منذ 8 ساعات
خاص "هي" - فلانة صوت سعودي لا يشبه أحدًا: الإبداع يشبع فضولي!
في ظل التحولات الثقافية المتسارعة التي تشهدها المملكة العربية السعودية، أصبحت الموسيقى أكثر من مجرد فن ترفيهي، بل تحولت إلى مساحة تعبير عميقة تلامس الهُوية، وتنقل نبض الجيل الجديد، وتكسر الحواجز التقليدية بين الماضي والحاضر.
عشنا عقودا كانت فيها الموسيقى إما كلاسيكية بحتة أو مستوردة بالكامل، لكننا اليوم في مرحلة ناضجة من إعادة تشكيل مفهوم الموسيقى. في هذا السياق، لم تعد الكلمات تُكتب بلغة واحدة، ولم تعد الألحان تستند إلى مدرسة موسيقية واحدة. بل ظهرت تركيبات صوتية تدمج بين الإيقاع العربي الجنوبي، والنغمة الخليجية، والصوت الإلكتروني المستقل، لتخلق ما يُعرف اليوم بـgenre crossover مزيج يذيب الحدود الجغرافية، ويخلق هُوية موسيقية عربية هجينة معاصرة. وإن كان لكل حركة فنية وجوهها، فإن نادين لنجاوي المعروفة فنيا بـ فلانة هي من الأصوات النسائية الرائدة في هذا التحول… تجربتها الموسيقية لا تعتمد فقط على الأداء بل تنبع من فهم عميق للهُوية، من تأمل في اللغة، ومن رحلة متأنية نحو الذات.
في هذا الحوار، نفتح معها بابا لفهم أعمق لدورها في إعادة صياغة المشهد الموسيقي السعودي، وكيف ترى الفن أداة بحث، لا مجرد منصة تعبير..
أنتِ من الأصوات التي تقود تحولا جذريا في الموسيقى العربية من حيث الأسلوب واللغة وحتى الفلسفة. كيف ترين هذا التحول؟
هذا التحول كان بطيئا وتدريجيا، لكنه أتاح مساحة حقيقية للتنوع. بدأتُ مشواري عام 2007 فنانة من المشهد المستقل، وكنت أقضي سنواتي الأولى أستمع للأصوات العالمية، وأقارنها بما يُنتج محليا. كانت تلك المرحلة تجريبية بامتياز مثل كثيرين غيري، كنت أحاول أن أفكك هُوية وأن أجد توازنا بين التأثر والخصوصية. الآن، ومع تزايد الدعم للفنانين مثلي، بدأنا نطلق الأعمال التي صغناها بهدوء وصبر لسنوات. ما زلنا في طور التجربة المليء بالمحاولات والأخطاء، لكن هذا بالذات ما يثير حماسي.
هل نعيش بالفعل عصرا جديدا للموسيقى العربية والهوية؟
أحب أن أعتقد ذلك. صديقتي المقربة والموسيقية المبدعة ريمَاز عقبي وصفت هذه اللحظة ذات مرة بــ"النهضة السعودية الفنية"، وأحببت هذا الوصف، لأنه فعلا يجسد ما نعيشه. لسنا بصدد اختراع هُوية جديدة.
تُوصف الموسيقى بأنها لغة عالمية، لكنكِ تستخدمينها أيضا لغة شخصية للغاية. كيف تصبح الموسيقى وسيلة لتعريف الذات؟ وهل هي انعكاس للانتماء أم هروب منه؟
فلسفتي تجاه هذا الأمر تغيرت كثيرا بعد عملي على مشروعي ground. لم أعد أرى الموسيقى انعكاسا مباشرا لهُويتي أو لانتمائي، بل أتعامل معها على أنها أداة بحث ووسيلة لمشاركة تأملاتي حول فكرة أو سؤال يشغلني. غالبا ما تسبق كل عمل موسيقي عملية بحث عميقة، سواء بالقراءة، أو التفاعل مع أشكال فنية أخرى، أو الجلوس مع الفكرة حتى تنكشف. أحيانا تكون البداية فضولا حول ذاتي، لكنني تعلمت أن أفصل بين هُويتي الخاصة والعمل ذاته. بالنسبة لي، الإبداع يشبع فضولي المستمر للفهم. ليس الهدف دائما أن أعبّر عن نفسي، بل أن أكتشف ما لا أعرفه بعد.
من خـــلال مــــزجــــك بيــن أنماط موسيقية متعددة وجذور ثقـــافـــيــــة مختـــلــفــــة، كيــــف تعيــــديــــن تــعــريــــف "الــعــــربي" في الموسيقى؟
لطالما كانت هذه النقطة مؤرقة لي، خصوصا لكوني أعبّر موسيقيا بالإنجليزية في معظم أعمالي. ولفترة طويلة، كنت أظن أن لغة التعبير تحدد مدى "عروبة" العمل، وكان هذا يشكل لي أزمة داخلية. لكن مع مشروعي المقبل، وبدعم وتشجيع شركائي في Input/Output، بدأت أتعامل مع الكتابة بالعربية بجدية أكبر. إلى جانب ذلك، ما مررتُ به من تجارب إنسانية خلال العامين الماضيين غيّر تماما فهمي لما يعنيه أن أكون عربية. أدركت أن تمثيل هُويتي العربية لا يتعلق باللغة فقط، بل بكيفية حضوري والمواقف التي أتبناها والجهد الذي أضعه في عملي. يتعلق الأمر بروح العمل، وبالأسئلة التي أطرحها، وبالقصص التي أرويها، وبالطريقة التي أتحرك بها في هذا العالم.
للموسيقى تأثير يتجاوز الفن نفسه، ليشمل الموضة والهُوية البصرية والحركات المجتمعية. كيف تعكس موسيقاكِ هُويتكِ بصريا؟
درستُ العمارة، وهذا منحني تقدير عميقا للجماليات، خصوصا حين تخدم هدفا واضحا. في كل مشروع أطلقه، أحرص على بناء هُوية بصرية تعكس جوهر العمل، سواء عبر الأزياء، أو أسلوبي على المسرح. لا ألتزم بأسلوب بصري ثابت، بل أسمح للموسيقى بأن تقود المسار. الصوت أولا، والباقي يتبع.
في زمن يتداخل فيه الصوت الرقمي أكثر من أي وقت مضى، ماذا تعني لكِ الأصالة؟
هذا سؤال صعب، لأني أسأله لنفسي باستمرار. أعتقد أن الكثير من الفنانين ينشغلون بمحاولة "أن يكونوا أصليين"، لدرجة أن ذلك يفسد العمل. في سعيهم للتميز، يبالغون ويعقدون الأمور، بل ويفقدون صِلة العمل بروحه الأولى. أظن أن السبب هو هذا الخلط الشائع: الأصالة ليست هي الأصالة الشكلية أو الابتكار الكامل. بالنسبة لي، الأصالة تتجاوز فكرة الاختراع. الأصالة هي روح العمل في النية، وصدق، ونظرة خاصة. كلما ركزنا على كيف نقدم الشيء، لا كيف سيتلقاه الآخرون، اقتربنا أكثر من الأصالة الحقيقية.
اليوم، خصوصا في العالم العربي، لم يعد الفنان مجرد صوت، بل صار سفيرا ثقافيا. هل ترين نفسك في هذا الدور؟ وما الرسالة التي ترغبين في إيصالها من خلال فنك؟
لا أظن أن "السفير" هو دور يختاره الإنسان بل يمنح له. وبصراحة، أرى أن هذا النوع من الضغط ثقيل نوعا ما. ومع ذلك، الفنانون، بدرجة كبيرة، يصبحون ممثلين لعصرهم ومكانهم. كما كتب "تشارلز ديكنز": "كان أفضل الأوقات وأسوأ الأوقات". هذا التناقض حاضر جدا في منطقتنا. حين أفكر في إقامتي في أوساكا اليابانية، أعترف بأنني كنت بشكل ما مرآة للمشهد الفني والموسيقي السعودي، لكن أيضا كنت مقدمة تعريفية، وأحيانا الانطباع الأول، عن منطقتي وثقافتي وديني. لم أطمح أبدا لأن يُنظر إلي كرمز أو سفيرة. لكن إن كان لا بد من ذلك، فلتكن رسالتي قائمة على ما هو جوهري: اللطف، والتواضع، وقيمة الانضباط، وأهمية التعلم خارج تخصصك، والإلمام بالعالم من حولك، والإيمان العميق بقوة التعاون والمجتمع. يجب أن نكبر كأشخاص أولا قبل أن نكبر كفنانين. هذا في رأيي هو أساس العمل الحقيقي العميق.