logo
#

أحدث الأخبار مع #لجبرانخليلجبران

... وعلينا السلام فقد أُصبنا بالخدر المميت *
... وعلينا السلام فقد أُصبنا بالخدر المميت *

الجريدة

time٠٤-٠٥-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • الجريدة

... وعلينا السلام فقد أُصبنا بالخدر المميت *

تحلّقوا حول تلك المائدة الدسمة، كلٌّ يمسك هاتفه النقال ربما لمتابعة «فاشنيستا» أو «إنفلونسر»، أو ربما فقط لتصوير تلك المائدة ووضعها على «إنستغرام» أو بعض مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى. يفيض الطعام فوق الموائد حتى يتحول إلى مواد ربما للمشاركة أو «التفاخر»، أو فقط تعبير آخر من تعابير الملل الدائم لدى بعض الشعوب التي أدمنت ذاك المرض حتى تصورت أنه هو الواقع الأجمل أو الأكثر «تحضّراً»، أو هو النموذج الذي يحتذى. آخرون ينتقلون من مكان لآخر، بل يعبرون البحار والمحيطات وأينما يحطون يكون المشوار الأول هو لذاك المطعم أو المقهى لمزيد من الطعام الذي تزدحم به الموائد حتى تلفظ الكثير منه، فيسقط هنا أو يتبقى كثير منه عندما تنتهي الوليمة، فيجد طريقه إلى سلال المهملات! يسافر البعض متحملاً تكاليف متنوعة، جسدية ومالية، فقط ليزور ذاك المطعم أو المقهى، ويسجل حضوراً كما يفعل الآخرون، ويستطيع بكل ثقة أن يجيب عند سؤاله «هل زرت.....؟؟» فتكون إجابته «طبعاً طبعاً». لا تسألوهم عن آخر الأدوية التي اكتشفها العلماء في ذاك البلد أو أي اختراع أو اكتشاف آخر مفيد للبشرية. ولا تتعبوا أنفسكم طبعاً بتوجيه دفة الحديث إلى الطبيعة هناك أو الثروات الطبيعية في ذاك البلد، والتي تتلون مع الفصول، فتتحول الشوارع إلى لوحات فنية حسب الفصول الأربعة التي تغنّى بها كثير من الشعراء، وربما قصيدة «الفصول الأربعة» لجبران خليل جبران هي الأكثر تعبيراً في وصف جمال تلاوين الشجر وأزهاره وثمراته. هذا لأننا قد عرفنا على مرّ السنين أنهم، أي الباحثين عن الموائد والطعام، لا رغبة لهم في الثقافات الأخرى غير ذلك، ولا حتى فهم أن المطبخ ثقافة وحضارة أيضاً. تمتلئ مكبّات النفايات لإعادة تدوير آلاف الأطنان من الطعام المتبقي، وهناك ليس بعيداً عن صراخ لطفل يبحث عن كسرة خبز تحت أنقاض خيمة. وهو ليس وحده، بل يجتمع من يعرّفون أنفسهم بأنهم نشطاء من أجل فلسطين في مفهوم مخالف للنشطاء عندنا! ليعلنوا أنه في غزة مَن لا يموت بالقذيفة والرصاصة والشظية، يموت جوعاً، ويجمعوا ما استطاعوا من طعام وعدّة ويرحلوا في قوارب تقترب من شواطئ غزة، ليعلنوا للغزاويين ولكل العالم أنهم ليسوا وحدهم، بل هناك في رومانيا وبريطانيا وفرنسا والمدن البعيدة كثيرون يشعرون بجوعهم، حتى أنهم حرموا على أنفسهم الكثير ووقفوا في كثير من «السوبر ماركت» ليعلنوا أن هذه بضائع معجونة بلحم وجلد أطفال فلسطين، أو ذاك الشراب «المنعش» هو أيضاً مجرّد دم فلسطيني. وعلى مر التاريخ، كان التجويع أو الجوع سلاح حرب استُخدم في الحرب العالمية الأولى، ثم أبدع فيه النازيون فحاصروا مُدنا كثيرة وأشهرها حصار «لينينغراد» (1941 - 1944) حتى قتل الجوع الملايين، وبعدها وقف العالم ليحاكم المجرمين في محكمة نورمبيرغ. حينها لم تكن هناك كاميرات تنقل صور البشر الذين تحولوا إلى هياكل عظمية، ولم يكن هناك صحافيون شجعان مستمرون في نقل الصورة كما هو حادث الآن في غزة، ولم يكن هناك مؤثرون ومواطنون غزاويون عاديون جداً استمروا في فعل مقاومة الموت بنشر صور الحياة أو ما تبقّى منها، فاضحين كل جرائم النازيين الجدد وحرب الإبادة المستمرة عليهم وعلى كل جيران ذلك الكيان المزروع عنوة في قلب الوطن الواسع. حينها أيضاً، أي أثناء مجاعات وحصارات الحرب العالمية وغيرها من الحروب، لم يكن هناك بشر يتقنون فنّ نشر صور لأصناف من الطعام المرصوص فوق موائد فقط لتصويرها ونشرها، ولم يكن هناك في أوروبا كلها من يتصور أن شبعه غير موجع في مقابل كل ذاك الجوع والوجع القريب منه حتى الوريد. لم يكن أهل غزة يصرخون وأقرباؤهم هنا وهناك مستمرون في عقد المهرجانات والمسابقات الشديدة البذخ، ولم يكن المواطن البسيط الذي يردّد دوما «ما باليد حيلة» قد تحوّل الى مراقب للإبادة والحرب، ملتزماً الصمت، لأنّ صوته أو رسالته القصيرة هنا أو هناك أو إعادة نشر صورة يزن الذي قالت أمه «طفلي يذبل من الجوع»، قد تؤدي الى فقدانه وظيفته، أو حتى معاقبته بالسجن، وذاك ليس في سجون تلك المسماة دولاً «مستقلة»! بل وأيضاً في الدول الأكثر تبجّحاً باحترامها لحقوق الإنسان والديموقراطيات العريقة. بعضنا يعيش ليأكل أو يتجمل بموائد في مطاعم فاخرة، وآخرون قريبون جداً يتضورون جوعاً، وكأنهم أو كأننا قد أصبنا بالخدر في الضمير والإنسانية، وهو أكثر أنواع الخدر قتلاً. * «ينشر بالتزامن مع صحيفة الشروق المصرية»

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store