منذ 11 ساعات
نورالدين مفتاح يكتب: عناق الدّب
نورالدين مفتاح يكتب: عناق الدّب
نشر في
26 يونيو 2025 الساعة 13 و 00 دقيقة
'مرت أكثر من 46 سنة على مغادرتي إيران مع عائلتي في سن التاسعة. قضيت معظم عمري في إسرائيل، حيث أسسنا عائلة وربّينا بناتنا، لكن إيران ظلت دائما وطني. منذ أكتوبر 2023، رأيت صورا لا حصر لها لرجال ونساء وأطفال يقفون وسط أنقاض بيوتهم، وصرخاتهم ما تزال عالقة في ذهني. لكن عندما أشاهد […]
نور الدين مفتاح
'مرت أكثر من 46 سنة على مغادرتي إيران مع عائلتي في سن التاسعة. قضيت معظم عمري في إسرائيل، حيث أسسنا عائلة وربّينا بناتنا، لكن إيران ظلت دائما وطني.
منذ أكتوبر 2023، رأيت صورا لا حصر لها لرجال ونساء وأطفال يقفون وسط أنقاض بيوتهم، وصرخاتهم ما تزال عالقة في ذهني. لكن عندما أشاهد صور إيران بعد الهجمات الإسرائيلية، وأسمع تلك الصرخات باللغة الفارسية، لغتي الأم، يختلف شعور الانهيار داخلي. فكرة أن هذا الدمار يتم على يد دولة أنا مواطنة لها أمر لا يطاق.
على مدار السنوات اقتنع الجمهور الإسرائيلي بأنه قادر على التعايش في هذه المنطقة مع الاحتقار العميق لجيرانه، يشن هجمات مُميتة على أي كان ومتى شاء وكيفما يشاء، معتمدا على القوة الغاشمة فقط. على مدار ما يقارب 80 سنة، كان «النصر الكامل» على الأبواب دائما: اقضوا على الفلسطينيين، تخلصوا من حماس، دمروا قدرات إيران النووية، وعندها ستكون الجنة في متناول أيدينا.
لكن على مدار هذه السنوات كلها، ثبت أنها انتصارات ظاهرية وغير مكتملة. مع كل منها، تتعمق إسرائيل في حفرة أخرى أكثر عزلة وخطورة وكراهية. خلقت نكبة 1948 أزمة اللجوء التي لم تنته أبدا، وأرست أسس الأبرتهايد. وأدى نصر 1967 إلى احتلال ما تزال آثاره تؤجج المقاومة الفلسطينية. وتحولت حرب أكتوبر 2023 إلى إبادة جماعية جعلت إسرائيل دولة منبوذة على الساحة الدولية'.
كان بودّي أن أكتفي في هذه الافتتاحية بهذا الجزء من المقال الذي ننشره كاملا ضمن هذا العدد، ليس للتعبير فقط عن فظاعة ما أقدمت عليه الغطرسة الإسرائيلية، ولكن للتعبير عن الأسى من بعض ردود الفعل عندنا والتي تجد المبررات لاعتداء صهيوني فادح على دولة ذات سيادة. إنها شهادة من داخل إسرائيل للناشطة اليهودية الإسرائيلية «أورلي نوي» مفحمة للكثيرين عبر العالم الذين فقدوا بوصلة البديهيات إزاء هذه الحرب التي قررت إسرائيل شنها على إيران.
الوقائع لا تحتمل أي تأويل، فقد أقدمت دولة على مهاجمة دولة عضو في الأمم المتحدة، واغتالت قياداتها العسكرية وعلماءها وقصفت محطات نووية وطاقية وعسكرية ومدنية. إنه خرق فادح وفاضح للقانون الدولي، وهو عمل استخباراتي عسكري يهدد السلم العالمي. ولكن، في عالم كالذي نعيشه اليوم، تتجه أنظار الغرب للمعتدى عليه لتحمله مسؤولية واحدة من أخطر وأقذر الحروب.
أمر النووي الإيراني موكل للمنظمة الدولية للطاقة الذرية، وإيران منذ عقدين وهي تنحو منحى التعاون الديبلوماسي، وتتفاوض وتفتح الأبواب للمفتشين، وهذا أفضى في 2015 إلى اتفاق تاريخي على عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما بمشاركة الأوربيين. هذا الاتفاق الدولي لم يكن يروق شخصا واحدا هو بنيامين نتنياهو الذي تجرأ وهاجم الرئيس الأمريكي حينها في الكونجريس ! لم يكن هدف إسرائيل أبدا هو الخطر النووي الإيراني، كان هدفها تغيير النظام وإحياء حكم الشاهنشاه !
أليس هذا هو ما تعلنه إسرائيل اليوم جهارا في عالم انقلب رأسا على عقب، حتى أصبحنا وكأننا في فيلم لرعاة البقر.. أو رعاة البشر، فالأمر اليوم سيان؟!
عندما وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أصبح العالم بيد مجانين. لقد دفع نتنياهو الرئيس الأمريكي الجديد إلى تمزيق الاتفاق النووي هكذا بلا سبب، كما مزق اتفاق المناخ. وسجل سوابق تاريخية لم يقدم عليها أي رئيس قبله، وعلى رأسها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، وفرض عقوبات على السلطة الفلسطينية لرفضها بيع القضية بــ 50 مليار دولار في ما عرف بــ «صفقة القرن».
لم يسبق لهذه الإسرائيل المتعجرفة والمتعالية والمحتقرة لجيرانها أن وجدت لها قاطرة أهوج ولا أخطر من الثنائي نتنياهو وترامب، وفي ولاية هذا الأخير الثانية، ها نحن نرى ما يقع: حرب إبادة جماعية في قطاع غزة فاقت فيها البشاعة كل ما يمكن أن يتحمله إنسان يحمل هذه الصفة، وهي متواصلة بالتجويع والإصرار على معاملة مليونين من الغزيين كحيوانات !
ولم تسلم الضفة الغربية التي تقصف يوميا ويتمدد فيها الاستيطان، وأما المسجد الأقصى فأصبح هكيلا قبل أن يقيموا على أنقاضه الهيكل، وإسرائيل تضرب بيروت حتى بعد أن تلاشى حزب الله، وتضرب العمق السوري حتى بعد أن سقط نظام الأسد. وفجأة، قررت لوحدها -بدل المؤسسات الدولية- أن تهاجم إيران بدعوى خطرها النووي، وإلى حدود كتابة هذه السطور، نحن نرى دولة تفوض لنفسها اختصاصات مجلس الأمن وتتجاوز مسألة النووي وتريد أن تحطم أركان النظام على رؤوس شعب يبعد عنها بألفي كيلومتر.
وحبذا لو كانت عند إسرائيل الشرعية الأخلاقية لتقود حربا من أجل السلام العالمي. إن الحكومة الإسرائيلية مدانة من طرف محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدولية وهي أول دولة في العالم تتمرد على القرارات الأممية. إن الأمر يتجاوز الخلاف الديني أو المذهبي أو الإيديولوجي، إنه الجبروت وجنون العظمة وعقدة التفوق وأسطرة القوة الاستخباراتية خصوصا بعد ضرب هيبة الجيش «الذي لا يقهر» في 7 أكتوبر 2023.
نحن هنا لا نزكي إيران، ولا نتبنى اختياراتها السياسية أو الإيديولوجية أو العسكرية. وحتى إن كان هناك خلاف بينها وبين بلادنا، فهذا لا يبرر تزكية واحد من أبشع أنواع العدوان الذي شهده التاريخ ضد دولة ذات سيادة. وحتى الجزائر التي تأوي جماعة انفصالية مسلحة معادية للوحدة الترابية للمغرب لا نتعامل معها بحقد، بل في كل أدبياتنا الديبلوماسية لا نتحدث إلا عن اليد الممدودة، فكيف ببلاد تفصلنا عنها أكثر من 7000 كلم !
إن تزكية الحرب الظالمة التي تشنها إسرائيل على إيران هي تزكية لجرائم إسرائيل كلها، في انتهاكات حرمة القدس يوميا، وملك المغرب هو رئيس لجنة القدس، وفي محاصرة عباس أبومازن، وعباس لا هو مقاوم ولا إسلامي، وفي ضرب العمق السوري وسوريا أغلقت مكاتب البوليساريو، وزد وقس.
إسرائيل مع الحكومة المتطرفة الحالية دولة مارقة، وهي لا تحبّ إلا التوابع في العالم العربي والإسلامي الذين يهادنونها ويقبلون بجزء من منتجاتها، وأما أن يحاول هذا البلد أو ذاك في هذا العالم العربي الإسلامي أن يكون ندا لها فهذا خط أحمر، ولهذا كان أول اغتيال قامت به الموساد هو للعالم الفيزيائي المصري علي مصطفى مشرفة سنة 1950 وكان يلقب بأنشتاين العرب، وفي 1980 تم اغتيال عالم الفيزياء النووية المصري يحيا المشد وكان يشرف على البرنامج النووي العراقي. وسياسيا تم اغتيال المئات أغلبهم من حركة فتح وعلى رأسهم أبو إياد بتونس، ولم يستثنوا حتى روائيا كغسان كنفاني، فهل هؤلاء كانوا فُرسا أو شيعة أو خصبوا النووي بدرجة 70%؟
للأسف، العالم الغربي مازال يحمل عقدة معاداة السامية منذ الحرب العالمية الثانية حينما اضطهد اليهود، وكتعويض يتواطأ مع الجرائم الصهيونية في أيامنا السوداء هاته، والأكثر أسفا أن نجد بيننا في هذا الزمان من أصبح يعتبر الجهر بمساندة إسرائيل جرأة وشجاعة سياسية، وليتهم يعرفون منطق هذا العالم الجديد الذي لا يرحم أحدا، فمهما باركت العدوان فإنك لست في مأمن منه، ومن يعانقك اليوم قد يكون في الواقع يخنقك في إطار ما يعرف بــ «عناق الدب» بالمفهوم السياسي. والمثل البليغ يقول: «أكلت يوم أكل الثور الأبيض» فهل من معتبر؟