أحدث الأخبار مع #عبدالوهابالمسيري


الجزيرة
٢٧-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
هل تُهدم "كعبة" النظام العالمي؟
ما العولمة؟ يبدو السؤال هاربا من أحد المقررات الدراسية لصفوف الدرجة الإعدادية، سؤال روتيني يحتمل العديد من الإجابات النمطية التي تتحدث عن كيف أصبح العالم قرية صغيرة، وكيف صار التواصل بين الناس أسهل ما يمكن، وكيف أن القميص الذي يُصنع في الهند يُباع في فرنسا ويُلبس في أستراليا بدون مشكلات، وكيف "سقطت" الحواجز بين الناس نهائيا إلى غير رجعة. لكن هذه النظرة "المدرسية" لكلمة العولمة تبدو مختزلة جدا في الحقيقة، فالعولمة بالنسبة للمفكر المصري عبد الوهاب المسيري ، على سبيل المثال لا الحصر، ليست مجرد أداة للتواصل الفعال بين الدول والشعوب، بل هي الطريقة التي تَمكَّن من خلاها الغرب، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية ، من فرض نموذج بعينه على العالم بأسره، ووفق هذه النظرة فإن العولمة خلقت عالما ينظر إلى الحياة من بُعد واحد فقط. وحتى على المستوى الاقتصادي، فإن العولمة ليست مجرد تعبير عن اقتصاد السوق الحر، لكنها تطوي بين جنباتها رؤية مادية ترى الإنسان كائنا مستهلكا بالأساس. وفي الخلف من كل ذلك، تقتات العولمة أساسا على تفكيك الهويات الدينية والقومية والثقافية لصالح نوع واحد من الإنسان، ذلك "الإنسان العالمي المستهلك" الذي لا ينتمي إلى أي شيء سوى محاولة إعادة إنتاج النمط الغربي في نفسه وفي مجتمعه. وضعت العولمة أسس الهيمنة الأميركية على العالم، وشيَّدت جدرانها وأقامت أسقفها، حتى إذا أخذت تلك الهيمنة زخرفها وزينتها أتتها الشكوك والتساؤلات من جديد، والمفارقة أن تلك الشكوك جاءت من قلب الولايات المتحدة ذاتها، وعلى يد رجل يبدو أنه جاء ليهدم المفاهيم الكلاسيكية للهيمنة الغربية، رافعا شعارا براقا خادعا: "أميركا أولا". ترامب.. وإن كان الأخير زمانه عادة ما يُلقي الرؤساء في العالم، وفي الولايات المتحدة الأميركية على الأخص، عشرات الخطابات في مسيرتهم الرئاسية، بيد أن قلة من هذه الخطابات بقيت خالدة في التاريخ وفي صفحات السياسة، ونحن نعتقد أن واحدا من بين تلك الخطابات التي ستظل تُذكر لفترة طويلة هو خطاب دونالد ترامب يوم الأربعاء 2 أبريل/نيسان بحديقة الورود بالبيت الأبيض في واشنطن، ذلك اليوم الذي وصفه الرئيس الأميركي بـ"يوم تحرير أميركا". افتُتح الخطاب بالإشارة إلى "الحالة الكارثية" التي تعيشها الأمة الأميركية حسب ما ترى الإدارة الأميركية الجديدة، حيث المدن والبلدات التي "اغتُصبت" والمصانع التي "دُمرت" أو "نهبت" النتيجة النهائية لذلك، وهو "بلد ممزق تماما". والحقيقة أن مَن يتابع خطابات الرئيس الأميركي يعلم جليا أن هذا النوع من المصطلحات والأوصاف ليس بعيدا أبدا عما ألِفَ الناس سماعه منه منذ فترة رئاسته الأولى. الجديد هذه المرة كان مشهدا لا يكاد أحد يذكر تكرره في السياسة الأميركية من قبل، حين قام ترامب بدعوة صديقه في لعبة الغولف الملياردير هاوارد لوتنيك الذي يشغل منصب وزير التجارة، وقد خرج إلى المنصة حاملا قائمة طويلة للعديد من دول العالم في الشرق والغرب والرسوم الجمركية التي يريد ترامب أن يفرضها على تلك الدول، قبل أن يبدأ ترامب في قراءة الأرقام وكأنه "بائع في مزاد"، وفق وصف "سوزان غلاسر" في مجلة "نيويوركر". وقتها فقط ظهرت الرسوم السرية إلى العلن، وبدأت الدول تبحث عن مواقعها في اللائحة مثل طالب يبحث عن اسمه في لائحة التلاميذ الناجحين أو المقبولين، لكن ذلك كان إيذانا ببدء الحرب التجارية الحقيقية التي هدَّد بها ترامب منذ فترة طويلة. وبمجرد مرور التهديد الترامبي إلى الأثير، انتشرت موجات الصدمة في دول العالم، بادئةً بأصدقاء الولايات المتحدة قبل أعدائها. وقبل أن يُنهي ترامب خطابه بدأت ردود الأفعال تتابع بالفعل، حيث بدأت الأسواق المالية حول العالم في الانهيار تباعا مثل أحجار الدومينو، وانخفض الدولار مقابل العملات الأخرى، وسجَّلت الأسهم الأميركية انخفاضا هو الأكبر منذ الأيام الأولى لانتشار جائحة "كوفيد-19″، حيث قُدِّرت الخسائر الأولية بنحو 3 تريليونات دولار. ولأن رأس المال لا ينظر إلى العامل البشري إلا بصفته أداة من أدوات الإنتاج، بدأ بعض الشركات في الإعلان عن خطط لتسريح بعض العمال تحسبا لأيام سوداء اقتصادية قادمة، وهو ما جعل الاقتصادي الأميركي لورانس سامرز يقول إنه لم يحدث أن كلفت دقائق معدودة أو أقل من ساعة (في إشارة إلى زمن الخطاب) كل هذا الكم من العمال. والمشكلة أنه لا أحد تقريبا، ونقصد بلا أحد هنا أهل الاقتصاد وعلى رأسهم رجال وول ستريت، توقع أن يُقْدِم ترامب بهذه السرعة على تنفيذ واحد من أهم "الوعود الخطيرة" التي تعهَّد بها خلال حملته الانتخابية. في أعقاب هذا القرار، الذي أُعلن تعليقه لاحقا لمدة 90 يوما على جميع الدول باستثناء الصين، ما يخبرنا عن حجم "خطورته"، بدأت التحليلات الاقتصادية تلتقي مع التحليلات النفسية حول شخصية دونالد ترامب، فالرئيس الأميركي -حسبما تشير غلاسر مرة أخرى- اتخذ قرارا بنزعة فردية كاملة لتدمير قرن من العولمة بدم بارد، حيث لا يمكن اختصار هذا القرار في الأبعاد الاقتصادية فقط، بل في نزعة ترامب للسيطرة عبر توقيع أمر تنفيذي يفرض رسوما جديدة، مستعملا بذلك سلطاته الواسعة في إعلان حالة طوارئ اقتصادية وطنية، لذلك فقد بدا سعيدا وهو يقول في كلامه: "إنه لشرف كبير أن أتمكّن أخيرا من القيام بذلك". عولمة مريضة ربما تكون تعريفات ترامب هي الضربة الأكبر والأهم التي تتلقاها العولمة في أهم ميادينها وهو الاقتصاد، لكن الحقيقة أن ذلك المفهوم (ونعني هنا النظام الذي يُمثِّله) كان يعاني بالفعل منذ فترة ليست قصيرة. قبل عام تقريبا، كتب "لاري إيليوت" مقالا في "الغارديان" البريطانية، في ختام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس الذي انتهى بجلسة تتحدث عن حالة الاقتصاد العالمي. قال إيليوت في مقاله إن العام لم يكن سيئا لعدد من الأسباب، منها أن ارتفاع سعر الفائدة لم يدفع الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والمملكة المتحدة نحو الركود، بالإضافة إلى أن الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة لم تتسبب في رفع أسعار النفط إلى أكثر من 100 دولار للبرميل. بيد أن العام لم يكن رائعا للأسباب الماضية نفسها تقريبا، شبح التضخم، والحروب في الشرق الأوسط التي تهدد أهم طرق التجارة العالمية، ثم وجود انقسامات كبرى بين الفاعلين الاقتصاديين، خصوصا ذلك الصراع بين واشنطن وبكين. بحسب إيليوت، في عالم باتت فيه الفجوة بين الشمال والجنوب تتسع باطّراد، والديمقراطية الليبرالية مهددة بسبب "الأنظمة الاستبدادية"، والكوكب يواصل الاحترار، ظهر جليا أن العولمة لم تمت بعد حتى الآن، وأن النموذج الغربي لا يزال قائما، والدليل على ذلك أن طالبي اللجوء يقدمون إلى الغرب وليس إلى روسيا والصين، ما يعني ببساطة أن النموذج الغربي ما زال حيا يُرزق. بيد أن العالم منذ صدمة الأزمة المالية العالمية لعام 2008 بدأ يتبدل بالفعل، ثم جاءت جائحة "كوفيد-19" لتبدأ مرحلة "تفكيك العولمة"، أو "العولمة المحلية" (Glocalization)، حسب ما يُطلق عليها البعض. تُعد هذه "العولمة المحلية" مزيجا بين الانكفاء الذاتي وما بين السوق الحر، فهي تتضمن سلاسل توريد أقصر، وتركيزا أكبر على القدرات التصنيعية الوطنية، كما أنها تعطي مساحة أكبر للحكومات المحلية في الجانب الاقتصادي. غير أن الحاجز الجمركي الذي أطلقه دونالد ترامب ليطلق رصاصة الرحمة التي تلك المحاولة الأخيرة لإنقاذ العولمة من خلال تقييدها بقيود "محلية"، فالرئيس الأميركي الحالي لديه فكرة مختلفة تماما، وهي أنه يمكن لبلاده أن تكون غنية بالدخول في حرب تجارية عالمية مع أصدقائها وأعدائها على حدٍّ سواء. تأتي الحمائية الاقتصادية التي ينهجها ترامب لتُشكِّل قطيعة مع السياسات الاقتصادية الدولية لواشنطن في عهد جميع مَن سبقوه، تلك السياسات التي جعلت أميركا قوة عظمى تفخر باقتصاد تبلغ قيمته 30 تريليون دولار هو الأقوى على وجه الأرض. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وصول ترامب إلى البيت الأبيض في المرة الأولى، بذل الرؤساء الأميركيون جهدا كبيرا لتقليل الحواجز التي قد تعترض التجارة والاستثمار والتمويل، متذرّعين بأهداف هي أقرب للبروباغندا من قبيل "نشر الرخاء في الأراضي البعيدة". في تعليقها على هذه الخطوة تقول كارمن راينهارت، كبيرة الاقتصاديين السابقة في البنك الدولي، إن ما أعلن عنه ترامب يُعد لحظة تاريخية، لأنه حتى وإن تراجعت الإدارة الحالية عن كل هذا لتلطيف الأجواء قليلا، فإن هذه الخطوة شكَّلت مسمارا آخر في نعش العولمة، فيما يُصِر ترامب على أن التعريفات الجمركية المرتفعة ستفتح "عصرا ذهبيا" جديدا، حيث ستتدفق مليارات الدولارات من الاستثمارات في البلاد، كما قطع الرئيس الأميركي وعودا على نفسه بأن الأسهم سترتفع، وستُبنى مصانع جديدة هي الأفضل في العالم لتكون بديلا لمصانع أُغلقت سابقا في البلاد. يَعِدُ ترامب بأن أميركا ستكون مختلفة تماما، وهو محق في ذلك يقينا، لكن هذا الاختلاف ليس إيجابيا بالضرورة، فعلى النقيض من وعود ترامب البراقة، يذكر الاقتصاديون كيف تضاعف حجم الاقتصاد الأميركي بعد دخول اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية حيز التنفيذ عام 1994، ذلك الاتفاق الذي جمع في وقت سابق الولايات المتحدة الأميركية وكندا والمكسيك، وهو نموذج واحد يخبرنا كيف كانت الولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر، وبفارق ضخم عن أي جهة أخرى، من التجارة الدولية المفتوحة. لا يركز الرئيس الأميركي على ذلك، ويركز في المقابل على صدمة عام 2001، أو "صدمة الصين"، التي حدثت بعد انضمام بكين إلى منظمة التجارة العالمية، حينها فقد 2.4 مليون أميركي وظائفهم بحلول عام 2011، رغم أن التجارة مع الصين سرعان ما أثبتت أن فوائدها تفوق مثالبها على أصعدة عدة، فكما ذكرت دراسة لجامعة جورج ماسون، فإن ثلاثة أرباع الأميركيين استفادوا من التجارة مع الصين، بيد أن العمال الذين لا يحملون مؤهلات عالية ظلوا الحلقة الأضعف في هذا الانفتاح. الصين.. العدو حقا؟ حاولت الإدارات الأميركية المختلفة، بداية من عهد بيل كلينتون ، التغلب على المشكلة المحلية التي خلقها دخول الصين إلى الاقتصاد العالمي، وذلك من خلال العمل على إعادة تأهيل العمال المتضررين ببرنامج "مساعدة التكيف مع التجارة"، لكن مشكلات كثيرة من بينها التمويل حالت دون أن يحقق هذا البرنامج النتائج المرجوة. رغم ذلك، كان الرؤساء الأميركيون ومستشاروهم الاقتصاديون يدركون دائما أن تلك مجرد ضريبة تُخفي خلفها بحرا من الفوائد، والأكثر من ذلك أنهم أدركوا أن "الميكنة"، وليست التجارة، كانت هي السبب الرئيس لخسارة الموظفين لوظائفهم، وأن ما فعلته الاتفاقيات التجارية هو إظهار حِدّة الأزمة ونيل نصيب الأسد من الغضب الشعبي. ولكن في الوقت الذي تضاعفت فيه أرباح الشركات الأميركية 3 مرات تقريبا بعد الاستفادة من اليد العاملة الرخيصة خارج البلاد، لم يتزحزح دخل الأسرة المتوسطة الأميركية من 1999 وحتى عام 2015. في الأخير، تحول النظام الاقتصادي الذي أنشأه الأميركيون برعاية منظمة التجارة العالمية إلى وحش يأكل صاحبه بعد أن فشل في التكيف مع الصعود القوي لاقتصاد كبير مثل الصين، تاركا شريحة لا يُستهان بها من الأميركيين ساخطة على التجارة الحرة. في عام 2008، بدأ الشعور المعادي للتجارة العالمية يصعد أكثر فأكثر، فقد انتقد باراك أوباما وهيلاري كلينتون اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية خلال الانتخابات التمهيدية الرئاسية، في العام نفسه، وبسبب الأزمة العالمية الكبرى، بدأت مشاعر عدم الارتياح تشمل الصين بالتبعية. وعندما ترشح دونالد ترامب للرئاسة عام 2016، فإنه صب جزءا كبيرا من غضبه على التجارة، ودافع عن أفكار حمائية تماما، ورغم أن دونالد ترامب لا يُعد شخصية ذات طابع أيديولوجي ولا يمكن نسبة مواقف راسخة له في معظم القضايا، فإن الحمائية الاقتصادية ومناهضة التجارة الحرة تُعد استثناء من ذلك، وتعود جذور هذه الرؤية حتى إلى خلفيته الدراسية في كلية وارتون، التي أسسها الصناعي جوزيف وارتون، المعروف بمعاداته للتجارة الحرة وتشجيع الاكتفاء الذاتي للدول. يرى ترامب أن بلاده محتاجة إلى إنتاج المزيد من كل شيء تقريبا داخل حدودها بدلا من شرائه من الآخرين (وخاصة الصين)، حتى لو أسهم ذلك في زيادة التكاليف، لأن زيادة التصنيع المحلي ستقوّي المجتمعات المحلية والدفاع الوطني. ويقف الرئيس الأميركي تحديدا عند أزمة عام 2008 رافضا تجاوزها، رغم أن الأميركيين أنفسهم عادوا ينظرون إلى التجارة نظرة أكثر إيجابية، فـ81% منهم يعتبرونها فرصة للنمو في مقابل 14% فقط يرونها تهديدا، حسب استطلاع حديث أجراه مختبر غالوب في وقت سابق من العام الحالي. تراهن الإدارة الأميركية الجديدة على بعض الصناعات من قبيل صناعة السيارات من أجل العودة بسرعة إلى مكانتها بوصفها قوة "صناعية"، إذ تعمل المصانع الأميركية الآن بنسبة 68% فقط من طاقتها، مقارنة بـ88% في 2015 بحسب الاحتياطي الفيدرالي، لكن لسوء حظ المتفائلين من إدارة ترامب، يبدو أن هذا التغيير بعيد جدا عن المتناول، فالسيارة تحتوي في المتوسط على 30 ألف قطعة، نصفها يأتي من الخارج، ما يعني أن هناك حاجة إلى بناء سلاسل توريد محلية كاملة، وهو الأمر الذي سيستغرق سنوات ويتطلب تكاليف باهظة. سياسيا، بدأت ردود الأفعال الدبلوماسية تظهر قبل النتائج الاقتصادية على قرار ترامب الأخير، فقد أعلن مارك كارني، رئيس الوزراء الكندي، أن بلاده بدأت فعلا في البحث عن شركاء تجاريين جدد، أما أوروبا، التي لم يحبها ترامب يوما ولم تحبه، فقد بدأت هي الأخرى تتفاوض مع الهند لإبرام اتفاق تجاري، في الوقت الذي تعزز الصين علاقتها الاقتصادية مع العديد من دول العالم، بما فيها حلفاء للولايات المتحدة. في هذا الصدد، يقول جيفري فريدن، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا ومؤلف كتاب "الرأسمالية العالمية"، إن تحول إدارة ترامب نحو الأحادية الاقتصادية "لم يغير النظرة الاقتصادية للدول الأخرى ويدفعها لتبني الحمائية الاقتصادية، فقط تحاول هذه الدول حماية نفسها من واشنطن، ومن النظام الاقتصادي الجديد الذي قد ينشأ من الفوضى، وستلعب فيه أميركا دورا مختلفا تماما". نهاية نظام؟ من جانبها، لم تقف الصين مكتوفة الأيدي أمام قرارات ترامب، وأشعلت حرب التعريفات بلا تردد، لتصل الأمور الآن إلى صيغة خطيرة: تعريفات بقيمة 245% على جميع الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة تقريبا مقابل تعريفات بنسبة 125% على واردات أميركا إلى الصين (أعلنت الصين أنها لن ترفع التعريفات أكثر من ذلك في الوقت الراهن)، وأكثر من ذلك استهدفت واشنطن أيضا المكسيك وفيتنام، الدولتين اللتين اعتمدت عليهما الصين في الالتفاف على الرسوم الجمركية التي فُرضت عليها عام 2018. تبدو تلك أشبه بلعبة لعضّ الأصابع شعارها: مَن سيصرخ أولا؟ فمن جانبها، ترى أميركا نفسها في موقف مهيمن في اللعبة، باعتبار أن الأميركيين يستهلكون من الصين أكثر مما تستهلك الصين من أميركا، في المقابل ترى بكين أنها مَن تمتلك القوة الصناعية الأكبر، وأن أميركا ستضطر للتراجع في نهاية المطاف، وفي خضم تلك التصورات المتبادلة يُخطئ البلدان في قراءة نِيَّات بعضهما بعضا. على جانب، يواجه ترامب خصما أكثر استعدادا للحرب التجارية حسب ما يؤكد مارك لانتاني، خبير في الشؤون الصينية في جامعة النرويج القطبية، فبعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض عام 2020، لاحظت بكين بأن الإدارة الديمقراطية لم تعدل عن القرارات التي اتخذها ترامب، بل حافظت على معظم الرسوم الجمركية التي فرضها، وهو ما جعل الصينيين يعتبرون أن الوقت قد حان من أجل اتخاذ مسافة أكبر مع الاقتصاد الأميركي لتفادي جميع المفاجآت السيئة، وهو ما حدث مع عودة ترامب للحكم مرة أخرى هذه السنة. لكن المشكلة التي تواجهها الصين حاليا هي أن الإدارة الأميركية لا تمتلك فعليا أي كوابح. فحتى في زمان إدارة ترامب الأولى، كان هناك أشخاص قادرون على منعها من الخروج عن السيطرة مثل جون كيلي، رئيس موظفي البيت الأبيض، وإتش. آر. ماك ماستر، مستشار الأمن القومي، لكن اليوم الوضع مختلف تماما، لن تستطيع لا الصين "العدو" ولا أوروبا الحليفة من إيجاد صوت مختلف في أوساط "كابينت" ترامب. تقول بعض التحليلات إن ترامب يريد، أكثر من أي وقت مضى، اتباع إستراتيجية تهدف إلى إقناع الطرف الآخر بأنه قادر على القيام بأي شيء، والذهاب إلى أكثر نقطة مجنونة بعيدة ممكنة لإجباره على تقديم تنازلات. في المقابل، لا تحب الصين أبدا المشكلات ولا الصراعات الكبرى المؤثرة على الاقتصاد العالمي، فهي دولة تزدهر في الأمن والسلم، لكن يبدو أنها تُقاد مجبرة إلى حرب تجارية غير مسبوقة في ضراوتها. لكن بكين ليست وحدها التي ستدفع ثمن توجهات وقرارات ترامب، فيبدو أن الرئيس الأميركي يُعادي نظاما سياسيا واقتصاديا أسَّسته أميركا نفسها وحصدت جُلَّ فوائده، نظام يجعلها صاحبة اليد الطولى سياسيا وثقافيا واقتصاديا، بما يعني أن واشنطن في طريقها لهدم البيت الصيني سوف تُخرب بيتها بأيديها أولا، والأهم أنها ستهدم بلا رجعة ذلك النظام الذي كفل لها الهيمنة على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.


موقع كتابات
٢٤-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- موقع كتابات
كاشفة الضمير الحر
خيوط ضوء: ليس سهلا تضحي بشعب من كل الأعمار وتكتب تاريخا بالدم وأجسادا دفنت بلا قبور أو ورود ولا نرد على من يتكلم في فتات وقته كقاضي بطلا وكعالم في الخفايا والواقعية وراء الكيبورد. لكننا نؤسس على حقيقة الحدث ونوع من انتصار الدم عندما يتكلم وان شكا فبصمود مدهش ولا يخلو الناس من ضعف فهم ليسوا آلهة ولا مثاليين، لكن الصمود عندما يتميز بمن يقاتله العالم الرسمي ومؤامراته وخبث البعض الذي أن تعجب من شيء هو أن نفوسا كهذه أبالسة في جسد الآدمي. الكره لايدلوجيا أو فكرة حين تجعلك تستبيح دماء الأبرياء فهو يعبر عن كينونتك الفاقدة للآدمية وان معاداتك لهذه الأيديولوجية شرف لها وتكريم، فهذه الناس أينما كانت ومن كانت الموت ليس غايتهم ولكنهم قاتلوا وفق ظنهم من اجل حياة أهلهم أحرار في أرضهم، ولعل عدوهم له ذات الاندفاع وله أيديولوجيته وتفسيره المقابل، لكن المعيار في محاكمة السلوك مبدئيا؛ فقلة عند العداء يتصرفون بإنسانيةوهذا رقي وجدناه واقعا في سلوك القسام مع الأسرى وعلاقة لابد من دراستها وتحليلها والبناء عليها وليس على الكراهية لحل مشكلة بشر يتصارع على حقوق بين مطالب ومانع لها. ما يحصل أمامنا من قتل ودم وتخريب بتقنيات حديثة وعلى شعب اعزل يقاتل عنه مقاتلون شبه عزّل حرك أمراً مهما وهو إدراكالشعوب الحية في الغرب، وصمت يبدو كعين العاصفة يصارع العجز مع القهر في مجتمعات عربية وإسلامية راحت تلوم الضحية وأصحاب القضية. هذه وغيرها مما سيكون دراسة لفترة زمنية ومعاناة شعب أصاب العالم الرسمي تجاهه العماء هو إنما خيوط ضوء تنبه الشعوب وضمائر لم تمت إلى واقع الآدمية المتراجع وسؤال كبير من نحن؟ وهل خدعنا في ادعاء الحرية والإنسانية والقيم المبهرجة عندما كشفت في مطالبة أهل القضية بالقضية؟ عدمية الكراهية: عندما نريد أن نصدر حكما على أمور مصيرية فهي لا تنضوي تحت حرية الراي أو الراي والراي الآخر بفهم ممكن أن يوصف بالسطحية والعواطف سلبية أو إيجابية ليحول البعض موضوع التقييم إلى تقييم ملائكي وآخرون يحولونه إلى مراجع شيطانية، في حين أن الحكم يتطلب أن تتمهل وتدرس حيثيات الموضوع، وهو يؤخذ من باب 1)) الحقوق 2)) والظروف أي البيئة وتحدياتها 3)) وهل العمل صواب أم خطأ 4)) وما هي معايير الخطأ والصواب هل يحددها الإعلام أم معايير معينة، أم 5)) العلاقات المحيطة بمنظومة المقاومة الفلسطينية وهي موضوعنا الذي نبحثه، كعلاقتها مع جهات قد يكون من يصدر الأحكام مؤيدا لها أو يكون مخالفا كارها لها، هنا سنسقط في معامل حكم آخر لا يتعامل مع الأمور الفكرية وإنما السياسة والجغرافيا السياسية والاستراتيجية وهذه كلها عوامل قد لا تعطي بالمجمل أمرا استراتيجيا للقرار رغم أنها مواضيع أساسية بيد أنها هنا تشكل دوافع لدعم المقاومة الفلسطينية أي عوامل محيطة ببيئة المقاومة تتلخص بأحد قرارات ثلاث ، أ)) الوقوف مع المقاومة الفلسطينية لنتائج وخلاصة العوامل المذكورة، ب)) أو الوقوف ضدها، ج)) أو الجلوس على التل. كاشفة الضمير: 7 أكتوبر كما اصطلح عليها ليست وليدة ذلك اليوم وإنما هي حلقة كبيرة في سلسلة إثبات الوجود والكينونة في صراع وجودي صفري مستمر منذ إعلانه 1948 واتخذ أشكالا من التفاعل كانت كلها تشحن الصفرية دون توقف لمنع الكراهية أو الرغبة في بناء تعايش سلمي وإنما منطلق أيديولوجي أساسا لم يقم من اجل اليهود ولا مصلحتهم وهو ما كتب عنه كتاب كثر وكان عبد الوهاب المسيري رحمه الله من الذين وضحوا بالتفصيل ماهية الأمر، وما زال العمل يتصاعد من العدائية إلى الكراهية العمياء وفقدن الحس البشري وجرائم الحرب والتدمير بل أن المهاجر إلى فلسطين للاستيطان فيها اليوم ينادي إلى تهجير سكان البلد الأصليين وفق تلك الأيديولوجيا والفرضيات العدمية وتدعمها عدة حكومات في الغرب وأمريكا لأسباب متعددة لقد كشفت الضمير بل الحياة في العالم ككل عندما تكلمت الشعوب الحية وصمتت عجزت بل بانت كثعبان يلتقم نفسه. ما طرحته لن اذهب لتفصيله فهو ليس متن مقال وإنما بحث وكتابيجب أن يكتب بفاصل زمني ليكون بحثا رصينا، لكن التساؤل الكبير هل كان يتوقع مخطط تلك المعركة أن يواجه بالسلبية والاتهامات بل وبمساعدة عدوه في تدميره ممن ينبغي أن يقفوا معهليمنعوا الإبادة الجماعية على الأقل! ولهذا الموضوع أهمية لان من ينتقد الخسائر الكبيرة والتي تتعاظم لان لا رادع للقوي والمتكبر لما يفعل سببه الموقف السلبي والا فالحرب انتهت عندما أضحت عسكريا لا معنى لها وهذا أصلا قبل أن تتوغل القوات البرية داخل غزة، وكان التفاوض لحل نهائي عقلا هو الذي يجب أن يحكم وليس سلوكيات بعيدة عن التمدن والإنسانية واي قيمة آدمية لإثبات أن إسرائيل منصة مازالت صالحة وهو ما برهنت الإبادة عكسه


الجزيرة
١٢-٠٤-٢٠٢٥
- ترفيه
- الجزيرة
الدِّين الرقمي: كيف نصنع جسورًا بدلًا من جدران افتراضية؟
في قرية سورية مُمزقة بالحرب، كان "علي" -الطفل البالغ 12 عامًا- يتشبث بحياة بسيطة مع جدته، بعد أن سلبته الحرب والديه، حتى جاء صيف 2022، حين قلبَت حملة "كفالة يتيم" على منصة "صدقة" الإلكترونية مصيره رأسًا على عقب. رجل وامرأة من مذهبين متباعدين تكفّلاه، وتدفقت آلاف المساهمات في أيام، كما وثّق تقرير "مؤسسة التقوى الخيرية" (2022)، لتُضيء دموع جدته فرحًا برسالة الكفيلين: "التعاطف لا مذهب له"، حسب "أطفال الحرب" (2023). من دعوة إنسانية رقيقة انبثقت من قلب القيم الدينية، انفجر الدين الرقمي كقوة جبارة على الشبكات، لكنها قوة تتأرجح: تضامن يذيب الحدود الطائفية، أو خطابات تُشيّد جدرانًا افتراضية بين السنة والشيعة. هذه اللحظة تُلخص لغزًا عظيمًا: كيف نُحوّل الدين من حائط عازل إلى جسر يصل العالم؟ بعد رحلة عبر هوياتنا وعواطفنا وإبداعنا الرقمي، نصل إلى هذا التحدي الجديد في "الدين الرقمي: كيف نصنع جسورًا بدلًا من جدرانٍ افتراضية؟"، حيث يقول الله تعالى: {وما أرسلناك إلَّا رحمةً للعالَمين} (الأنبياء: 107)، دعوة كونية تُنير مسارًا لثقافة رقمية تُحررنا من أنماطنا، وتُطلقنا نحو آفاق التآلف العالمي. المحتوى والعمق: ما الذي يُشكل المحتوى الديني العربي؟ إعلان يتأرجح المحتوى الديني العربي بين مواعظ تقليدية، كتلك التي تُبث عبر قنوات "الداعية" لتقديم نصائح يومية مثل آداب الصلاة، وحوارات حديثة كمنصة "إسلاميات"، التي تُناقش قضايا كالمساواة من منظور ديني. لكن، هل يملك الدين ثقافة عالية تُؤهله للانتشار العالمي؟ نتساءل كما تساءل عبدالوهاب المسيري في "العلمانية تحت المجهر" (2005) عن قدرة الخطاب الديني على التجدد. تقرير مركز الملك فيصل (2020) يُظهر أن 70% من هذا المحتوى يتركز على تفسيرات ضيقة، وهو ما يؤكده تحليل "مركز الدراسات الإسلامية المعاصرة" (2021)، مُعززًا الانعزال بدلًا من فضيلة الرحمة والعدل، التي شكّلت أساس "حلف الفضول" (ابن هشام، القرن التاسع الميلادي). لكن، وبالرغم من هذا الواقع، هناك نماذج جيدة دعمت الخطاب الديني، كمنصة "رحمة" التي تُقدم محتوى تعليميًّا للأطفال، وحملة "مدارس القرآن" التي جمعت تبرعات لمدارس دينية في أفريقيا، ومبادرة "وعي" لنشر القيم عبر فيديوهات.. هذه أمثلة فقط، إذ تُعنى هذه المقالة بالأغلب لا بالقليل، وإنها "لو خلت خربت"، كما يقول المثل. الجمهور والتفاعل: أيُوحِّد الدين أم يُفرِّق؟ يستقبل الجمهور العربي المحتوى الديني بتفاعل هائل، لكنه ينقسم بين تضامن وانقسام. حملة "كفالة يتيم" جمعت مساهمات من طوائف مختلفة، لكن حملة "إحياء ليلة القدر" (2022)، التي حلّلتها "مبادرة الإعلام الرقمي العربي" (2023)، كشفت أن نسبة كبيرة من تفاعلاتها عكست تمايزًا طائفيًّا، بينما نجحت "الإفطار معًا"، كما وثّقها مركز الملك عبدالعزيز (2021)، في جمع مسلمين وغير مسلمين، مُبرزةً قوة القيم المشتركة. لماذا يغلب الانقسام على التضامن؟ يقول محمد عمارة: "الدين ليس ملكًا لفئة، بل رحمة تجمع الأمة على قلب واحد، إذا فهمنا جوهره"، مُشيرًا إلى أن التضامن ممكن إذا تحررنا من النظرة الطائفية الضيقة. بينما تُظهر النماذج الإيجابية إمكانات التجميع، كما في قصة "نورا"، وهي متطوعة شيعية من البحرين شاركت في الحملة قائلة: "تعلمت أن بكاء اليتيم لا يصمه مذهب"!. يبقى غياب الخطاب الإنساني العام عائقًا أمام التواصل الكامل. يظل الخطاب الديني العربي محصورًا في أساليب وعظية تقليدية، غالبًا متكررة وأحادية الجانب، تقدم الدين كمجموعة من القواعد الصلبة دون حوار مفتوح، ما يُضعف جاذبيته عالميًّا. في المقابل، يعتمد البث المسيحي الأميركي، كما حلّلت كامبل في "When Religion Meets New Media" (2010)، على تقديم مفتوح كبرنامج "The 700 Club" الذي يُركز على القيم المشتركة كالرحمة والأمل، جاذبًا ملايين المشاهدين بأسلوب تفاعلي يمزج القصص الشخصية بالمواعظ. في الهند، يمزج المحتوى البوذي الروحانية مع التسامح عبر بودكاست "Mindful Living"، كما وثق مركز بيو (2018)، مُعززًا الحوار بين المجتمعات بتقديم مرن يتجاوز التقليدية الصارمة. في هذا السياق، يقول محمد أركون: "الدين لا يعيش إلا إذا تحرر من قيود التقليد الأعمى وانفتح على الحوار مع العالم"، مُشيرًا إلى ضرورة تجديد الأساليب ليكون الخطاب جسرًا عالميًّا. التكنولوجيا تضيف بُعدًا جديدًا، حيث تُشير دراسة مركز اللغة العربية في أبوظبي (2022) إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي تُحلل الخطاب الديني، لكنها تفتقر لفهم القيم الأعمق، بسبب نقص بيانات شاملة تتجاوز الفتاوى الشكلية إلى الجوهر الإنساني. ما الذي يمنعنا من استلهام هذه الأساليب لتحويل الخطاب العربي إلى لغة عالمية؟ الانخراط في تقديم مرن وتفاعلي، كما فعلت "كفالة يتيم" بقصصها الحية، ضروري لصناعة محتوى مُبدع يكسر جدران الشاشات ويُعزز الجسور. يمكن للقيم الدينية العربية أن تُشكل جسورًا ثقافية إذا تحررت من الأنماط السائدة التي تُغلق الأبواب وتُقيم الحواجز. التسامح والعدل، اللذان تجسّدا في "حلف الفضول" الذي جمع قبائل مختلفة لنصرة المظلوم قبل أكثر من ألف عام (ابن هشام، القرن التاسع الميلادي)، يملكان قدرة على إثراء العالم في ظل تراجع القيم الغربية الفردية، كما يُحلل إدوارد سعيد في "الاستشراق" (1978). في آسيا، نجحت مبادرة "Buddhist Peace Fellowship" في ميانمار بتعزيز السلام عبر الشبكات بين المجتمعات المتنازعة، مستخدمةً قصصًا ملهمة ومنصات رقمية لنشر التسامح، كما وثق تقرير "Asia Dialogue"(2020). لكن دراسة جامعة الشارقة (2022) تُظهر أن 40% من التفاعلات الدينية العربية تُعزز الانقسامات الطائفية، مُغذَّاةً بخطابات تفضيل مذهب، أو فتاوى متشددة تُهاجم الآخر، بدلًا من حوارات العدل. "مؤشر القيم الدينية العالمية" (2023)، بالتعاون مع مركز "بيو"، يُظهر أن نسبة ذكر "العدل" في المحتوى العربي لا تتجاوز 8%، مقابل 23% في المحتوى الهندي. هل يمكن للدين أن يتحول إلى قيم مفتوحة تُعزز العلاقات بين الشعوب؟ السياق العربي بحاجة إلى خطوة مماثلة تتجاوز الجدران الافتراضية. عندما نتحدث عن "الأنماط السائدة" في الخطاب الديني الرقمي، نعني تلك الأفكار والممارسات التي تُكرّس الانقسام بدلًا من الحوار. الخطاب الطائفي يُركز على اختلافات المذاهب، كفتاوى تُهاجم الآخر بدلًا من تعزيز القواسم المشتركة، والتفسيرات الضيقة تختزل الدين في مظاهر شكلية كالجدل حول لون الحجاب أو شكل العبادة، مُهملةً قيمه الجوهرية كالتعاطف والعدل، بينما يطرح الخطاب الأحادي الرأيَ الديني كحقيقة مطلقة دون احترام التعددية، مُغلقًا باب النقاش. فبينما يدعو المحتوى التجميعي إلى حوارات العدل وفيديوهات مشتركة لإغاثة المنكوبين، يُغلّب المحتوى الانعزالي خطابات تفضيل مذهب أو فتاوى متشددة، مُشكّلًا جدرانًا افتراضية تُغذيها خوارزميات الشاشات، كما يُظهر تقرير مركز الملك فيصل (2020) بنسبة 70% انعزالية، وتؤكد دراسة جامعة الشارقة (2022) تفاقم الانقسام بنسبة 40% من التفاعلات. تطبيق "كفالة مباشرة" يربط الكفيل باليتيم مباشرةً، عبر شهادة رقمية موثقة تُظهر صورة الطفل وتقريرًا شهريًّا عن دعمه، بينما تُحلل أداة "نور" من جامعة الملك عبدالله النصوص الدينية لاستخراج قيم التضامن وإنتاج محتوى تفاعلي يُعززها تتجلّى الرؤية في نسج محتوى ديني عربي يُحوّل قيم التسامح والعدل إلى جسورٍ رقمية تذيب الحواجز الطائفية، مدعومًا بتكنولوجيا تُحلل الأصوات وتُطلق الحوار عبر العالم، ليكون الدين مرآةً تعكس وحدتنا لا جدرانًا تُفرقنا. يمكن تحقيق ذلك عبر مبادراتٍ ملموسة: منصة "لقاء القيم" تجمع عالمين من مذهبين في حلقات حية على يوتيوب، يناقشان قضايا مثل فقر الأطفال، مستلهمين من نصوص "إغاثة الملهوف"، لتُنتج فيديوهات تُعرض أسبوعيًّا وتُترجم لتصل عالميًّا، على غرار "الحوار الوطني" السعودي. تطبيق "كفالة مباشرة" يربط الكفيل باليتيم مباشرةً، عبر شهادة رقمية موثقة تُظهر صورة الطفل وتقريرًا شهريًّا عن دعمه، بينما تُحلل أداة "نور" من جامعة الملك عبدالله النصوص الدينية لاستخراج قيم التضامن وإنتاج محتوى تفاعلي يُعززها. مسلسل كرتوني كـ "قلب المدينة" يروي قصة فتاة تُحيي "حلف الفضول" بأسلوب "أنيميشن" مُبهر يُعرض على منصات مثل نتفليكس، وتعاون "الشيعة تيوب" و"السنة لايف" يُنتج سلسلة فيديوهات "أخلاقيات الحرب"، كل حلقة تُختتم بحكمة مثل "العدل ليس حكرًا على أحد"، مُصممة بجودة عالية تُنافس عالميًّا. هذه نقطة انطلاقٍ فقط: تنتظرنا رحلةٌ مُذهلة، حيث يرقص التراث مع التكنولوجيا.. أبياتٌ شعرية تُحلق كأصداءٍ عبر الأثير، قصصٌ بطولية تُعاد حياكتها بألوان الشاشات، وروحٌ حضارية تُطلق أجنحتها فوق الحدود.. هذه النماذج اختارت ثقافتها الأصيلة وانطلقت منها، فلنغرف من ثقافتنا العربية الإسلامية، فإن كنزًا مهجورًا تركناه ينتظر من يكتشف أسراره ويُحييه بأنفاس العصر! "خوارزميات السوشيال ميديا تُضخّم الخلاف، فلنختر نحن ما يُضخَّم!".. شارك هذا المقال واسأل: "ما التراث الذي تود أن يُحلق عالميًا؟".

سعورس
٢٥-٠٢-٢٠٢٥
- علوم
- سعورس
ثورة الذكاء الاصطناعي ومحاولة محاكاة التفاعل الاجتماعي
والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتجاوز مجرد المحاكاة ويقترب من جوهر الحوار البشري كموقع للتعبير العاطفي والتفكير النقدي وصناعة المعنى؟ الحوار ليس مجرد تبادل للكلمات، بل هو نسيج معقد من التجارب والعواطف والأفكار التي تنتج مع مرور الوقت. عندما تتحدث إلى إنسان آخر، فإنك لا تستجيب لكلماته فحسب، بل تستجيب أيضًا لصوته وإيقاع حديثه وصمته، وحتى اهتزازات المعنى غير المنطوق. يحاول الذكاء الاصطناعي اليوم محاكاة هذا التعقيد في أحدث نماذجه، لكنه يظل في جوهره بناءً رياضيا تحكمه خوارزميات ونماذج إحصائية. هنا تبرز معضلة فلسفية عميقة: إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على خلق حوار مثل الواقع، فهل هو حقيقي؟ هل الوعي الاجتماعي مجرد تكرار لأنماط لغوية أم أنه يتطلب تجربة ذاتية حقيقية، وإدراكًا للوجود من داخل الذات؟ هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون محاورا حقيقيا؟ عندما نقرأ عملًا أدبيًا عظيمًا أو نستمع إلى نقاش فلسفي عميق نشعر بأن وراء الكلمات يكمن عقل حي وإرادة ورؤية للعالم، صاغها التاريخ الشخصي والفكري للمؤلف، بينما الذكاء الاصطناعي ينسج الحوار باستقراء الماضي وتحليل النصوص المخزنة، وإعادة بنائها بشكل منطقي، فهو لا «يعيش» أفكاره كما نفعل نحن. قد يعترض أحدهم قائلا: «ولكن إذا كان المنتج النهائي مقنعا، فما الفرق الذي يحدثه ذلك؟»، ولكننا هنا نعود إلى الفرق الأساسي بين البشر والآلات. إن ما يجعل التفاعل البشري حيًا هو قابليته للتطويع، وصراعه مع نفسه، وتفاعله مع معضلات الوجود وحدود المعرفة، ورغبته المستمرة في تجاوز نفسه. على الصعيد الشخصي، وعلى هامش كتابة هذه المقالة، أقمت حوارا مع ChatGPT حول قراءة المفكر العربي عبدالوهاب المسيري للتاريخ وفق ما سطره المسيري في كتابه «رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر». في هذا الحوار، عرض ChatGPT أفكار المسيري بدقة، واستحضر ما كُتب عنه، وما قيل حول منهجه الفكري، لكنه لم يخطُ خطوة أبعد نحو بلورة رأي محايد ومستقل حول هذه الفكرة. هنا تكمن معضلة جوهرية في حواراتنا مع الذكاء الاصطناعي: هل يمكن للآلة أن «تفكر» كما نفكر نحن أم أنها تظل مجرد مرآة تعكس ما قيل وما سُجّل دون أن تمتلك وعيا نقديا خاصا بها؟ عندما يتحاور إنسان مع إنسان آخر حول فكرة فلسفية أو رؤية تاريخية، فإن الحوار لا يقتصر على تبادل المعلومات، بل هو فعل تأويلي، حيث يخضع كل رأي لخبرة المتحاور، لسياقه النفسي والفكري، ولطريقة فهمه للواقع. الإنسان لا يكرر ما قرأه، بل يعيد تشكيله وفق رؤيته الشخصية، متأثرًا بوعيه، بتجاربه، وحتى بحدسه. أما الذكاء الاصطناعي، فعلى الرغم من قدرته الهائلة على التحليل والاستحضار يظل كيانًا محكومًا بما تم تخزينه فيه من معارف دون أن يمتلك نقطة ارتكاز ذاتية تتيح له تجاوز حدود الاسترجاع إلى فضاء الإبداع النقدي. ربما يُجادل البعض بأن هذا ليس عيبًا، بل هو جوهر ما يجعل الذكاء الاصطناعي أداة مفيدة، فهو لا ينحاز، لا يتأثر برغبات شخصية، ولا ينزلق إلى العواطف والانفعالات البشرية التي قد تحرف الرأي عن مساره. لكنه، في المقابل، يفتقد القدرة على المغامرة الفكرية، على التساؤل عما هو مجهول، على إعادة صياغة العالم من منظور لم يُكتب بعد. إنه يلتقط النسيج الفكري كما هو، لكنه لا ينسج رؤيته الخاصة. هل نحن أمام وعي جديد أم محاكاة ذكية؟ مما لا شك فيه أن الذكاء الاصطناعي سيستمر في التطور، وقد يأتي وقت يصعب فيه التمييز بين المحادثات البشرية ومحادثات الأنظمة المتطورة. لكن السؤال الأعمق ليس ما إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على خداعنا، بل ما إذا كان بإمكانه «فهم» الحوار واستيعابه كحدث إنساني، وليس مجرد تسلسل منطقي؟ إن التحدي الحقيقي لا يكمن في تحسين قدرات الحوار، بل في محاولة فهم ما الذي يجعل الحوار إنسانيًا في المقام الأول. هل هو المعنى أو الذاكرة أو الألم أو الأمل؟ إذا تمكن الذكاء الاصطناعي يومًا ما من الشعور بهذه الأشياء، فهل سيظل مجرد آلة أم أنه سيخلق «كائنًا جديدًا» لا يمكننا فهمه بالكامل؟ إن ثورة الذكاء الاصطناعي هي طفرة تكنولوجية ومرآة لأسئلتنا الأبدية حول الوعي والهوية، وما يعنيه أن تكون إنسانًا في عالم تتلاشى فيه الحدود بين الإنسان والآلة.


الوطن
٢٥-٠٢-٢٠٢٥
- علوم
- الوطن
ثورة الذكاء الاصطناعي ومحاولة محاكاة التفاعل الاجتماعي
في قلب الثورة الرقمية اليوم، يتسلل الذكاء الاصطناعي إلى أكثر زوايا الوجود البشري تعقيدًا: اللغة والتواصل والتفاعل الاجتماعي. لم يعد مجرد أداة لحل المشاكل الرياضية أو أداء المهام الروتينية، بل أصبح قادرا على محاكاة التفاعل البشري بدقة أكبر من المتوقع. هذا ما نشاهده في رحلته من ما يسمى Machine learning إلى Deep Learning، واليوم نشاهد ثورة ما يسمى Conversational AI. والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتجاوز مجرد المحاكاة ويقترب من جوهر الحوار البشري كموقع للتعبير العاطفي والتفكير النقدي وصناعة المعنى؟ الحوار ليس مجرد تبادل للكلمات، بل هو نسيج معقد من التجارب والعواطف والأفكار التي تنتج مع مرور الوقت. عندما تتحدث إلى إنسان آخر، فإنك لا تستجيب لكلماته فحسب، بل تستجيب أيضًا لصوته وإيقاع حديثه وصمته، وحتى اهتزازات المعنى غير المنطوق. يحاول الذكاء الاصطناعي اليوم محاكاة هذا التعقيد في أحدث نماذجه، لكنه يظل في جوهره بناءً رياضيا تحكمه خوارزميات ونماذج إحصائية. هنا تبرز معضلة فلسفية عميقة: إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على خلق حوار مثل الواقع، فهل هو حقيقي؟ هل الوعي الاجتماعي مجرد تكرار لأنماط لغوية أم أنه يتطلب تجربة ذاتية حقيقية، وإدراكًا للوجود من داخل الذات؟ هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون محاورا حقيقيا؟ عندما نقرأ عملًا أدبيًا عظيمًا أو نستمع إلى نقاش فلسفي عميق نشعر بأن وراء الكلمات يكمن عقل حي وإرادة ورؤية للعالم، صاغها التاريخ الشخصي والفكري للمؤلف، بينما الذكاء الاصطناعي ينسج الحوار باستقراء الماضي وتحليل النصوص المخزنة، وإعادة بنائها بشكل منطقي، فهو لا «يعيش» أفكاره كما نفعل نحن. قد يعترض أحدهم قائلا: «ولكن إذا كان المنتج النهائي مقنعا، فما الفرق الذي يحدثه ذلك؟»، ولكننا هنا نعود إلى الفرق الأساسي بين البشر والآلات. إن ما يجعل التفاعل البشري حيًا هو قابليته للتطويع، وصراعه مع نفسه، وتفاعله مع معضلات الوجود وحدود المعرفة، ورغبته المستمرة في تجاوز نفسه. على الصعيد الشخصي، وعلى هامش كتابة هذه المقالة، أقمت حوارا مع ChatGPT حول قراءة المفكر العربي عبدالوهاب المسيري للتاريخ وفق ما سطره المسيري في كتابه «رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر». في هذا الحوار، عرض ChatGPT أفكار المسيري بدقة، واستحضر ما كُتب عنه، وما قيل حول منهجه الفكري، لكنه لم يخطُ خطوة أبعد نحو بلورة رأي محايد ومستقل حول هذه الفكرة. هنا تكمن معضلة جوهرية في حواراتنا مع الذكاء الاصطناعي: هل يمكن للآلة أن «تفكر» كما نفكر نحن أم أنها تظل مجرد مرآة تعكس ما قيل وما سُجّل دون أن تمتلك وعيا نقديا خاصا بها؟ عندما يتحاور إنسان مع إنسان آخر حول فكرة فلسفية أو رؤية تاريخية، فإن الحوار لا يقتصر على تبادل المعلومات، بل هو فعل تأويلي، حيث يخضع كل رأي لخبرة المتحاور، لسياقه النفسي والفكري، ولطريقة فهمه للواقع. الإنسان لا يكرر ما قرأه، بل يعيد تشكيله وفق رؤيته الشخصية، متأثرًا بوعيه، بتجاربه، وحتى بحدسه. أما الذكاء الاصطناعي، فعلى الرغم من قدرته الهائلة على التحليل والاستحضار يظل كيانًا محكومًا بما تم تخزينه فيه من معارف دون أن يمتلك نقطة ارتكاز ذاتية تتيح له تجاوز حدود الاسترجاع إلى فضاء الإبداع النقدي. ربما يُجادل البعض بأن هذا ليس عيبًا، بل هو جوهر ما يجعل الذكاء الاصطناعي أداة مفيدة، فهو لا ينحاز، لا يتأثر برغبات شخصية، ولا ينزلق إلى العواطف والانفعالات البشرية التي قد تحرف الرأي عن مساره. لكنه، في المقابل، يفتقد القدرة على المغامرة الفكرية، على التساؤل عما هو مجهول، على إعادة صياغة العالم من منظور لم يُكتب بعد. إنه يلتقط النسيج الفكري كما هو، لكنه لا ينسج رؤيته الخاصة. هل نحن أمام وعي جديد أم محاكاة ذكية؟ مما لا شك فيه أن الذكاء الاصطناعي سيستمر في التطور، وقد يأتي وقت يصعب فيه التمييز بين المحادثات البشرية ومحادثات الأنظمة المتطورة. لكن السؤال الأعمق ليس ما إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على خداعنا، بل ما إذا كان بإمكانه «فهم» الحوار واستيعابه كحدث إنساني، وليس مجرد تسلسل منطقي؟ إن التحدي الحقيقي لا يكمن في تحسين قدرات الحوار، بل في محاولة فهم ما الذي يجعل الحوار إنسانيًا في المقام الأول. هل هو المعنى أو الذاكرة أو الألم أو الأمل؟ إذا تمكن الذكاء الاصطناعي يومًا ما من الشعور بهذه الأشياء، فهل سيظل مجرد آلة أم أنه سيخلق «كائنًا جديدًا» لا يمكننا فهمه بالكامل؟ إن ثورة الذكاء الاصطناعي هي طفرة تكنولوجية ومرآة لأسئلتنا الأبدية حول الوعي والهوية، وما يعنيه أن تكون إنسانًا في عالم تتلاشى فيه الحدود بين الإنسان والآلة.