logo
#

أحدث الأخبار مع #جاناأورتيغا

حِشمة "كان"...وإعادة تعريف الأناقة والخوف والتمرد
حِشمة "كان"...وإعادة تعريف الأناقة والخوف والتمرد

المدن

time١٥-٠٥-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • المدن

حِشمة "كان"...وإعادة تعريف الأناقة والخوف والتمرد

مع انطلاقته هذا الأسبوع، أصدرت إدارة مهرجان "كان" السينمائي قواعد جديدة للملابس، موجهة تحديداً نحو النساء، تقضي بمنع "التعري" على السجادة الحمراء وجميع فعاليات المهرجان. إلى جانب حظر الأزياء الضخمة، خصوصاً تلك ذات الذيل الطويل، لأنها تعيق حركة الضيوف، فيما تم تبرير الشق الأول من القرار بأنه يتماشى مع القوانين الفرنسية ويركز على "الأناقة" و"اللياقة" ضمن "ميثاق جديد للمهرجان يحدد السلوكيات المتوقعة من الضيوف" يفضل أصحابه التركيز على الملابس الكلاسكية مثل البزات الرسمية والفساتين الطويلة. ولا يعتبر مهرجان "كان" مجرد حدث سينمائي سنوي، بل هو واحد من أبرز الفعاليات الثقافية التي تؤثر في الكوكب ككل وتعكس دوراته وتقلباتها المزاج العام في الثقافة العالمية أيضاً، بشكل يجعل القواعد الجديدة ربما انعكاساً للثقافة المحافظة التي لا يمكن إنكار حضورها بشكل طاغ عالمياً من جهة، بدليل انتشار موسيقى الكانتري الريفية وانحسار ثقافة البوب الشعبية التي حضرت بين الثمانينات ومطلع الألفية... والهوس العالمي بالجسد البشري من جهة ثانية، بسبب التسارع العلمي الذي يمس بتلك البنية الهشة التي نتشاركها جميعاً، ليس فقط على الصعيد الطبي التي تجعل أسئلة مثل "هل يمكن العيش للأبد؟" ممكنة، بل أيضاً من ناحية عمليات التجميل والذكاء الاصطناعي والشرائح المثبتة في الدماغ وغيرها من وقائع باتت يومية وليست ضرباً من الخيال العلمي. وفيما يتحدث السياسيون المحافظون واليمينيون المتطرفون حول العالم عن انزعاجهم من الحياة المعاصرة ورغبتهم بالعودة إلى عالم أبسط من منظور جندري وجنساني لا يتواجد فيه المثليون والعابرون جنسياً ولا السيولة الجندرية ولا ثقافة الووك (اليقظة) مع تحديد أدوار الرجل والمرأة، بشكل يشبه مطلع القرن العشرين، يمكن استذكار صور تاريخية لعناصر من الشرطة في دول أوروبية متعددة وهم يقيسون طول تنانير النساء للتأكد من ملاءمتها للحشمة، علماً أن الحنين لذلك الزمن يتعدى السياسة بل يشكل تياراً شعبياً جارفاً اليوم، يتمثل في الأزياء القديمة المستوحاة من الجدات وجدات الجدات، وفي الديكور الداخلي والتصميم العمراني وتجارة المفروشات القديمة (Vintage)، وهو ما يجعل من أفراد في مطلع عشرينياتهم يبدون وكأنهم أكبر من سنهم بالضعف، ما يطرح أسئلة مستمرة حول أعمار النجوم الشباب مثل ميلي بوبي براون أو جانا أورتيغا كمثال على ذلك النمط. وفيما يتم الزج باسم بيانكا سينسوري، زوجة مغني الراب المنتمي لليمين المتطرف والمعادي للسامية كاينيه ويست، كمثال على التعري الفاحش، بسبب ظهورها في حفلة جوائز "غرامي" الأخيرة قبل أشهر، مرتدية ثوباً شفافاً بالكامل كشف عن كامل جسدها، فإن تلك الحالة استثنائية ولا يمكن تعميمها على كافة النساء، خصوصاً النجمات والفنانات والناشطات اللواتي قد لا يرغبن بإظهار جسدهن والتحكم فيه كما يردن، كنوع من التعبير عن الذات في مجتمعات حرة، بل أيضاً قد يردن استخدام ذلك الجسد كأداة للتعبير أو السخط الاجتماعي والاحتجاج، مثلما كانت تفعل أسماء أيقونية مثل مادونا التي مازالت منذ ثمانينات القرن الماضي تحرص على حضور راقصات مكشوفات الصدر في جولاتها الموسيقية كنوع من المطالبة بالمساواة الجندرية خصوصاً بعد طردها من الفاتيكان الذي قال أنها "الفنانة الأكثر شيطانية في تاريخ البشرية"، أو كريستينا أغيليرا التي اختارت الملابس القصيرة مطلع الألفية لتقديم صدمة بصرية، خصوصاً بنطالها الشهير في أغنية "ديرتي" العام 2002، التي كانت صرخة في وجه الجو المحافظ الذي أراد تنميطها والتحكم في جسدها وخياراتها بوصفها "أميرة للبوب". وبيانكا سينسوري بالتحديد كانت ضحية، لم تختر على الأغلب ملابسها، إذ قالت وسائل إعلام أميركية أن ويست أجبرها على ارتداء الفستان الشفاف من أجل خلق حدث يجذب الأضواء إليه، كما ظهر بشكل واضح أمام الكاميرات وهو يأمرها بالتعري على المسرح، ما جعل معلقين في وسائل إعلام كبرى يتساءلون إن كانت سينسوري ضحية لنوع من الاتجار بالبشر، خصوصاً بسبب العلاقة التي تجمع ويست مع شخصيات متهمة أو مدانة بسوء السلوك الجنسي مثل مغني الراب ديدي على سبيل المثال. في ضوء ذلك، يصبح قرار مهرجان "كان" الأخير، تعبيراً عن هواجس أعمق تتعلق بجسد المرأة، وحدود التعبير، والمخاوف الثقافية المتزايدة تجاه ما يفترض أنه "خارج السيطرة". وفيما ارتبط المهرجان منذ نشأته بقيم الحرية والأناقة، وبنوع من البريق الصاخب الذي يكسر القواعد أحياناً ليصنع الحدث، يبدو اليوم وكأنه يعود إلى دور أشبه بشرطي الذوق العام. والسؤال هنا لا يمس فقط ما إذا كانت القواعد الجديدة ضرورية، بل يتعدى ذلك نحو السؤال: من يقرر أصلاً ما هو اللائق وما هو غير اللائق؟ سواء على المسارح وأمام الكاميرات أو في الحياة اليومية في الشارع؟ وهل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين زمن أكثر تسامحاً مع حرية الجسد والتعبير، خصوصاً بالنسبة للنساء، أم أن البشرية تعود إلى رقابة مغلفة بأقنعة "الذوق" ومعايير "الأناقة"؟ ويمكن إيجاد إجابات عن تلك الأسئلة، أو على الأقل رؤيتها ضمن قوالب فنية، في مكان غير متوقع، مثل أفلام الرعب المعاصرة التي تتقلب ثيماتها بحسب المخاوف الجمعية العامة التي يحركها الإعلام والثقافة والسياسة. أفلام وقصص مصاصي الدماء مثلاً، مرّت بحسب دراسات ذات صلة، بموجتين، منذ القرن الثامن عشر على الأقل حتى اليوم. الأولى تظهر مصاصي الدماء كوحوش مخيفة، والثانية تقدمهم بصورة جميلة ورومانسية. وتعكس الحالتان معاً هوساً بالجسد البشري والرؤية الجمعية له والمخاوف العامة في كل حقبة مهما اختلفت مدتها. والتركيز في أفلام الرعب على الثيمات المخيفة والوحشية يعني تصديراً لتلك المخاوف ضمن قالب فني. والتخلي عنها لصالح الأنسنة والرومانسية، يعني تصالحاً أكثر هدوءاً وابتعاداً عن الاستقطاب. واليوم تشهد السينما العالمية موجة من الأفلام القائمة على الرعب الذي يتخطى الرعب النفسي نحو رعب الجسد، وهو ما يمكن ملاحظته في فيلم "The substance" الذي أكسب النجمة العالمية ديمي مور ترشيحها الأول للأوسكار ونال ثناء كبيراً، فيما يمكن استذكار عشرات المسلسلات التي عرضتها "نتفليكس" طوال العقد الماضي، بين الرعب والخيال العلمي، وطرحت أسئلة حول الجسد البشري ومعنى أن يكون المرء إنساناً، خصوصاً بعد جائحة كوفيد 19 التي أعادت التذكير بهشاشة ذلك الكيان الذي نتشاركه، بموازاة الاختراقات العلمية مثل شرائح إيلون ماسك الدماغية التي تعيد قدرات مفقودة لدى مرضى مصابين بالعمى أو الشلل! وفيما يصبح الجسد مركزاً للصراع النفسي والاجتماعي والرمزي في السينما والتلفزيون، فإن الفن يعكس فقط قلق الإنسان من فقدان السيطرة على جسده بوصفه أكثر ممتلكاته حميمية، ما يدفع بالتالي نحو المحافظة السياسية والثقافية والأخلاقية لدى كثيرين بوصفها مكاناً مألوفاً وبسيطاً بشكل يستفيد منه السياسيون ورجال الدين وغيرهم من قادة الرأي وصنّاع القرار، لتقديم أنفسهم كحماة لذلك الجو الذي يهدف "الآخرون" إلى تدميره والعبث بنقائه، مع تغير هوية ذلك الآخر، تبعاً للظروف والمجتمع. وفيما يحاول الأفراد، بما في ذلك الفنانون والقائمون على الثقافة، كمؤسسات، بشكل واع أو غير واع، حماية أجسادهم الذاتية وأجساد الآخرين، فإن تلك الحماية تتوسع أحياناً لتأخذ شكلاً رقابياً، مقصوداً أو غير مقصود، كما يحدث في "كان" اليوم. وطبعاً، فإن الهوس بالجسد وضبطه يحضر بهذه الصورة في المجتمعات الغربية التي تتواجد فيها قيم الحرية والمساواة، لكنه يحضر بشكل أكثر قمعية وصدامية في أماكن أخرى من العالم. ففي الشرق الأوسط، وعلى وجه التحديد في ظل الأنظمة الاستبدادية، لطالما كان جسد المرأة ساحة معركة سياسية وثقافية. في إيران مثلاً، يفرض الحجاب بالقوة وتسجن النساء لمجرد كشف خصلات من شعرهن. وفي سوريا، باتت حرية النساء من أبرز تحديات المجتمع بعد سقوط نظام الأسد مع تيارات تدعو للحشمة والنقاب والحجاب، وتيارات تدعو للحرية الفردية. مقارنة ذلك كله مع ما يحدث في مهرجان "كان"، قد تبدو مبالغة، لكن جوهر المسألة واحد: الخوف من الجسد الحر، من التعبير غير الخاضع للسلطة، سواء كانت سلطة سياسية أو ثقافية أو حتى فنية. وعندما يفرض مهرجان سينمائي عالمي قواعد "احتشام"، فلعله لا يختلف كثيراً عن تلك الأنظمة التي تفرض الحجاب أو تمنع الرقص والغناء. في الحالتين، يتم التعامل مع جسد المرأة باعتباره ملكاً جماعياً، لا خصوصية فيه، ولا حق للفرد في تقرير مصيره. وإن كان الحديث يتم عن ملابس المرأة هنا، فإن ذلك لا يعني أن جسد الرجل يغيب عن النقاش، لأن الصورة الذكورية المفترضة للرجل تتكرس بدورها ضمن دوائر أخرى والسؤال الجوهري هنا: ما هي الحرية؟ هل هي فقط حرية ارتداء ما نحب، أم هي حرية أن نكون ما نريد، بلا خوف من الحكم أو العقاب؟ وربما ما يُخيف مهرجان "كان" ليس الفستان الشفاف، بل ما يمثله: امرأة تقول بجسدها "أنا هنا، وسوف أُرى كما أريد". ومثل هذه الجملة، باتت في هذا الزمن، فعل مقاومة حقيقياً مرة أخرى وكأن الزمن عاد للوراء بدلاً من التقدم للأمام.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store