منذ 14 ساعات
تركي الدوسري.. لغة بصرية مخاتلة
ينمو المنجز الفني ويتسامى لدى الفنان على حسب قدرته التقنية وإمكاناته الفنية وتطور محمولة الثقافي واتساع رؤيته البصرية وجرأته التجريبية في خوض غمار مساحات جديدة من التقنية والفكر والفلسفة في عمله الفني، كل ذلك ينعكس على سرعة تطوره وتناميه، وعادة ما يكون التنامي مطرد مع جدية الممارسة وتواصل الشغف والإصرار على الوثب بخطوات مدروسة ومقننة وربما مجنونة، ليصل إلى منطقة من التفرد قلما اقترب منها أحد قبله، ولعل هذا ما يميز الفنان تركي الدوسري في طرحه المغاير ولغته البصرية واللفظية المصاحبة لمنجزه الفني الذي وصل له بعد عدة مراحل خاضها بتمكن بدءاً بواقعية البدايات التي انطلقت قبل العام 1980م ونمت بشكل طبيعي إلى تأثيرية ما بعد البدايات ومحاولات تجريدية أتقن فيها بتمكن ووصولاً لجنون السريالية التي تميز فيها بإنتاج خصب ورؤي مبهرة وأعمال غنية لونياً ومتنوعة فكرياً، ولم يكتف الدوسري بهذه المراحل التي كان مبهراً في كل منها بل اختط لنفسه شخصية فنية جمعت بين استنطاق الأشياء وإعادة توظيفها بمستويات بصرية ولغوية تحمل أكثر من مستوى من مستويات التلقي في لغة مخاتلة حمالة أوجه تدعو للتفكير والتدبر والقراءة العميقة والظاهرية وما فوقهما، فاستخدامه للغة المكتوبة أو اللفظية في أعماله المجسمة التي اعتنى فيها بكل التفاصيل لم تكن عناوين أو عبارات شارحة وإنما كانت أشبه بنصوص شعرية تتناغم مع عمله الفني وتكمله بل تكون جزءًا منه أشبه بمقطوعة غنائية لا تنفصل الكلمة فيها عن اللحن ولا تكتمل إلا مع النغم لتصل بصوت مؤدٍ عذب، فكل عمل قدمه تركي الدوسري هو أغنية مكتملة الأركان تطرب بحالة تتوافق أو تتباين مع ما يلها من أعمال أخرى.
اشتغال الفنان تركي الدوسري مؤخراً على إعادة صياغة الموجودات من الأشياء وإخراجها من سياقها المعتاد إلى سياق أكثر اتساعاً وتوظيفاً لم يكن محض صدفة بل نتج عن جرأة في عمله وإصرار على أن يكون عمله الفني أكثر دهشة ومفاجأة للمتلقي سواء من دقة الإتقان التقني وجمال الإخراج والتوظيف المختلف للموجودات المسبقة الصنع وصولاً إلى اللغة التي يستخدمها بتمكن شعري وفكري تضيف للعمل أبعاداً فلسفية تجعل العمل يلازم فكر المتلقي حتى بعد مغادرة المكان والمعرض، كل هذا لم يكن صدفة أو بشكل طارئ وإنما تنوع اشتغالات الفنان تركي الدوسري بين تصميم المجوهرات من جهة، وكتابته في الفنون البصرية مبكراً بين عام 1981 وحتى عام 1986م بالصحف المحلية مثل صحيفة الجزيرة وصحيفة اليوم، والتي كتب فيها بزاويتين فنية من خلال زاوية (بالريشة) و(عذابات الألوان) من جهة أخرى أكسبته لغة شاعرية بالإضافة للغته البصرية المتمكنة من الممارسة وجرأته في التجريب وكسر كثير من القواعد التي يراها رتيبة لا توافق جنون أفكاره، والتي قال عنها الفنان خوسي كونرادو من إسبانيا -إبان معرض تركي الدوسري في إسبانيا عام 2006م-: (فيقول عن أعماله إن نظرة الفنان الواسعة في الاستهلاك اليومي مثل ذلك عمله ونظرته في اللسان الثعباني للمرأة، وهو في الحقيقة شيء رائع ومبدع. ويقول: أنت رجل من الصعب فهمك، لأنك فنان خاص مثل بيكاسو ودالي، هؤلاء الناس كان يقال عنهم إنهم مجانين في أعمالهم الفنية، وأنا أرى فيك نفس أجوائهم الغرائبية المبدعة).
تجارب الفنان تركي الدوسري الأخيرة تحتمل كثيراً من الإبداع والجنون وتنظر مساحة أوسع لتأخذ حقها من العرض والرؤى الفنية المستحقة فهو فنان مختلف بطرحه المعاصر ولغته البصرية واللفظية المميزة والمخاتلة في وقت واحد معاً.