العنين شعيشع لدى الدسوقى أباظه وزير المعارف آنذاك، فقرر له معاشاً شهرياً، كما ذهب زكريا مهران إلى الإذاعة وقال إنه على استعداد لأن يهديهم التسجيلات التى لديه شريطة أن يخصصوا معاشاً شهرياً للشيخ رفعت.. وشاء الله أن تكون وفاة الشيخ محمد رفعت فى يوم 9 مايو 1950، فى نفس اليوم الذى ولد فيه، عن ثمانية وستين عاماً قضاها فى رحاب القرآن الكريم

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store