#أحدث الأخبار مع #كلودكيتيل،Independent عربية٢٨-٠٢-٢٠٢٥صحةIndependent عربيةمنذ فجر التاريخ... نفس الإنسان أمارة بـ"الجنون"يقول المدير الشرفي للأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، مؤلف كتاب "تاريخ الجنون من العصور القديمة وحتى يومنا هذا"، الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي كلود كيتيل، إن "الاهتمام البحثي الكبير بتاريخ الجنون سببه أننا جميعاً مصابون بالجنون، وهذا ما يؤكده قول مأثور قديم أنك إذا أردت أن ترى مجنوناً فما عليك إلا النظر في المرآة". وعلى مدى قرون تمتد لأكثر من 2000 عام وحتى ظهور طب الأمراض العقلية والنفسية مطلع القرن الـ19، ظل هناك تضارب في تعريف الجنون، إذ كان في الغالب متأرجحاً بين اتجاهين يميل أحدهما إلى الاتجاه الأخلاقي والفلسفي والآخر إلى الاتجاه الطبي، مما أدى إلى الالتباس والغموض حول مفهوم الجنون، ليس فقط في التوصيف الطبي النفسي أو البيولوجي بل في تعريف الكلمة في قواميس اللغة التي تبدو في حيرة من إيراد الكلمة أصلاً في القاموس، ومنها يُشرح الجنون بـ "فقدان العقل" وآخر يصفه كحال متباينة الأبعاد من الاضطراب العقلي، تندرج في مجال الأمراض النفسية. صعوبة تعريف الجنون وتحديده تكمن صعوبة تحديد ماهية الجنون في كون تعريفه منوطاً بكل من المؤرخ والفيلسوف والطبيب والمحلل النفسي وعالم الاجتماع، وبالطبع لكل منهم نظرته الشخصية إلى مفهوم الجنون، أما علاقة السلطات الرسمية بالجنون والمجانين فكانت حتى وقت قريب تتلخص بالتهرب من معالجة المشكلة أو التعامل معها عبر احتجاز المجانين في أماكن تخصهم، سواء أكانت منعزلات أو منافي خارج مجتمعات "السالمين عقلياً"، وداخل مستشفيات المجانين التي سميت لاحقاً بالمصحات العقلية. وكان عمل السلطات يتركز في إخفاء المشكلة خلف جدران سميكة بعيداً من أعين المجتمعات التي تسير بصورة منتظمة لا يتخللها جنوح المجانين وخروجهم على القواعد الاجتماعية المتوافق عليها بين الباقين، وظهر الطب النفسي مطلع القرن الـ19 قبل أن يجعله سيغموند فرويد علماً مستقلاً بذاته منذ مطالع القرن الـ20، وهذا ما منحه لقب "أبو علم النفس". ومنذ ذلك الحين صار الجنون جزءاً من هذا العلم الجديد ومن داخل عملية الاضطراب العصبي والتي نسعى إلى الهرب منها عبر الاضطراب العقلي، ومع اشتباك علم النفس بعلوم الأعصاب والدماغ الآخذة في التقدم والتطور منذ منتصف القرن الـ20 صار الجنون حالاً مرضية بالمعنى الطبي، مع بقائه مشكلة للنقاش والبحث والتحليل من وجهة نظر الفلسفة وعلم الاجتماع طالما أن لكل مجتمع أنماطاً خاصة من الانحراف عن القواعد الاجتماعية التي تعتبر فعلاً ما جنوناً وآخر طبيعياً، وهذا الفرق في تحديد معنى الجنون من مجتمع إلى آخر، إذ لا يزال هو نفسه اليوم كما كان كذلك منذ ثلاثة آلاف عام، فالمعايير المتبعة في القياس تحددها الثقافة والعادات والتقاليد والأديان السائدة والقواعد الاجتماعية المقبولة التي تتبدل من زمن إلى آخر في المجتمع نفسه ومن مجتمع إلى آخر. منذ الإغريق إلى العصور الوسطى المسيحية والإسلامية أدت الأعمال النظرية للإغريق والرومان في شأن الجنون إلى إعداد لوائح علاجية له، وبداية العلاجات كانت مع أبقراط الذي كان يعطي وصفاً دقيقاً لأي مرض مع ذكر العلاج الملائم له، فمثلاً في حال شخص مصاب بالتهاب الدماغ تتراءى الزواحف أمام عينيه وأن هناك جنوداً مسلحين من الإغريق يقاتلونها، وأنه هو نفسه يقاتل إلى جوارهم فيثور ويتمرد، فيصف أبقراط الدواء لهذا المريض بخمس وحدات من نبات الخربق الأسود توضع في خمر حلو ويعطى هذا الشراب للمريض، أو نترات الصوديوم المستخرج من الملح الصخري المستورد من مصر القديمة، ثم تخلط في وعاء مع العسل والزيت والماء المغلي ولبن حمير دافئ، ثم يمزج هذا الخليط جيداً ويعطى للمريض من طريق حقنة شرجية. كما يمكن أن يتناول المريض شراباً يحوي خليطاً من العسل والماء والخل، وبناء على وصفات أبقراط وغيره من أطباء العصر القديم فإنه اعتباراً من القرن الثالث الميلادي كان الأطباء يملكون بين أيديهم ترسانة حقيقية من الوصفات العلاجية والأدوية للمصابين بالجنون. ومن العلاجات الحمامات المائية المهدئة والمراهم الشمعية المصنوعة من الشمع والزيت للدهان الموضعي أو الكمادات المبللة بماء دافئ على العينين، إضافة إلى الحقن الشرجية، وهناك العلاج بالفصد والحجامة واستخدام العلقات لامتصاص الدم الملوث، وكذلك المواد الكاوية. وبعد أبقراط ظهرت طرق لعلاج الجنون قائمة على إشباع الحاجات النفسية الأساس للإنسان مع الاحتفاظ بالعلاجات السابقة، فظهرت عمليات الترويح عن المريض وإدخال السرور على قلبه لتخليصه من الأفكار المسيطرة عليه ودفعه إلى ممارسة بعض التمارين المنشطة، ومورست الهدهدة على المرضى الذين لا يمكنهم ممارسة الرياضة بأنفسهم، أي وضعهم في أراجيح لتحريك أجسامهم أو نقلهم على طرق وعرة لترتج أجسادهم ويتحرك الدم فيها، ثم ظهر الاستماع إلى الموسيقى والمسرح كوسائل للتطبيب. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وأوصى الفيلسوف الروماني كاليوس بحضور عروض الفن الإيمائي للمجانين المصابين بالحزن، وحضور مسرحيات تراجيدية تتضمن الحزن والخوف إذا كان المجانين مصابين بابتهاج طفولي، أي تصحيح نوع الخلل العقلي بنقيضه، وقد امتدح أرسطو التراجيديا لأنها تسهم بإثارة مشاعر الشفقة والخوف خلال عملية التطهير أو المشاعر والانفعالات. وفي مرحلة لاحقة تعرضت هذه الطرق السلمية في العلاج إلى انتكاسة بعد ظهور الدعوات إلى استخدام القوة والعنف، وهذه الدعوة خاصة بالمدرسة الرواقية البيتاغورثية التي تعتبر أن الإنسان مسؤول عن جنونه كمسؤوليته عن التحكم بعواطفه، ودعا بعض فلاسفة هذه المدرسة إلى اللجوء للتعنيف والتجويع والتقييد بالسلاسل والجلد بالسوط والضرب، ولا سيما إن كان الهدف من ذلك "قمع وقاحة وتجاسر المرضى"، وإمكان اللجوء إلى إثارة الذعر والفزع المفاجئ وإحداث اضطراب في ذهن المريض في حال كانت إصابته بالصدمة وسيلة لتنبيهه لما هو فيه، لتحدث له إفاقة من جنونه. ولم يتطور التفكير النظري في شأن الجنون خلال العصور الوسطى بعد أن عُد الجنون مرضاً شيطانياً وعلاجه يكون باستخدام أدوات وأساليب عنيفة تهدف لطرد الشيطان من جسد المريض، وهي طرق أقرب إلى التعذيب منها إلى العلاج، وقد اجتاحت الغرب المسيحي أواخر القرون الوسطى، وبقي الأمر على هذه الحال حتى مجيء القرن الـ11 ليعيد الفلاسفة العرب عبر الترجمة عن اللغات اللاتينية الحياة للفكرين اليوناني والروماني، وقد سميت هذه العصور بعصور التنوير عبر النقل والترجمة في الإمبراطورية الإسلامية الممتدة حتى أوروبا، وعصور الظلام الأوروبية. وفي القرن الـ11 انتعش الطب بفعل التأثير القادم من إسبانيا وصقلية مستفيداً من الإسهامات العلمية التي قدمها العرب في نقل النصوص اليونانية، وما أضافوه من دراسات وتأملات انتفع بها الطب الغربي خلال العصور الوسطى، وفي تلك الفترة برز الفيلسوفان والطبيبان العربيان أبو بكر الرازي (865 - 925) وهو من أتباع أبقراط، وابن سينا الذي إضافة إلى كونه فيلسوفاً وطبيباً فقد كان صاحب مدرسة خاصة في التصوف، وصار كتابه "القانون في الطب" من أكثر الكتب التي أجمع عليها العلماء والدارسون في الشرق والغرب، وبنهاية حقبة القرون الوسطى أصبحت النسخة المترجمة عنه إلى اللاتينية أكثر الكتب طباعة بعد الكتاب المقدس. وخلال الفترة التي كان المرضى النفسيون يرسلون إلى الأديرة والكنائس في أوروبا ليجري عزلهم أو تعريضهم للصلوات والتعذيب لطرد الشياطين، قدم الرازي وابن سينا نظريات عن الجنون كمرض عضوي وليس مساً شيطانياً، وكان الدواء يتضمن العلاج النفسي والحمامات الساخنة والتدليك والتغذية، وفي مستشفى دمشق خلال القرن الـ 10 ومستشفى القاهرة في القرن الـ13 كان المرضى النفسيون يعالجون بالموسيقى والقراءة لتحفيز العقل، وبالأدوية العشبية مثل الزعفران واللبان لعلاج الاكتئاب. هل سينتهي البحث في الجنون؟ مع نهايات القرن الـ19 بدأ عصر التجارب العلمية والعلاج بالصدمات الكهربائية لعلاج الاكتئاب والفصام، ثم ظهرت مؤسسات تعتمد على العلاج بالعمل اليدوي والفنون والموسيقى كطريقة لإعادة التأهيل النفسي، وخلال القرن الـ20 بدأ التحول إلى الطب النفسي الحديث على رغم بقاء مجموعة من العلاجات القاسية والتجارب غير الأخلاقية، مثل عمليات الختان الجبهي الذي جرى تطويرها عام 1835 على يد أنطونيو إيغاس مونيز، إذ يُقطع الاتصال بين الفص الجبهي وبقية الدماغ لعلاج الفصام، لكنه أدى إلى تدمير شخصيات المرضى. ولن ينتهي البحث في الجنون إلا بانتهاء الإنسانية نفسها، وكما قال رئيس جمعية التحليل النفسي في باريس، جيرارد بايل، فإن "الحياة مرض في نمو مستمر"، ولهذا فإن السؤال المطروح هو كيف سيبدو الجنون بعد 100 عام أو خمسة قرون؟ لقد جرى ترويض وتكييف الجنون في زمننا الراهن حتى في أشكاله الأكثر استعصاء، ولم تعد هناك جدران تحيط بالمصحة وتفصل بوضوح بين هؤلاء الموجودين في جانب وأولئك في الجانب الآخر، وظهرت مضادات الذهان عام 1950 وأول دواء نفسي حديث وهو الـ"كلوربرومازين" الذي أحدث ثورة في علاج الفصام، ثم تبعه ظهور مجموعة كبيرة من الأدوية كان على رأسها مضادات الاكتئاب مثل الـ "روزاك"، وترافقت هذه الاكتشافات الحديثة مع انطلاق حركة خلال السبعينيات والثمانينيات تطالب بإلغاء المصحات النفسية الضخمة واستبدالها بالعلاج المجتمعي والعيادات الخارجية، وصارت الحكومات متدخلة بصورة أكبر في كثير من الدول للاهتمام بصحة مواطنيها النفسية ودعم المختبرات والبحوث التي تحاول التخفيف من الأمراض النفسية الآخذة في التزايد خلال العصر الحديث، مثل القلق والتوتر والاكتئاب، وفي دول مثل كندا والسويد هناك دعم حكومي واسع للصحة العقلية على رغم أنه في دول أخرى لا تزال الأمراض النفسية تفسر بالخرافات أو تخفى خوفاً من العار، لكن في جانب آخر ظهرت حركات حديثة ترى أن بعض الحالات مثل التوحد والاضطراب ثنائي القطب ليست أمراضاً بل أشكالاً مختلفة من التنوع العقلي، ويجب تقبلها بدلاً من محاولة إصلاحها.
Independent عربية٢٨-٠٢-٢٠٢٥صحةIndependent عربيةمنذ فجر التاريخ... نفس الإنسان أمارة بـ"الجنون"يقول المدير الشرفي للأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، مؤلف كتاب "تاريخ الجنون من العصور القديمة وحتى يومنا هذا"، الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي كلود كيتيل، إن "الاهتمام البحثي الكبير بتاريخ الجنون سببه أننا جميعاً مصابون بالجنون، وهذا ما يؤكده قول مأثور قديم أنك إذا أردت أن ترى مجنوناً فما عليك إلا النظر في المرآة". وعلى مدى قرون تمتد لأكثر من 2000 عام وحتى ظهور طب الأمراض العقلية والنفسية مطلع القرن الـ19، ظل هناك تضارب في تعريف الجنون، إذ كان في الغالب متأرجحاً بين اتجاهين يميل أحدهما إلى الاتجاه الأخلاقي والفلسفي والآخر إلى الاتجاه الطبي، مما أدى إلى الالتباس والغموض حول مفهوم الجنون، ليس فقط في التوصيف الطبي النفسي أو البيولوجي بل في تعريف الكلمة في قواميس اللغة التي تبدو في حيرة من إيراد الكلمة أصلاً في القاموس، ومنها يُشرح الجنون بـ "فقدان العقل" وآخر يصفه كحال متباينة الأبعاد من الاضطراب العقلي، تندرج في مجال الأمراض النفسية. صعوبة تعريف الجنون وتحديده تكمن صعوبة تحديد ماهية الجنون في كون تعريفه منوطاً بكل من المؤرخ والفيلسوف والطبيب والمحلل النفسي وعالم الاجتماع، وبالطبع لكل منهم نظرته الشخصية إلى مفهوم الجنون، أما علاقة السلطات الرسمية بالجنون والمجانين فكانت حتى وقت قريب تتلخص بالتهرب من معالجة المشكلة أو التعامل معها عبر احتجاز المجانين في أماكن تخصهم، سواء أكانت منعزلات أو منافي خارج مجتمعات "السالمين عقلياً"، وداخل مستشفيات المجانين التي سميت لاحقاً بالمصحات العقلية. وكان عمل السلطات يتركز في إخفاء المشكلة خلف جدران سميكة بعيداً من أعين المجتمعات التي تسير بصورة منتظمة لا يتخللها جنوح المجانين وخروجهم على القواعد الاجتماعية المتوافق عليها بين الباقين، وظهر الطب النفسي مطلع القرن الـ19 قبل أن يجعله سيغموند فرويد علماً مستقلاً بذاته منذ مطالع القرن الـ20، وهذا ما منحه لقب "أبو علم النفس". ومنذ ذلك الحين صار الجنون جزءاً من هذا العلم الجديد ومن داخل عملية الاضطراب العصبي والتي نسعى إلى الهرب منها عبر الاضطراب العقلي، ومع اشتباك علم النفس بعلوم الأعصاب والدماغ الآخذة في التقدم والتطور منذ منتصف القرن الـ20 صار الجنون حالاً مرضية بالمعنى الطبي، مع بقائه مشكلة للنقاش والبحث والتحليل من وجهة نظر الفلسفة وعلم الاجتماع طالما أن لكل مجتمع أنماطاً خاصة من الانحراف عن القواعد الاجتماعية التي تعتبر فعلاً ما جنوناً وآخر طبيعياً، وهذا الفرق في تحديد معنى الجنون من مجتمع إلى آخر، إذ لا يزال هو نفسه اليوم كما كان كذلك منذ ثلاثة آلاف عام، فالمعايير المتبعة في القياس تحددها الثقافة والعادات والتقاليد والأديان السائدة والقواعد الاجتماعية المقبولة التي تتبدل من زمن إلى آخر في المجتمع نفسه ومن مجتمع إلى آخر. منذ الإغريق إلى العصور الوسطى المسيحية والإسلامية أدت الأعمال النظرية للإغريق والرومان في شأن الجنون إلى إعداد لوائح علاجية له، وبداية العلاجات كانت مع أبقراط الذي كان يعطي وصفاً دقيقاً لأي مرض مع ذكر العلاج الملائم له، فمثلاً في حال شخص مصاب بالتهاب الدماغ تتراءى الزواحف أمام عينيه وأن هناك جنوداً مسلحين من الإغريق يقاتلونها، وأنه هو نفسه يقاتل إلى جوارهم فيثور ويتمرد، فيصف أبقراط الدواء لهذا المريض بخمس وحدات من نبات الخربق الأسود توضع في خمر حلو ويعطى هذا الشراب للمريض، أو نترات الصوديوم المستخرج من الملح الصخري المستورد من مصر القديمة، ثم تخلط في وعاء مع العسل والزيت والماء المغلي ولبن حمير دافئ، ثم يمزج هذا الخليط جيداً ويعطى للمريض من طريق حقنة شرجية. كما يمكن أن يتناول المريض شراباً يحوي خليطاً من العسل والماء والخل، وبناء على وصفات أبقراط وغيره من أطباء العصر القديم فإنه اعتباراً من القرن الثالث الميلادي كان الأطباء يملكون بين أيديهم ترسانة حقيقية من الوصفات العلاجية والأدوية للمصابين بالجنون. ومن العلاجات الحمامات المائية المهدئة والمراهم الشمعية المصنوعة من الشمع والزيت للدهان الموضعي أو الكمادات المبللة بماء دافئ على العينين، إضافة إلى الحقن الشرجية، وهناك العلاج بالفصد والحجامة واستخدام العلقات لامتصاص الدم الملوث، وكذلك المواد الكاوية. وبعد أبقراط ظهرت طرق لعلاج الجنون قائمة على إشباع الحاجات النفسية الأساس للإنسان مع الاحتفاظ بالعلاجات السابقة، فظهرت عمليات الترويح عن المريض وإدخال السرور على قلبه لتخليصه من الأفكار المسيطرة عليه ودفعه إلى ممارسة بعض التمارين المنشطة، ومورست الهدهدة على المرضى الذين لا يمكنهم ممارسة الرياضة بأنفسهم، أي وضعهم في أراجيح لتحريك أجسامهم أو نقلهم على طرق وعرة لترتج أجسادهم ويتحرك الدم فيها، ثم ظهر الاستماع إلى الموسيقى والمسرح كوسائل للتطبيب. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وأوصى الفيلسوف الروماني كاليوس بحضور عروض الفن الإيمائي للمجانين المصابين بالحزن، وحضور مسرحيات تراجيدية تتضمن الحزن والخوف إذا كان المجانين مصابين بابتهاج طفولي، أي تصحيح نوع الخلل العقلي بنقيضه، وقد امتدح أرسطو التراجيديا لأنها تسهم بإثارة مشاعر الشفقة والخوف خلال عملية التطهير أو المشاعر والانفعالات. وفي مرحلة لاحقة تعرضت هذه الطرق السلمية في العلاج إلى انتكاسة بعد ظهور الدعوات إلى استخدام القوة والعنف، وهذه الدعوة خاصة بالمدرسة الرواقية البيتاغورثية التي تعتبر أن الإنسان مسؤول عن جنونه كمسؤوليته عن التحكم بعواطفه، ودعا بعض فلاسفة هذه المدرسة إلى اللجوء للتعنيف والتجويع والتقييد بالسلاسل والجلد بالسوط والضرب، ولا سيما إن كان الهدف من ذلك "قمع وقاحة وتجاسر المرضى"، وإمكان اللجوء إلى إثارة الذعر والفزع المفاجئ وإحداث اضطراب في ذهن المريض في حال كانت إصابته بالصدمة وسيلة لتنبيهه لما هو فيه، لتحدث له إفاقة من جنونه. ولم يتطور التفكير النظري في شأن الجنون خلال العصور الوسطى بعد أن عُد الجنون مرضاً شيطانياً وعلاجه يكون باستخدام أدوات وأساليب عنيفة تهدف لطرد الشيطان من جسد المريض، وهي طرق أقرب إلى التعذيب منها إلى العلاج، وقد اجتاحت الغرب المسيحي أواخر القرون الوسطى، وبقي الأمر على هذه الحال حتى مجيء القرن الـ11 ليعيد الفلاسفة العرب عبر الترجمة عن اللغات اللاتينية الحياة للفكرين اليوناني والروماني، وقد سميت هذه العصور بعصور التنوير عبر النقل والترجمة في الإمبراطورية الإسلامية الممتدة حتى أوروبا، وعصور الظلام الأوروبية. وفي القرن الـ11 انتعش الطب بفعل التأثير القادم من إسبانيا وصقلية مستفيداً من الإسهامات العلمية التي قدمها العرب في نقل النصوص اليونانية، وما أضافوه من دراسات وتأملات انتفع بها الطب الغربي خلال العصور الوسطى، وفي تلك الفترة برز الفيلسوفان والطبيبان العربيان أبو بكر الرازي (865 - 925) وهو من أتباع أبقراط، وابن سينا الذي إضافة إلى كونه فيلسوفاً وطبيباً فقد كان صاحب مدرسة خاصة في التصوف، وصار كتابه "القانون في الطب" من أكثر الكتب التي أجمع عليها العلماء والدارسون في الشرق والغرب، وبنهاية حقبة القرون الوسطى أصبحت النسخة المترجمة عنه إلى اللاتينية أكثر الكتب طباعة بعد الكتاب المقدس. وخلال الفترة التي كان المرضى النفسيون يرسلون إلى الأديرة والكنائس في أوروبا ليجري عزلهم أو تعريضهم للصلوات والتعذيب لطرد الشياطين، قدم الرازي وابن سينا نظريات عن الجنون كمرض عضوي وليس مساً شيطانياً، وكان الدواء يتضمن العلاج النفسي والحمامات الساخنة والتدليك والتغذية، وفي مستشفى دمشق خلال القرن الـ 10 ومستشفى القاهرة في القرن الـ13 كان المرضى النفسيون يعالجون بالموسيقى والقراءة لتحفيز العقل، وبالأدوية العشبية مثل الزعفران واللبان لعلاج الاكتئاب. هل سينتهي البحث في الجنون؟ مع نهايات القرن الـ19 بدأ عصر التجارب العلمية والعلاج بالصدمات الكهربائية لعلاج الاكتئاب والفصام، ثم ظهرت مؤسسات تعتمد على العلاج بالعمل اليدوي والفنون والموسيقى كطريقة لإعادة التأهيل النفسي، وخلال القرن الـ20 بدأ التحول إلى الطب النفسي الحديث على رغم بقاء مجموعة من العلاجات القاسية والتجارب غير الأخلاقية، مثل عمليات الختان الجبهي الذي جرى تطويرها عام 1835 على يد أنطونيو إيغاس مونيز، إذ يُقطع الاتصال بين الفص الجبهي وبقية الدماغ لعلاج الفصام، لكنه أدى إلى تدمير شخصيات المرضى. ولن ينتهي البحث في الجنون إلا بانتهاء الإنسانية نفسها، وكما قال رئيس جمعية التحليل النفسي في باريس، جيرارد بايل، فإن "الحياة مرض في نمو مستمر"، ولهذا فإن السؤال المطروح هو كيف سيبدو الجنون بعد 100 عام أو خمسة قرون؟ لقد جرى ترويض وتكييف الجنون في زمننا الراهن حتى في أشكاله الأكثر استعصاء، ولم تعد هناك جدران تحيط بالمصحة وتفصل بوضوح بين هؤلاء الموجودين في جانب وأولئك في الجانب الآخر، وظهرت مضادات الذهان عام 1950 وأول دواء نفسي حديث وهو الـ"كلوربرومازين" الذي أحدث ثورة في علاج الفصام، ثم تبعه ظهور مجموعة كبيرة من الأدوية كان على رأسها مضادات الاكتئاب مثل الـ "روزاك"، وترافقت هذه الاكتشافات الحديثة مع انطلاق حركة خلال السبعينيات والثمانينيات تطالب بإلغاء المصحات النفسية الضخمة واستبدالها بالعلاج المجتمعي والعيادات الخارجية، وصارت الحكومات متدخلة بصورة أكبر في كثير من الدول للاهتمام بصحة مواطنيها النفسية ودعم المختبرات والبحوث التي تحاول التخفيف من الأمراض النفسية الآخذة في التزايد خلال العصر الحديث، مثل القلق والتوتر والاكتئاب، وفي دول مثل كندا والسويد هناك دعم حكومي واسع للصحة العقلية على رغم أنه في دول أخرى لا تزال الأمراض النفسية تفسر بالخرافات أو تخفى خوفاً من العار، لكن في جانب آخر ظهرت حركات حديثة ترى أن بعض الحالات مثل التوحد والاضطراب ثنائي القطب ليست أمراضاً بل أشكالاً مختلفة من التنوع العقلي، ويجب تقبلها بدلاً من محاولة إصلاحها.