#أحدث الأخبار مع #ماكايلاالجزيرة٢٩-٠٤-٢٠٢٥صحةالجزيرة'رسالة إلى العالم'.. غوص في أعماق نفوس مرضى التوحد'صوت 'ماكايلا': رسالة إلى العالم' (Makayla's Voice: A Letter to the World) هو فيلم وثائقي متوسط الطول، عُرض عام 2024، ومدار قصته على المراهقة ذات الأصول الأفريقية 'ماكايلا'، التي تعاني من خلل نادر في الكروموسومات، يسمى متلازمة حذف الجين (22q13). يخلف هذا المرض إعاقة نمو شاملة، حتى في القدرات الذهنية، فيجعل المصاب به ينخرط في حالة من التوحد العميق، ونتيجة لذلك كانت الفتاة عاجزة عن الكلام تماما. ينطلق المخرج 'خوليو بالاسيو' من حالتها الفريدة، ليغوص في عوالم هؤلاء المرضى المجهولة، وينفذ إلى مشاعرهم التي تظل منيعة عنا، ويعرض رؤاهم وعوالمهم الخاصة. اضطراب غامض يعيق النمو العصبي وفقا للموسوعات العلمية، ينشأ مرض التوحد عن اضطراب يعيق النمو العصبي العادي في دماغ الطفل، وبسبب اختلاف حالاته أصبح يصطلح عليه اليوم باضطراب طيف التوحد (ASD). وقد اعتمد هذا المصطلح الشامل، ليغطي مستويات المرض المتباينة، الذي ما تزال عناصر كثيرة منه مجهولة. وغالبا ما تظهر أعراضه في مرحلة الطفولة المبكرة، فيتحقق النمو بصورة طبيعية، ظاهريا على الأقل، ثم يحدث ارتداد ونكوص بين الشهرين 18 و24 من العمر، وتبدأ تلك الأعراض تعلن عن نفسها. ووفقا للإحصائيات المعتمدة، فإن اضطراب طيف التوحد يؤثر على نحو 1 من كل 44 طفلا يبلغون من العمر 8 سنوات. ومن وجوه تعقد هذا المرض العجز عن التشخيص المبكر على توقعه، وعدم وجود وسائل لوقاية الأطفال منه. أنا ذكية جدا.. أعالج المعلومات بسرعة شديدة أنا مختلفة، لكنني هنا أتعلم بالاستماع عقلي كإسفنجة تمتص المعرفة. ويضيف المختصون إلى ذلك تباين أعراضه من مصاب إلى آخر واختلاف شدتها، فلكل طفل نمطه الفريد، فإلى اليوم لم يحسم العلم سبب الإصابة به، وتكتفي بعض الدراسات بترجيح دور التكوين الوراثي أو البيئة أو تشنج الأم ومرورها بحالات عصبية أثناء الحمل. ومن تبعاته تأخر التحصيل اللغوي أو انعدامه تماما، كحالة 'ماكايلا'، وكذلك العسر الشديد في عمليات التواصل غير اللفظي، فيجد المصاب صعوبة في التواصل البصري وفهم الإيماءات وقراءة تعبيرات الوجه. وبديهي إذن أن يسبب له ذلك معضلات على المستوى الاجتماعي، فيعسر على مريض التوحد تمييز من يحيطون به، ويعجز عن ضبط طريقة التعامل معهم، ولذلك يرد الفعل بالانطواء على نفسه، أو بانتهاج السلوك العدواني. ومع أن الطب لم يهتد بعد إلى علاج ناجح لاضطراب طيف التوحد، فإن الانتباه إلى إصابة الأطفال به مبكرا ومساعدتهم المتبصرة تترك وقعا مؤثرا على حياتهم، وتساعد أغلبهم على تخطي معضلاتهم، وتجعل الأعراض أكثر اعتدالا. إيمان الوالدين بالقدرة على التحرر.. بداية الطريق يعاني مرضى التوحد من ظلم 'الأسوياء'، فيصورون المرض على أنه عطب، يسبب الانفصال بين العقل والجسد، بحيث يفقد كلاهما القدرة على أداء وظائفه، وينزلان صاحبهما في مرتبة دنيا من الإنسانية، ولذلك يعيشون ألوانا من التهميش. وربما كانت 'ماكايلا' أوفر حظا من نظرائها، فوالداها كانا مؤمنين بقدرتها على التحرر من عزلتها، وكانت لديهما قدرة على تحمل نفقات علاجها، فعهدا للمعالجة النفسية الخبيرة في التهجئة 'روكسي سيويل' بالإشراف على علاجها منذ نحو 8 أشهر. وانطلاقا من طرق مبتكرة في التهجئة باعتماد لوحة الحروف، استطاعت مدرّستها أن تتدارك عجزها عن التواصل اللفظي، وأن تطور مهاراتها في التواصل الحركي، وأن تفتح نوافذ عالمها المغلق على الفضاء الخارجي. وبسرعة مذهلة، أصبحت قادرة على التعبير عن أفكارها بجلاء، والتفاعل مع محيطها. وهنا مكمن التميز في الفيلم، فهو وثائقي يسرد قصته بضمير الأنا، والعنصر المفاجئ أن السارد ليس غير 'ماكايلا' نفسها. فقد جعلها المخرج تحدثنا عن نفسها، فتخبرنا بما تحبه وما تكرهه، وبكل ما يدور في خلدها من أفكار، فتعرض تصوراتها لنفسها وللعالم من حولها ولمرض التوحد، وتخاطب والديها برسائل في غاية الشاعرية، وكل ذلك اعتمادا على مساعدة معالجتها 'روكسي'. ولا شك أن للحيل التقنية دورا في إنطاق 'ماكايلا'، فبفضلها حوّل المخرج الكلمات المكتوبة على لوحة الحروف إلى نص شفوي، يرد من خارج الإطار ويعلق على الوقائع، بعد أن جعل 'ماكايلا' تختار بنفسها الصوت الذي تجده معبرا عنها. 'ترى روحي ما لا يراه الآخرون'.. لغة شاعرية عادة ما يكون التواصل مع المصاب باضطرابات طيف التوحد عسيرا، فعوالمه تكاد تكون مغلقة، وحياته تظل أشبه بصندوق أسود يعسر جمع بياناته أو قراءتها. أما عالم 'ماكايلا' فهو مضاعف الإغلاق، فهي غير قادرة على الكلام تماما. والقيمة المضاعفة لفيلم 'صوت ماكايلا: رسالة إلى العالم' تكمن في اختراقه للجدران السميكة المضروبة حول المراهقة، وفي نجاحه في جعلها تخاطب الجمهور فيما يزيد على 140 صفحة، فتخاطب المتفرج قائلة: أنا ذكية جدا، أعالج المعلومات بسرعة شديدة، أنا مختلفة، لكنني هنا أتعلم بالاستماع، عقلي كإسفنجة تمتص المعرفة. كما أنها تجد في اختلافها عنصر ثراء، فتقول: إن أعمق الرسائل تأتي من أولئك الذين هم مثلي ومثل 'فان غوخ'، فهم يتواصلون بشكل مختلف. وجلي في نصها الذي نسمعه بصوت يردنا من خارج الإطار أن 'ماكايلا' مأخوذة بثنائية الصمت الذي يرغمها مرضها عليه، والصخب الذي تعيشه في داخلها أو تسمعه من حولها. تقول: أتمنى لو أستطيع أن أكون مثل إخوتي، فأنا أعيش كثيرا من الوحدة، بسبب التوحد، آمل أن أتمكن من إنهاء هذا الصمت. نحن صوت الجمال الخفي. وتحدثنا عن حفيف الريح فتقول: أجمل صوت سمعته في حياتي هو صوت تدفق الهواء بين الأشجار، يمر هذا الصوت من دون أن يلاحظه معظم الناس، لكنه في رأيي يغني، يصدر ألحانا تشبه صمتي، أنا أنتمي إلى الطبيعة، الريح ملهمة، تلهمني لأشع على طريقتي، فنحن صوت الجمال الخفي ورياح التوحد، أحلق بين الأشجار. تدرك 'ماكايلا' جيدا أنها تتحرر من سجن الصمت الذي كانت تقبع فيه منذ ولادتها، والعجيب هو قدرتها على التعبير عن هذه الحالة بلغة شاعرية وتصورات عميقة، جعلت بعض المقالات النقدية تذهل لجمالها، أو تحترز فتشكك في مصداقية المخرج، وتتهمه بالتدخل لتعميق معاني أقوالها أو تجميلها أسلوبيا على الأقل. يقول الصوت المرافق الذي يزعم الفيلم أنه قراءة لنص 'ماكايلا': إنها هديتي للعالم أن أغني صمتي بصوت عال، فجميع حواسي متيقظة، ويمكنني الشعور بالعواطف من خلالها كأنها موسيقى، أرى كيف يعكس العقل التوحدي الروح بطريقة كونية، يرى الألوان في الصوت، والموسيقى في الريح، ترى روحي ما لا يراه الآخرون، فالحقيقة والصدق والحب ألوان تحيط بالقلب، أرى ذلك حرفيا، إنها موسيقى. بلاغة الصورة والموسيقى والإضاءة يبدو أن 'ماكايلا' تدرك جيدا أن الفيلم بصدد نقلها إلى الحياة من جديد، وإخراجها من عزلتها. فتقول: 'صوتي هو طريقي إلى الحرية'. ويقول التعليق الصوتي: 'أمضيت عمري أصرخ داخليا، والآن أستطيع أن أغني أغنيتي'. ولعل هذه الثنائية بين الصمت والصوت، وبين العزلة والاندماج، هي ما جعل الفيلم أقرب إلى قصيدة مرئية، فتوشحت مشاهده بعناصر شاعرية عالية، تتكرر فيه لقطة الريح التي تحرك أغصان الأشجار وأوراقها، وتتردد صور الطيور الحرة تطير في الفضاء الرحب، وأزهار التوليب وهي تتفتح، والمياه تنساب رقراقة، وكأن كل عناصر الكون تصغي لـ'ماكايلا' وتحتفي بتحررها. ولم يكن الأسلوب المشهدي وحده حاملا لهذه الشعرية، بل كانت الموسيقى التصويرية الهادئة المؤلفة خصيصا للفيلم، تعمّق الإحساس بالسكينة والتأمل. فقد اعتمد المخرج 'خوليو بالاسيو' أسلوبا بصريا متقشفا، لا يضج بالألوان الزاهية ولا بالانتقالات السريعة، بل يركز على اللقطات الثابتة نسبيا، وعلى التصوير القريب (Close-Up) لوجه 'ماكايلا'، الذي ينطق صمتا وتأملا، وبذلك يمنح المتفرج فسحة للتفكر وللتماهي مع معاناة هذه الفتاة، كما عمد إلى استخدام إضاءة طبيعية خافتة، تضاعف الإحساس بالحميمية والواقعية. ليس فيلم 'صوت ماكايلا.. رسالة إلى العالم' مجرد وثائقي عن حالة طبية نادرة، بل هو عمل فني عميق، يحفز المشاهد على طرح أسئلة وجودية: ما معنى التواصل؟ ما حدود اللغة؟ كيف نعبر عن ذواتنا إذا خذلتنا الكلمات؟ وكيف نعيد الإنصات إلى أولئك الذين أجبرهم المرض أو الإعاقة على الصمت؟ استقبال نقدي بهيج وتساؤلات حظي الفيلم باستقبال نقدي إيجابي منذ عرضه الأول، فأُدرج في قائمة الأفلام الوثائقية التي ستنافس في عدد من المهرجانات الكبرى عام 2024، ومنها مهرجان 'صاندانس' (Sundance Film Festival) ومهرجان 'تريبيكا (Tribeca Film Festival). وأشاد النقاد بقدرة الفيلم على أن يجعل المتفرج يعيش تجربة داخلية حقيقية مع شخصية توحدية، بعيدا عن الصور النمطية والتناول السطحي المعتاد، فقد كتب الناقد 'بيتر ديبروج' في مجلة 'فارياتي': لقد صنع 'بالاسيو' عملا فنيا يجعل الصمت ناطقا، والاختلاف مصدرا للشعر. وقال عن الفيلم: ليس مجرد وثائقي عن مرض نادر، بل مرآة لأسئلتنا عن ماهية الإنسانية. أما مجلة 'هوليود ريبورتر'، فقد أثنت على الأداء الصوتي المصاحب لنص 'ماكايلا' المكتوب، وقالت: إنه من أنجح محاولات إعطاء صوت حقيقي لفاقدي النطق. ومع ذلك الحماس النقدي، فقد أثارت بعض المقالات تساؤلات حول حدود التدخل الإخراجي في نقل نصوص 'ماكايلا'، فطرحت صحيفة 'ذا غارديان' احتمال أن يكون النص خضع لتحرير فني، جعله أكثر شاعرية مما قد تعبر عنه فتاة في عمرها ووضعها، مما يطرح قضية صدق الوثائقيات ذات الطابع الشخصي. بين الفن والرسالة.. التوثيق بعين شاعرية يعكس الفيلم ميل السينما الوثائقية المعاصرة لتجاوز التوثيق البارد إلى التعمق العاطفي والجمالي. فالمخرج 'خوليو بالاسيو' لم يكتفِ بسرد وقائع حياة فتاة توحدية، بل جعل قصتها مدخلا لمساءلة نظرتنا التقليدية إلى الاختلاف والإعاقة. وقد يكون في هذا تجاوز لمفهوم الحياد الوثائقي، لكنه في المقابل مكّن المتفرج من الدخول إلى عالم داخلي، كان سيظل مغلقا لولا الانحياز العاطفي الواضح، الذي طبعه المخرج على عمله. لقد اختار أن يعطي لـ'ماكايلا' الصوت الذي حرمت منه حرفيا، وأن يجعلها تتكلم، وأن يجعلنا نحن نصمت قليلا، لننصت لما لا نسمعه عادة؛ ألا وهو همسات الأرواح المعزولة.
الجزيرة٢٩-٠٤-٢٠٢٥صحةالجزيرة'رسالة إلى العالم'.. غوص في أعماق نفوس مرضى التوحد'صوت 'ماكايلا': رسالة إلى العالم' (Makayla's Voice: A Letter to the World) هو فيلم وثائقي متوسط الطول، عُرض عام 2024، ومدار قصته على المراهقة ذات الأصول الأفريقية 'ماكايلا'، التي تعاني من خلل نادر في الكروموسومات، يسمى متلازمة حذف الجين (22q13). يخلف هذا المرض إعاقة نمو شاملة، حتى في القدرات الذهنية، فيجعل المصاب به ينخرط في حالة من التوحد العميق، ونتيجة لذلك كانت الفتاة عاجزة عن الكلام تماما. ينطلق المخرج 'خوليو بالاسيو' من حالتها الفريدة، ليغوص في عوالم هؤلاء المرضى المجهولة، وينفذ إلى مشاعرهم التي تظل منيعة عنا، ويعرض رؤاهم وعوالمهم الخاصة. اضطراب غامض يعيق النمو العصبي وفقا للموسوعات العلمية، ينشأ مرض التوحد عن اضطراب يعيق النمو العصبي العادي في دماغ الطفل، وبسبب اختلاف حالاته أصبح يصطلح عليه اليوم باضطراب طيف التوحد (ASD). وقد اعتمد هذا المصطلح الشامل، ليغطي مستويات المرض المتباينة، الذي ما تزال عناصر كثيرة منه مجهولة. وغالبا ما تظهر أعراضه في مرحلة الطفولة المبكرة، فيتحقق النمو بصورة طبيعية، ظاهريا على الأقل، ثم يحدث ارتداد ونكوص بين الشهرين 18 و24 من العمر، وتبدأ تلك الأعراض تعلن عن نفسها. ووفقا للإحصائيات المعتمدة، فإن اضطراب طيف التوحد يؤثر على نحو 1 من كل 44 طفلا يبلغون من العمر 8 سنوات. ومن وجوه تعقد هذا المرض العجز عن التشخيص المبكر على توقعه، وعدم وجود وسائل لوقاية الأطفال منه. أنا ذكية جدا.. أعالج المعلومات بسرعة شديدة أنا مختلفة، لكنني هنا أتعلم بالاستماع عقلي كإسفنجة تمتص المعرفة. ويضيف المختصون إلى ذلك تباين أعراضه من مصاب إلى آخر واختلاف شدتها، فلكل طفل نمطه الفريد، فإلى اليوم لم يحسم العلم سبب الإصابة به، وتكتفي بعض الدراسات بترجيح دور التكوين الوراثي أو البيئة أو تشنج الأم ومرورها بحالات عصبية أثناء الحمل. ومن تبعاته تأخر التحصيل اللغوي أو انعدامه تماما، كحالة 'ماكايلا'، وكذلك العسر الشديد في عمليات التواصل غير اللفظي، فيجد المصاب صعوبة في التواصل البصري وفهم الإيماءات وقراءة تعبيرات الوجه. وبديهي إذن أن يسبب له ذلك معضلات على المستوى الاجتماعي، فيعسر على مريض التوحد تمييز من يحيطون به، ويعجز عن ضبط طريقة التعامل معهم، ولذلك يرد الفعل بالانطواء على نفسه، أو بانتهاج السلوك العدواني. ومع أن الطب لم يهتد بعد إلى علاج ناجح لاضطراب طيف التوحد، فإن الانتباه إلى إصابة الأطفال به مبكرا ومساعدتهم المتبصرة تترك وقعا مؤثرا على حياتهم، وتساعد أغلبهم على تخطي معضلاتهم، وتجعل الأعراض أكثر اعتدالا. إيمان الوالدين بالقدرة على التحرر.. بداية الطريق يعاني مرضى التوحد من ظلم 'الأسوياء'، فيصورون المرض على أنه عطب، يسبب الانفصال بين العقل والجسد، بحيث يفقد كلاهما القدرة على أداء وظائفه، وينزلان صاحبهما في مرتبة دنيا من الإنسانية، ولذلك يعيشون ألوانا من التهميش. وربما كانت 'ماكايلا' أوفر حظا من نظرائها، فوالداها كانا مؤمنين بقدرتها على التحرر من عزلتها، وكانت لديهما قدرة على تحمل نفقات علاجها، فعهدا للمعالجة النفسية الخبيرة في التهجئة 'روكسي سيويل' بالإشراف على علاجها منذ نحو 8 أشهر. وانطلاقا من طرق مبتكرة في التهجئة باعتماد لوحة الحروف، استطاعت مدرّستها أن تتدارك عجزها عن التواصل اللفظي، وأن تطور مهاراتها في التواصل الحركي، وأن تفتح نوافذ عالمها المغلق على الفضاء الخارجي. وبسرعة مذهلة، أصبحت قادرة على التعبير عن أفكارها بجلاء، والتفاعل مع محيطها. وهنا مكمن التميز في الفيلم، فهو وثائقي يسرد قصته بضمير الأنا، والعنصر المفاجئ أن السارد ليس غير 'ماكايلا' نفسها. فقد جعلها المخرج تحدثنا عن نفسها، فتخبرنا بما تحبه وما تكرهه، وبكل ما يدور في خلدها من أفكار، فتعرض تصوراتها لنفسها وللعالم من حولها ولمرض التوحد، وتخاطب والديها برسائل في غاية الشاعرية، وكل ذلك اعتمادا على مساعدة معالجتها 'روكسي'. ولا شك أن للحيل التقنية دورا في إنطاق 'ماكايلا'، فبفضلها حوّل المخرج الكلمات المكتوبة على لوحة الحروف إلى نص شفوي، يرد من خارج الإطار ويعلق على الوقائع، بعد أن جعل 'ماكايلا' تختار بنفسها الصوت الذي تجده معبرا عنها. 'ترى روحي ما لا يراه الآخرون'.. لغة شاعرية عادة ما يكون التواصل مع المصاب باضطرابات طيف التوحد عسيرا، فعوالمه تكاد تكون مغلقة، وحياته تظل أشبه بصندوق أسود يعسر جمع بياناته أو قراءتها. أما عالم 'ماكايلا' فهو مضاعف الإغلاق، فهي غير قادرة على الكلام تماما. والقيمة المضاعفة لفيلم 'صوت ماكايلا: رسالة إلى العالم' تكمن في اختراقه للجدران السميكة المضروبة حول المراهقة، وفي نجاحه في جعلها تخاطب الجمهور فيما يزيد على 140 صفحة، فتخاطب المتفرج قائلة: أنا ذكية جدا، أعالج المعلومات بسرعة شديدة، أنا مختلفة، لكنني هنا أتعلم بالاستماع، عقلي كإسفنجة تمتص المعرفة. كما أنها تجد في اختلافها عنصر ثراء، فتقول: إن أعمق الرسائل تأتي من أولئك الذين هم مثلي ومثل 'فان غوخ'، فهم يتواصلون بشكل مختلف. وجلي في نصها الذي نسمعه بصوت يردنا من خارج الإطار أن 'ماكايلا' مأخوذة بثنائية الصمت الذي يرغمها مرضها عليه، والصخب الذي تعيشه في داخلها أو تسمعه من حولها. تقول: أتمنى لو أستطيع أن أكون مثل إخوتي، فأنا أعيش كثيرا من الوحدة، بسبب التوحد، آمل أن أتمكن من إنهاء هذا الصمت. نحن صوت الجمال الخفي. وتحدثنا عن حفيف الريح فتقول: أجمل صوت سمعته في حياتي هو صوت تدفق الهواء بين الأشجار، يمر هذا الصوت من دون أن يلاحظه معظم الناس، لكنه في رأيي يغني، يصدر ألحانا تشبه صمتي، أنا أنتمي إلى الطبيعة، الريح ملهمة، تلهمني لأشع على طريقتي، فنحن صوت الجمال الخفي ورياح التوحد، أحلق بين الأشجار. تدرك 'ماكايلا' جيدا أنها تتحرر من سجن الصمت الذي كانت تقبع فيه منذ ولادتها، والعجيب هو قدرتها على التعبير عن هذه الحالة بلغة شاعرية وتصورات عميقة، جعلت بعض المقالات النقدية تذهل لجمالها، أو تحترز فتشكك في مصداقية المخرج، وتتهمه بالتدخل لتعميق معاني أقوالها أو تجميلها أسلوبيا على الأقل. يقول الصوت المرافق الذي يزعم الفيلم أنه قراءة لنص 'ماكايلا': إنها هديتي للعالم أن أغني صمتي بصوت عال، فجميع حواسي متيقظة، ويمكنني الشعور بالعواطف من خلالها كأنها موسيقى، أرى كيف يعكس العقل التوحدي الروح بطريقة كونية، يرى الألوان في الصوت، والموسيقى في الريح، ترى روحي ما لا يراه الآخرون، فالحقيقة والصدق والحب ألوان تحيط بالقلب، أرى ذلك حرفيا، إنها موسيقى. بلاغة الصورة والموسيقى والإضاءة يبدو أن 'ماكايلا' تدرك جيدا أن الفيلم بصدد نقلها إلى الحياة من جديد، وإخراجها من عزلتها. فتقول: 'صوتي هو طريقي إلى الحرية'. ويقول التعليق الصوتي: 'أمضيت عمري أصرخ داخليا، والآن أستطيع أن أغني أغنيتي'. ولعل هذه الثنائية بين الصمت والصوت، وبين العزلة والاندماج، هي ما جعل الفيلم أقرب إلى قصيدة مرئية، فتوشحت مشاهده بعناصر شاعرية عالية، تتكرر فيه لقطة الريح التي تحرك أغصان الأشجار وأوراقها، وتتردد صور الطيور الحرة تطير في الفضاء الرحب، وأزهار التوليب وهي تتفتح، والمياه تنساب رقراقة، وكأن كل عناصر الكون تصغي لـ'ماكايلا' وتحتفي بتحررها. ولم يكن الأسلوب المشهدي وحده حاملا لهذه الشعرية، بل كانت الموسيقى التصويرية الهادئة المؤلفة خصيصا للفيلم، تعمّق الإحساس بالسكينة والتأمل. فقد اعتمد المخرج 'خوليو بالاسيو' أسلوبا بصريا متقشفا، لا يضج بالألوان الزاهية ولا بالانتقالات السريعة، بل يركز على اللقطات الثابتة نسبيا، وعلى التصوير القريب (Close-Up) لوجه 'ماكايلا'، الذي ينطق صمتا وتأملا، وبذلك يمنح المتفرج فسحة للتفكر وللتماهي مع معاناة هذه الفتاة، كما عمد إلى استخدام إضاءة طبيعية خافتة، تضاعف الإحساس بالحميمية والواقعية. ليس فيلم 'صوت ماكايلا.. رسالة إلى العالم' مجرد وثائقي عن حالة طبية نادرة، بل هو عمل فني عميق، يحفز المشاهد على طرح أسئلة وجودية: ما معنى التواصل؟ ما حدود اللغة؟ كيف نعبر عن ذواتنا إذا خذلتنا الكلمات؟ وكيف نعيد الإنصات إلى أولئك الذين أجبرهم المرض أو الإعاقة على الصمت؟ استقبال نقدي بهيج وتساؤلات حظي الفيلم باستقبال نقدي إيجابي منذ عرضه الأول، فأُدرج في قائمة الأفلام الوثائقية التي ستنافس في عدد من المهرجانات الكبرى عام 2024، ومنها مهرجان 'صاندانس' (Sundance Film Festival) ومهرجان 'تريبيكا (Tribeca Film Festival). وأشاد النقاد بقدرة الفيلم على أن يجعل المتفرج يعيش تجربة داخلية حقيقية مع شخصية توحدية، بعيدا عن الصور النمطية والتناول السطحي المعتاد، فقد كتب الناقد 'بيتر ديبروج' في مجلة 'فارياتي': لقد صنع 'بالاسيو' عملا فنيا يجعل الصمت ناطقا، والاختلاف مصدرا للشعر. وقال عن الفيلم: ليس مجرد وثائقي عن مرض نادر، بل مرآة لأسئلتنا عن ماهية الإنسانية. أما مجلة 'هوليود ريبورتر'، فقد أثنت على الأداء الصوتي المصاحب لنص 'ماكايلا' المكتوب، وقالت: إنه من أنجح محاولات إعطاء صوت حقيقي لفاقدي النطق. ومع ذلك الحماس النقدي، فقد أثارت بعض المقالات تساؤلات حول حدود التدخل الإخراجي في نقل نصوص 'ماكايلا'، فطرحت صحيفة 'ذا غارديان' احتمال أن يكون النص خضع لتحرير فني، جعله أكثر شاعرية مما قد تعبر عنه فتاة في عمرها ووضعها، مما يطرح قضية صدق الوثائقيات ذات الطابع الشخصي. بين الفن والرسالة.. التوثيق بعين شاعرية يعكس الفيلم ميل السينما الوثائقية المعاصرة لتجاوز التوثيق البارد إلى التعمق العاطفي والجمالي. فالمخرج 'خوليو بالاسيو' لم يكتفِ بسرد وقائع حياة فتاة توحدية، بل جعل قصتها مدخلا لمساءلة نظرتنا التقليدية إلى الاختلاف والإعاقة. وقد يكون في هذا تجاوز لمفهوم الحياد الوثائقي، لكنه في المقابل مكّن المتفرج من الدخول إلى عالم داخلي، كان سيظل مغلقا لولا الانحياز العاطفي الواضح، الذي طبعه المخرج على عمله. لقد اختار أن يعطي لـ'ماكايلا' الصوت الذي حرمت منه حرفيا، وأن يجعلها تتكلم، وأن يجعلنا نحن نصمت قليلا، لننصت لما لا نسمعه عادة؛ ألا وهو همسات الأرواح المعزولة.