#أحدث الأخبار مع #ستانليكوبريكالنهار١٥-٠٤-٢٠٢٥ترفيهالنهارطيف كوبريك يخيّم على حاضرنا أكثر من أي وقتكلّ ما استشفّه ستانلي كوبريك (1928 – 1999) في أفلامه، يتحقّق أمام أعيننا، حقيقةً بعد أخرى، مشهداً بعد مشهد. وحده، المتابع المشغوف بالسينما والمراقب النهم لأحوال العالم، يدرك كم كان هذا المخرج، المأخوذ بالشرط الإنساني، سابقاً لعصره، وكم حملت رؤاه من نبوءات لم تكن مجرّد خيال سينمائي، بل إشارات مبكرة لعالم ينزلق نحو المصير الذي تصوّره. ما كان يُناقَش في العقود الماضية كفرضيات في أعماله، صار اليوم وقائع نعيشها وننخرط فيها. كوبريك لم يكن مخرجاً فحسب، إنما هو مفكّر تنويري رؤيوي وفيلسوف امتحنته الأيام، ثبت حضوره في الوعي والوجدان. أفلامه، بقدر ما هي فتوحات بصرية وجمالية، هي أيضاً كنوز فكرية وبحوث ميتافيزيقية تُعيدنا إلى جوهر الأسئلة الكبرى. لكن مهلاً، لم يكن كوبريك عرّافاً يتنبأ بالمستقبل من ضباب الغيب، ولا ساحراً يقرأ الطالع، بل كان عقلاً نقدياً نيّراً، يمتلك قدرة استثنائية على التحليل والتركيب، يستقرئ الحاضر بذكاء ويربط بين معطياته السياسية والاقتصادية والفلسفية والعاطفية. نبؤاته لم تنبع من وحي أو خيال جامح، ولكن من قراءة عميقة لميكانيزمات السلطة والمجتمع والتكنولوجيا، ومن فهم دقيق للإنسان في صراعه مع ذاته ومع العالم من حوله. لقد رأى مبكراً إلى أين يمكن أن تمضي الأمور. تحت رحمة الآلة لنأخذ مثال الذكاء الاصطناعي في "2001، أوديسّا الفضاء". الآلة هال، التي تنطق وتُبدي مشاعر وتواجه مخترعها ككائن مستقل له إرادته ومنطقه وسلوكه، لم تكن مجرّد ابتكار خيالي، بل هي سؤال مبكر ومرعب: هل يمكن التكنولوجيا أن تنتزع من الإنسان إرادته؟ سؤالٌ طرحه المعلّم قبل أكثر من نصف قرن، وهو اليوم من أكثر ما يؤرقّنا في ضوء ابتكارات مثل "تشات جي بي تي" و"أليكسا". إلى أين يمكن أن يصل التطوّر؟ وهل سنصبح أسرى أدوات صنعناها بأيدينا؟ الخوف من فقدان السيطرة على التكنولوجيا لم يعد فكرة سوريالية، بل هاجس معاصر. أما الرحلات السياحية إلى الفضاء التي كان علماً خيالاً في الفيلم، فأصبحت خدمة مدفوعة الثمن تقدّمها شركات عدة مثل "سبايس إكس" و"بلو أوريجين" وغيرهما. في رؤياه الطليعية التي تتوقّع صعود الوحشية وانتشار الفوضى من داخل أكثر المجتمعات تحضّراً وتنظيماً، ألمح كوبريك إلى أن اتساع قدرات العقل يقابله ضمور في جوانب أخرى، وانغلاق على الذات شبيه بما يعيشه روّاد الفضاء في عزلتهم. هال ليست شريرة بطبعها، لكنها انعكاس لصراع المصالح البشرية، فتغدو الطرف الثالث الذي يتدخّل حين يعجز البشر عن التفاهم. أما الشاشات التي تتيح لرواد الفضاء التواصل بعضهم مع بعض، فأصبحت في أيدي الجميع، للأفضل… والأسوأ! صناعة إنسان متحضّر دعونا نُعيد النظر أيضاً في "البرتقالة الآلية"، الفيلم الذي أخرجه كوبريك قبل أكثر من نصف قرن، وأثار عاصفة من الجدال عند صدوره، حدّ انه قرر سحبه من الصالات البريطانية بعد اتهام جهات له بالتحريض على العنف. يحكي الفيلم عن محاولة "إصلاح" شخصية أليكس، الشاب الذي سكنه العنف وتجذّر فيه، عبر التسلل إلى وعيه وإعادة برمجته نفسياً وسلوكياً، ليصبح كائناً "أفضل" يمكن اعادته بأمان إلى حضن المجتمع المتحضّر. كان هذا أحدث ابتكارات مجتمع مهووس بالتربية السلوكية. اليوم، ألا يبدو هذا التدخّل مشابهاً لما تفعله بنا وسائل التواصل الاجتماعي؟ معايير المجتمع، القيود، الحظر، الرقابة، وحتى ثقافة الـ"ووك" والصواب السياسي — كلها أدوات تضغط لتصنيع نموذج إنسان "خيّر" ظاهرياً، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة والحرية الفردية، مما أدّى في الكثير من الأحيان إلى نتائج عكسية. طرح كوبريك سؤالاً معقّداً: هل من الأفضل أن نختار الشر بإرادتنا، أم أن يُفرض علينا الخير قسراً؟ الأمر محسوم عند الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي يعتبر ان الإنسان طيب إلى ان يفسده المجتمع. لكن في العالم الافتراضي، تبدو الأمور أقرب إلى الخيار الثاني، أي انه من الأفضل ان يُفرض علينا الخير بالقوة. فنحن نعيش اليوم في مناخ من الإحراج الجماعي، حيث كثيرون يقولون عكس ما يؤمنون به خوفاً من العزل أو الخسارة أو الإلغاء. هكذا يتكرر كابوس كوبريك: عالم يجرّ الإنسان إلى الطاعة والتطويع باسم "التحضّر" والأخلاق، وهو ما كان المخرج يخشاه قبل نصف قرن. رجال يدمّرون العالم هل يمكن رجلًا واحداً أن يتحكّم بمصير البشرية، وأن يُشعل حرباً كونية بكبسة زر؟ سؤالٌ بدا أقرب إلى الكوميديا العبثية حين طرحه كوبريك في "دكتور ستراينجلاف"، حيث سخر بذكاء من فكرة أن العالم قد يُفنى نتيجة نزوة أو جنون جنرال. لكن ما كان آنذاك مادة للتهكّم، أصبح اليوم واقعاً مرعباً مع بروز زعماء تغذيهم النزعة الفردية وشهوة السلطة، أمثال ترامب وكيم جونغ أون وبوتين، ومعهم أنظمة لا تقلّ وحشيةً كالنظام الإيراني وإسرائيل. في هذا الفيلم، حمّل كوبريك "الرجولة الفائضة"، نوعاً ما المسؤولية. ذلك المفهوم الذي لم يكن رائجاً حينها، لكن يبدو انه تنبّه إلى خطره المبكر. الرجال الذين تحكمهم عضلاتهم قبل عقولهم، قد يدفعون العالم إلى الهاوية، مدفوعين بفائض من التهور والغرور، لا تقل خطورته عن الأسلحة النووية الفتّاكة، الرمز الأبدي لنزعة البشر إلى التدمير الذاتي. الخطر النووي لا يزال موضوع تجاذب وقضية وجود لا سيما بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. نظرية كوبريك ان قرارات عبثية يتكفّل بها بعض الرجال، قد تحملنا إلى عواقب وخيمة وصولاً إلى 'القيامة'، لا تزال صالحة أكثر من أي زمن مضى. برمجة الكائن وتدجينه على سيرة الحروب، ماذا يكشف لنا "فول ميتال جاكيت"، أحد أهم الأفلام عن الحرب، سوى أن المعركة الأكثر وحشيةً لا تُخاض في ساحات القتال، بل تبدأ قبل ذلك بكثير، في مرحلة الإعداد؟ كوبريك يخصّص نحو نصف الفيلم لما يشبه ورشة تفكيك الإنسان، ثم إعادة تركيبه على هيئة آلة قتل باردة. التدريب هنا ليس مجرّد تمرين بدني، بل عملية ممنهجة لتجريد الفرد من عواطفه وهويته، كي يُعاد تشكيله جندياً لا يرى إلا الهدف، ولا يعرف إلا الطاعة. هذا ليس تفصيلاً عابراً، بل جوهر الخطاب: الحرب الحقيقية تُخاض في الروح، قبل أن تُخاض في الميدان. وما قدّمه كوبريك في هذا الفيلم كان بمثابة مسودة مبكرة لما سيشهده العالم لاحقاً، من محاولات برمجة الإنسان وتدجينه، عبر المؤسسات والبيروقراطية والتلاعب بالاقتصاد، حيث تتم قولبة الأفراد وتوجيه عقولهم لخدمة أنظمة لا تكتفي بالسيطرة على الجسد، بل تتسلل إلى الداخل، حيث تنشأ المعارك الأكثر صمتاً… والأكثر فتكاً. وهم الصعود الاجتماعي وكيف يمكن أن نشاهد "باري ليندون" من دون أن نلتفت إلى أوجه الشبه بين الشاب الإيرلندي المغمور، ردموند باري، الذي صعد سلّم المجتمع بانتهازية مكشوفة، وبين ما تتيحه اليوم وسائط التواصل الاجتماعي من تلميع للسطحية وتكريس للانتهازية عبر ظاهرة "المؤثرين"؟ هؤلاء، تماماً مثل باري، يتوهّمون أنهم يخترقون كوكباً كان حكراً على النخبة والمشاهير، بينما هم في الواقع وقود لمنظومة لا ترحم: تستهلكهم بسرعة، تستنزفهم حتى آخر ومضة، ثم تلقي بهم على الهامش. ففي عالم النفاق اللامع، كما في القصور التي دارت فيها وقائع فيلم كوبريك، مَن يتوهم أنه في طريق الصعود، كثيراً ما ينتهي مسحوقاً تحت ثقل لعبة أكبر منه. لأن النخبة، في كلّ زمان ومكان، تعرف كيف تحمي امتيازاتها وتصون مصالحها… وتقصي الطارئين عنها بلطف مميت. مجتمعات سرية تيمة النخبة، بما تحمله من سلطة وغموض واستعلاء، هي أيضاً جوهر "أيز وايد شات"، آخر أفلام المعلّم. ما يمكن اعتباره في المستوى الأول انه مجرد قصّة تخبّط زوجين، هو في عمقه رحلة داخل العالم السفلي للسلطة المتخفية خلف الأقنعة. هل للنخب الاجتماعية والأقطاب السياسية صلات خفية بعيدة من أعين العامة وعلمهم؟ سؤال بدا في وقت من الأوقات من مخلّفات نظرية المؤامرة، لكن بات مقنعاً أكثر فأكثر في السنوات الأخيرة. يجب ألا ننسى ان واحداً في المئة من سكّان العالم يملكون نصف ثرواته. حفل التنكّر ليس مجرد مشهد بصري مدهش، بل استعارة لطبقة تحجب وجهها خلف الطقوس، وتمارس سلطتها من وراء ستار من الغموض والإبهار. الدكتور بيل، الذي يظن أنه يسيطر على مجريات ليلته، ينزلق تدريجاً إلى فضاء سري (أشبه بما كُشف لاحقاً في فضيحة جفري إبستين)، أي إلى عالم منغلق لا ينتمي إليه، رغم وهم المعرفة والسيطرة الذي يحمله في داخله. بيل أشبه بكثيرين منّا، في حاضرنا: نعتقد أننا نُمسك بخيوط العالم لأن المعلومات متاحة بنقرة، بينما الحقائق الأعمق تبقى في الظلّ، خلف ظهرنا، حيث تتشكّل القرارات الكبرى وتُصاغ مصائر لا نعرف عنها الكثير. وحش الأفضل والأسوأ الإنسان عند كوبريك هو الكائن المتناقض بامتياز: الأعظم والأحطّ، الأقوى والأكثر هشاشةً، القادر على ارتكاب أسمى الأفعال وأحقرها في الآن ذاته. كما قال الناقد ميشال سيمان ذات مرة: "الكائن في سينما كوبريك، تسعون في المئة وحش، وعشرة في المئة جائزة نوبل. والوحش دائماً متأهّب للانقضاض. لا أحد في منأى منه". الإنسان عند كوبريك هو الكائن المتناقض بامتياز. خطاب كوبريك لا لبس فيه: حين تُبنى الأنظمة على حساب القيم، تصبح الكارثة حتمية. انها مسألة وقت. من التطور البشري، إلى الرغبة فإلى العقيدة، ظلّ هاجسه واحداً: أن لا نسلّم مبتكراتنا إلى سلطة تتجاوز إنسانيتنا، فنُختزَل إلى أقلّ ممّا نحن عليه. كوبريك هو الرؤيوي الذي لم يصف فقط ما أصبحنا عليه، بل استشرف ما يمكن أن نصير إليه، عبر تشريحه العميق لآليات النفس البشرية، وتحذيره ممّا ينتظرنا حين نطلق لها العنان بلا ضوابط. لم يكن أول مَن قرأ الإنسان على هذا النحو، فقد سبقه فلاسفة من أفلاطون إلى روسو، لكنه الوحيد الذي بثّ تلك الرؤية على الشاشة بلغة بصرية مذهلة، تنقش في الذاكرة وتحفر في وعي الثقافة الشعبية بلقطات أيقونية - وعندما أقول "أيقونية"، أعنيها فعلاً، بعيداً من استخدامها المبتذل. ببرودته الأسطورية التي تمسّ الجليد، لم يعكس حالنا، بل عرّى ما رفضنا دائماً أن نراه في دواخلنا.
النهار١٥-٠٤-٢٠٢٥ترفيهالنهارطيف كوبريك يخيّم على حاضرنا أكثر من أي وقتكلّ ما استشفّه ستانلي كوبريك (1928 – 1999) في أفلامه، يتحقّق أمام أعيننا، حقيقةً بعد أخرى، مشهداً بعد مشهد. وحده، المتابع المشغوف بالسينما والمراقب النهم لأحوال العالم، يدرك كم كان هذا المخرج، المأخوذ بالشرط الإنساني، سابقاً لعصره، وكم حملت رؤاه من نبوءات لم تكن مجرّد خيال سينمائي، بل إشارات مبكرة لعالم ينزلق نحو المصير الذي تصوّره. ما كان يُناقَش في العقود الماضية كفرضيات في أعماله، صار اليوم وقائع نعيشها وننخرط فيها. كوبريك لم يكن مخرجاً فحسب، إنما هو مفكّر تنويري رؤيوي وفيلسوف امتحنته الأيام، ثبت حضوره في الوعي والوجدان. أفلامه، بقدر ما هي فتوحات بصرية وجمالية، هي أيضاً كنوز فكرية وبحوث ميتافيزيقية تُعيدنا إلى جوهر الأسئلة الكبرى. لكن مهلاً، لم يكن كوبريك عرّافاً يتنبأ بالمستقبل من ضباب الغيب، ولا ساحراً يقرأ الطالع، بل كان عقلاً نقدياً نيّراً، يمتلك قدرة استثنائية على التحليل والتركيب، يستقرئ الحاضر بذكاء ويربط بين معطياته السياسية والاقتصادية والفلسفية والعاطفية. نبؤاته لم تنبع من وحي أو خيال جامح، ولكن من قراءة عميقة لميكانيزمات السلطة والمجتمع والتكنولوجيا، ومن فهم دقيق للإنسان في صراعه مع ذاته ومع العالم من حوله. لقد رأى مبكراً إلى أين يمكن أن تمضي الأمور. تحت رحمة الآلة لنأخذ مثال الذكاء الاصطناعي في "2001، أوديسّا الفضاء". الآلة هال، التي تنطق وتُبدي مشاعر وتواجه مخترعها ككائن مستقل له إرادته ومنطقه وسلوكه، لم تكن مجرّد ابتكار خيالي، بل هي سؤال مبكر ومرعب: هل يمكن التكنولوجيا أن تنتزع من الإنسان إرادته؟ سؤالٌ طرحه المعلّم قبل أكثر من نصف قرن، وهو اليوم من أكثر ما يؤرقّنا في ضوء ابتكارات مثل "تشات جي بي تي" و"أليكسا". إلى أين يمكن أن يصل التطوّر؟ وهل سنصبح أسرى أدوات صنعناها بأيدينا؟ الخوف من فقدان السيطرة على التكنولوجيا لم يعد فكرة سوريالية، بل هاجس معاصر. أما الرحلات السياحية إلى الفضاء التي كان علماً خيالاً في الفيلم، فأصبحت خدمة مدفوعة الثمن تقدّمها شركات عدة مثل "سبايس إكس" و"بلو أوريجين" وغيرهما. في رؤياه الطليعية التي تتوقّع صعود الوحشية وانتشار الفوضى من داخل أكثر المجتمعات تحضّراً وتنظيماً، ألمح كوبريك إلى أن اتساع قدرات العقل يقابله ضمور في جوانب أخرى، وانغلاق على الذات شبيه بما يعيشه روّاد الفضاء في عزلتهم. هال ليست شريرة بطبعها، لكنها انعكاس لصراع المصالح البشرية، فتغدو الطرف الثالث الذي يتدخّل حين يعجز البشر عن التفاهم. أما الشاشات التي تتيح لرواد الفضاء التواصل بعضهم مع بعض، فأصبحت في أيدي الجميع، للأفضل… والأسوأ! صناعة إنسان متحضّر دعونا نُعيد النظر أيضاً في "البرتقالة الآلية"، الفيلم الذي أخرجه كوبريك قبل أكثر من نصف قرن، وأثار عاصفة من الجدال عند صدوره، حدّ انه قرر سحبه من الصالات البريطانية بعد اتهام جهات له بالتحريض على العنف. يحكي الفيلم عن محاولة "إصلاح" شخصية أليكس، الشاب الذي سكنه العنف وتجذّر فيه، عبر التسلل إلى وعيه وإعادة برمجته نفسياً وسلوكياً، ليصبح كائناً "أفضل" يمكن اعادته بأمان إلى حضن المجتمع المتحضّر. كان هذا أحدث ابتكارات مجتمع مهووس بالتربية السلوكية. اليوم، ألا يبدو هذا التدخّل مشابهاً لما تفعله بنا وسائل التواصل الاجتماعي؟ معايير المجتمع، القيود، الحظر، الرقابة، وحتى ثقافة الـ"ووك" والصواب السياسي — كلها أدوات تضغط لتصنيع نموذج إنسان "خيّر" ظاهرياً، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة والحرية الفردية، مما أدّى في الكثير من الأحيان إلى نتائج عكسية. طرح كوبريك سؤالاً معقّداً: هل من الأفضل أن نختار الشر بإرادتنا، أم أن يُفرض علينا الخير قسراً؟ الأمر محسوم عند الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي يعتبر ان الإنسان طيب إلى ان يفسده المجتمع. لكن في العالم الافتراضي، تبدو الأمور أقرب إلى الخيار الثاني، أي انه من الأفضل ان يُفرض علينا الخير بالقوة. فنحن نعيش اليوم في مناخ من الإحراج الجماعي، حيث كثيرون يقولون عكس ما يؤمنون به خوفاً من العزل أو الخسارة أو الإلغاء. هكذا يتكرر كابوس كوبريك: عالم يجرّ الإنسان إلى الطاعة والتطويع باسم "التحضّر" والأخلاق، وهو ما كان المخرج يخشاه قبل نصف قرن. رجال يدمّرون العالم هل يمكن رجلًا واحداً أن يتحكّم بمصير البشرية، وأن يُشعل حرباً كونية بكبسة زر؟ سؤالٌ بدا أقرب إلى الكوميديا العبثية حين طرحه كوبريك في "دكتور ستراينجلاف"، حيث سخر بذكاء من فكرة أن العالم قد يُفنى نتيجة نزوة أو جنون جنرال. لكن ما كان آنذاك مادة للتهكّم، أصبح اليوم واقعاً مرعباً مع بروز زعماء تغذيهم النزعة الفردية وشهوة السلطة، أمثال ترامب وكيم جونغ أون وبوتين، ومعهم أنظمة لا تقلّ وحشيةً كالنظام الإيراني وإسرائيل. في هذا الفيلم، حمّل كوبريك "الرجولة الفائضة"، نوعاً ما المسؤولية. ذلك المفهوم الذي لم يكن رائجاً حينها، لكن يبدو انه تنبّه إلى خطره المبكر. الرجال الذين تحكمهم عضلاتهم قبل عقولهم، قد يدفعون العالم إلى الهاوية، مدفوعين بفائض من التهور والغرور، لا تقل خطورته عن الأسلحة النووية الفتّاكة، الرمز الأبدي لنزعة البشر إلى التدمير الذاتي. الخطر النووي لا يزال موضوع تجاذب وقضية وجود لا سيما بين الولايات المتحدة والصين وروسيا. نظرية كوبريك ان قرارات عبثية يتكفّل بها بعض الرجال، قد تحملنا إلى عواقب وخيمة وصولاً إلى 'القيامة'، لا تزال صالحة أكثر من أي زمن مضى. برمجة الكائن وتدجينه على سيرة الحروب، ماذا يكشف لنا "فول ميتال جاكيت"، أحد أهم الأفلام عن الحرب، سوى أن المعركة الأكثر وحشيةً لا تُخاض في ساحات القتال، بل تبدأ قبل ذلك بكثير، في مرحلة الإعداد؟ كوبريك يخصّص نحو نصف الفيلم لما يشبه ورشة تفكيك الإنسان، ثم إعادة تركيبه على هيئة آلة قتل باردة. التدريب هنا ليس مجرّد تمرين بدني، بل عملية ممنهجة لتجريد الفرد من عواطفه وهويته، كي يُعاد تشكيله جندياً لا يرى إلا الهدف، ولا يعرف إلا الطاعة. هذا ليس تفصيلاً عابراً، بل جوهر الخطاب: الحرب الحقيقية تُخاض في الروح، قبل أن تُخاض في الميدان. وما قدّمه كوبريك في هذا الفيلم كان بمثابة مسودة مبكرة لما سيشهده العالم لاحقاً، من محاولات برمجة الإنسان وتدجينه، عبر المؤسسات والبيروقراطية والتلاعب بالاقتصاد، حيث تتم قولبة الأفراد وتوجيه عقولهم لخدمة أنظمة لا تكتفي بالسيطرة على الجسد، بل تتسلل إلى الداخل، حيث تنشأ المعارك الأكثر صمتاً… والأكثر فتكاً. وهم الصعود الاجتماعي وكيف يمكن أن نشاهد "باري ليندون" من دون أن نلتفت إلى أوجه الشبه بين الشاب الإيرلندي المغمور، ردموند باري، الذي صعد سلّم المجتمع بانتهازية مكشوفة، وبين ما تتيحه اليوم وسائط التواصل الاجتماعي من تلميع للسطحية وتكريس للانتهازية عبر ظاهرة "المؤثرين"؟ هؤلاء، تماماً مثل باري، يتوهّمون أنهم يخترقون كوكباً كان حكراً على النخبة والمشاهير، بينما هم في الواقع وقود لمنظومة لا ترحم: تستهلكهم بسرعة، تستنزفهم حتى آخر ومضة، ثم تلقي بهم على الهامش. ففي عالم النفاق اللامع، كما في القصور التي دارت فيها وقائع فيلم كوبريك، مَن يتوهم أنه في طريق الصعود، كثيراً ما ينتهي مسحوقاً تحت ثقل لعبة أكبر منه. لأن النخبة، في كلّ زمان ومكان، تعرف كيف تحمي امتيازاتها وتصون مصالحها… وتقصي الطارئين عنها بلطف مميت. مجتمعات سرية تيمة النخبة، بما تحمله من سلطة وغموض واستعلاء، هي أيضاً جوهر "أيز وايد شات"، آخر أفلام المعلّم. ما يمكن اعتباره في المستوى الأول انه مجرد قصّة تخبّط زوجين، هو في عمقه رحلة داخل العالم السفلي للسلطة المتخفية خلف الأقنعة. هل للنخب الاجتماعية والأقطاب السياسية صلات خفية بعيدة من أعين العامة وعلمهم؟ سؤال بدا في وقت من الأوقات من مخلّفات نظرية المؤامرة، لكن بات مقنعاً أكثر فأكثر في السنوات الأخيرة. يجب ألا ننسى ان واحداً في المئة من سكّان العالم يملكون نصف ثرواته. حفل التنكّر ليس مجرد مشهد بصري مدهش، بل استعارة لطبقة تحجب وجهها خلف الطقوس، وتمارس سلطتها من وراء ستار من الغموض والإبهار. الدكتور بيل، الذي يظن أنه يسيطر على مجريات ليلته، ينزلق تدريجاً إلى فضاء سري (أشبه بما كُشف لاحقاً في فضيحة جفري إبستين)، أي إلى عالم منغلق لا ينتمي إليه، رغم وهم المعرفة والسيطرة الذي يحمله في داخله. بيل أشبه بكثيرين منّا، في حاضرنا: نعتقد أننا نُمسك بخيوط العالم لأن المعلومات متاحة بنقرة، بينما الحقائق الأعمق تبقى في الظلّ، خلف ظهرنا، حيث تتشكّل القرارات الكبرى وتُصاغ مصائر لا نعرف عنها الكثير. وحش الأفضل والأسوأ الإنسان عند كوبريك هو الكائن المتناقض بامتياز: الأعظم والأحطّ، الأقوى والأكثر هشاشةً، القادر على ارتكاب أسمى الأفعال وأحقرها في الآن ذاته. كما قال الناقد ميشال سيمان ذات مرة: "الكائن في سينما كوبريك، تسعون في المئة وحش، وعشرة في المئة جائزة نوبل. والوحش دائماً متأهّب للانقضاض. لا أحد في منأى منه". الإنسان عند كوبريك هو الكائن المتناقض بامتياز. خطاب كوبريك لا لبس فيه: حين تُبنى الأنظمة على حساب القيم، تصبح الكارثة حتمية. انها مسألة وقت. من التطور البشري، إلى الرغبة فإلى العقيدة، ظلّ هاجسه واحداً: أن لا نسلّم مبتكراتنا إلى سلطة تتجاوز إنسانيتنا، فنُختزَل إلى أقلّ ممّا نحن عليه. كوبريك هو الرؤيوي الذي لم يصف فقط ما أصبحنا عليه، بل استشرف ما يمكن أن نصير إليه، عبر تشريحه العميق لآليات النفس البشرية، وتحذيره ممّا ينتظرنا حين نطلق لها العنان بلا ضوابط. لم يكن أول مَن قرأ الإنسان على هذا النحو، فقد سبقه فلاسفة من أفلاطون إلى روسو، لكنه الوحيد الذي بثّ تلك الرؤية على الشاشة بلغة بصرية مذهلة، تنقش في الذاكرة وتحفر في وعي الثقافة الشعبية بلقطات أيقونية - وعندما أقول "أيقونية"، أعنيها فعلاً، بعيداً من استخدامها المبتذل. ببرودته الأسطورية التي تمسّ الجليد، لم يعكس حالنا، بل عرّى ما رفضنا دائماً أن نراه في دواخلنا.