منذ 2 أيام
غزة تأكل عصافيرها المغردة لتسكت المجاعة
"منذ أيام لا يوجد في الخيمة طحين لإعداد الخبز، وأطفالي يطلبون اللحم، وأنا عاجز وحائر أمام طلباتهم"، يقول سالم الذي ينشغل بنصب شباك صيد العصافير عله يوفر لهم وجبة لحوم تعوضهم الحرمان الطويل من البروتين.
بدقة متناهية ينصب سالم شباكه قرب مناطق تمركز الجيش الإسرائيلي في غزة، ويربط في المصيدة عصفوراً صغيراً، ثم يبتعد منها بضعة أمتار، يشرح "أعد فخاً بدائياً لصيد العصافير، أخطط لذبحها وإطعامها لصغاري".
وجبة وحيدة
بعد انتظار أربع ساعات، هبطت مجموعة عصافير، بسرعة سحب سالم حبلاً وسقطت الشباك على الطيور الملونة، أسرع الرجل بنقلها إلى قصف حديدي، وبينما كان يضعها في القفص كان يفحص أنواعها بخبرته القليلة، "دوري وشنار".
في شباك سالم وقع 50 عصفوراً، طار فرحاً وحملها بتفاخر عائداً لخيمته، ينادي على أولاده "جلبت لكم لحماً طيباً شهياً"، فوجئ الصغار عندما شاهدوا العصافير، وسأل الابن براء "هل سنأكلها أم سنضعها للزينة يا أبي".
رد الأب "أحضر لي سكيناً"، وبدأ في ذبح الطيور ونتف ريشها الناعم، وفي قدر به ماء أخذ يطهوها، وعلى مائدة صغيرة تجمعت الأسرة وأخذت تتناول لحم العصافير، كان الجميع يأكل بشراهة فهم محرومون من اللحوم منذ 110 أيام، عندما أغلقت إسرائيل معابر قطاع غزة ومنعت إمدادات الإغاثة والتجارة وفرضت حصاراً مطبقاً على الجائعين.
يقول سالم "هذه الوجبة الوحيدة التي يحصل عليها أطفالي في اليوم، نأكل لمرة واحدة بسبب المجاعة التي تضرب غزة، نتناول أي شيء خلال النهار من دون خبز، اصطدت تلك الطيور لتعويض أطفالي حرمانهم من تناول اللحوم".
ويضيف "مضطراً فعلت ذلك، لقد اشتاق صغاري لأي نوع من اللحوم، حرمنا منها أشهراً طويلة بسبب منع الجيش دخول إمدادات الطعام لغزة، في الحقيقة لم تكن وجبة مشبعة، ولكنها كانت لحماً على أية حال".
الصيد حرفة
أجبر انعدام المال في جيب محمود الهسي على امتهان صيد العصافير، إذ يبيعها ويعيل من عائداتها أسرته، يقول "كنت أعمل في البناء ولكن بسبب الحرب توقفت، لجأت إلى صيد الطيور في محاولة لتوفير مصدر دخل لأطفالي".
من الساعة الخامسة فجراً يشق محمود طريقه إلى المناطق القريبة من مدينة رفح، وهناك يوجد الجيش الإسرائيلي، يقول "العصافير لا توجد في المناطق المكتظة بالخيام والناس، وإنما تنتشر في الخلاء والمناطق الزراعية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ينصب الشباك في أرض خالية من الأشجار، ويضيف "هذه البقعة كان ينتشر بها الخضار، لكن النازحون اقتعلوا جزءاً منها واستخدموها كأخشاب يشعلون بها النار لطهو الطعام، أما الجزء الآخر فجرفه الجيش الإسرائيلي".
داخل الفخاخ يضع محمود الماء وفتات الخبز اليابس لكنه يبلله لجذب العصافير، ثم يجلس منتظراً الأجنحة المحلقة، في فترة الانتظار يشرح "أخاطر بحياتي عندما أصل إلى هذه المناطق، إنها مسكن العصافير، ولكنها أيضاً قريبة من الجنود الإسرائيليين".
يوضح محمود أن أعداد العصافير في غزة آخذت في التناقص، يقول "في البداية كنت أصطاد 100 طائر في اليوم، ولكن مع مرور الأيام تراجع العدد إلى 40، هذه الطيور تهرب على وقع الصواريخ التي ترهبها".
يبيع محمود العصافير التي يصطادها في مقابل ثلاثة دولارات لكل عصفور، مشيراً إلى الأسرة من فردين تحتاج إلى نحو 50 عصفوراً لتحصل على وجبة غذائية تساوي 250 غراماً من اللحم.
حرمان وبكاء
حرمت إسرائيل سكان غزة من أصناف غذائية مختلفة منذ بداية الحرب، بخاصة اللحوم الحمراء والبيضاء الطازجة والمجمدات والخضراوات والفواكه، وتسبب هذا في سوء تغذية لدى السكان، بحسب الأمم المتحدة، ووفقاً لمنظمة "اليونيسيف" فإن 50 ألف طفل في غزة يعانون سوء تغذية حاد بسبب إطباق إسرائيل الحصار على السكان.
لم يجد رؤوف وسيلة لتوفير اللحوم لزوجته التي وضعت مولودها قبل أيام سوى شراء العصافير، يقول إنها بحاجة ماسة إلى البروتين، وبسبب عدم وجود اللحم أو الدواجن، لم يجد سوى العصافير.
ويضيف الرجل "أعلم أن العصافير لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكنها تعوض بعض النقص في البروتين اللازم لتعافي زوجتي خلال فترة النفاس، العصفور الواحد بالكاد تجد به بعض الغرامات من اللحم، لكننا نضطر إلى أكله بسبب المجاعة وندرة أي صنف من أصناف الطعام في الأسواق، وفي حال توافرها فإنها تحتاج إلى أموال كثيرة لشرائها".
شارك رؤوف زوجته في تناول لحم العصافير لاشتياقه للحوم، يوضح أنه حرم منها فترة طويلة بسبب منعها، لكن الكمية التي تناولها لم تكف لسد جوعه بسبب قلة وزن العصفور.
مل رؤوف من تناول المعلبات، يقول "فسدت معدتي من أكلها يومياً، ولم أجد أمامي سوى لحم العصافير، ثلاثة أشهر لم نذق فيها طعم اللحم، لذلك حين عدت لخيمتي وقد اشتريت هذه الطيور شعرت زوجتي بأنها امتلكت الدنيا".
قالت زوجة رؤوف "لأجلي تطعمني لحم العصفور، فعلت ذلك في زمن صار فيه رغيف الخبز حلماً"، وقعت تلك الكلمات على مسامع الرجل كالرصاص، وبكى كثيراً.
تدمير البيئة
صيد العصافير ليس بالأمر السهل، يقول يوسف "أصطاد اليمام البري وطائر الدوري والفر والحسون، ولكن هناك ضريبة لذلك وهي تعرضي لأخطار كثيرة، فأن تذهب للصيد يعني أن تحمل روحك على كفك، فمن المحتمل في أية لحظة أن تقصف الأرض التي تصطاد فيها، وقد يقتحم الجنود المنطقة وقد تباغت الدبابات المكان وتحاصره".
في القانون الفلسطيني صيد الطيور البرية أو الاتجار بها محظور تماماً، لكن أستاذ البيئة عبدالفتاح عبدربه يقول إن "الفقر المدقع يجعل الصيد ضرورة، إذ تستخدم إسرائيل التجويع كعقوبة جماعية، لكن ذلك لا يعني أن البيئة تعرضت لتدمير الغطاء النباتي والحيواني بسبب الحرب وبعض الأنشطة الجائرة، إذ مارست إسرائيل حرباً فوسفورية، واستخدمت ذخائر محظورة دولياً، وسقطت على غزة غازات سامة مكثفة بصورة غير مسبوقة في التاريخ العسكري، مما يجعل القطاع منطقة غير قابلة للحياة".
بحسب منسق الأنشطة في سلطة جودة البيئة بهاء الأغا، فإن "الحرب تدمر جميع مكونات التنوع البيولوجي من نبات وكائنات حية، والأسلحة المتنوعة حرقت تضاريس غزة، لذلك فإن خطر صيد العصافير اليوم يعد محدوداً مقارنة بما تعرضت له بيئة القطاع من دمار".