منذ يوم واحد
لماذا خيار حرب شاملة في المنطقة بات مستبعدا؟
بلال التليدي نشر في 19 يونيو 2025 الساعة 22 و 57 دقيقة
إيطاليا تلغراف
بلال التليدي
كاتب وباحث مغربي
عند تعرض إيران لضربة عسكرية قاسية ذهبت بعدد كبير من القيادات العسكرية، تغير كثيرا خطاب تل أبيب، ولم يعد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو يسقف الخيار العسكري بتدمير البرنامج النووي، بل رفع السقف عاليا، وبدأ يتحدث عن تقويض النظام الإيراني، ثم ما لبث أن خفض السقف قليلا، وبدأ يغازل الداخل الإيراني، ويدعوهم إلى استثمار الضربة العسكرية لإحداث حراك داخلي ينتهي بالقضاء على النظام، في إشارة إلى صعوبة الرهان على الخيار العسكري لتحقيق هذا الهدف.
لكن، مع توالي الموجات الصاروخية الإيرانية على الأهداف العسكرية الإسرائيلية، وإقرار الجيش الإسرائيلي بصعوبة تدمير البرنامج النووي بدون مساعدة أمريكية، تدفقت تصريحات المسؤولين الأمريكيين بشكل مثير، وتورط البيت الأبيض في سيولة إعلامية كبيرة تجمع الكثير من التناقض حول ما إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية بصدد التدخل، أم لا؟ وما هي نوعية هذا التدخل، جزئي لاستكمال استهداف مواقع المشروع النووي خاصة الشديدة التحصين (فوردو) أم كلي، لإنهاء النظام الإيراني، و«تطهير» الشرق الأوسط من تهديد إيران ومحاورها؟
لاحظ المراقبون تغيرا نسبيا في تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قبيل اجتماع مستشاريه في الأمن القومي، وبعده، فالتصريحات كان فيها كثير من الحذر والإشارة إلى التداعيات الخطيرة على المنطقة في حال نشوب حرب شاملة، والحديث عن وجود فرصة متبقية للتفاوض حول البرنامج النووي، كما انطلقت تصريحات أوروبية مختلفة تماما عن السابق، وبدت مقولة إتاحة الفرصة للدبلوماسية تتسع بشكل كبير، وتزامن ذلك، مع تصريحات مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافييل غروسي، أول أمس بأنه «لا يوجد دليل على وجود جهد ممنهج لتطوير سلاح نووي في إيران» بعد أن تم التصريح قبل أسبوع فقط، بأن إيران تهدد بتطوير سلاح نووي إذا هوجمت».
الرئيس الأمريكي، لم يحسم قراره، وترك الأمر مفتوحا، والمراقبون يفسرون ذلك بخلاف داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية بخصوص مدى تحمل المصالح الأمريكية بالشرق الأوسط لحرب شاملة بالمنطقة، وبأن قرار الحرب هو اختصاص الكونغرس وليس الرئيس، في حين، ثمة رأي داخل أروقة صناعة القرار الأمريكي، يرى بأن واشنطن تواجه معضلة حقيقية، فترك الحرب الاستنزافية تجري بهذه الوتيرة بين طهران وتل أبيب، يعتبر مضرا بإسرائيل التي استنزفت عشرين شهرا الماضية اقتصاد حربها، والدخول إلى الحرب، ولو بشكل جزئي، يفتح المنطقة على حرب شاملة، يصعب احتواء تداعياتها، أو نزع فتيلها، ولا حتى تصور زمن لنهايتها.
الخلاف الأمريكي الإسرائيلي حول البرنامج النووي الإيراني، هو خلاف جديد وقديم، فتل أبيب، على الأقل كما توضح ذلك دراسة رئيس الأركان إيال زامير التي نشرها بمعهد واشنطن للشرق الأدنى في 2022، ترى أن المشروع النووي الإيراني، لا يتلخص في طبيعته السلمية أو العسكرية، أو في المعدل المقبول أو غير المقبول لتخصيب إيران لليورانيوم، فتل أبيب تحمل عقيدة استراتيجية، ترى أن النظام الإيراني، وعلى وجه التحديد الحرس الثوري، يمثل تهديدا وجوديا لها، وأن هدفه هو صنع القنبلة النووية لإفناء إسرائيل، وأنه لا عبرة، بعمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومراقبتها، فالحل الوحيد هو تدمير هذا البرنامج.
التفاوض حول المشروع النووي بين واشنطن وطهران عرف مسارات متناقضة: إبرام اتفاق نووي في عهد أوباما سنة 2015، ثم إعلان دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي سنة 2018 في مرحلته الرئاسية الأولى، ثم دخوله في مرحلته الرئاسية الحالية في مفاوضات مع طهران، تخللتها تصريحات أمريكية مضطربة، تقول الشيء وعكسه، فتقر بإمكان تبني طهران برنامجا نوويا سلميا مع خفض مستوى التخصيب، ثم ترتد بعد ذلك للحديث عن رفض مطلق لأي منطقة وسط، وألا خيار لإيران سوى التخلي عن برنامجها النووي أو مواجهة ضربة عسكرية تدميرية له.
لقد تبين أن واشنطن مارست خداعا استراتيجيا ضد إيران قبل توجيه تل أبيب ضربة عسكرية مدمرة لها، وناورت بمسار التفاوض لتوفير الشروط اللوجستية والعسكرية والسياسية لتوجيه ضربة استباقية فجائية إلى البرنامج النووي الإيراني، وتبين أيضا أن إخلاء البلدان التي توجد بها قواعد أمريكية من عدد من الموظفين وعائلات القوات العسكرية الأمريكية العاملة بها، كان يعني أن القرار قد اتخذ، وأن واشنطن لاعتبارات استراتيجية أعطت الضوء لتل أبيب لتقوم بالمهمة بدلا عنها خوفا من تداعيات سلبية تضر بمصالحها الاستراتيجية بالمنطقة.
قبل اجتماع الرئيس الأمريكي بمستشاريه للأمن القومي، اتجهت تصريحاته في منحى التصعيد، في محاولة لمراوغة الحليف الإسرائيلي الذي قدم أكثر من طلب من أجل انضمام واشنطن للحرب، مدعم بجملة إغراءات تحفز ترامب إلى عدم تضييع هذه الفرصة التاريخية، سواء بالتخلص من البرنامج النووي أو بالقضاء على النظام الإيراني.
تغير الخطاب الأمريكي بشكل كامل مع الموجات الصاروخية الإيرانية الثلاثة الأخيرة، وذلك بعد أن تضاءلت نسبة اعتراضها من قبل أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية، وتغير معادلة الهجمات الإيرانية، بتقليص عدد الصواريخ، وتوسيع الأهداف وتضخيم كلفة الاستهداف، إذ انطلقت عقب هذه المعادلة الجديدة مسارات دبلوماسية كثيفة لفسح المجال للتسوية السياسية.
الرئيس الأمريكي، أفاد كثيرا من هذه الحركات، سواء كانت من طرف موسكو، أو تركيا أو بعض الدول العربية، أو من الدول الأوروبية، فقد كان يخير إيران بين الاستسلام أو المواجهة العسكرية، لكن بعد إصرار إيران على الاستمرار في الدفاع عن أرضها، ورفضها للاستسلام، بدا هذا الحراك، في تصوره، كما لو أنه يعيد طرح موضوع التفاوض من جديد، دون أن يكون الخيار المقابل هو تهديد بضربة عسكرية أمريكية لإيران.
في الواقع، كان بالإمكان أن نتصور بدقة أسباب التحول في الخطاب الأمريكي لو كانت تل أبيب سمحت بقدر من الإعلان عن نتائج الضربات العسكرية الإيرانية، لكن، في ظل تعتيم إعلامي تحت طائلة متابعات قضائية، فإن المتاح في قراءة المؤشرات يعتمد تفسير تغير الخطاب الأمريكي، والتحركات الأوروبية من جهة ثانية، والمؤسسات الدولية، التي استعملت في السابق لتبرير الهجوم العسكري على إيران، وبالأخص الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
هذه المعطيات جميعها، تسمح بالقول بأن المستوى الذي بلغته الهجمات العسكرية الإسرائيلية على إيران لحد الآن، ورغم كلفتها الكبيرة بالنسبة إلى طهران، لكنها قياسا إلى الرد الإيراني، وإلى معادلة الردع، وإلى الأهداف المرجوة، سواء كانت جزئية أو كلية، لم تحقق أي هدف لا جزئي ولا كلي، بل سمحت بشكوك كبيرة حول «النصر الإسرائيلي» المزعوم، وحول مدى قدرة واشنطن الدخول للحرب، فالأقرب إلى الاستشراف في ظل ما توفر من مؤشرات، أن واشنطن ستمضي بكل قوة في استجماع عناصر التهديد (التحركات العسكرية بكل مستوياتها في المنطقة) وممارسة الضغط السياسي على إيران، لكن دون أن تحسم موقفها من الدخول في الحرب، لأن التقدير الاستراتيجي، يرجح لديها التوقف عند الأهداف التي تحققت في هذه الحرب والرهان على التحرك الدبلوماسي لوقف الحرب.
ليس هناك مبرر اليوم لتعنت واشنطن في موضوع التخصيب، فالهجمات التي تلقتها المواقع النووية الإيرانية، من دون شك أرجعت عقارب الساعة إلى الوراء، وليس هناك شك أن عودة إيران لمستوى ما قبل الحرب، سيتطلب منها جهودا كبيرة ربما تستغرق بضع سنوات، ثم إن طهران لا تشترط لوقف الحرب سوى توقيف الهجمات الإسرائيلية، وهي منفتحة على «حلول وسط» في موضوع البرنامج النووي، وأنها ستبقي على تعهدها بعدم استعمال البرنامج النووي لأهداف عسكرية.
السابق
ثلاثة سيناريوهات محتملة لحرب إسرائيل وإيران
التالي
كيف يخطط نتنياهو لسيادة الشرق الأوسط عبر ضرب إيران؟