logo
#

أحدث الأخبار مع #لثوسيديدس

الأدب الوبائي: بين الذاكرة والخوف والمرونة
الأدب الوبائي: بين الذاكرة والخوف والمرونة

الدستور

timeمنذ 16 ساعات

  • صحة
  • الدستور

الأدب الوبائي: بين الذاكرة والخوف والمرونة

د. محمد محمود غزومنذ العصور القديمة تركت الأوبئة بصمة عميقة في الخيال الجماعي والإبداع الأدبي، من روايات الطاعون في أثينا لثوسيديدس إلى روايات الإنفلونزا الإسبانية أو فيروس نقص المناعة البشرية، وغالبًا ما كان الأدبُ مرآةً ومُتنفساً للمجتمعات التي تمر بأزمة؛ لمواجهة الخوف، والمعاناة، والموت؛ إذ استكشف الكتاب الحالة الإنسانية بجوانبها المختلفة تحت الضغط وردود الفعل الفردية والجماعية، إضافة إلى التوترات بين العلم، والمعتقد، والسلطة.إن الأوبئة ليست مجرد مسألة علم أو طب، إنها أيضًا تتعمق في تاريخ الأدب، من أثينا إلى وهران، من الطاعون الأسود إلى فيروس كورونا، إذ استحوذ الأدب على مخاوف المجتمعات المريضة، وترجم اضطراباتها، وحدد طرقًا للتغلب عليها؛ ففي الحالات التي عُزل فيها المرض والمرضى والمجتمع عن الحياة اليومية، ظلّ النص جامعاً الناس كلّهم.وتقترح هذه المقالة استكشاف الأشكال المتعددة التي تتخذها أدبيات الأوبئة، ما بين الذاكرة الجماعية، والتحذير، والأمل. إذ تشير إلى أن الكتابة أكثر بكثير من مجرد شهادة بسيطة، فهي أداة للمقاومة، والفهم، وأحيانًا الشفاء الرمزي.أولاً - تقليد قديم: الكتابة لفهم ما هو غير مرئيمنذ العصور القديمة استغل الأدباء المرض والأوبئة بوصفها مصدر إلهام وتعبير عن حالة واقعية تُصوّرُ فيها الأحداث بتفاصيلها كلها من خوف، وقلق، وحب، وأمل، ومواجهة صحية، وسياسية، واجتماعية، ومن أظهر النماذج على هذا النوع من الأدب، الذي نسميه بالأدب الوبائي، ما يصوّرهُ Thucydides، في «حرب البيلوبونيز»، إذ عرض لطاعون أثينا بواقعية فجة فلا يظهر فقط الأعراض الجسدية، بل يظهر أيضًا التفكك الأخلاقي الذي ينبثق عن هذا الواقع، فيصبح المرض كاشفاً عن أعمق الغرائز؛ كالخوفُ والأنانيةُ وفقدان الإيمان، وهذا النهج التأسيسي يجعل الوباء موضوعًا أدبيًا كاملاً، يتساءل عن الجسم، والمجتمع، والسلطة.وفي القرن الرابع عشر اقترح جيوفاني بوكاتشيو نموذجًا آخر مع «ديكاميرون»؛ ففي هذه المجموعة الروائية فرّ عشرة شبان مصابين بالطاعون الأسود من فلورنسا إلى الريف؛ ليروا فيها القصص لمدة عشرة أيام، وخلف هذا النمط المرح من الأدب وظيفة مفيدة، تكمن في إعطاء Boccaccio عبرة جيدة، ألا وهي التحدث من أجل عدم الغرق، والإبداع من أجل البقاء. وهكذا تصبح الفكاهة والحب والذكاء علاجاً لليأس، وبعيدا عن إنكار المعاناة، سعى هذا النوع من الأدب الى التركيز على الحيوية البشرية.توجد هذه الديناميكية نفسها في الأدب الشرقي الكلاسيكي، إذ ترافق روايات الطاعون أو الكوليرا تأملات روحية وفلسفية، ويصبح المرض دعوة إلى العودة إلى الذات والتطهير والتساؤل الميتافيزيقي.ثانيا - الوباء بوصفه استعارة اجتماعية وسياسيةفي العصر الحديث والمعاصر جعل الكتاب من الوباء رمزًا للشر الأخلاقي أو السياسي ففي الطاعون، يُظهر ألبرت كامو مدينة ضربها الطاعون، إلا أن حقيقة ان ما يندد به هذا الكاتب هو صعود الفاشية، وما يتصل بها من مظاهر اللامبالاة، والإنكار، والخوف، لتصبح أرضًا خصبة للاإنسانيّين. ويجسد الدكتور بيرنار ريو الشخصية المركزية المقاومة الهادئة، والواضحة للعبثية والمعاناة.أما دانيال ديفو، في مجلة عام الطاعون، فوثق طاعون لندن عام 1665. عبر هذه اليوميات المزيفة التي يلتقط فيها السلوكيات البشرية في أوقات الكارثة كالمعلومات المضللة، والممارسات الدينية المتطرفة، والاندفاع إلى العلاجات السخيفة، وطب العرافين. ويصور ديفو الوباء بصفته مؤشراً اجتماعياً، يظهر ما يرغب الناس في القيام به؛ للبقاء على قيد الحياة، كما يوضح بأن الخطر لا يأتي فقط من الفيروس، بل من النسيج الاجتماعي نفسه الذي كشفته الأزمة.وفي الروايات الأحدث، يتضح البعد السياسي للأوبئة؛ فيصبح انتقادُ الرأسمالية، وعدم المساواة في الوصول إلى الرعاية وإدارة الأزمات الاستبدادية، فكرة مشتركة، وبذلك يصبح الأدب منتدياً، ووعيًا شعبياً، يعيد الصوت إلى الضحايا غير المرئيين، والمهمشين والمنسيين.ثالثا. القرن الحادي والعشرون: من الذاكرة الحميمة إلى الصدمة الجماعيةلقد تميزت الأوبئة الكبرى في القرن الحادي والعشرين، مثل الإيدز وكورونا بتخيلات معاصرة غنية بتنوعها الوصفي الإبداعي، ومن الأمثلة اللافتة للانتباه رواية «إلى الصديق الذي لم ينقذني» لهيرفي غيبر التي تعد عملاً مميزًا يصور فيه المؤلف الوحدة، والألم، والقلق الذي يعاني منه المصابون بمثل هذه الامراض؛ ففي هذه الرواية يُظهر المؤلف فيها بدقة مروعة تطور المرض والوحدة، والخوف، ذلك إلى جانب ما يتصل بالحب والصداقة، وتصبح الكتابة عملاً من أعمال البقاء على قيد الحياة في مواجهة المحو التدريجي للجسد الفردي والجمعي، إلا أنها أيضاً طريقة لتحدي الصمت الاجتماعي المحيط بالأمراض والجوائح.وفي الآونة الأخيرة، أنتج وباء كورونا موجة من الأعمال الأدبية على شاكلة القصص، أو دفاتر الحصار، أو السجلات الاجتماعية، أو المقالات الفلسفية، ودليل ذلك ما حاولت ماري داريوسيك، ومايليس دي كيرانجال، وكتاب آخرون التقاط ما يتعلق في محاولة رصد دوار العالم المتوقف جراء هذه الأمراض الكارثية؛ فصمت الشوارع، وغياب الاتصالات، والوقت المعلق ألهم الكتاب شكلاً جديدًا من الكتابة من حيث الفراغ، والتوقع، والقلق. وتحاول هذه الكتابة البطيئة صياغة ما لا يوصف، وما نشعر به عندما يتوقف كل شيء.إضافة إلى ذلك، فثمة شهادات لمقدمي الرعاية، وقصص عن الاستشفاء، ومقالات عن الإدارة السياسية للأزمات الصحية. ويمزج هذا الأدب الهجين بين العلم، والعاطفة، والسياسة، والخيال، والإبداع، وهو لا يوثق لحظة تاريخية فحسب، بل يساعد أيضًا في تكوين ذاكرة جماعية للصدمة، ويصبح أرشيفًا حساسًا، وجسرًا بين التجربة الفردية، والوعي الجماعي.إن كتابة الأوبئة تسجل الرعب، وترسم الاستجابة البشرية الفكرية والعاطفية؛ فعلى مر القرون، رافق الأدبُ الأوبئة الكبرى ليس بوصفه مجرد شاهد، بل ممتحناً يطرح التساؤلات؛ ليهدئ، ويتذكر ويصور مشاهد تبقى خالدة في الذاكرة، سوأ كانت هذه الكتابة سجلًا، أم خيالًا، أم قصيدة، أم صحيفة، فإنها تظل حصناً هشاً للعاطفة، وقوية في الوقت نفسه ضد النسيان، والفوضى. وفي أوقات المرض، غالبًا ما لا يمكن أن يكون دواءً، يصبح صوتا يعزي، ويتصل، ويضيء.ومؤخراً، حاول مؤلفون مثل Marie Darrieussecq و Maylis de Kerangal رصد آثار الحبس، والعزلة، والانتظار، والخوف المنتشر بسبب كورونا، وهذه القصص التي تنقسم بين اليوميات، والسجلات الاجتماعية، والتأملات الفلسفية، تشارك في تكوين الذاكرة الجماعية، وتطرح أسئلة أساسية حول علاقتنا بالعالم، والآخر، والطبيعة، والزمن.وعليه، فإن أدب الأوبئة ليس نوعاً، بل لفتة عالمية تجمع بين مواجهة ما هو غير مرئي وقوة الكلمات، تحول الخوف إلى لغة، والصمت إلى ذاكرة دائمة. من خلال قوة الاستحضار، والرمز، يصور الأدب التحولات الاجتماعية بقدر ما يتوقعها. إنه يعطي معنى للفوضى، ويبني الصدمة، ويسمح لنا أحيانًا بتخيل مستقبل محتمل، ففي عالم يواجه تهديدات صحية جديدة، يظل الادب أداة قيمة للفهم والشعور والمقاومة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store