#أحدث الأخبار مع #جونهوفيلد،الجريدة١١-٠٥-٢٠٢٥صحةالجريدةالبصمة الوراثية وتحوير جينات الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي... نقلة علمية ومسؤولية أخلاقيةفي هذا العصر المتسارع، تتقاطع علوم الوراثة والذكاء الاصطناعي لتشكّل معا ثورة علمية غير مسبوقة تمس جوهر الإنسان، وتطال تركيبته الجينية وصفاته الوراثية، وتفتح آفاقاً واعدة في مجالات التشخيص والعلاج والوقاية. هذه الثورة لا تتوقف عند حدود المختبرات، بل تتغلغل في قضايا تمس الأخلاق والدين والهوية الإنسانية، وتستدعي منا كأطباء وفقهاء وعلماء اجتماع موقفاً علمياً متزناً يراعي التكامل بين مصلحة الإنسان وحمايته. وفي ظل هذه التحولات الكبرى، تعقد المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية مؤتمرها الدولي السنوي في الكويت، الخميس 15 مايو الجاري، تحت رعاية كريمة من سمو ولي العهد، لتناقش موضوعا من أعقد قضايا الطب المعاصر: تحرير الجينوم والبصمة الوراثية في عصر الذكاء الاصطناعي. ويهدف المؤتمر إلى بناء رؤية إسلامية موحّدة تُسهم في تقنين استخدام هذه الأدوات الجديدة ضمن أطر شرعية وأخلاقية تحفظ كرامة الإنسان وتواكب المستجدات العلمية. الذكاء الاصطناعي وتحوير الجينات: نقلة علمية وتطبيقات دقيقة شهد العقد الأخير تطورات مذهلة في علم الوراثة، أبرزها اعتماد تقنية CRISPR-Cas9 التي تتيح تعديل الحمض النووي البشري بدقة غير مسبوقة. إلا أن الإدماج المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي مع علوم الجينوم، أحدث تحولاً نوعياً في فهم الجينات البشرية التي تُقدّر بنحو 20 إلى 25 ألف جين. أصبح بالإمكان تحديد وظيفة كل جين، وتحليل تأثيراته التفاعلية، والتنبؤ بتحولاته الوراثية، فضلاً عن تصميم علاجات طبية شخصية وفقاً لبصمة كل مريض. وقد برزت هذه النقلة النوعية بوضوح حين منحت جائزة نوبل في الطب لعام 2024 لثلاثة علماء، هم: • جون هوفيلد، لتطويره نماذج ذكاء صناعي لمحاكاة قراءة الجينات. • جينيفر دودنا وإيمانويل شاربنتييه، لتطوير تقنية كريسبر الجزيئية. ساهمت هذه التطورات في علاج أمراض مزمنة ومستعصية، مثل فقر الدم المنجلي وضمور العضلات الشوكي واعتلال الشبكية الوراثي، بل ومهّدت الطريق لتطوير أدوية تُصنّع على مستوى الجين، وهو ما يُعرف بالعلاج الجيني الدقيق (Precision Gene Therapy). البصمة الوراثية: بين الدقة العلمية والحجية القضائية مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى ميدان تحليل البصمة الوراثية، ارتفعت مستويات الدقة إلى حد أصبح يُعتمد عليه في تشخيص الأمراض الوراثية وتحديد الهوية في القضايا الجنائية والأسرية. وعندما تُجرى هذه التحاليل تحت إشراف مختبرات حكومية معترف بها قضائيا وطبيا وإداريا – كما هو الحال في مختبرات الأدلة الجنائية بوزارة الداخلية – فإنها تبلغ مستوى اليقين العلمي الكامل (100%)، ولا يُترك مجال للخطأ في حالات الإثبات أو النفي، ما لم يشب العملية خطأ في أخذ العينة أو تلوث في النقل. وتؤكد الأكاديمية الأميركية للطب الشرعي (AAFS)، وكذلك هيئة الطب الشرعي البريطانية (UK Forensic Science Regulator) أن اختبارات الحمض النووي عند استيفاء شروط الجودة والضبط، تُعد من أقوى الأدلة العلمية المستخدمة في القضاء، سواء في قضايا الجنايات أو قضايا النسب. وهذا يدعو إلى إعادة النظر في مدى اعتبار البصمة الوراثية دليلاً شرعياً يمكن الاحتكام إليه في مسائل حساسة كإثبات أو نفي النسب، خاصة عند انتفاء القرائن المعاكسة ووجود الإشراف المؤسسي الموثوق. تحديات أخلاقية ودينية في وجه الطفرة الجينية غير أن هذه الطفرة العلمية أثارت تحديات أخلاقية غير مسبوقة، خصوصا مع ظهور تجارب لتعديل الأجنة، ومحاولات تحديد صفات الأطفال مسبقاً كاختيار الطول أو لون العين أو مستوى الذكاء. هذه الظواهر – التي ظهرت في بعض مراكز البحث بالولايات المتحدة والصين – أدت إلى ما يُعرف إعلامياً بـ«الأطفال المصمّمين»، وأثارت مخاوف من تحوّل الإنسان إلى سلعة بيولوجية خاضعة لأهواء السوق أو الأيديولوجيات السياسية. وقد دعت منظمة الصحة العالمية (WHO)، في تقريرها الصادر عام 2021، إلى تجميد العمل بالتعديل الجيني على الأجنة البشرية لأغراض غير علاجية، مؤكدة ضرورة وضع أطر قانونية وأخلاقية شاملة، كما أطلقت الأمم المتحدة حواراً دولياً عاماً لمناقشة التبعات المجتمعية والاقتصادية والتقنية لمثل هذه التطبيقات، محذرة من مخاطرها على التماسك الاجتماعي والعدالة الصحية. الدين والعلم: تكامل لا تصادم المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية تؤمن بأن الدين والعلم ليسا في صراع، بل يشكلان رافدين متكاملين في سبيل تحقيق الخير العام. فالعلم يكشف ويطوّر، والدين يُهذّب ويوجّه، والشريعة الإسلامية – بمنظومتها الأخلاقية والفقهية – لا تقف ضد التطور العلمي، بل تدعو إلى استثماره بما يحقق حفظ النفس والعقل والنسل، ويمنع الضرر والفساد. ومن هذا المنطلق، جاء اختيار هذا الموضوع الحيوي ليكون محور المؤتمر السنوي للمنظمة، باعتباره إحدى النوازل الطبية الكبرى التي تستدعي اجتهاداً جماعياً موثّقاً. وتسعى المنظمة إلى توحيد الرأي الفقهي الإسلامي تجاه قضايا الجينات والبصمة الوراثية، ضمن إطار مؤسسي راشد يجمع بين المرجعية الشرعية والدقة العلمية. وتقوم رؤية المؤتمر على أركان مركزية تتمثل في: العلم في البحث والاكتشاف، الإيمان في التوجيه والضبط القيمي، الأخلاق في الضمير المهني والإنساني، الشريعة في المرجعية في الحلال والحرام، الكرامة في صون جوهر الإنسان، التوازن بين التطور والحذر، المسؤولية تجاه الأجيال القادمة، والإنسان باعتباره الغاية لا الوسيلة. انطلاقاً من هذه المرتكزات، يُنتظر من هذا المؤتمر أن يُفضي إلى إصدار وثيقة إسلامية علمية شاملة، تُحدد ضوابط استخدام الجينوم والبصمة الوراثية، وتؤسس لاجتهاد شرعي جماعي متين، يوازن بين مقتضيات العصر ومقاصد الشريعة، ويضع الإنسان في صدارة الاهتمام، بعيداً عن منطق السوق أو الاستغلال التقني. * وزير الصحة الأسبق
الجريدة١١-٠٥-٢٠٢٥صحةالجريدةالبصمة الوراثية وتحوير جينات الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي... نقلة علمية ومسؤولية أخلاقيةفي هذا العصر المتسارع، تتقاطع علوم الوراثة والذكاء الاصطناعي لتشكّل معا ثورة علمية غير مسبوقة تمس جوهر الإنسان، وتطال تركيبته الجينية وصفاته الوراثية، وتفتح آفاقاً واعدة في مجالات التشخيص والعلاج والوقاية. هذه الثورة لا تتوقف عند حدود المختبرات، بل تتغلغل في قضايا تمس الأخلاق والدين والهوية الإنسانية، وتستدعي منا كأطباء وفقهاء وعلماء اجتماع موقفاً علمياً متزناً يراعي التكامل بين مصلحة الإنسان وحمايته. وفي ظل هذه التحولات الكبرى، تعقد المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية مؤتمرها الدولي السنوي في الكويت، الخميس 15 مايو الجاري، تحت رعاية كريمة من سمو ولي العهد، لتناقش موضوعا من أعقد قضايا الطب المعاصر: تحرير الجينوم والبصمة الوراثية في عصر الذكاء الاصطناعي. ويهدف المؤتمر إلى بناء رؤية إسلامية موحّدة تُسهم في تقنين استخدام هذه الأدوات الجديدة ضمن أطر شرعية وأخلاقية تحفظ كرامة الإنسان وتواكب المستجدات العلمية. الذكاء الاصطناعي وتحوير الجينات: نقلة علمية وتطبيقات دقيقة شهد العقد الأخير تطورات مذهلة في علم الوراثة، أبرزها اعتماد تقنية CRISPR-Cas9 التي تتيح تعديل الحمض النووي البشري بدقة غير مسبوقة. إلا أن الإدماج المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي مع علوم الجينوم، أحدث تحولاً نوعياً في فهم الجينات البشرية التي تُقدّر بنحو 20 إلى 25 ألف جين. أصبح بالإمكان تحديد وظيفة كل جين، وتحليل تأثيراته التفاعلية، والتنبؤ بتحولاته الوراثية، فضلاً عن تصميم علاجات طبية شخصية وفقاً لبصمة كل مريض. وقد برزت هذه النقلة النوعية بوضوح حين منحت جائزة نوبل في الطب لعام 2024 لثلاثة علماء، هم: • جون هوفيلد، لتطويره نماذج ذكاء صناعي لمحاكاة قراءة الجينات. • جينيفر دودنا وإيمانويل شاربنتييه، لتطوير تقنية كريسبر الجزيئية. ساهمت هذه التطورات في علاج أمراض مزمنة ومستعصية، مثل فقر الدم المنجلي وضمور العضلات الشوكي واعتلال الشبكية الوراثي، بل ومهّدت الطريق لتطوير أدوية تُصنّع على مستوى الجين، وهو ما يُعرف بالعلاج الجيني الدقيق (Precision Gene Therapy). البصمة الوراثية: بين الدقة العلمية والحجية القضائية مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى ميدان تحليل البصمة الوراثية، ارتفعت مستويات الدقة إلى حد أصبح يُعتمد عليه في تشخيص الأمراض الوراثية وتحديد الهوية في القضايا الجنائية والأسرية. وعندما تُجرى هذه التحاليل تحت إشراف مختبرات حكومية معترف بها قضائيا وطبيا وإداريا – كما هو الحال في مختبرات الأدلة الجنائية بوزارة الداخلية – فإنها تبلغ مستوى اليقين العلمي الكامل (100%)، ولا يُترك مجال للخطأ في حالات الإثبات أو النفي، ما لم يشب العملية خطأ في أخذ العينة أو تلوث في النقل. وتؤكد الأكاديمية الأميركية للطب الشرعي (AAFS)، وكذلك هيئة الطب الشرعي البريطانية (UK Forensic Science Regulator) أن اختبارات الحمض النووي عند استيفاء شروط الجودة والضبط، تُعد من أقوى الأدلة العلمية المستخدمة في القضاء، سواء في قضايا الجنايات أو قضايا النسب. وهذا يدعو إلى إعادة النظر في مدى اعتبار البصمة الوراثية دليلاً شرعياً يمكن الاحتكام إليه في مسائل حساسة كإثبات أو نفي النسب، خاصة عند انتفاء القرائن المعاكسة ووجود الإشراف المؤسسي الموثوق. تحديات أخلاقية ودينية في وجه الطفرة الجينية غير أن هذه الطفرة العلمية أثارت تحديات أخلاقية غير مسبوقة، خصوصا مع ظهور تجارب لتعديل الأجنة، ومحاولات تحديد صفات الأطفال مسبقاً كاختيار الطول أو لون العين أو مستوى الذكاء. هذه الظواهر – التي ظهرت في بعض مراكز البحث بالولايات المتحدة والصين – أدت إلى ما يُعرف إعلامياً بـ«الأطفال المصمّمين»، وأثارت مخاوف من تحوّل الإنسان إلى سلعة بيولوجية خاضعة لأهواء السوق أو الأيديولوجيات السياسية. وقد دعت منظمة الصحة العالمية (WHO)، في تقريرها الصادر عام 2021، إلى تجميد العمل بالتعديل الجيني على الأجنة البشرية لأغراض غير علاجية، مؤكدة ضرورة وضع أطر قانونية وأخلاقية شاملة، كما أطلقت الأمم المتحدة حواراً دولياً عاماً لمناقشة التبعات المجتمعية والاقتصادية والتقنية لمثل هذه التطبيقات، محذرة من مخاطرها على التماسك الاجتماعي والعدالة الصحية. الدين والعلم: تكامل لا تصادم المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية تؤمن بأن الدين والعلم ليسا في صراع، بل يشكلان رافدين متكاملين في سبيل تحقيق الخير العام. فالعلم يكشف ويطوّر، والدين يُهذّب ويوجّه، والشريعة الإسلامية – بمنظومتها الأخلاقية والفقهية – لا تقف ضد التطور العلمي، بل تدعو إلى استثماره بما يحقق حفظ النفس والعقل والنسل، ويمنع الضرر والفساد. ومن هذا المنطلق، جاء اختيار هذا الموضوع الحيوي ليكون محور المؤتمر السنوي للمنظمة، باعتباره إحدى النوازل الطبية الكبرى التي تستدعي اجتهاداً جماعياً موثّقاً. وتسعى المنظمة إلى توحيد الرأي الفقهي الإسلامي تجاه قضايا الجينات والبصمة الوراثية، ضمن إطار مؤسسي راشد يجمع بين المرجعية الشرعية والدقة العلمية. وتقوم رؤية المؤتمر على أركان مركزية تتمثل في: العلم في البحث والاكتشاف، الإيمان في التوجيه والضبط القيمي، الأخلاق في الضمير المهني والإنساني، الشريعة في المرجعية في الحلال والحرام، الكرامة في صون جوهر الإنسان، التوازن بين التطور والحذر، المسؤولية تجاه الأجيال القادمة، والإنسان باعتباره الغاية لا الوسيلة. انطلاقاً من هذه المرتكزات، يُنتظر من هذا المؤتمر أن يُفضي إلى إصدار وثيقة إسلامية علمية شاملة، تُحدد ضوابط استخدام الجينوم والبصمة الوراثية، وتؤسس لاجتهاد شرعي جماعي متين، يوازن بين مقتضيات العصر ومقاصد الشريعة، ويضع الإنسان في صدارة الاهتمام، بعيداً عن منطق السوق أو الاستغلال التقني. * وزير الصحة الأسبق