منذ 8 ساعات
صالح جودت.. مدّاح الزعماء وصوت الشعر في بلاط الفن والسياسة
بمناسبة ذكرى وفاته..
في مثل هذا اليوم وتحديدا 22 يونيو عام 1976، رحل عن عالمنا الأديب والشاعر صالح جودت، أحد أعمدة الشعر العربي في القرن العشرين، الذي مزج بين رهافة الحس الشاعري وصلابة الكلمة السياسية، وكان مقربًا من السلطة إلى حد أن لُقّب بـ"مدّاح الزعماء".
ورغم قربه من القصور، لم يكن أداة سياسية صمّاء، بل شاعرًا مبدعًا كتب للوطن والحب والفن، وترك بصمة لا تُمحى في الحياة الثقافية والفنية المصرية والعربية.
البدايات.. من شوقي إلى عبد الوهاب
لم تكن رحلة صالح جودت مع الشعر مجرد تمرين لغوي، بل علاقة حية بدأت في قلب الوسط الثقافي، وتوثقت منذ الأربعينيات حين التقى بصديقه القديم محمد عبد الوهاب، الذي كان يجاوره في مجلس أمير الشعراء أحمد شوقي، وكان اللقاء بين جودت وعبد الوهاب سببًا في إطلاق أولى أعماله الغنائية الكبيرة، حين كتب أغنية "الفن"، التي حملت مديحًا فنيًا موجهًا للملك فاروق، وقال فيها:
الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها نجوم غير النجوم من حسن منظرها
ثم مضى في الأبيات ليقول:
والفن مين شرّفه غير الفاروق ورعاه؟
نجحت الأغنية نجاحًا لافتًا، وصارت بمثابة نشيد للفنانين، وكانت بداية رسمية لتحول "جودت" إلى شاعر يرتبط اسمه بالملوك والزعماء، ويُشار إليه بـ"شاعر البلاط" أو "مدّاح الزعماء".
بين الملوك والرؤساء.. مدائح تمتد من فاروق إلى عبد الناصر
امتد خط المديح الشعري عند صالح جودت ليشمل ملوكًا وزعماء عربًا، فكتب قصيدة "يا رفيع التاج" بمناسبة زيارة الملك عبد العزيز آل سعود لمصر، وغنّاها عبد الوهاب، كما كتب لفريد الأطرش كلمات أغنيته في زفاف الملك الحسين بن طلال على الملكة دينا: "يا أغلى من أمانينا.. وأحلى من أغانينا.. يا زينة الدنيا يا دينا".
ومع قيام ثورة 23 يوليو 1952، لم يتراجع صالح جودت، بل تأقلم مع المتغيرات الجديدة وأصبح شاعرًا لثورة يوليو، فكتب أغنيات تمجّد إنجازاتها، كما غنّى له عبد الوهاب "حرية أراضينا فوق كل الحريات"، وكتب أيضًا لأم كلثوم في ذكرى طلعت حرب من ألحان رياض السنباطي.
وبعد نكسة 1967، كتب قصيدته التي غنّتها أم كلثوم من ألحان السنباطي أيضًا:
قم واسمعها من أعماقي.. فأنا الشعب
ابق فأنت السد الواقي لمُنى الشعب
في تلك القصيدة، صوّر "جودت" العلاقة بين الشعب وعبد الناصر بصورة شاعرية وطنية، عزّزت حضوره في وجدان الجماهير.
شاعر الغناء.. ما بين فريد الأطرش ونجاة ووردة
امتلك صالح جودت حاسة شعرية موسيقية جعلته من أبرز شعراء الأغنية في عصره، فقدّم لفريد الأطرش عدة روائع منها: يا زهرة في خيالي، اسأل الفجر والغروب، يا شمس قلبي وضله، أيا مالكة القلب، الشرق والغرب (أوبريت مشترك مع أسمهان).
كما كتب لقيثارة الغناء ليلى مراد أغنيتي "المياه والهوا" و"رايداك والنبي رايداك" في فيلم "شاطئ الغرام"، ووضع كلمات أغنيات لمحمد فوزي مثل "يا جارحة القلب بعيونك" و"لغة الورود".
ومن أشهر أعماله العاطفية أغنية "أحبك أحبك" التي غنتها شادية من ألحان عبد الوهاب، بينما غنى له عبد الحليم حافظ أغنية "الويل الويل".
من ألمظ إلى وردة.. وصوت القدس في "الثلاثية المقدسة"
لم تقتصر إسهامات "جودت" على الأغنية العاطفية والوطنية، بل كتب أيضًا كلمات أغاني الفيلم "ألمظ وعبده الحامولي"، وكتب لوردة الجزائرية أعمالًا خالدة مثل: روحي وروحك حبايب (لحن: فريد الأطرش)، يا نخلتين في العلالي (لحن: بليغ حمدي)، واسأل دموع عينيا (لحن: محمد عبد الوهاب)، كما تغنّى عادل مأمون بكلماته في أغنية "ياللي سامعني" من ألحان كمال الطويل، وهي واحدة من أجمل الأغاني الرومانسية في ذلك الزمن.
أما الجانب الروحي في شعر جودت، فقد تُوّج بـ"الثلاثية المقدسة"، التي غنّتها أم كلثوم من ألحان رياض السنباطي، وفيها رسم ملامح الحب الإلهي والروحي، متنقلًا بين مكة والمدينة والقدس، في عمل شعري وموسيقي بالغ التأثير.
جوائز وتكريمات
نال صالح جودت خلال مسيرته الحافلة عددًا من الأوسمة والجوائز الرفيعة، منها: وسام النهضة الأردني (1951)، وسام العرش المغربي (1958)، وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى (1959)، ميدالية العلوم والفنون، جائزة أحسن قصيدة غنائية في السد العالي (1965)، جائزة الدولة التشجيعية في الآداب (1958)، وبعد وفاته بعام، أصدر الأديب محمد رضوان دراسة بعنوان "شاعر النيل والنخيل" تكريمًا له وإحياءً لإرثه الشعري والإنساني.