منذ 8 ساعات
صراع إيران وإسرائيل: من الأسطورة إلى الجغرافيا السياسية
هكذا يستحيل فهم الخطاب الإيراني المعاصر، وسلوك طهران، من دون استحضار الذاكرة الرمزية العميقة التي تشكّلت في والوجدان الجمعي الفارسي، التي تُعبّر عنها ملحمة «الشاهنامة» الشعرية ببلاغة لا تضاهيها أي وثيقة سياسية.
في ملحمة الفردوسي، التي تعود إلى القرن العاشر، يخرج الحدّاد «كاوه» من عتمة القهر، ليقود ثورةً شعبية ضدّ الملك الضحّاك، الطاغية الذي كان يغذّي أفاعيه بأدمغة الشباب، في استعارة صارخة للطغيان الذي لا يكتفي بالهيمنة بل يتغذّى على وعي الأجيال. لم يكن كاوه نبيّاً ولا أميراً، بل كان رمزاً للصوت الشعبي حين يغدو الصمت خيانة. وقد رُفِع حزامه الجلدي رايةً للثورة، وتحوّل لاحقاً إلى عَلَم الأمة الفارسية الناهضة.
من خلال هذه النظرة الأسطورية، تُقدِّم الجمهورية الإسلامية نفسها منذ 1979 بوصفها امتداداً رمزياً لذاك الحداد الثائر، الذي يواجه قوى «الهيمنة والشر» المتمثلة في الخطاب الإيراني بالولايات المتحدة، ثم بإسرائيل، ثم بأذرع «الفتنة الداخلية».
أمّا إسرائيل فتُصوَّر في هذا الخطاب لا كدولة ذات مصالح، بل كـ «ضحّاك حديث» يمتد إلى وعي الأمة ودمها، عبر الحروب، الاغتيالات، العقوبات، والتطبيع.
وفي الملحمة نفسها تبرز مأساة سهراب، الابن الذي يُقتَل على يَد أبيه من دون أن يعرف أحدهما الآخر، فتكتسب دلالاتٍ متجدّدة. في كل حربٍ بالوكالة، من العراق إلى اليمن، ومن سوريا إلى فلسطين، يسقط آلاف من «السهراب»، الذين دُفعوا إلى ساحات القتال تحت رايات لم يفهموها تماماً، كأنّ سهراب لم يُقتل مرةً واحدة، بل يُقتل كلما دخل الإخوة حرباً لا يُدركون مَن أشعلها ولا لماذا يموتون فيها.
في واقع الأمر، لم يَعُد الصراع بين إسرائيل وإيران مجرّد مواجهة عسكرية أو استخباراتية. لقد تحوّل إلى مواجهة رمزية بين سرديّتَين من مشرق الأساطير:
- سردية فارسية ترى في نفسها حارسةً للهوية ومقاومةً للهيمنة. معطوفة على سردية معركة خَيبَر التي أشار إليها المرشد الخامنئي بقوله اليوم «باسم حيدر تبدأ المعركة، علي يعود إلى خَيبَر بذو الفقار».
- وسردية إسرائيلية ترى في إيران تهديداً وجودياً يتجاوز الأمن العسكري إلى بنية الفكرة اليهودية.
فإسرائيل تُعيد صياغة صراعها مع إيران ضمن رواية دفاعية حضارية ضدّ ما يُعتبَر «مشروعاً إمبراطورياً جديداً»، في استعادة لأسطورة داؤد وجالوت.
في هذا السياق، تُستحضَر الأساطير لا بوصفها قصصاً ماضية، بل بوَصفها بنية تحتية للخطاب السياسي نفسه.
المقلق أنّ هذه الرموز تتحوّل إلى مبرّرات سياسية فتقفل أبواب العقل، وتفتح أبواب الدم.
ألم يستخدم نتنياهو في خطاباته خلال حرب 7 تشرين الأول 2023، إشارات دينية وتوراتية لتعزيز شرعية العمليات العسكرية ضدّ قطاع غزة؟
تحدّث مراراً عن الصراعات التاريخية والدينية، مُستحضراً رموزاً من التراث اليهودي. فقال: «كما يقول الكتاب المقدس: وقت للسلام ووقت للحرب. هذا هو وقت الحرب ضدّ أعداء إسرائيل».
في 28 تشرين الأول 2023، خلال إعلان بدء الهجوم البري على غزة، أشار نتنياهو إلى أنّه «يجب أن تتذكروا ما فعله العماليق بكم». هذه الإشارة إلى شعب «العماليق» مصدرها التوراة، حين يُطلَب من بني إسرائيل محاربة هذا الشعب، وقد استخدمها نتنياهو لتصوير الصراع كجزء من صراع تاريخي طويل الأمد.
في هذا الشرق المُتعب بالأساطير، ليس السؤال: «مَن يربح؟» بل السؤال: «مَن سيكسر الحلقة، ويمنع تكرار الأسطورة بمآسٍ جديدة؟».