logo
#

أحدث الأخبار مع #حركة_تحرر

الذي ينتج المعرفة هو الذي يسميها..!
الذي ينتج المعرفة هو الذي يسميها..!

الغد

time١٠-٠٥-٢٠٢٥

  • سياسة
  • الغد

الذي ينتج المعرفة هو الذي يسميها..!

كنتُ أفكر بعد الكتابة في مقال سابق عن "الإبستيموسايد"، أو "الإبادة المعرفية" في استهلاكي أنا نفسي للمصطلح المُنتج في الغرب. ولا يتعلق الأمر، كما لا بد أن يكون واضحا، بمعنى مفردتي "إبادة" و"معرفة" العربيتين الأصليتين، وإنما بالمفهوم الناتج عن صك المفردتين في مفهوم واحد يُمكن أن تُكتب عنه مجلدات. لكنني فكرت: كيف يمكن سوى استهلاك المنتجات المفاهيمية الغربية عندما يكون الذي يُنتج المعرفة –مثل كل منتج آخر- هو الذي يُسمّيها؟! اضافة اعلان هذه الحقيقة لا تتحدث عن العلاقة الوثيقة بين المعرفة واللغة فحسب، وإنما تتحدث أيضًا عن البنية التحتية للسلطة التي تحتكر الحق في تمثيل الواقع، وتسميته، وتحديد معناه، وإعادة إنتاجه لغويًا ومفاهيميًا. وقد ارتبط إنتاج المعرفة بمشروع الهيمنة والسيطرة، سواء كان ذلك من حيث المضامين والمناهج، أو –الأهم- من حيث القدرة على التسمية، وتحديد ما يُعتبر "علمًا"، وما يُقصى إلى الهوامش باعتباره أسطورة، خرافة، أو معتقدات "لاعقلانية". وبذلك، لا تكون المعرفة أداة لاكتشاف العالم، بل هي، في عمقها، أداة لإعادة تشكيله وفرض نظام رمزي يُعيد إنتاج علاقات القوة. هكذا لا تعود التسمية فعلا لغويا محايدا، وإنما سلطويا بامتياز، حيث الذي يحتكر سلطة التسمية يمتلك معها القدرة على تعريف الظواهر وتأطيرها ضمن بنى اجتماعية وسياسية مقصودة. ومن التطبيقات المعاصرة وصف حركة تحرر وطنية في الجنوب العالمي بـ"التمرد" أو "التهديد الأمني"، وبذلك تجريدها من مشروعيتها الأخلاقية والسياسية، وتحويلها إلى "حالة أمنية" تستوجب القمع. وعلى النقيض، تمنح تسمية العمليات الاستعمارية بـ"نشر الديمقراطية" أو "تحرير الشعوب" لها غطاءً معرفيا وأخلاقيا يُبرئ الفاعل الاستعماري من المساءلة، ويمنح مشروعه بعدا رساليا مزيفا. مارست القوى الاستعمارية، تاريخيًا، هذا النوع من السيطرة المزدوجة: السيطرة على الأرض والناس، والسيطرة على اللغة والمفاهيم. وامتد مشروعها أبعد من احتلال الجغرافيا إلى إعادة رسم الخرائط، وتسمية الشعوب، وتصنيف الثقافات، وتجريد أنماطها المعرفية الأصلية من الشرعية. كان الاستعمار مشروعًا إبستيمولوجيًا أيضًا، سعى إلى إبادة المعارف المحلية لفرض نموذجه المعرفي بوصفه الشكل الوحيد للعلم والعقلانية. وسمّى نفسه "العالم الأول"، وأُسند لغيره صفة "العالم الثالث"، وعلق "التقدم" على مدى الاقتراب من نموذجه، فيما اعتُبرت كل مخالفة له شكلًا من أشكال "التخلف"، أو "اللاعقلانية"، أو حتى "الإرهاب". كما يحدُث، انخرطت شرائح من النخب العربية –بدافع الانبهار بالغرب أو تحت ثقل الهيمنة الرمزية التي خلّفها الاستعمار وما بعده– في عملية استهلاك وتسويق غير نقديين لتعريفات الآخر. وتم تداول مفاهيم مثل "الحداثة"، و"الاستقرار"، و"الديمقراطية"، و"حقوق الإنسان" كما صيغت في المركز، ليس كمفاهيم نسبية وقابلة لإعادة التأويل، بل كحقائق معيارية يتم بها تصنيف المجتمعات إلى "عقلانية" و"لاعقلانية"، أو "متقدمة" و"متخلفة". وتداولت النخب هذه المفاهيم غالبًا كمحفز على اكتئاب انتحاري سببه القطع بعجز الذات. والبعض اتخذ من العجز المحتوم ذريعة لتثبيط محاولات تغيير الحال وتسليط الضوء على جراح الذين يحاولون للحكم بسفاهة المحاولة وإدانتها -إلى حد إعلان الشماتة الصريحة بدلًا من التعاطف المفتعَل. الآن، تتجلى التبعية المعرفية بأوضح صورها في خطاب بعض النخب عند توصيفها لحركات المقاومة في المنطقة. إنها تستعير مفرداتها من القاموس الاستعماري بالضبط، فتصف المقاومة بـ"الميليشيات الخارجة عن القانون" أو "الجماعات الإرهابية" أو "القوى العبثية" و"المغامرة". والتسويغ هي أن عملها يقوض "الاستقرار" ويهدد "الأمن" يغامر بفقدان "السلام". وهذه أيضا مفاهيم مستوردة مع تأويلاتها المرفقة من منتجها الأجنبي. إنها تعني –حسب منشور الاستخدام المرفق- القبول بالأمور على حالها، كما يقدّرها الآخرون والمصالح المرتبطة بهم للإقليم وأهله. وبدلًا من فهم المقاومة كفعل سياسي وأخلاقي مشروع مبعثه تحرير الإرادة والسعي إلى استعادة السيادة، يتم تقديمها في الخطاب العام كمصدر للتهديد، بحيث تفقد شرعيتها الرمزية والوطنية. وما يتغاضى عنه هؤلاء هو أن المنطقة لم تشهد أمنًا ولا استقرارًا ولا سلامًا منذ أيام الاستعمار المباشر وما تلاه من استمرار الهيمنة الاستعمارية الأجنبية وتبعياتها –ماديا ومعرفيا وثقافيا. المؤسف أن هذا التداول لمصطلحات المستعمر وتعريفاته ليس مجرد انزلاق لغوي بقدر ما هو تعبير عن انخراط أعمق في بنية التبعية المفاهيمية. وتتضاعف سُمّيته حين يصدر عن نخب تعرِض خطابا إصلاحيا أو عقلانيا في ظاهره، لكنه في العمق يبرّر السياسات التي تتماهى مع مصالح القوى المهيمنة، مقابل السماح للذين يطبقونها بـ"الاستقرار" في مراكزهم. من المنطقي أن تقتضي استعادة السيادة امتلاك القدرة على تسمية الذات بمفرداتها الخاصة إذا كانت تريد أن تكون ذات شخصية أصيلة منسجمة مع حقيقتها. ويقتضي التحرر الشامل امتلاك القدرة على إعادة تعريف المفاهيم، وإنتاج معرفة تصف السياق المحلي وتعكس همومه وأحلامه كما تعرفها بالخبرة المباشرة. عندئذ فقط ربما يبدأ العالم العربي مشروعه لاسترداد سلطته المعرفية، واللغوية -والسياسية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store