#أحدث الأخبار مع #محمدمزالي،الشروق٢٨-٠٤-٢٠٢٥سياسةالشروقدبلوماسية الجزائر.. من روح الثورة و'الرّجلة' والأخلاقصرنا نسمع من حين إلى آخر، كلمّا استجدّ موقف أجنبي تجاه المسألة الصحراوية، أو تطوّرت القضية الفلسطينية نحو الأسوأ، أنّ على الجزائر مراجعة سياستها الخارجيّة. ومثل تلك الدعوات تتجاوز في جوهرها التفكير العقلاني في تقييم الأداء التكتيكي والتنفيذي وتقويم المواقف، إلى إعادة النظر في العقيدة الدبلوماسية من الأساس. ينبغي التذكير، بهذا الصدد، أنّ الدبلوماسية الجزائرية المعاصرة نشأت في سياق المواجهة الثورية مع الاستعمار الفرنسي الغاشم، على يد ثلّة من الشباب الثوريين الذين لم يتدرّجوا في المسارات الأكاديمية بالجامعات العالمية العريقة، ولا ترعرعوا وسط الأجهزة الإدارية لوزارة الخارجيّة التي لم تكن حينها سوى تمثيل ثوريّ فرديّ لجبهة التحرير الوطني، ثم للحكومة المؤقتة في عواصم متفرقة من الدنيا. لكن أولئك الثوار المؤسّسين للدبلوماسية الجزائرية كانوا مشبّعين بروح الإباء والمقاومة والكبرياء والرفض المطلق للقهر والظلم والاستعمار واستعباد الإنسان واستغلال الآخر، فكانوا يتفاوضون مع ممثلي الاحتلال من موقع القوة النفسية والمعنوية مهما اختلفت موازين القوى الماديّة، رافضين التسليم لشروطه ولا التفريط في ذرة تراب واحدة من أرضهم الزكية بدماء الشهداء. تلك التجربة الثوريّة أورثتهم مبادئ الانتصار لكل مظلوم بلا إملاءات ولا شروط، فكيف إن كان شقيق الدم والعقيدة، والدفاع عن حق الآخرين في الحرية والسلام والاستقرار، مقابل النأي بالنفس عن التدخل في شؤونهم الخاصّة والحرص على تكريس سياسة حسن الجوار وعدم الانخراط في لعبة المحاور الإقليمية والدوليّة. تغيّرت الكثير من المعطيات الجيوسياسية خلال نصف قرن ويزيد، لينتقل العالم من الحرب الباردة إلى أحاديّة النظام الدولي الجديد، وعصفت بالقارة الإفريقية والمنطقة العربية أحداث جسام، وبرزت معها شعارات 'الواقعيين' و'البراغماتيين' حتى أضحت الخيانة 'وجهة نظر'، لكن الدولة الجزائرية ظلّت تتمسّك بمبادئها الأخلاقية في عصر سقطت فيه كل القيم من ممارسات الأنظمة السياسية باسم المصالح القطريّة أولا، ولو كان ذلك على حساب الأخوّة والواجب الإنساني. لقد رفضت الجزائر أن تبيع أو تشتري في كل مواقفها الخارجية تجاه قضايا المنطقة، ولم تأخذ يوما قرارها بناء فقط على مصلحة ضيقة أو أجندات خاصّة، ولعلّ دعمها التاريخي للقضية الفلسطينية منذ 1962 خير شاهد على ذلك، إذ ظلّت منزّهة عن التورّط في الصراعات الفصائليّة، ولم تجعل إسنادها للتحرر الفلسطيني محل مقايضة مع أي طرف. نتذكر قبل نحو 15 عاما، شهادة رئيس الحكومة التونسية الأسبق، محمد مزالي، رحمه الله، متحدثا عن قصة فراره من قرار بن علي بإعدامه شنقا سنة 1989، متسلّلا عبر الحدود البريّة الجزائرية. يومها سأله الصحافي التونسي الشهير محمد الهاشمي على قناة 'المستقلّة': 'لماذا اخترت الهروب إلى الجزائر، عوض الاحتماء بأصدقائك الإيطاليين؟' ردّ مزالي من دون تفكير وبكل تلقائيّة: 'لُوخيّان الجزائريين إرجال… مستحيل أن يبيعوني إلى نظام بن علي بأي ثمن… لكنّي لا أثق في غيرهم'، ثم يروي لمحاوره كيف استقبلوه بحفاوة وسلّموه 6 آلاف دولار في ذلك الزمن، وبذلتين لحفظ كرامته قبل المغادرة إلى وجهة أخرى. لذلك، لا غرابة أن تقف الجزائر حاليّا بكل شموخ وشجاعة في وجه الكيان الصهيوني وداعميه من العرب والغرب، مستبسلة في تعرية جرائم الاحتلال الإسرائيلي عبر مجلس الأمن الدولي وكل الأجهزة الأمميّة، غير مبالية بخذلان الجبناء وحسابات الخونة، لأنها تتحرك انطلاقا من قيمها الدبلوماسية ولا يهمها سلوك الآخرين. إذا كان البعض يستعمل ذريعة 'الواجب الأخلاقي' في نشر الديمقراطية المزعومة والذود عن حقوق الإنسان المفترى عليها، لأجل تدمير دول والتخلّص من قوتها الإقليميّة، بحجّة إسقاط النظام المارق، مثلما حصل في العراق وسوريا وليبيا وغيرها، فإنّ الجزائر تتشبّث فعلا لا قولا بكلّ القيود الأخلاقيّة في مواقفها الخارجيّة. لذلك ترفض بلادنا مطلقا، وتحت أي ظرف، التخلّي عن الحقوق الفلسطينية التاريخية كاملة غير منقوصة، حتى لو قبل جزء من الساحة الفلسطينية نفسها التفاوض بشأنها مع العدوّ الغاصب، مثلما تترفّع بسمو مبدئي عن 'مزايا' التطبيع التي يعرضها عرّابو الكيان الصهيوني في الإقليم العربي، لأنها لا تأكل بثدي شقيقتها حتى لو جاعت، فكيف وهي اليوم قوّة إقليمية حرّة ذات سيادة، يستنجد بها الأشقّاء في دفع العدوان الجائر والتكالب العالمي والتقاعس القومي. والحال نفسه مع حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره؛ إذ ظلّت الجزائر، في أحلك ظروفها، واقفة مع دعمه، باعتباره صاحب قضية تحرريّة عادلة، بينما جعلت منها قوى دولية عظمى فرصة لابتزاز النظام العلوي، حتى جعلوه عين التجسّس للإمبريالية الصهيونية في المنطقة، وبؤرة تآمرها على الجيران. وفي ضوء القضيتين الفلسطينية والصحراوية، على سبيل المثال لا الحصر، ترفض الجزائر المساومة على خياراتها المبدئية، في حين يتورّط الآخرون في قبض الأثمان العاجلة، مقابل الانخراط في وأد القضية الفلسطينية، ودفع الرشاوى التي فضحتها المحاكم الأوروبية، على خلفية التواطؤ في الالتفاف على الحقوق الصحراويّة. قد يقول قائل إن الدبلوماسية الجزائرية لم تنجح في بعض المبادرات، ومثل هذا الحكم التقييمي ليس قدحا، إذ أنّ الأمم المتحدة نفسها أخفقت في الكثير من الأزمات الدوليّة، بل ينبغي أن يقود أصحاب القرار إلى مراجعة الآليات والوسائل والمقاربات الميدانية، حينما يقتضي الأمر ذلك، أمّا المبادئ الأخلاقيّة، فلا خلاف حولها.
الشروق٢٨-٠٤-٢٠٢٥سياسةالشروقدبلوماسية الجزائر.. من روح الثورة و'الرّجلة' والأخلاقصرنا نسمع من حين إلى آخر، كلمّا استجدّ موقف أجنبي تجاه المسألة الصحراوية، أو تطوّرت القضية الفلسطينية نحو الأسوأ، أنّ على الجزائر مراجعة سياستها الخارجيّة. ومثل تلك الدعوات تتجاوز في جوهرها التفكير العقلاني في تقييم الأداء التكتيكي والتنفيذي وتقويم المواقف، إلى إعادة النظر في العقيدة الدبلوماسية من الأساس. ينبغي التذكير، بهذا الصدد، أنّ الدبلوماسية الجزائرية المعاصرة نشأت في سياق المواجهة الثورية مع الاستعمار الفرنسي الغاشم، على يد ثلّة من الشباب الثوريين الذين لم يتدرّجوا في المسارات الأكاديمية بالجامعات العالمية العريقة، ولا ترعرعوا وسط الأجهزة الإدارية لوزارة الخارجيّة التي لم تكن حينها سوى تمثيل ثوريّ فرديّ لجبهة التحرير الوطني، ثم للحكومة المؤقتة في عواصم متفرقة من الدنيا. لكن أولئك الثوار المؤسّسين للدبلوماسية الجزائرية كانوا مشبّعين بروح الإباء والمقاومة والكبرياء والرفض المطلق للقهر والظلم والاستعمار واستعباد الإنسان واستغلال الآخر، فكانوا يتفاوضون مع ممثلي الاحتلال من موقع القوة النفسية والمعنوية مهما اختلفت موازين القوى الماديّة، رافضين التسليم لشروطه ولا التفريط في ذرة تراب واحدة من أرضهم الزكية بدماء الشهداء. تلك التجربة الثوريّة أورثتهم مبادئ الانتصار لكل مظلوم بلا إملاءات ولا شروط، فكيف إن كان شقيق الدم والعقيدة، والدفاع عن حق الآخرين في الحرية والسلام والاستقرار، مقابل النأي بالنفس عن التدخل في شؤونهم الخاصّة والحرص على تكريس سياسة حسن الجوار وعدم الانخراط في لعبة المحاور الإقليمية والدوليّة. تغيّرت الكثير من المعطيات الجيوسياسية خلال نصف قرن ويزيد، لينتقل العالم من الحرب الباردة إلى أحاديّة النظام الدولي الجديد، وعصفت بالقارة الإفريقية والمنطقة العربية أحداث جسام، وبرزت معها شعارات 'الواقعيين' و'البراغماتيين' حتى أضحت الخيانة 'وجهة نظر'، لكن الدولة الجزائرية ظلّت تتمسّك بمبادئها الأخلاقية في عصر سقطت فيه كل القيم من ممارسات الأنظمة السياسية باسم المصالح القطريّة أولا، ولو كان ذلك على حساب الأخوّة والواجب الإنساني. لقد رفضت الجزائر أن تبيع أو تشتري في كل مواقفها الخارجية تجاه قضايا المنطقة، ولم تأخذ يوما قرارها بناء فقط على مصلحة ضيقة أو أجندات خاصّة، ولعلّ دعمها التاريخي للقضية الفلسطينية منذ 1962 خير شاهد على ذلك، إذ ظلّت منزّهة عن التورّط في الصراعات الفصائليّة، ولم تجعل إسنادها للتحرر الفلسطيني محل مقايضة مع أي طرف. نتذكر قبل نحو 15 عاما، شهادة رئيس الحكومة التونسية الأسبق، محمد مزالي، رحمه الله، متحدثا عن قصة فراره من قرار بن علي بإعدامه شنقا سنة 1989، متسلّلا عبر الحدود البريّة الجزائرية. يومها سأله الصحافي التونسي الشهير محمد الهاشمي على قناة 'المستقلّة': 'لماذا اخترت الهروب إلى الجزائر، عوض الاحتماء بأصدقائك الإيطاليين؟' ردّ مزالي من دون تفكير وبكل تلقائيّة: 'لُوخيّان الجزائريين إرجال… مستحيل أن يبيعوني إلى نظام بن علي بأي ثمن… لكنّي لا أثق في غيرهم'، ثم يروي لمحاوره كيف استقبلوه بحفاوة وسلّموه 6 آلاف دولار في ذلك الزمن، وبذلتين لحفظ كرامته قبل المغادرة إلى وجهة أخرى. لذلك، لا غرابة أن تقف الجزائر حاليّا بكل شموخ وشجاعة في وجه الكيان الصهيوني وداعميه من العرب والغرب، مستبسلة في تعرية جرائم الاحتلال الإسرائيلي عبر مجلس الأمن الدولي وكل الأجهزة الأمميّة، غير مبالية بخذلان الجبناء وحسابات الخونة، لأنها تتحرك انطلاقا من قيمها الدبلوماسية ولا يهمها سلوك الآخرين. إذا كان البعض يستعمل ذريعة 'الواجب الأخلاقي' في نشر الديمقراطية المزعومة والذود عن حقوق الإنسان المفترى عليها، لأجل تدمير دول والتخلّص من قوتها الإقليميّة، بحجّة إسقاط النظام المارق، مثلما حصل في العراق وسوريا وليبيا وغيرها، فإنّ الجزائر تتشبّث فعلا لا قولا بكلّ القيود الأخلاقيّة في مواقفها الخارجيّة. لذلك ترفض بلادنا مطلقا، وتحت أي ظرف، التخلّي عن الحقوق الفلسطينية التاريخية كاملة غير منقوصة، حتى لو قبل جزء من الساحة الفلسطينية نفسها التفاوض بشأنها مع العدوّ الغاصب، مثلما تترفّع بسمو مبدئي عن 'مزايا' التطبيع التي يعرضها عرّابو الكيان الصهيوني في الإقليم العربي، لأنها لا تأكل بثدي شقيقتها حتى لو جاعت، فكيف وهي اليوم قوّة إقليمية حرّة ذات سيادة، يستنجد بها الأشقّاء في دفع العدوان الجائر والتكالب العالمي والتقاعس القومي. والحال نفسه مع حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره؛ إذ ظلّت الجزائر، في أحلك ظروفها، واقفة مع دعمه، باعتباره صاحب قضية تحرريّة عادلة، بينما جعلت منها قوى دولية عظمى فرصة لابتزاز النظام العلوي، حتى جعلوه عين التجسّس للإمبريالية الصهيونية في المنطقة، وبؤرة تآمرها على الجيران. وفي ضوء القضيتين الفلسطينية والصحراوية، على سبيل المثال لا الحصر، ترفض الجزائر المساومة على خياراتها المبدئية، في حين يتورّط الآخرون في قبض الأثمان العاجلة، مقابل الانخراط في وأد القضية الفلسطينية، ودفع الرشاوى التي فضحتها المحاكم الأوروبية، على خلفية التواطؤ في الالتفاف على الحقوق الصحراويّة. قد يقول قائل إن الدبلوماسية الجزائرية لم تنجح في بعض المبادرات، ومثل هذا الحكم التقييمي ليس قدحا، إذ أنّ الأمم المتحدة نفسها أخفقت في الكثير من الأزمات الدوليّة، بل ينبغي أن يقود أصحاب القرار إلى مراجعة الآليات والوسائل والمقاربات الميدانية، حينما يقتضي الأمر ذلك، أمّا المبادئ الأخلاقيّة، فلا خلاف حولها.