أحدث الأخبار مع #لقريش


الدستور
٣٠-٠٣-٢٠٢٥
- الدستور
«حاطب» يحاور «المقوقس»
شكلت الرسائل جانبًا مهمًا من حياة الصحابى حاطب بن أبى بلتعة، فظهوره داخل كتب السيرة ارتبط بشكل أساسى برسالتين، إحداهما كتبها وبعث بها مع امرأة إلى قريش يحذر فيها المشركين من مسير النبى إليهم لفتح مكة، والثانية رسالة من النبى حملها هو إلى المقوقس عظيم القبط يدعوه فيها وأقباط مصر إلى الدخول فى الإسلام. وخلافًا لكل كتب التراث اهتم «ابن كثير» بتسجيل محتوى الرسالة التى بعث بها «حاطب» إلى قريش لتحذيرهم من فتح مكة، وذلك فى كتاب «البداية والنهاية». روايتان أوردهما «ابن كثير» فى هذا السياق، تقول الرواية الأولى إن الرسالة كانت تقول لقريش: «رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم، فإنه منجز له ما وعده». وتقول الرواية الثانية إنه كتب: «إن محمدًا قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم فعليكم الحذر». محتوى الرسالة الأولى- كما تلاحظ- بعيد كل البعد عن التحذير، بل تسيطر عليه نبرة تهديد واضحة، فهو يهدد قريشًا بجيش ضخم قرر النبى، صلى الله عليه وسلم، أن يُسيره إليهم، لن يكون لهم الطاقة أو الجلد على دفعه، ثم يردف كلامه بإشارة إيمانية تؤكد عمق اعتقاده فى الله ورسوله يقول لقريش فيها إن النبى لو سار إليهم بمفرده فسوف ينصره الله عليهم، لأنه سبحانه منجز له وعده. أغلب الظن أن هذه الرسالة غير صحيحة، ولا تعدو أن تكون محاولة لتبرئة ساحة حاطب بن أبى بلتعة، وما يؤكد الشك فيها هو الحوار الذى دار بين النبى، صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب عندما تم اكتشافها، فقد طلب عمر من النبى أن يضرب رأس «حاطب» بسيفه، فى إشارة واضحة إلى عظم الجرم الذى ارتكبه، وأن محتوى الرسالة حمل تحذيرًا لقريش وليس تهديدًا للقبيلة، ورد عليه النبى قائلًا: «وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، وهو رد يحمل دليلًا واضحًا على أن حاطبًا ارتكب جرمًا عظيمًا بالفعل. محتوى الرسالة الثانية التى قال فيها «حاطب» لقريش: «إن محمدًا قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم فعليكم الحذر» يبدو أصح وأدق لأنه يحمل تحذيرًا واضحًا لهم، وهى تشير بشكل واقعى إلى أن «حاطبًا» لم يكن لديه معلومة يقينية حول وجهة الجيش الذى يجهزه النبى، وهل هى مكة أم غيرها، خصوصًا أن آخر وجهة توجه إليها المسلمون بالقتال كانت الشام، وذلك فى غزوة «مؤتة». كانت تلك هى الرسالة التى شكلت موضوع الظهور الأول لحاطب بن أبى بلتعة فى معركة فتح مكة، أما الظهور الثانى فقد ارتبط برسالة النبى إلى المقوقس التى يدعوه فيها إلى الإسلام، وحملها إليه «حاطب». وتُجمع كتب التراث على أن «المقوقس» أكرم «حاطبًا» وأحسن نزله. ينقل «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» ما حكاه حاطب بن أبى بلتعة حول هذا اللقاء حيث قال: «بعثنى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المقوقس ملك الإسكندرية، قال: فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلنى فى منزله، وأقمت عنده، ثم بعث إلىّ وقد جمع بطاركته، وقال: إنى سائلك فأحب أن تفهم عنى، قلت: هلم، قال: أخبرنى عن صاحبك أليس هو نبى؟، قلت: بلى هو رسول الله. قال: فما له لم يدع حيث أخرجوه؟ فقلت: إن عيسـى ابن مريم أليـس تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى، قلت له، فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه، ألا يكون دعا عليهـم أن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا؟، فقال: أنت حكيم جاء من عند حكيم». الواضح من الحوار الذى دار بين حاطب والمقوقس أن الأخير كان يتابع أخبار الجزيرة العربية، والصراع الذى نشب بين النبى ومشركى مكة واضطراره إلى ترك بلده والهجرة إلى المدينة، وكانت هذه الأخبار هى أساس سؤاله لحاطب: لماذا لم يدع محمد على قومه الذين أخرجوه من دياره وهو رسول من عند الله ومؤكد أن دعوته مستجابة؟ ورد عليه حاطب- الذى كان على علم بالمسيحية- بسؤال حول مسألة رفع المسيح التى يؤمن بها المسلمون ولا يؤمن بها النصارى، وقال له: لماذا لا يكون المسيح قد دعا على قومه عندما هموا بصلبه فأنجاه الله بالرفع وعاقب بنى إسرائيل؟ وهو يريد أن يقول من ذلك إن محمدًا لم يدع على قومه مثلما امتنع عيسى عن الدعاء على قومه وأتم التجربة التى يعتقد كل مسيحى أن المسيح أتمها بالصلب. الواضح أن هذه الإجابة أعجبت المقوقس فقال لحاطب: «أنت حكيم قد جاء من عند حكيم»، وعاد «حاطب» إلى النبى بهدية من المقوقس عبارة عن جاريتين، هما مارية وسيرين، ومارية هى أم إبراهيم ابن رسول الله، أما سيرين فقد وهبها النبى لحسان بن ثابت الأنصارى، بالإضافة إلى هدايا أخرى. بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، لم يحظ حاطب بن أبى بلتعة بحضور واضح، سواء فى عصر أبى بكر أو فى عصر عمر بن الخطاب، وقد توفى فى خلافة عثمان بن عفان سنة ٣٠ هجرية، وصلى عليه الخليفة، وهو لم يدرك أحداث الفتنة الكبرى التى ابتدأت أحداثها عام ٣٥ هجرية، يقول «ابن سعد» فى طبقاته: «عن يعقوب بن عتبة قال: ترك حاطب بن أبى بلتعة يوم مات أربعة آلاف دينار ودراهم ودارًا وغير ذلك، وكان تاجرًا يبيع الطعام وغيره».


الجزيرة
١٦-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
سرية حمزة: قصة أول عمل عسكري في الإسلام
لم يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ليخلد للراحة، ولينعم بحماية الأنصار؛ وإنما هاجر إليها ليتخذها منطلقاً جديداً للدعوة الإسلامية، ولتأسيس الدولة التي من خلالها سيتم نشر تلك الدعوة وتبليغها إلى الناس كافة. الهجرة وتشريع القتال لذلك، لم يكد النبي صلى الله عليه وسلم يستقر بالمدينة حتى وضع أسس المجتمع الجديد، الذي سيكون أحد ركائز تلك الدولة، وقد تمثلت تلك الأسس في بناء المسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وإقامة العهد مع يهود المدينة، والذي تضمن ما لكل طرف وما عليه. ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في إقامة السياج الخارجي لحماية هذه الدولة الناشئة، وتأمين حدودها؛ فبدأ يبث السرايا والغزوات هنا وهناك للتعرض لتجارة قريش، التي استمرت في حربها على الإسلام ومحاولة وأده، حتى وهو في المدينة، وأيضاً لموادعة القبائل الضاربة حول المدينة، وكذا لتدريب أصحابه على القيادة، وإعدادهم للقتال بدنياً وعسكرياً. وكان ذلك بعد نزول آية تشريع القتال في الإسلام، وهي قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]. وبنزول هذه الآية أيقن الصحابة أنه سيكون هناك قتال، في حين لم يكونوا مأمورين بالقتال قبل ذلك، ولذلك فقد بدؤوا في توطين أنفسهم على القتال، والاستعداد له، وبذلك بدأ الجهاد القوي الساطع ضد قوى الوثنية والشرك في جزيرة العرب، وفي مقدمتها حامل لوائهما، قبيلة قريش في مكة. وتأسيساً على ذلك، جاءت سرية حمزة إلى سيف البحر، وهي أول راية يعقدها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأول عمل عسكري ينطلق من المدينة، بعد الهجرة. خلاصة سرية حمزة قال أصحاب السير والمغازي: وكان أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، وذلك في رمضان من السنة الأولى للهجرة، على رأس سبعة أشهر من مُهَاجَرِه إلى المدينة، وكان اللواء أبيض، وكان حامله هو أبو مرثد الغنوي رضي الله عنه، حليف حمزة، وبعثه صلى الله عليه وسلم في ثلاثين رجلاً من المهاجرين خاصة، ليس فيهم أنصاري واحد، فيهم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو حذيفة بن عتبة، وسالم مولى أبي حذيفة، وزيد بن حارثة، رضوان الله عليهم جميعاً، وذلك لاعتراض عيرٍ لقريش (قافلة تجارية)، كانت راجعة من الشام، وعلى رأسها أبو جهل، طاغية قريش وأكبر مجرميها، في ثلاثمائة رجلٍ (وقيل: في مائة وثلاثين راكباً)، فبلغت السرية سِيف البحر من ناحية العِيْص (*)، فالتقت بالقافلة ومن فيها. واصطف الفريقان للقتال، فجاء مجدي بن عمرو الجهني، والذي صادف وجوده في ذلك المكان من بلاده، وكان هو وقومه حلفاء للطرفين جميعاً، فمشى بين هؤلاء وهؤلاء، وكان منصفاً ولم يُظهر انحيازاً لطرف على طرف، حتى حجز بينهما، وحال دون اقتتالهما، وبعد ذلك أكملت القافلة طريقها إلى مكة، وعادت السرية إلى المدينة. ثم توالت بعدها السرايا والغزوات، حتى وصل النشاط العسكري الإسلامي إلى ذروته في غزوة بدر الكبرى، بعد عام واحد من هذه السرية. رسالة السرية لقريش ومهما كان من أمر، فإن هذه السرية قد دلت على جرأة وشجاعة حمزة ومن معه من المهاجرين، وعلى استعدادهم للتضحية بأرواحهم ودمائهم تنفيذاً لتعليمات النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لا يكلفهم إلا بما فيه نصرة دينهم وعزتهم وصلاح أمرهم؛ فإنهم رغم قلة عددهم قد اصطفوا لقتال مشركي قريش المصاحبين للقافلة، والذين كانوا عشرة أضعافهم، ولم ينكلوا أو يترددوا، وأشعروهم بأن عهد الاستضعاف، والصبر على الأذى والظلم، والسكوت على الباطل وعدم رد العدوان، الذي كانوا عليه بمكة، قد ولى إلى غير رجعة. كذلك، أشعر المسلمون قريشاً أن طريق قوافل تجارتها -شريان حياتها، ومصدر ثرائها وقوتها وجبروتها- قد أصبح مهدداً من قِبلهم، وأنه لم يعد بمأمن كما كان عليه الحال في السابق، وأن عليها بالتالي أن تدرك عقبى طيشها وصلفها وغرورها، وتكف عن مناوأة الإسلام والحرب عليه، وأن تترك المسلمين وشأنهم، يبلغون رسالة ربهم، ولا تستعديهم أو تتعرض لهم بشرّ. وهكذا، وبعد أن كفاهم الله القتال، عاد أفراد السرية إلى المدينة سالمين، وقد نفذوا تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم، ونجحوا في أول اختبار عسكري لهم، واستحسن النبي صلى الله عليه وسلم صنيع حمزة ومن معه في الكف عن القتال، استجابة للمساعي الحميدة التي قام بها مجدي بن عمرو بينهم وبين قريش، وذكر هذا بخير، وأكرم وفده فيما بعد. فاتحة الأحداث الرمضانية ولقد كان عقد هذه الراية العسكرية لهذه السرية، في رمضان من السنة الأولى للهجرة، قبل نزول الوحي بتشريع الصيام، حدثاً له مغزاه ودلالته في تاريخ الإسلام؛ فلم يعد رمضان بعد ذلك فقط شهر الصيام والقيام وقراءة القرآن، وإنما صار أيضاً شهر الجهاد والانتصارات والفتوحات الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي كله. وكان أول تلك الانتصارات الرمضانية الخالدة، وأهمها على الإطلاق، هو انتصار المسلمين على مشركي قريش وحلفائهم في معركة بدر الكبرى، في 17 رمضان سنة 2هـ، وهي يوم الفرقان الذي نصر الله فيه التوحيد على الشرك، والإيمان على الكفر، والحق على الباطل، وامتن به على عباده المؤمنين، فقال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍۢ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:124]. أما أول الفتوحات الإسلامية الرمضانية الخالدة، وأهمها على الإطلاق، فهو الفتح الأعظم (فتح مكة)، وذلك في رمضان سنة 8هـ، يوم لفظت الوثنية في مكة أنفاسها الأخيرة، وحُطِّمت الأصنام التي كان المشركون يعبدونها تقرباً إلى الله زلفى -كما كانوا يزعمون- بمعاول الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكنسوها إلى مزبلة التاريخ وهم يرددون قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الاسراء: 81]، وطُهِّرت الكعبة المشرَّفة -بيت الله الحرام- وساحاتها من كل معالم وأدران وأرجاس الشرك، وذلك بعد أكثر من عشرين عاماً من المقاومة والإصرار على الباطل، والسير عكس عجلة التاريخ.