#أحدث الأخبار مع #كلوزفيتزالوطن٠٨-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالوطنالموقف الأدبي من الحرب والسلمينظر الأدب إلى الحرب والسّلم بطريقة تختلف عن النظرة السياسية، أو مواقف القادة العسكريين من أيام صن تزو الصيني حتى كلوزفيتز الروسي. الأدب يرى أن الحرب في الحياة الإنسانية شاملة ومتسعة إلى أبعد مما يظنه قادة السياسة والعسكر. الأدب يرى الصراع والشقاق (والتمرُّد وخلاف الأمزجة والقتال والصدام والمناوشات، بل حتى مجرد ظهور طرفين متناقضين، سواء بسواء بين البشر، أو بين الظواهر الطبيعية) «جوهر الوجود». الوجود الواحد الموحَّد، الهادئ، السلمي، الأنيق، المُفعم بالسعادة، ليس أكثر من وهْمٍ في وهْم... ويَنطبق هذا على الوجود البشري، وعلى الوجود الكوني. والسِّلم في رأي الأدب، ليس أكثر من توازن القوى بين طرفين، فهو حالة مؤقتة، كما يثبت التاريخ، كل التاريخ. وما السِّلم الروماني Romana Pax سوى دعاية؛ فمعبد جانوس لم يُغلِق أبوابه على مدى ثمانية قرون، سوى بضعة أسابيع. وحالما يختلّ التوازن بين القوى تنشب الحرب، سواء من أجل امرأة، كما في حرب طروادة، أم سباق داحس والغبراء، أو بسبب مقتل أرشيدوق، أو بسبب ممرّ... والأعذار أكثر من أن تُحصى. وكما أنّ العواشب لا تَفرض سِلماً، واللّواحم لا توقِف حرباً، كذلك الأفراد والشعوب والأوطان، إمّا عواشب وإمّا لواحم. ولا فرق في الأدب بين حرب طرفاها من البشر، وبين حرب أحد طرفيها من البشر، والآخر مجهول، فهناك حرب أبدية مع الجهل والمرض، والظواهر الطبيعية المدمرة... بل هناك حرب مع الذات. وعلى هذا فالحرب بين الحضارات (سمّيت صراعاً أم صداماً أم اشتباكاتٍ، أم تبايُناً أم غير ذلك) لا تختلف عن الحرب بين فردين، سوى في أن الحضارة ذات عُمقٍ تاريخي مُتجذِّر، أكثر ممّا تحمله جينات الفرد من حفريّات ثقافيّة. لكن من يدري اليوم، بعد التطورات العلمية، ألا تكون جينات الفرد الواحد تعود إلى جدّنا الأول المستر نياندرتال!؟ لا نظن أن هناك أديباً أو فيلسوفاً أَعلن أننا نعيش في دار سلام، بل دائماً في دار حرب، حرب شاملة، حتى العواطف المتضاربة تتصارع في الذات الواحدة. وينطبق هذا على آراء هيراكليت وحتى كيرغيرد ونيتشه وهيدغر وسارتر... وأما الرواقية، فإنها تقر بذلك ولكنها ترى أن على المرء أن ينشد الحرية بالتعالي على كل ما يلم به، فحتى السجين بمجرد أن يؤمن أنه حر، يُصبح حراً. وما الحركة الصوفية سوى إقرار واضح أن الحياة حرب وصراع، فاعتزالها يجنّبنا مآسيها. ولو أمعنّا في جمهورية أفلاطون لرأينا أنها كلها مبنية لخدمة العسكر، فالمرأة مشاعة، ليس بمعنى أنها حرة أن تختار الرجل الذي تريد، بل بمعنى أن الدولة هي التي تختار لها الرجل المناسب الذي يستولدها أطفالاً أصحاء ببنية قوية، والدولة مسؤولة عنهم، ليكونوا جنوداً تملؤهم الحمية، وتدفعهم الشجاعة، وبذا يتحولون إلى جنود يضمنون السِّلم للجمهورية. أما الأدب فلا يجوز أن يكون حراً، بل عليه أن ينظم الأناشيد للعسكر، ويُدبّ الحمية من أجل الاستعداد الدائم للحرب... أما أشعار الغزل والحب والخمرة، والتعبير عن المعاناة، فمحظورة حظراً شديداً. ثم أنت لست حرّاً في هذه الجمهورية، حتى في اختيار العمل الذي تحب، بل الدولة توكل إليك العمل المناسب لشخصيتك، بعد اختبار هذه الشخصية وامتحانها بأسئلة وتدريبات خاصة... فيكون حظك كما تصنفك الدولة وفق التقسيم الثلاثي لنظرية أفلاطون: فكرية، غضبية، شهوية. ففي رأيه أن الحفاظ على الموجود في حال تأهب واستعداد خير ضمان للسلم الذي ستنعم به جمهوريته، ولا عمل للضعفاء سوى العمل الوضيع. هل نُذكركم بأن هيغل سمّوه «فيلسوف الحرب»؟ زعم أن الأمة لا يمكن أن تتوطد من دون أن تحارب، أن يكون لها عسكر يضمن لها السلم والأمن. وهل نذكركم بشوبنهور ونيتشه وباقي الفلاسفة الأدباء؟ وسنتجاهل آراء فرويد ويونغ وإدلر في التكوين النفساني المولِّد للعدوان والصراع والحروب، التي ستستمر ما لم تحلّ العقد النفسانية والكبت والقمع... لشيوع هذه الآراء في عصرنا. وثمة أدباء وصفوا حروباً أبدية في هذه الحياة. هل نذكركم بمسرحيات أسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس؟ تذكروا أبطال هذه المسرحيات فقط، وسترون أنها تعبير عن الحروب المريرة التي تقع في هذه الحياة: بروميثيوس، أنتيغوني، إفيجينيا، أورست... وفي العصر الحديث يكفي أن نذكر أن أوغست ستراندبرغ رأى أن الحرب الأبدية، هي بين الرجل والمرأة، كما في معظم مسرحياته أمثال «جوليا» و«الأب» وباقي المسرحيات. ويأتي يوجين يونسكو ليؤكد هذه الحرب الصامتة في مسرحيته «أميدية»، فبعد الزواج لا يدري الزوج كيف يخرج من هذه الورطة، حتى بعد وفاة زوجته، إلى درجة أنه لم يستطع أن يتخلص من الجثة (الكراهية الزوجية) التي تنمو يوماً بعد يوم، والمؤلف نفسه احتار في وضع نهاية مقبولة للمسرحية، إلى أن نصحه أحد المخرجين بأن يجعل نسراً يقتحم المنزل من النافذة ويطير بالجثة، فجعل المؤلف بطله يمسك بالجثة وينتهي معها، للتدليل أن الزواج حرب لا بد منها، بل تستمر حتى في الحياة الأخرى. سرد العلاقات أما الشعراء الرومانسيون فلم يجدوا السعادة إلا في الهرب من هذا المجتمع المريع، الذي لم يعد صالحاً للحياة، حتى وردزورث، وهو المجلّي في شعراء البحيرة، يقدم لنا أبلغ هذه الصور، فلوسي تعيش منزوية قرب ينبوعٍ في بقعة يانعة صغيرة، هَرَباً من المجتمع، والحاصدة الجميلة تصدح بنشيدٍ لا يفهم منه الشاعر كلمة، ومع ذلك استنتج من نغمتها الحزينة أنها تتذكر معركة لقومها اندحروا فيها. هل نأتي على ذكر الشعر الحديث، أو الرواية الحديثة؟ اقرأ أي أثر وانظر كم تضيق الحياة في هذه الآثار الأدبية فتخنق أبطالها. لن أدلك على روايات بلزاك «الملهاة البشرية» ولا على روايات إميل زولا، بل اقرأ رواية واحدة أقرب إلى عصرنا، وهي «تس سليلة دوربرفيل» لتوماس هاردي، الذي أتقن سرد العلاقات بين الشخصيات، بحيث يذكرنا بسوفوكليس ويوريبيدس، فكأن هذه العلاقات نوع من القدر المحتوم. خذْ أي ديوان من العصر الحديث، فلا تجد فيه إلا السخط والضجر والصراخ والعويل والتأفّف من هذه الحياة المرهقة التي تحاربنا من كل الجهات، فنشعر بالفساد حتى حين نتنشق الأنفاس من الهواء صباحا ومساء... إن الحديث يطول. بيان تأييد من التاريخ تَظهر الحروب كأن لها أسباباً متعددة. والواقع أنها تتغير بتغير الظروف الاجتماعية. فقد بدأت الحروب منذ أواخر العصر النيوليثي، وما زالت مستمرة حتى اليوم. لما ظهر الحصان والسيف والترس، ظهرت مع هذه الأدوات الأنظمة الكولونيالية، أو ما سميناه في لغتنا «الاستعمار»، ولما ظهر البارود في القرن الرابع عشر، واستخدمه الغرب من أجل الحرب، ظهر ما نطلق عليه اسم «الإمبريالية»، ولما ظهرت الذرة ظهرت معها الحرب الذرية... لكن الوضع يبقى هو عينه كما كان في العصر الحجري. ونظن أن الثورة الزراعية، وهي ما جاءت بالوبال على البشرية، افتتحت عهد الحروب المريعة، التي بدأت أول الأمر بين الصيادين والمزارعين، ثم تطورت وصارت أكثر شمولية... إلى أن وصلنا إلى عصر العولمة، حيث باتت الحرب غير مقتصرة على طرفين صغيرين، أو كبيرين، بل صارت تهدد البشرية برمتها. وكثرت دعوات السلم في كل مكان، ولكن من دون جدوى. وجدير أن نذكر تجربة الحزب الشيوعي الصيني، فقد أراد إسقاط نظام «شان كاي شك» بالتظاهرات في المُدن الكبرى، فمُني بهزيمة شديدة الوقع، إثر خسارته الكثير من أعضائه وجماهيره الذين صرعوا في التظاهرات. فلما استلم «ماو تسي تونغ» القيادة، قام بالمسيرة الكبرى، ووضع إستراتيجيّة الانقضاض على المدن وتطويقها من الريف. وفي الريف البعيد عن سلطة الدولة، أقام المعسكرات والتدريبات، وأعد ما صار يعرف في ما بعد بـ «الجيش الأحمر»، وطرح شعار «السلطة تنبع من فوهة البندقية» فحصل على النصر في منتصف القرن العشرين. برقية تأييد من العِلم قبل هذا القرن لم يأبه العلماء لغدة التايموس (الزعترية) الموجودة في أعلى القفص الصدري، لأنها تظهر منذ الولادة، ويتوقف عليها تقريباً سن البلوغ. لكن العلماء اكتشفوا اليوم أنها غدة أساسية تسيطر على الخلايا «ت» وأيضاً «ب». وتبيَّن أنها قلعة عسكرية تأتيها الكريات البيضاء لتتدرب على أصول محاربة المعتدين. وبعد التدريب يجري فحص دقيق لكل كرية، بأن تقدم لها خلية عدوة، فإن لم تقتلها، أعدمت معها، وإن نجحت أرسلتها القيادة إلى المكان المناسب في الجهاز اللمفاوي (كما في جمهورية أفلاطون). بعض الخلايا في الجسد لا يجري عليها اختبار، وهي خلايا العينين والأظافر والشعر والخصيتين، فإذا صادف ودخلت كرية بيضاء إلى هذه الأماكن، قضت على العضو بالكامل، فلا الشعر ينبت من جديد، ولا الظفر يعرف النمو. ومن ضعف عنده الجهاز الحربي، يغدو عرضة لكل أنواع الأمراض. وهكذا، إن لم يكن للجماعة، من الأسرة حتى الأمة، «تايموس» يجهز الجنود لأي عدوان خارجي، فلا بد أن يعاني من نقص المناعة ويصبح ساحة مباحة لكل أنواع العدوان. وصفة فيلسوف العقل والأخلاق قدَّم كاط وصفة «طبية» بعنوان «مشروع للسلام الدائم»، وهو عبارة عن اقتراح بإنشاء «تايموس» عالمي يكون قوة رادعة لكل من يخرق القوانين العالمية التي تشرف عليها مؤسسة مسكونية، مسؤولة عن توطيد السلم بين الأمم، بل أيضاً تشرف على القوانين الداخلية، إن كان فيها ما يحط من كرامة الإنسان. وقد أخذت الدول بهذه الوصفة، ولكن يبدو أنها لم تتبع تعاليم الواصف، فظهرت عصبة الأمم، وفشلت، ثم ظهرت هيئة الأمم فكان فشلها أكبر. من دون «تايموس» لتمنيع الوطن والوجود البشري، بحسب وصفة كانط، من العبث الحديث عن السلم. لا شك أن هذا المشروع لن يعجب مالتوس، فالحرب في نظره ليست عدواناً، بل ضرورة، لأن تكاثر السكان أخطر من كل الحروب. *كاتب وناقد من سوريا * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.
الوطن٠٨-٠٥-٢٠٢٥ترفيهالوطنالموقف الأدبي من الحرب والسلمينظر الأدب إلى الحرب والسّلم بطريقة تختلف عن النظرة السياسية، أو مواقف القادة العسكريين من أيام صن تزو الصيني حتى كلوزفيتز الروسي. الأدب يرى أن الحرب في الحياة الإنسانية شاملة ومتسعة إلى أبعد مما يظنه قادة السياسة والعسكر. الأدب يرى الصراع والشقاق (والتمرُّد وخلاف الأمزجة والقتال والصدام والمناوشات، بل حتى مجرد ظهور طرفين متناقضين، سواء بسواء بين البشر، أو بين الظواهر الطبيعية) «جوهر الوجود». الوجود الواحد الموحَّد، الهادئ، السلمي، الأنيق، المُفعم بالسعادة، ليس أكثر من وهْمٍ في وهْم... ويَنطبق هذا على الوجود البشري، وعلى الوجود الكوني. والسِّلم في رأي الأدب، ليس أكثر من توازن القوى بين طرفين، فهو حالة مؤقتة، كما يثبت التاريخ، كل التاريخ. وما السِّلم الروماني Romana Pax سوى دعاية؛ فمعبد جانوس لم يُغلِق أبوابه على مدى ثمانية قرون، سوى بضعة أسابيع. وحالما يختلّ التوازن بين القوى تنشب الحرب، سواء من أجل امرأة، كما في حرب طروادة، أم سباق داحس والغبراء، أو بسبب مقتل أرشيدوق، أو بسبب ممرّ... والأعذار أكثر من أن تُحصى. وكما أنّ العواشب لا تَفرض سِلماً، واللّواحم لا توقِف حرباً، كذلك الأفراد والشعوب والأوطان، إمّا عواشب وإمّا لواحم. ولا فرق في الأدب بين حرب طرفاها من البشر، وبين حرب أحد طرفيها من البشر، والآخر مجهول، فهناك حرب أبدية مع الجهل والمرض، والظواهر الطبيعية المدمرة... بل هناك حرب مع الذات. وعلى هذا فالحرب بين الحضارات (سمّيت صراعاً أم صداماً أم اشتباكاتٍ، أم تبايُناً أم غير ذلك) لا تختلف عن الحرب بين فردين، سوى في أن الحضارة ذات عُمقٍ تاريخي مُتجذِّر، أكثر ممّا تحمله جينات الفرد من حفريّات ثقافيّة. لكن من يدري اليوم، بعد التطورات العلمية، ألا تكون جينات الفرد الواحد تعود إلى جدّنا الأول المستر نياندرتال!؟ لا نظن أن هناك أديباً أو فيلسوفاً أَعلن أننا نعيش في دار سلام، بل دائماً في دار حرب، حرب شاملة، حتى العواطف المتضاربة تتصارع في الذات الواحدة. وينطبق هذا على آراء هيراكليت وحتى كيرغيرد ونيتشه وهيدغر وسارتر... وأما الرواقية، فإنها تقر بذلك ولكنها ترى أن على المرء أن ينشد الحرية بالتعالي على كل ما يلم به، فحتى السجين بمجرد أن يؤمن أنه حر، يُصبح حراً. وما الحركة الصوفية سوى إقرار واضح أن الحياة حرب وصراع، فاعتزالها يجنّبنا مآسيها. ولو أمعنّا في جمهورية أفلاطون لرأينا أنها كلها مبنية لخدمة العسكر، فالمرأة مشاعة، ليس بمعنى أنها حرة أن تختار الرجل الذي تريد، بل بمعنى أن الدولة هي التي تختار لها الرجل المناسب الذي يستولدها أطفالاً أصحاء ببنية قوية، والدولة مسؤولة عنهم، ليكونوا جنوداً تملؤهم الحمية، وتدفعهم الشجاعة، وبذا يتحولون إلى جنود يضمنون السِّلم للجمهورية. أما الأدب فلا يجوز أن يكون حراً، بل عليه أن ينظم الأناشيد للعسكر، ويُدبّ الحمية من أجل الاستعداد الدائم للحرب... أما أشعار الغزل والحب والخمرة، والتعبير عن المعاناة، فمحظورة حظراً شديداً. ثم أنت لست حرّاً في هذه الجمهورية، حتى في اختيار العمل الذي تحب، بل الدولة توكل إليك العمل المناسب لشخصيتك، بعد اختبار هذه الشخصية وامتحانها بأسئلة وتدريبات خاصة... فيكون حظك كما تصنفك الدولة وفق التقسيم الثلاثي لنظرية أفلاطون: فكرية، غضبية، شهوية. ففي رأيه أن الحفاظ على الموجود في حال تأهب واستعداد خير ضمان للسلم الذي ستنعم به جمهوريته، ولا عمل للضعفاء سوى العمل الوضيع. هل نُذكركم بأن هيغل سمّوه «فيلسوف الحرب»؟ زعم أن الأمة لا يمكن أن تتوطد من دون أن تحارب، أن يكون لها عسكر يضمن لها السلم والأمن. وهل نذكركم بشوبنهور ونيتشه وباقي الفلاسفة الأدباء؟ وسنتجاهل آراء فرويد ويونغ وإدلر في التكوين النفساني المولِّد للعدوان والصراع والحروب، التي ستستمر ما لم تحلّ العقد النفسانية والكبت والقمع... لشيوع هذه الآراء في عصرنا. وثمة أدباء وصفوا حروباً أبدية في هذه الحياة. هل نذكركم بمسرحيات أسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس؟ تذكروا أبطال هذه المسرحيات فقط، وسترون أنها تعبير عن الحروب المريرة التي تقع في هذه الحياة: بروميثيوس، أنتيغوني، إفيجينيا، أورست... وفي العصر الحديث يكفي أن نذكر أن أوغست ستراندبرغ رأى أن الحرب الأبدية، هي بين الرجل والمرأة، كما في معظم مسرحياته أمثال «جوليا» و«الأب» وباقي المسرحيات. ويأتي يوجين يونسكو ليؤكد هذه الحرب الصامتة في مسرحيته «أميدية»، فبعد الزواج لا يدري الزوج كيف يخرج من هذه الورطة، حتى بعد وفاة زوجته، إلى درجة أنه لم يستطع أن يتخلص من الجثة (الكراهية الزوجية) التي تنمو يوماً بعد يوم، والمؤلف نفسه احتار في وضع نهاية مقبولة للمسرحية، إلى أن نصحه أحد المخرجين بأن يجعل نسراً يقتحم المنزل من النافذة ويطير بالجثة، فجعل المؤلف بطله يمسك بالجثة وينتهي معها، للتدليل أن الزواج حرب لا بد منها، بل تستمر حتى في الحياة الأخرى. سرد العلاقات أما الشعراء الرومانسيون فلم يجدوا السعادة إلا في الهرب من هذا المجتمع المريع، الذي لم يعد صالحاً للحياة، حتى وردزورث، وهو المجلّي في شعراء البحيرة، يقدم لنا أبلغ هذه الصور، فلوسي تعيش منزوية قرب ينبوعٍ في بقعة يانعة صغيرة، هَرَباً من المجتمع، والحاصدة الجميلة تصدح بنشيدٍ لا يفهم منه الشاعر كلمة، ومع ذلك استنتج من نغمتها الحزينة أنها تتذكر معركة لقومها اندحروا فيها. هل نأتي على ذكر الشعر الحديث، أو الرواية الحديثة؟ اقرأ أي أثر وانظر كم تضيق الحياة في هذه الآثار الأدبية فتخنق أبطالها. لن أدلك على روايات بلزاك «الملهاة البشرية» ولا على روايات إميل زولا، بل اقرأ رواية واحدة أقرب إلى عصرنا، وهي «تس سليلة دوربرفيل» لتوماس هاردي، الذي أتقن سرد العلاقات بين الشخصيات، بحيث يذكرنا بسوفوكليس ويوريبيدس، فكأن هذه العلاقات نوع من القدر المحتوم. خذْ أي ديوان من العصر الحديث، فلا تجد فيه إلا السخط والضجر والصراخ والعويل والتأفّف من هذه الحياة المرهقة التي تحاربنا من كل الجهات، فنشعر بالفساد حتى حين نتنشق الأنفاس من الهواء صباحا ومساء... إن الحديث يطول. بيان تأييد من التاريخ تَظهر الحروب كأن لها أسباباً متعددة. والواقع أنها تتغير بتغير الظروف الاجتماعية. فقد بدأت الحروب منذ أواخر العصر النيوليثي، وما زالت مستمرة حتى اليوم. لما ظهر الحصان والسيف والترس، ظهرت مع هذه الأدوات الأنظمة الكولونيالية، أو ما سميناه في لغتنا «الاستعمار»، ولما ظهر البارود في القرن الرابع عشر، واستخدمه الغرب من أجل الحرب، ظهر ما نطلق عليه اسم «الإمبريالية»، ولما ظهرت الذرة ظهرت معها الحرب الذرية... لكن الوضع يبقى هو عينه كما كان في العصر الحجري. ونظن أن الثورة الزراعية، وهي ما جاءت بالوبال على البشرية، افتتحت عهد الحروب المريعة، التي بدأت أول الأمر بين الصيادين والمزارعين، ثم تطورت وصارت أكثر شمولية... إلى أن وصلنا إلى عصر العولمة، حيث باتت الحرب غير مقتصرة على طرفين صغيرين، أو كبيرين، بل صارت تهدد البشرية برمتها. وكثرت دعوات السلم في كل مكان، ولكن من دون جدوى. وجدير أن نذكر تجربة الحزب الشيوعي الصيني، فقد أراد إسقاط نظام «شان كاي شك» بالتظاهرات في المُدن الكبرى، فمُني بهزيمة شديدة الوقع، إثر خسارته الكثير من أعضائه وجماهيره الذين صرعوا في التظاهرات. فلما استلم «ماو تسي تونغ» القيادة، قام بالمسيرة الكبرى، ووضع إستراتيجيّة الانقضاض على المدن وتطويقها من الريف. وفي الريف البعيد عن سلطة الدولة، أقام المعسكرات والتدريبات، وأعد ما صار يعرف في ما بعد بـ «الجيش الأحمر»، وطرح شعار «السلطة تنبع من فوهة البندقية» فحصل على النصر في منتصف القرن العشرين. برقية تأييد من العِلم قبل هذا القرن لم يأبه العلماء لغدة التايموس (الزعترية) الموجودة في أعلى القفص الصدري، لأنها تظهر منذ الولادة، ويتوقف عليها تقريباً سن البلوغ. لكن العلماء اكتشفوا اليوم أنها غدة أساسية تسيطر على الخلايا «ت» وأيضاً «ب». وتبيَّن أنها قلعة عسكرية تأتيها الكريات البيضاء لتتدرب على أصول محاربة المعتدين. وبعد التدريب يجري فحص دقيق لكل كرية، بأن تقدم لها خلية عدوة، فإن لم تقتلها، أعدمت معها، وإن نجحت أرسلتها القيادة إلى المكان المناسب في الجهاز اللمفاوي (كما في جمهورية أفلاطون). بعض الخلايا في الجسد لا يجري عليها اختبار، وهي خلايا العينين والأظافر والشعر والخصيتين، فإذا صادف ودخلت كرية بيضاء إلى هذه الأماكن، قضت على العضو بالكامل، فلا الشعر ينبت من جديد، ولا الظفر يعرف النمو. ومن ضعف عنده الجهاز الحربي، يغدو عرضة لكل أنواع الأمراض. وهكذا، إن لم يكن للجماعة، من الأسرة حتى الأمة، «تايموس» يجهز الجنود لأي عدوان خارجي، فلا بد أن يعاني من نقص المناعة ويصبح ساحة مباحة لكل أنواع العدوان. وصفة فيلسوف العقل والأخلاق قدَّم كاط وصفة «طبية» بعنوان «مشروع للسلام الدائم»، وهو عبارة عن اقتراح بإنشاء «تايموس» عالمي يكون قوة رادعة لكل من يخرق القوانين العالمية التي تشرف عليها مؤسسة مسكونية، مسؤولة عن توطيد السلم بين الأمم، بل أيضاً تشرف على القوانين الداخلية، إن كان فيها ما يحط من كرامة الإنسان. وقد أخذت الدول بهذه الوصفة، ولكن يبدو أنها لم تتبع تعاليم الواصف، فظهرت عصبة الأمم، وفشلت، ثم ظهرت هيئة الأمم فكان فشلها أكبر. من دون «تايموس» لتمنيع الوطن والوجود البشري، بحسب وصفة كانط، من العبث الحديث عن السلم. لا شك أن هذا المشروع لن يعجب مالتوس، فالحرب في نظره ليست عدواناً، بل ضرورة، لأن تكاثر السكان أخطر من كل الحروب. *كاتب وناقد من سوريا * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.