logo
#

أحدث الأخبار مع #بيكود

"موبي ديك" .. عندما تتحول غزة إلى سفينة ترفض الغرق
"موبي ديك" .. عندما تتحول غزة إلى سفينة ترفض الغرق

عمون

timeمنذ 3 أيام

  • سياسة
  • عمون

"موبي ديك" .. عندما تتحول غزة إلى سفينة ترفض الغرق

في قلب رواية 'موبي ديك'، للروائي الأمريكي هيرمان ملفيل، نجد قبطانًا مهووسًا يُدعى أهاب، يقود سفينته 'بيكود' في مطاردة مجنونة لحوت أبيض ضخم، لا لكونه خطرًا، بل لأنه يُجسد جرحًا داخليًا، وهمًا بالسيطرة، وانتقامًا غير مبرر. ومع مرور الصفحات، ندرك أن القصة ليست عن الحوت، بل عن الجنون البشري حين يتجسد في القادة، وصمت الجماعة حين تُساق إلى الهاوية. وعند النظر إلى ما يحدث اليوم في غزة، تبدو هذه الرمزية أكثر واقعية من أي وقت مضى. الحوت الأبيض هنا ليس كائنًا بحريًا، بل شعبٌ محاصرٌ، أعزل، يُراد له أن يُمحى لأنه لا يستسلم. أما السفينة، فهي آلة الحرب التي يقودها قبطان أعمى، يرى في مقاومة الفلسطينيين خطرًا وجوديًا، لا يقبل بوجودها، ولا يهدأ حتى يُبيدها. وتتحول غزة، كما كانت السفينة 'بيكود'، إلى ساحة معركة غير متكافئة، لكنها مختلفة في النتيجة والمبدأ: ففي غزة، من يقاوم هو المظلوم، وهو من ينجو بكرامته، لا من ينجو من الغرق فحسب. أهاب المعاصر… جنون الاحتلال وأسطورة السيطرة القبطان أهاب، في الرواية، يمثل نموذج القيادة المهووسة بالقوة والانتقام. لا يسعى لتحقيق العدالة، بل لفرض مشيئته على الكون. هذا تمامًا ما نراه في سلوك الاحتلال الإسرائيلي تجاه غزة. إن ما يجري ليس مجرد حملة عسكرية، بل مطاردة للكرامة الفلسطينية كما لو كانت جرمًا، سعيٌ محموم لمحو الوجود، لا لكسب أرض أو أمن. الاحتلال، في هوسه، لا يرى غزة كمدينة مأهولة بالبشر، بل كـ'موبي ديك' يجب سحقه. يقصف المستشفيات، المدارس، البيوت، المساجد والكنائس، تمامًا كما مزّق أهاب البحر غير آبهٍ بمن على سفينته. وفي كل مرة، يتصور أنه سيُنهي 'الأسطورة الفلسطينية'، لكنه يُعيد إنتاجها أقوى، وأصلب، وأشد التصاقًا بالأرض. 'أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم…' (الجاثية: 23) هكذا يبدو الاحتلال، يتّبع هواه، ويعتقد أن القوة تُبرر كل شيء، لكنه في الحقيقة يبتعد عن الفطرة، عن الأخلاق، عن الله. غزة… السفينة التي لا تغرق في الرواية، كانت 'بيكود' تسير نحو الغرق، فيما الطاقم صامت، تائه، أو خاضع. لكن غزة ليست كذلك. غزة ليست طاقمًا من المطيعين، بل من الرافضين. من نساء وأطفال ورجال ومُصابين يرفعون رؤوسهم رغم الحصار، ويكتبون بدمهم أن الإنسان، حين يتصل بالأرض والحق، لا يُقهر. غزة اليوم تشبه الناجي الوحيد في الرواية، 'إسماعيل'، الذي لم يكن يملك سلطة ولا قوة، لكنه نجا لأنه كان واعيًا، شاهدًا، حافظًا للحكاية. غزة هي هذا الشاهد الجماعي، تقول للعالم: 'نحن هنا، لم نمت، لم نغرق. بل أنتم من يغرق في صمتكم وتواطئكم'. 'ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا، بل أحياء عند ربهم يُرزقون' (آل عمران: 169) بهذه الآية، ترد غزة على من يتخيل أن إزهاق الأرواح يعني الانتصار. الحوت الأبيض… الحقيقة التي لا تُهزم الحوت في الرواية لم يكن عدوًا حقيقيًا، بل رمزًا لقوة لا يستطيع الإنسان ترويضها، تمامًا كغزة. هي الحقيقة التي لا يريد البعض الاعتراف بها، الصوت الذي لا يمكن إسكاته. كلما حاول الاحتلال القضاء على غزة، كلما أعاد خلقها. وغزة، في رمزية الرواية، ليست حوتًا ولا ضحية، بل الآية التي تفضح الطغيان. هي مرآة تكشف عُري 'أهاب العصر'، وتكشف للعالم أن من يملك السلاح لا يملك بالضرورة الحق، وأن من يُقاوم في أضعف ظروفه، هو الذي يُعبّر عن عمق الإنسانية. 'سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم…' (فصلت: 53) وغزة هي من الآيات الظاهرة في هذا الزمن الباهت. غزة لا تروي الحكاية… بل تصنعها إسماعيل في الرواية روى القصة، لكنه لم يوقفها. أما غزة، فهي لا تروي فقط، بل تصنع التاريخ وهي تحت القصف. تُنجب الشهداء وتزرع الحكاية في الذاكرة، وتحفظ الإنسان من التحول إلى رقم. في كل بيت مدمر، طفل يُولد. في كل مجزرة، قصيدة. في كل وجع، مقاومة. غزة تُسقط الرمزية القديمة، وتعيد تعريف النصر: ليس بمن يبقى على قيد الحياة فقط، بل بمن يبقى على قيد الكرامة. موبي ديك، حين تُقرأ اليوم، لا تبدو رواية عن البحر، بل عن العالم. لا عن الحوت، بل عن فلسطين. وكأن ملفيل، دون أن يدري، كتب قصة أرض لا تُهزم لأنها لم تُفرط في ذاتها.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store