#أحدث الأخبار مع #دارراميتاالعربي الجديدمنذ 2 أيامسياسةالعربي الجديد"التكايا والسرايا" لمحمد نور النمر.. قصة زواج عمره ألف عاممن حدّين متقابلين لمكانين شديدي التضاد، هما التكية والسراي، يتخذ أستاذ التصوّف في كلية الإلهيات بجامعة كارابوك – تركيا ، محمد نور النمر، عنوان كتابه "التكايا والسرايا: عن علاقة المتصوفة والسلطة عند الترك"، الصادر مؤخراً عن دار راميتا في الشارقة. وسواء في العنوان الرئيسي ذي الكناية البلاغية والدلالة غير المباشرة، أو في العنوان الفرعي ذي الإشارة الواضحة إلى ما أراد الكاتب أن يتناوله بالنقد والتحليل، فإن موضوع الكتاب ينتمي إلى إحدى أهم قضايا الفكر الإسلامي عبر تاريخه، وأكثرها إثارة للنزاع والاختلاف، بل تكاد تكون في طليعة هذه القضايا، وهي علاقة الدين بالسياسة. يفترض الكاتب، في مطلع المقدمة، جذرية هذه العلاقة وطابعها التكويني في الوعي السياسي الإسلامي، مستنداً إلى أن المسلمين لم يختلفوا، منذ نشأة حضارتهم وحتى اليوم، في قضية كما اختلفوا في مسألة الحكم والسياسة، تلك التي شُهرت من أجلها السيوف، وسالت بسببها الدماء. ولهذا، فهي في نظره قضية تستحق أن تُردّ إليها جذور الاختلاف الفكري والعملي والمذهبي بين المسلمين. وعليه، فمن المنطقي جداً، بل ومن تحصيل الحاصل، أن تكون السياسة حاضرة في صلب المنظومة المعرفية الإسلامية، وموضوعاً عابراً لمكوناتها الجدلية الثلاثة، التي يرتبها الكاتب وفق مثال الديالكتيك الهيغلي: الأطروحة، والطباق، والتركيب (أو: الفكرة، والنفي، ونفي النفي). ويُصنّف هذه المكونات في شقين متقابلين: الشق الديني العملي (أو الفقه)، والشق العقلي النظري (أو علم الكلام والفلسفة). ومن التفاعل بين "العمل والنظر"، ينشأ مركّب ثالث يختلف عنهما ويجمع بينهما في آنٍ معاً، هو التصوّف، الذي يُزاوج بين السلوك العملي والتجريد النظري. قامت عليهما بنية المجتمع السياسي في نسخته العثمانية وكما يستدعي الباحث الجدلية الهيغلية في إطارها الفلسفي المجرّد لدعم أطروحته حول مركزية المكوّن الديني في الوعي السياسي الإسلامي، فإنه يستدعي أيضاً "العصبية" الخلدونية في سياق التفسير الجدلي المُبسّط (الذي يقف عند مستوى التناقض ولا يرقى إلى مستوى التركيب) لقيام الدول وتعاقبها. لكن ليست العصبية ذاتها هي المفهوم الذي يقاربه الباحث، بل إشارة ابن خلدون اللافتة إلى أهمية الدعوة الدينية كقرين لقوة العصبية، وسبب ضروري لتمكينها وتطورها، ومن ثم انتقالها من طابع البداوة القبلي إلى طابع المدينة الحضري. فالصبغة الدينية للعصبية تُذهب، بحسب ابن خلدون، "بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتُفرد الوجهة إلى الحق". ولذلك، يرى مؤلف الكتاب أن رجل السلطة لا يتمكن من الغلبة إلا إذا كان له حلفٌ يجمعه بصاحب دعوة دينية، تلك التي تُؤسس لفلسفة الدولة وفكرها، وتُصيغ هويتها الجامعة، وتضع لأبنائها قيمهم الأخلاقية والاجتماعية والإيمانية. ثم يرى الكاتب، وبأثرٍ رجعي، أنّ تمكُّن عصبية بني أمية من دولة المسلمين كان نتيجة تحالفهم مع رجال الفقه، الذين عزّزوا قوة السيف بقوة الفكر. ثم لما استقام الأمر لعصبية بني العباس، حلّ أهل علم الكلام، ثم اللاهوت الفلسفي، محلّ الفقهاء كحلفاء لهم. أما عصبة السلاجقة (أقوى القبائل التركية)، فقد كان التصوّف ورجاله حلفاءهم. ورغم انقطاع دولة السلاجقة بسبب الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي، فإن الدعوة الصوفية كانت قد بلغت من القوة مبلغاً مكّنها من استعادة دولة الترك وإحياء عصبيتهم من جديد، لا على يد من تبقّى من بني سلجوق، بل على يد أرطغرل وابنه عثمان، ومن جاء من عقبهما، على امتداد تاريخ السلطنة العثمانية منذ قيامها مطلع القرن الرابع عشر، وحتى سقوطها في الربع الأول من القرن العشرين. أما عن سبب صعود التصوف واستحقاقه لأن يكون الممثل الرئيس للفكر الديني، والذي يستمدّ منه السياسي شرعيته، فيُرجعهما الكاتب إلى عوامل موضوعية ذات أثر واضح في الوعي السياسي. أول هذه العوامل هو ثنائية الخطاب الصوفي، القادر على مخاطبة العوام (أي الجمهور) والتأثير فيهم من جهة، إضافةً إلى مكانته لدى النخب الحاكمة، باعتباره صادراً عن أولياء صالحين لهم في صناعة الرأي العام سلطة وقوة لا يمكن تجاوزهما، وهذا هو العامل الثاني. أما العامل الثالث، فيتصل بقيم التصوف التي انسجمت مع تعدد الأعراق المسلمة، وعزّزت المساواة وقبول الآخر على أسس إنسانية عامة. وبفضل هذه القيم، يستنتج الكاتب العامل الرابع لهيمنة الفكر الصوفي على الوعي السياسي الإسلامي؛ إذ من خلاله استطاع سلاطين السلاجقة، ثم العثمانيين، تجاوز الإشكال الفقهي الذي يشترط النسب العربي القرشي لشرعية ولاة أمر المسلمين. وهكذا، وعلى مدار أكثر من ستة قرون، نمت واستقرت مؤسستا التكية والسراي كمفهومين متضايفين، قامت عليهما بنية المجتمع الإسلامي السياسي في نسخته العثمانية. ورغم التضاد بين المؤسستين، حيث إن التكية هي موطن الزهد والفقراء وصغار الكسبة ورجال "العلم الشرعي"، بينما تنتمي القوة والثروة والسلطة ورجالها الطموحون إلى السراي، حيث قصر السلطان وبيت الحكم، فقد نشأت علاقة اعتمادية بين الطرفين: يمنح أحدهما الشرعية الدينية للآخر، لينال في المقابل الحماية السياسية، والعكس بالعكس. يوضح الكاتب لاحقاً أثر العلمانية الأتاتوركية في نقض هذا التحالف، إذ أُسسَت "عصبية" الجمهورية - إن صح التعبير - لا على دعوة دينية جديدة، بل على انقلاب حاد على الدولة الدينية ذاتها. وقد شارك في هذا الانقلاب بعض رجالات التصوف، كما يشير الكاتب، ربما لأن ضعف الدولة العثمانية بلغ مرحلة لم يعد السلطان فيها جديراً بثقة رجال الدين أو باعترافهم بأهليته لرعاية مصلحة الأمة. ورغم ذلك، فقد أقصت العلمانية الأتاتوركية "الصلبة" (كما يصفها الكاتب) رجال التصوف أنفسهم عن المشهد السياسي، في ظل نظام حكم جمهوري معاصر يستمد شرعيته من الشعب مباشرة. ومع ذلك، سيستعيد التصوف مرة أخرى دوره السياسي، كما استعاده من قبل بعد زوال دولة السلاجقة. وسيتكيّف المتصوفة مع العلمانية الصلبة، حتى يتمكنوا من تدوير زواياها الحادة. ومن داخل تكاياهم، التي ستغدو عامرة بالمؤمنين من جديد، سيدفع الشيوخ – أصحاب السبّحات الطويلة والعمائم الخضراء – بمريديهم "الحداثويين" ذوي التعليم العالي والمهن الدقيقة والخبرات السياسية والاقتصادية، محلياً ودولياً، إلى الانخراط في ميدان السياسة وأحزابه. ويقف الكاتب أخيراً عند تجربة حزب العدالة والتنمية، بوصفها ثمرة أنضجها مخاض علاقة جدلية، صوفية–سياسية، امتدت قرابة ألف عام. بعد تحليل أزمنة متباعدة، كانت جميعها حبلى بأحداث شديدة التمايز والاختلاف، ينتهي الباحث إلى فضّ إشكالية موضوع كتابه عبر مقاربة جديدة لعلاقة التصوف بالسلطة عند الترك، مستنداً إلى ثلاث مقولات حكمت علاقة الدين بالسياسة خلال الفترة الأطول من التاريخ السياسي الإسلامي. أولى هذه المقولات هي "السياسي المريد"، حيث لا بدّ للحاكم من شيخ يكون واسطته في نيل الشرعية الممنوحة من الخالق، قبل تلك التي يمنحها الخلق. ثم تأتي مقولة "الشيخ السياسي"، التي تعكس طبيعة التصوف التركي، إذ جمع رجاله بين عزلة الزهد وسموّ الروح، وبين الانخراط في قلب المجتمع باقتصاده وأدبه ومؤسساته العسكرية. وأخيراً، المقولة الثالثة، وهي عنوان الكتاب ذاته: "التكية والسراي"، وفيها قابل الكاتب عالم السماء بعالم الأرض، وبتحالفهما ينطبق ناسوت المجتمع الإسلامي على لاهوته؛ فلا مكان للتكية في دولة يعادي سلاطينها شيوخها، ولا أمان لقصر لا يضمن رجاله مباركة شيوخ الدين ولا يقتدون بهديهم. وإذا كان كتاب "التكايا والسرايا" يُفصح عن أهمية العلاقة التكوينية بين المتصوف والسلطان، أو بين الولي والوالي، فإنه، في المقابل، يسكت عن جملة من الأسئلة القديمة المستجدة حول علاقة الدين بالسياسة في الفكر السياسي الإسلامي وفلسفته، وحول الحصة الفعلية لنُظُمِنا السياسية من المعاصرة والحداثة في مقابل التراث والأصالة. وهذا ما يفتح الباب مجدداً أمام إشكاليات أكثر دقة وتعقيداً، تتصل بمستقبل الديمقراطية، ومصير التجربة العلمانية، عربياً وإسلامياً، وعلاقتنا كمجتمعات سياسية بالمجتمع الدولي اليوم. * كاتب من سورية كتب التحديثات الحية "عصر الانتقام" لأندريا ريزي.. هل تُنقذ أفكار دانتي وشكسبير العالم؟
العربي الجديدمنذ 2 أيامسياسةالعربي الجديد"التكايا والسرايا" لمحمد نور النمر.. قصة زواج عمره ألف عاممن حدّين متقابلين لمكانين شديدي التضاد، هما التكية والسراي، يتخذ أستاذ التصوّف في كلية الإلهيات بجامعة كارابوك – تركيا ، محمد نور النمر، عنوان كتابه "التكايا والسرايا: عن علاقة المتصوفة والسلطة عند الترك"، الصادر مؤخراً عن دار راميتا في الشارقة. وسواء في العنوان الرئيسي ذي الكناية البلاغية والدلالة غير المباشرة، أو في العنوان الفرعي ذي الإشارة الواضحة إلى ما أراد الكاتب أن يتناوله بالنقد والتحليل، فإن موضوع الكتاب ينتمي إلى إحدى أهم قضايا الفكر الإسلامي عبر تاريخه، وأكثرها إثارة للنزاع والاختلاف، بل تكاد تكون في طليعة هذه القضايا، وهي علاقة الدين بالسياسة. يفترض الكاتب، في مطلع المقدمة، جذرية هذه العلاقة وطابعها التكويني في الوعي السياسي الإسلامي، مستنداً إلى أن المسلمين لم يختلفوا، منذ نشأة حضارتهم وحتى اليوم، في قضية كما اختلفوا في مسألة الحكم والسياسة، تلك التي شُهرت من أجلها السيوف، وسالت بسببها الدماء. ولهذا، فهي في نظره قضية تستحق أن تُردّ إليها جذور الاختلاف الفكري والعملي والمذهبي بين المسلمين. وعليه، فمن المنطقي جداً، بل ومن تحصيل الحاصل، أن تكون السياسة حاضرة في صلب المنظومة المعرفية الإسلامية، وموضوعاً عابراً لمكوناتها الجدلية الثلاثة، التي يرتبها الكاتب وفق مثال الديالكتيك الهيغلي: الأطروحة، والطباق، والتركيب (أو: الفكرة، والنفي، ونفي النفي). ويُصنّف هذه المكونات في شقين متقابلين: الشق الديني العملي (أو الفقه)، والشق العقلي النظري (أو علم الكلام والفلسفة). ومن التفاعل بين "العمل والنظر"، ينشأ مركّب ثالث يختلف عنهما ويجمع بينهما في آنٍ معاً، هو التصوّف، الذي يُزاوج بين السلوك العملي والتجريد النظري. قامت عليهما بنية المجتمع السياسي في نسخته العثمانية وكما يستدعي الباحث الجدلية الهيغلية في إطارها الفلسفي المجرّد لدعم أطروحته حول مركزية المكوّن الديني في الوعي السياسي الإسلامي، فإنه يستدعي أيضاً "العصبية" الخلدونية في سياق التفسير الجدلي المُبسّط (الذي يقف عند مستوى التناقض ولا يرقى إلى مستوى التركيب) لقيام الدول وتعاقبها. لكن ليست العصبية ذاتها هي المفهوم الذي يقاربه الباحث، بل إشارة ابن خلدون اللافتة إلى أهمية الدعوة الدينية كقرين لقوة العصبية، وسبب ضروري لتمكينها وتطورها، ومن ثم انتقالها من طابع البداوة القبلي إلى طابع المدينة الحضري. فالصبغة الدينية للعصبية تُذهب، بحسب ابن خلدون، "بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتُفرد الوجهة إلى الحق". ولذلك، يرى مؤلف الكتاب أن رجل السلطة لا يتمكن من الغلبة إلا إذا كان له حلفٌ يجمعه بصاحب دعوة دينية، تلك التي تُؤسس لفلسفة الدولة وفكرها، وتُصيغ هويتها الجامعة، وتضع لأبنائها قيمهم الأخلاقية والاجتماعية والإيمانية. ثم يرى الكاتب، وبأثرٍ رجعي، أنّ تمكُّن عصبية بني أمية من دولة المسلمين كان نتيجة تحالفهم مع رجال الفقه، الذين عزّزوا قوة السيف بقوة الفكر. ثم لما استقام الأمر لعصبية بني العباس، حلّ أهل علم الكلام، ثم اللاهوت الفلسفي، محلّ الفقهاء كحلفاء لهم. أما عصبة السلاجقة (أقوى القبائل التركية)، فقد كان التصوّف ورجاله حلفاءهم. ورغم انقطاع دولة السلاجقة بسبب الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي، فإن الدعوة الصوفية كانت قد بلغت من القوة مبلغاً مكّنها من استعادة دولة الترك وإحياء عصبيتهم من جديد، لا على يد من تبقّى من بني سلجوق، بل على يد أرطغرل وابنه عثمان، ومن جاء من عقبهما، على امتداد تاريخ السلطنة العثمانية منذ قيامها مطلع القرن الرابع عشر، وحتى سقوطها في الربع الأول من القرن العشرين. أما عن سبب صعود التصوف واستحقاقه لأن يكون الممثل الرئيس للفكر الديني، والذي يستمدّ منه السياسي شرعيته، فيُرجعهما الكاتب إلى عوامل موضوعية ذات أثر واضح في الوعي السياسي. أول هذه العوامل هو ثنائية الخطاب الصوفي، القادر على مخاطبة العوام (أي الجمهور) والتأثير فيهم من جهة، إضافةً إلى مكانته لدى النخب الحاكمة، باعتباره صادراً عن أولياء صالحين لهم في صناعة الرأي العام سلطة وقوة لا يمكن تجاوزهما، وهذا هو العامل الثاني. أما العامل الثالث، فيتصل بقيم التصوف التي انسجمت مع تعدد الأعراق المسلمة، وعزّزت المساواة وقبول الآخر على أسس إنسانية عامة. وبفضل هذه القيم، يستنتج الكاتب العامل الرابع لهيمنة الفكر الصوفي على الوعي السياسي الإسلامي؛ إذ من خلاله استطاع سلاطين السلاجقة، ثم العثمانيين، تجاوز الإشكال الفقهي الذي يشترط النسب العربي القرشي لشرعية ولاة أمر المسلمين. وهكذا، وعلى مدار أكثر من ستة قرون، نمت واستقرت مؤسستا التكية والسراي كمفهومين متضايفين، قامت عليهما بنية المجتمع الإسلامي السياسي في نسخته العثمانية. ورغم التضاد بين المؤسستين، حيث إن التكية هي موطن الزهد والفقراء وصغار الكسبة ورجال "العلم الشرعي"، بينما تنتمي القوة والثروة والسلطة ورجالها الطموحون إلى السراي، حيث قصر السلطان وبيت الحكم، فقد نشأت علاقة اعتمادية بين الطرفين: يمنح أحدهما الشرعية الدينية للآخر، لينال في المقابل الحماية السياسية، والعكس بالعكس. يوضح الكاتب لاحقاً أثر العلمانية الأتاتوركية في نقض هذا التحالف، إذ أُسسَت "عصبية" الجمهورية - إن صح التعبير - لا على دعوة دينية جديدة، بل على انقلاب حاد على الدولة الدينية ذاتها. وقد شارك في هذا الانقلاب بعض رجالات التصوف، كما يشير الكاتب، ربما لأن ضعف الدولة العثمانية بلغ مرحلة لم يعد السلطان فيها جديراً بثقة رجال الدين أو باعترافهم بأهليته لرعاية مصلحة الأمة. ورغم ذلك، فقد أقصت العلمانية الأتاتوركية "الصلبة" (كما يصفها الكاتب) رجال التصوف أنفسهم عن المشهد السياسي، في ظل نظام حكم جمهوري معاصر يستمد شرعيته من الشعب مباشرة. ومع ذلك، سيستعيد التصوف مرة أخرى دوره السياسي، كما استعاده من قبل بعد زوال دولة السلاجقة. وسيتكيّف المتصوفة مع العلمانية الصلبة، حتى يتمكنوا من تدوير زواياها الحادة. ومن داخل تكاياهم، التي ستغدو عامرة بالمؤمنين من جديد، سيدفع الشيوخ – أصحاب السبّحات الطويلة والعمائم الخضراء – بمريديهم "الحداثويين" ذوي التعليم العالي والمهن الدقيقة والخبرات السياسية والاقتصادية، محلياً ودولياً، إلى الانخراط في ميدان السياسة وأحزابه. ويقف الكاتب أخيراً عند تجربة حزب العدالة والتنمية، بوصفها ثمرة أنضجها مخاض علاقة جدلية، صوفية–سياسية، امتدت قرابة ألف عام. بعد تحليل أزمنة متباعدة، كانت جميعها حبلى بأحداث شديدة التمايز والاختلاف، ينتهي الباحث إلى فضّ إشكالية موضوع كتابه عبر مقاربة جديدة لعلاقة التصوف بالسلطة عند الترك، مستنداً إلى ثلاث مقولات حكمت علاقة الدين بالسياسة خلال الفترة الأطول من التاريخ السياسي الإسلامي. أولى هذه المقولات هي "السياسي المريد"، حيث لا بدّ للحاكم من شيخ يكون واسطته في نيل الشرعية الممنوحة من الخالق، قبل تلك التي يمنحها الخلق. ثم تأتي مقولة "الشيخ السياسي"، التي تعكس طبيعة التصوف التركي، إذ جمع رجاله بين عزلة الزهد وسموّ الروح، وبين الانخراط في قلب المجتمع باقتصاده وأدبه ومؤسساته العسكرية. وأخيراً، المقولة الثالثة، وهي عنوان الكتاب ذاته: "التكية والسراي"، وفيها قابل الكاتب عالم السماء بعالم الأرض، وبتحالفهما ينطبق ناسوت المجتمع الإسلامي على لاهوته؛ فلا مكان للتكية في دولة يعادي سلاطينها شيوخها، ولا أمان لقصر لا يضمن رجاله مباركة شيوخ الدين ولا يقتدون بهديهم. وإذا كان كتاب "التكايا والسرايا" يُفصح عن أهمية العلاقة التكوينية بين المتصوف والسلطان، أو بين الولي والوالي، فإنه، في المقابل، يسكت عن جملة من الأسئلة القديمة المستجدة حول علاقة الدين بالسياسة في الفكر السياسي الإسلامي وفلسفته، وحول الحصة الفعلية لنُظُمِنا السياسية من المعاصرة والحداثة في مقابل التراث والأصالة. وهذا ما يفتح الباب مجدداً أمام إشكاليات أكثر دقة وتعقيداً، تتصل بمستقبل الديمقراطية، ومصير التجربة العلمانية، عربياً وإسلامياً، وعلاقتنا كمجتمعات سياسية بالمجتمع الدولي اليوم. * كاتب من سورية كتب التحديثات الحية "عصر الانتقام" لأندريا ريزي.. هل تُنقذ أفكار دانتي وشكسبير العالم؟