#أحدث الأخبار مع #محمودالفايد،Independent عربية١١-٠٣-٢٠٢٥أعمالIndependent عربيةموائد الرحمن تتوارى عن شوارع مصر والكراتين بديلاعلى بعد نحو 80 كيلومتراً من القاهرة، حيث يقطن محمود الفايد، بمدينة الصف الواقعة جنوب محافظة الجيزة، اعتاد الرجل الذي بلغ عقده السادس، إقامة مائدة طعام طوال شهر رمضان، لتقديم وجبات الإفطار لأهالي المدينة، حتى تعثر العام الحالي في إقامة ما اعتاده أعواماً، فلجأ، تحت وطأة الظروف الاقتصادية وارتفاع أسعار المواد الغذائية واللحوم والدواجن، إلى تغيير نهجه وطقوسه بأن يقدم وجبات ساخنة جاهزة للأكثر احتياجاً في الشوارع والمنازل، من دون إقامة مائدة رمضانية، بهدف تقليل الكميات المقدمة وتقليص النفقات. يقول الفايد، صاحب أحد مصانع الطوب، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن ما دفعه إلى ذلك هو الارتفاع الكبير في الأسعار الذي طاول غالب السلع الغذائية، مردفاً "ثمن الوجبة الواحدة قبيل خمسة أعوام لم يكن يتعدى نحو 50 جنيهاً (دولار أميركي واحد) وكان الأمر في المتناول، وداومت على تلك العادة السنوية حتى رمضان الماضي، أما الآن فالكلفة ارتفعت نحو ثلاثة أضعاف ويزيد، أصبح سعر كيلو اللحوم يراوح ما بين 350 جنيهاً (6.91 دولار أميركي) و450 جنيهاً (8.89 دولار أميركي)، وارتفع كيلو الدواجن في المزرعة 20 في المئة، ليصل إلى 90 جنيهاً (1.78 دولار أميركي)، بخلاف أسعار الخضراوات والمكونات الغذائية الأخرى وأجور العمالة ومستلزمات التشغيل". إلغاء المائدة بعد 16 عاماً لم يكن يتصور الفايد أن يتوقف عن هذه العادة التي داوم عليها طوال 16 عاماً ولم يقطعها إلا في فترة فيروس كورونا فحسب، كون لها أبعاد دينية ونفسية لديه، لكنه لم يجد سبيلاً آخر لمواجهة هذا الغلاء سوى تقليل الكميات وتوزيعها للتحكم في حجم النفقات المخصصة لذلك، أما المائدة فالأمر مختلف تماماً، إذ عدد المقبلين خارج سياق التوقعات من حيث الأعداد القادمة، وهو ما يزيد من حجم النفقات المحددة سلفاً. يضيف "كنت أخصص 300 وجبة يومياً في المائدة خلال الأعوام الماضية، وأفاجأ بأن العدد قد يصل إلى نحو 500، كنت أضطر بعدها إلى زيادة عدد الوجبات لإطعام الأعداد الإضافية وخدمة ضيوف الرحمن، لكن شعرت أن هذا الأمر مرهق مالياً خلال العام الحالي، بسبب المغالاة في أسعار كل السلع والمستلزمات بصورة مبالغ فيها، مما جعلني أبحث عن بدائل رخيصة الكلفة وأنال الثواب أيضاً من خلالها". ومنذ عام 2016 تشهد سوق الصرف في مصر تغيرات كبيرة تزامنت مع إعلان الحكومة تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ بتحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار (التعويم)، وخلال الأعوام الماضية خفض الجنيه المصري خمس مرات فقد خلالها نحو 84.6 في المئة من قيمته أمام الدولار. الكراتين وسيلة من الجيزة إلى القاهرة لم يختلف الوضع كثيراً، إذ اضطر الرجل الأربعيني أحمد عواد، الذي قضى ما يقارب من 12 عاماً في تنظيم مائدة رحمن بأحد أحياء منطقة عين شمس (شرق العاصمة المصرية القاهرة)، بمشاركة زملائه وجيرانه بالمنطقة، للتخلي عن ذلك الطقس السنوي خلال العام الحالي، واللجوء إلى فكرة بديلة بتوزيع "كرتونة رمضان"، التي تضم بعض السلع الأساس، مثل الزيت والسكر والشاي وغيرها من المكونات الغذائية، لمساعدة الأسر الأكثر احتياجاً. يقول عواد "اعتدت رفقة زملائي بالمنطقة على الجلوس معاً قبل حلول رمضان بنحو شهرين لتدبير موازنة مائدة الإفطار والبدء في جمع التبرعات من أهالي الحى سواء المالية أو المواد الغذائية لتخزينها حتى حلول الشهر المعظم، بخلاف البحث عن المتطوعين، للمساعدة في تقديم الوجبات على الصائمين وتنظيم أماكن الجلوس منعاً للتزاحم، لكننا فوجئنا أن موازنة إقامة المائدة خلال العام الحالي تضاعفت ثلاث مرات عما كانت عليه مقارنة بالعام الماضي، بسبب ارتفاع كلفة أسعار اللحوم والدواجن وكذلك باقي المكونات مثل البهارات والخضراوات، فضلاً عن أدوات المعالق والأطباق ومستلزمات التغليف". يضيف "حاولت أنا وزملائي البحث عن أفكار غير تقليدية للتمسك بإنشاء المائدة الرمضانية مثل اللجوء لجمع تبرعات أكثر من سكان الأحياء المجاورة أو تقليص كميات اللحوم والدواجن كونها الأعلى سعراً في وجبة الإفطار أو استقبال أعداد صائمين أقل مقارنة بالأعوام السابقة، لكن تلك الحلول لم تفلح جميعها، بسبب نقص الأموال التي استطعنا جمعها من أهالي المنطقة، التي تصل قيمتها إلى 80 ألف جنيه (1578.91 دولار أميركي)، وهو رقم أقل بكثير من حجم موازنة إقامة المائدة العام الحالي. لم يجد الرجل الأربعيني وزملاؤه وسيلة ملائمة للتكيف مع غلاء الأسعار الحالي سوى اللجوء إلى فكرة شراء كراتين رمضان بأسعار زهيدة وبكميات كبيرة لتوزيعها على الفقراء الأكثر احتياجاً من أهالي الحي من خلال شراء كرتونة سعر الواحدة يقارب 140 جنيهاً (2.76 دولار أميركي) تكفي حاجات أسرة مكونة من أربعة أفراد وتوزيعها على أكبر عدد من الأسر الفقيرة. وفق عواد "كان من الصعب علينا جميعاً التخلي عن فكرة المائدة التي اعتدنا إقامتها سنوياً كونها من الطقوس المبهجة في رمضان بالنسبة إلى أهالي الحي، كونها تسهم في تخفيف العبء عن الفقراء وتوفير وجبة إفطار شهية لهم، وكانت تجمع مختلف الطبقات على مائدة واحدة لحظة الإفطار والجميع يتشارك في المساعدة من أجل إنجاح تلك الفكرة التي بدأت قبل أعوام بتوزيع 100 وجبة يومية، قبل أن تزيد تدريجاً وتصل إلى 4 آلاف وجبة يومية حتى العام الماضي، يوجه نصفها الأول لرواد الخيمة، أما النصف الثاني فيذهب إلى الفئات الأكثر احتياجاً عبر قوافل الخير، إلا أننا وجدنا أن هذا هو الحل الأنسب في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة والغلاء الجنوني في أسعار السلع، لإيصال التبرع لمن يستحق من المحتاجين وتقليص الهدر الهائل في كميات الطعام التي كانت تحدث على مائدة الإفطار سنوياً". وأظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر أخيراً أن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية تراجع إلى 12.8 في المئة فبراير (شباط) الماضي، من 24 في المئة يناير (كانون الثاني) السابق عليه. صمود الموائد الشهيرة فيما واصلت الموائد الرمضانية الشهيرة، التي تقام في بعض الأحياء الشعبية وتتسابق كل عام في إطعام الصائمين صمودها أمام غلاء الأسعار والظروف الاقتصادية الراهنة، إذ شهدت منطقة الرشاح بمدينة الخصوص بمحافظة القليوبية قبل أيام، تنظيم مائدة إفطار كبرى، ضمت نحو 12 ألف مواطن من الصائمين الذين تناولوا وجبات الإفطار في مائدة "وطن واحد" التي تزينت بأعلام مصر، وشارك فيها أهالي المنطقة وشخصيات عامة ونواب برلمان وعديد من المسلمين والأقباط. وفي عزبة حمادة بحي المطرية بالقاهرة، بدأ أهالي وشباب المنطقة في التجهيز والاستعداد لإقامة مائدة الإفطار الكبرى، التي تنطلق في منتصف رمضان كل عام، إذ تتزين الشوارع بالزينة والورد والبالونات، مصحوبة بتشغيل الأغاني التي تناسب الأجواء الرمضانية، بخلاف الرسومات والغرافيتي لأبرز الشخصيات الكرتونية مثل "بكار وبوجي وطمطم وفنانيس". وفي هذا الصدد، يقول حاتم رضوان أحد منظمي إفطار المطرية الشهير، إن هذا الحدث السنوي أصبح من الطقوس المعتادة التي يصعب التخلي أو الاستغناء عنها، وأصبح يكتسب شهرة شعبية واسعة في كل أرجاء مصر ويحرص على المشاركة فيه أهالي المنطقة، إلى جانب الوزراء والسفراء والشخصيات العامة، مشيراً إلى أن هذا الإفطار بدأ منذ أكثر من 13 عاماً ولم ينقطع إلا خلال عامي فترة انتشار فيروس كورونا فقط (2020 و2021) بسبب الإجراءات الاحترازية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) يضيف رضوان، الذي يعمل مدير إدارة مشروعات بإحدى الشركات الخاصة، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن شباب المنطقة يبدأون كل عام عمل جمعية في ما بينهم ويشارك فيها كل شخص بمبلغ مالي معين حسب قدرته المالية من أجل التحضير والاستعداد للعام المقبل، منوهاً بأن هذا الإفطار يشارك فيه مسلمون وأقباط ورجال وسيدات وأطفال، ونسعى من خلاله أن نضفي البهجة على أهالي المنطقة، وأن يسود التراحم بين الجميع. يكمل "نحاول التأقلم مع الظروف الاقتصادية وغلاء الأسعار، لكن هذا الحدث ننظمه مرة واحدة سنوياً بجهود ذاتية، لأننا نعتبره يوم فرحة لنا، لذا فالجميع يتشارك فيه من أجل إنجاحه، إذ تختص السيدات وبعض الشيفات المقيمين بالمنطقة بإعداد الأطعمة سواء وجبات تشمل (رزاً وخضراوات ولحوماً أو دواجن)، فيما يقوم أصحاب المحال التجارية سواء مسلمين أو أقباطاً بعمل تخفيضات لنا على المأكولات والزينة لمساعدتنا في هذا الحدث". يوضح رضوان أنه سيشارك 1800 شاب من أهالي المنطقة في هذا الحدث لإقامة موائد إفطار تمتد أمتاراً طويلة، لتضم 20 شارعاً بالمنطقة مقارنة بتسعة فقط العام الماضي، منوهاً بأنهم اضطروا إلى زيادة أعداد الوجبات لتصل إلى 40 ألف وجبة مقارنة بـ10 آلاف وجبة العام الماضي، لتلبية حاجات ما يقارب 150 ألف شخص متوقع حضورهم لمائدة الإفطار خلال العام الحالي. تراجع وخفوت وفي هذا السياق، يقول رئيس جمعية مواطنون ضد الغلاء محمود العسقلاني، إن موائد الرحمن لم تعد بنفس الكثافة والانتشار مثلما كانت في الأعوام السابقة، مرجعاً ذلك إلى الغلاء والظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانيها كثير من المصريين. موضحاً أن تلك الموائد أصبحت تنحصر في نطاق المساجد والشركات الكبرى وبعض المناطق الشعبية التي اكتسبت شهرة واسعة بها مثل "المطرية والخصوص"، فيما تراجع ظهورها في الشوارع والطرقات والميادين العامة. ويوضح العسقلاني، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن كثيراً من منظمي موائد الرحمن سواء كانوا أشخاصاً أو جمعيات أهلية بدأوا في التخلي عن فكرة إقامتها، نظراً إلى كلفتها الباهظة، ولجأوا إلى توزيع كراتين رمضان على البسطاء والمحتاجين سواء (سراً أو علانية)، كونها سترفع عن كاهلهم اتهامات التفاخر والبحث عن الوجاهة الاجتماعية، كذلك فإن الكرتونة ستفيد أسرة كاملة وليس فرداً واحداً فقط إذا جرى إطعامه على المائدة. ويشير رئيس جمعية مواطنون ضد الغلاء إلى أن موائد الرحمن تختلف من منطقة إلى أخرى حسب المقدرة المالية لكل منطقة، قائلاً "مائدة الرحمن في المناطق الشعبية تختلف في أصناف الوجبات والكميات وأعداد المشاركين عن المناطق الراقية". يعضد الطرح السابق عضو شعبة البقالة والمواد الغذائية بالغرفة التجارية بالإسكندرية حازم المنوفي، موضحاً أن حجم الطلب والإقبال على شراء كراتين رمضان يتزايد 10 في المئة، لا سيما في الأعوام الثلاثة الأخيرة، مشيراً إلى أن الزيادة في نسب شراء الكراتين تعكس تراجعاً نسبياً في إقامة الموائد الرمضانية، منوهاً بأن أسعار الكراتين في الأسواق تراوح ما بين 200 (3.95 دولار أميركي) إلى 500 جنيه (9.87 دولار أميركي) حسب المكونات التي تحويها كل عبوة، التي تضم غالب السلع الأساس التي تحتاج إليها الأسرة المصرية. يضيف المنوفي، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن كثيراً من المصريين لجأوا إلى مسارين أخيراً إما تقليص فترة موائد الرحمن لتقام 15 يوماً فقط بدلاً من الشهر الكامل أو شراء تلك الكراتين كونها وسيلة زهيدة الكلفة مقارنة بالموائد الباهظة الثمن، التي كانت تتطلب موازنات ضخمة وأعداداً كبيرة من المتطوعين ومستلزمات إنتاج كثيرة وتصاريح من الجهات الرسمية لإقامتها، لافتاً إلى أن كثراً أصبحوا يفضلون الكرتونة لتوصيل التبرع للفئات المستحقة عبر الجمعيات الخيرية المنتشرة في أرجاء الجمهورية، وتوفير نسب الهدر في الطعام التي كانت تحدث على موائد الرحمن سنوياً عقب إقطار الصائمين. وحددت مصر في فبراير الماضي الضوابط والشروط لإقامة الموائد الرمضانية، التي تمثلت في التقدم بطلب للحى المراد إقامة المائدة به، ويتولى الحي دراسة الموقع المختار لإقامة المائدة، الذي يجب أن يراعى فيه بعده عن الميادين والشوارع الرئيسة، وعدم وجوده أمام المنشآت الحكومية كالمدارس والمستشفيات، ويشترط في الموائد كذلك توافر شروط الأمان والحماية المدنية وعدم تعطيل حركة المرور والحفاظ على نظافة المكان. وتاريخياً تعود فكرة موائد الرحمن إلى الولائم التي كان يقيمها الحكام وكبار رجال الدولة والتجار والأعيان أيام الفاطميين وهو ما يطلق عليها "سماط الخليفة"، وكان القائمون على قصر الخليفة الفاطمي يوفرون راتباً كبيراً من السكر والدقيق لصناعة حلوى رمضان الكنافة والقطايف وغيرها، وكان الخليفة يحرص على إقامة مائدة إفطار رمضان بحضور رؤساء الدواوين والحاكم والوزراء، واستمرت الموائد مرتبطة برمضان عبر العصور الإسلامية المختلفة، وظل الأغنياء يتسابقون إليها كل عام، ويعدون لها العدة.
Independent عربية١١-٠٣-٢٠٢٥أعمالIndependent عربيةموائد الرحمن تتوارى عن شوارع مصر والكراتين بديلاعلى بعد نحو 80 كيلومتراً من القاهرة، حيث يقطن محمود الفايد، بمدينة الصف الواقعة جنوب محافظة الجيزة، اعتاد الرجل الذي بلغ عقده السادس، إقامة مائدة طعام طوال شهر رمضان، لتقديم وجبات الإفطار لأهالي المدينة، حتى تعثر العام الحالي في إقامة ما اعتاده أعواماً، فلجأ، تحت وطأة الظروف الاقتصادية وارتفاع أسعار المواد الغذائية واللحوم والدواجن، إلى تغيير نهجه وطقوسه بأن يقدم وجبات ساخنة جاهزة للأكثر احتياجاً في الشوارع والمنازل، من دون إقامة مائدة رمضانية، بهدف تقليل الكميات المقدمة وتقليص النفقات. يقول الفايد، صاحب أحد مصانع الطوب، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن ما دفعه إلى ذلك هو الارتفاع الكبير في الأسعار الذي طاول غالب السلع الغذائية، مردفاً "ثمن الوجبة الواحدة قبيل خمسة أعوام لم يكن يتعدى نحو 50 جنيهاً (دولار أميركي واحد) وكان الأمر في المتناول، وداومت على تلك العادة السنوية حتى رمضان الماضي، أما الآن فالكلفة ارتفعت نحو ثلاثة أضعاف ويزيد، أصبح سعر كيلو اللحوم يراوح ما بين 350 جنيهاً (6.91 دولار أميركي) و450 جنيهاً (8.89 دولار أميركي)، وارتفع كيلو الدواجن في المزرعة 20 في المئة، ليصل إلى 90 جنيهاً (1.78 دولار أميركي)، بخلاف أسعار الخضراوات والمكونات الغذائية الأخرى وأجور العمالة ومستلزمات التشغيل". إلغاء المائدة بعد 16 عاماً لم يكن يتصور الفايد أن يتوقف عن هذه العادة التي داوم عليها طوال 16 عاماً ولم يقطعها إلا في فترة فيروس كورونا فحسب، كون لها أبعاد دينية ونفسية لديه، لكنه لم يجد سبيلاً آخر لمواجهة هذا الغلاء سوى تقليل الكميات وتوزيعها للتحكم في حجم النفقات المخصصة لذلك، أما المائدة فالأمر مختلف تماماً، إذ عدد المقبلين خارج سياق التوقعات من حيث الأعداد القادمة، وهو ما يزيد من حجم النفقات المحددة سلفاً. يضيف "كنت أخصص 300 وجبة يومياً في المائدة خلال الأعوام الماضية، وأفاجأ بأن العدد قد يصل إلى نحو 500، كنت أضطر بعدها إلى زيادة عدد الوجبات لإطعام الأعداد الإضافية وخدمة ضيوف الرحمن، لكن شعرت أن هذا الأمر مرهق مالياً خلال العام الحالي، بسبب المغالاة في أسعار كل السلع والمستلزمات بصورة مبالغ فيها، مما جعلني أبحث عن بدائل رخيصة الكلفة وأنال الثواب أيضاً من خلالها". ومنذ عام 2016 تشهد سوق الصرف في مصر تغيرات كبيرة تزامنت مع إعلان الحكومة تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ بتحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار (التعويم)، وخلال الأعوام الماضية خفض الجنيه المصري خمس مرات فقد خلالها نحو 84.6 في المئة من قيمته أمام الدولار. الكراتين وسيلة من الجيزة إلى القاهرة لم يختلف الوضع كثيراً، إذ اضطر الرجل الأربعيني أحمد عواد، الذي قضى ما يقارب من 12 عاماً في تنظيم مائدة رحمن بأحد أحياء منطقة عين شمس (شرق العاصمة المصرية القاهرة)، بمشاركة زملائه وجيرانه بالمنطقة، للتخلي عن ذلك الطقس السنوي خلال العام الحالي، واللجوء إلى فكرة بديلة بتوزيع "كرتونة رمضان"، التي تضم بعض السلع الأساس، مثل الزيت والسكر والشاي وغيرها من المكونات الغذائية، لمساعدة الأسر الأكثر احتياجاً. يقول عواد "اعتدت رفقة زملائي بالمنطقة على الجلوس معاً قبل حلول رمضان بنحو شهرين لتدبير موازنة مائدة الإفطار والبدء في جمع التبرعات من أهالي الحى سواء المالية أو المواد الغذائية لتخزينها حتى حلول الشهر المعظم، بخلاف البحث عن المتطوعين، للمساعدة في تقديم الوجبات على الصائمين وتنظيم أماكن الجلوس منعاً للتزاحم، لكننا فوجئنا أن موازنة إقامة المائدة خلال العام الحالي تضاعفت ثلاث مرات عما كانت عليه مقارنة بالعام الماضي، بسبب ارتفاع كلفة أسعار اللحوم والدواجن وكذلك باقي المكونات مثل البهارات والخضراوات، فضلاً عن أدوات المعالق والأطباق ومستلزمات التغليف". يضيف "حاولت أنا وزملائي البحث عن أفكار غير تقليدية للتمسك بإنشاء المائدة الرمضانية مثل اللجوء لجمع تبرعات أكثر من سكان الأحياء المجاورة أو تقليص كميات اللحوم والدواجن كونها الأعلى سعراً في وجبة الإفطار أو استقبال أعداد صائمين أقل مقارنة بالأعوام السابقة، لكن تلك الحلول لم تفلح جميعها، بسبب نقص الأموال التي استطعنا جمعها من أهالي المنطقة، التي تصل قيمتها إلى 80 ألف جنيه (1578.91 دولار أميركي)، وهو رقم أقل بكثير من حجم موازنة إقامة المائدة العام الحالي. لم يجد الرجل الأربعيني وزملاؤه وسيلة ملائمة للتكيف مع غلاء الأسعار الحالي سوى اللجوء إلى فكرة شراء كراتين رمضان بأسعار زهيدة وبكميات كبيرة لتوزيعها على الفقراء الأكثر احتياجاً من أهالي الحي من خلال شراء كرتونة سعر الواحدة يقارب 140 جنيهاً (2.76 دولار أميركي) تكفي حاجات أسرة مكونة من أربعة أفراد وتوزيعها على أكبر عدد من الأسر الفقيرة. وفق عواد "كان من الصعب علينا جميعاً التخلي عن فكرة المائدة التي اعتدنا إقامتها سنوياً كونها من الطقوس المبهجة في رمضان بالنسبة إلى أهالي الحي، كونها تسهم في تخفيف العبء عن الفقراء وتوفير وجبة إفطار شهية لهم، وكانت تجمع مختلف الطبقات على مائدة واحدة لحظة الإفطار والجميع يتشارك في المساعدة من أجل إنجاح تلك الفكرة التي بدأت قبل أعوام بتوزيع 100 وجبة يومية، قبل أن تزيد تدريجاً وتصل إلى 4 آلاف وجبة يومية حتى العام الماضي، يوجه نصفها الأول لرواد الخيمة، أما النصف الثاني فيذهب إلى الفئات الأكثر احتياجاً عبر قوافل الخير، إلا أننا وجدنا أن هذا هو الحل الأنسب في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة والغلاء الجنوني في أسعار السلع، لإيصال التبرع لمن يستحق من المحتاجين وتقليص الهدر الهائل في كميات الطعام التي كانت تحدث على مائدة الإفطار سنوياً". وأظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر أخيراً أن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية تراجع إلى 12.8 في المئة فبراير (شباط) الماضي، من 24 في المئة يناير (كانون الثاني) السابق عليه. صمود الموائد الشهيرة فيما واصلت الموائد الرمضانية الشهيرة، التي تقام في بعض الأحياء الشعبية وتتسابق كل عام في إطعام الصائمين صمودها أمام غلاء الأسعار والظروف الاقتصادية الراهنة، إذ شهدت منطقة الرشاح بمدينة الخصوص بمحافظة القليوبية قبل أيام، تنظيم مائدة إفطار كبرى، ضمت نحو 12 ألف مواطن من الصائمين الذين تناولوا وجبات الإفطار في مائدة "وطن واحد" التي تزينت بأعلام مصر، وشارك فيها أهالي المنطقة وشخصيات عامة ونواب برلمان وعديد من المسلمين والأقباط. وفي عزبة حمادة بحي المطرية بالقاهرة، بدأ أهالي وشباب المنطقة في التجهيز والاستعداد لإقامة مائدة الإفطار الكبرى، التي تنطلق في منتصف رمضان كل عام، إذ تتزين الشوارع بالزينة والورد والبالونات، مصحوبة بتشغيل الأغاني التي تناسب الأجواء الرمضانية، بخلاف الرسومات والغرافيتي لأبرز الشخصيات الكرتونية مثل "بكار وبوجي وطمطم وفنانيس". وفي هذا الصدد، يقول حاتم رضوان أحد منظمي إفطار المطرية الشهير، إن هذا الحدث السنوي أصبح من الطقوس المعتادة التي يصعب التخلي أو الاستغناء عنها، وأصبح يكتسب شهرة شعبية واسعة في كل أرجاء مصر ويحرص على المشاركة فيه أهالي المنطقة، إلى جانب الوزراء والسفراء والشخصيات العامة، مشيراً إلى أن هذا الإفطار بدأ منذ أكثر من 13 عاماً ولم ينقطع إلا خلال عامي فترة انتشار فيروس كورونا فقط (2020 و2021) بسبب الإجراءات الاحترازية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) يضيف رضوان، الذي يعمل مدير إدارة مشروعات بإحدى الشركات الخاصة، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن شباب المنطقة يبدأون كل عام عمل جمعية في ما بينهم ويشارك فيها كل شخص بمبلغ مالي معين حسب قدرته المالية من أجل التحضير والاستعداد للعام المقبل، منوهاً بأن هذا الإفطار يشارك فيه مسلمون وأقباط ورجال وسيدات وأطفال، ونسعى من خلاله أن نضفي البهجة على أهالي المنطقة، وأن يسود التراحم بين الجميع. يكمل "نحاول التأقلم مع الظروف الاقتصادية وغلاء الأسعار، لكن هذا الحدث ننظمه مرة واحدة سنوياً بجهود ذاتية، لأننا نعتبره يوم فرحة لنا، لذا فالجميع يتشارك فيه من أجل إنجاحه، إذ تختص السيدات وبعض الشيفات المقيمين بالمنطقة بإعداد الأطعمة سواء وجبات تشمل (رزاً وخضراوات ولحوماً أو دواجن)، فيما يقوم أصحاب المحال التجارية سواء مسلمين أو أقباطاً بعمل تخفيضات لنا على المأكولات والزينة لمساعدتنا في هذا الحدث". يوضح رضوان أنه سيشارك 1800 شاب من أهالي المنطقة في هذا الحدث لإقامة موائد إفطار تمتد أمتاراً طويلة، لتضم 20 شارعاً بالمنطقة مقارنة بتسعة فقط العام الماضي، منوهاً بأنهم اضطروا إلى زيادة أعداد الوجبات لتصل إلى 40 ألف وجبة مقارنة بـ10 آلاف وجبة العام الماضي، لتلبية حاجات ما يقارب 150 ألف شخص متوقع حضورهم لمائدة الإفطار خلال العام الحالي. تراجع وخفوت وفي هذا السياق، يقول رئيس جمعية مواطنون ضد الغلاء محمود العسقلاني، إن موائد الرحمن لم تعد بنفس الكثافة والانتشار مثلما كانت في الأعوام السابقة، مرجعاً ذلك إلى الغلاء والظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانيها كثير من المصريين. موضحاً أن تلك الموائد أصبحت تنحصر في نطاق المساجد والشركات الكبرى وبعض المناطق الشعبية التي اكتسبت شهرة واسعة بها مثل "المطرية والخصوص"، فيما تراجع ظهورها في الشوارع والطرقات والميادين العامة. ويوضح العسقلاني، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن كثيراً من منظمي موائد الرحمن سواء كانوا أشخاصاً أو جمعيات أهلية بدأوا في التخلي عن فكرة إقامتها، نظراً إلى كلفتها الباهظة، ولجأوا إلى توزيع كراتين رمضان على البسطاء والمحتاجين سواء (سراً أو علانية)، كونها سترفع عن كاهلهم اتهامات التفاخر والبحث عن الوجاهة الاجتماعية، كذلك فإن الكرتونة ستفيد أسرة كاملة وليس فرداً واحداً فقط إذا جرى إطعامه على المائدة. ويشير رئيس جمعية مواطنون ضد الغلاء إلى أن موائد الرحمن تختلف من منطقة إلى أخرى حسب المقدرة المالية لكل منطقة، قائلاً "مائدة الرحمن في المناطق الشعبية تختلف في أصناف الوجبات والكميات وأعداد المشاركين عن المناطق الراقية". يعضد الطرح السابق عضو شعبة البقالة والمواد الغذائية بالغرفة التجارية بالإسكندرية حازم المنوفي، موضحاً أن حجم الطلب والإقبال على شراء كراتين رمضان يتزايد 10 في المئة، لا سيما في الأعوام الثلاثة الأخيرة، مشيراً إلى أن الزيادة في نسب شراء الكراتين تعكس تراجعاً نسبياً في إقامة الموائد الرمضانية، منوهاً بأن أسعار الكراتين في الأسواق تراوح ما بين 200 (3.95 دولار أميركي) إلى 500 جنيه (9.87 دولار أميركي) حسب المكونات التي تحويها كل عبوة، التي تضم غالب السلع الأساس التي تحتاج إليها الأسرة المصرية. يضيف المنوفي، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن كثيراً من المصريين لجأوا إلى مسارين أخيراً إما تقليص فترة موائد الرحمن لتقام 15 يوماً فقط بدلاً من الشهر الكامل أو شراء تلك الكراتين كونها وسيلة زهيدة الكلفة مقارنة بالموائد الباهظة الثمن، التي كانت تتطلب موازنات ضخمة وأعداداً كبيرة من المتطوعين ومستلزمات إنتاج كثيرة وتصاريح من الجهات الرسمية لإقامتها، لافتاً إلى أن كثراً أصبحوا يفضلون الكرتونة لتوصيل التبرع للفئات المستحقة عبر الجمعيات الخيرية المنتشرة في أرجاء الجمهورية، وتوفير نسب الهدر في الطعام التي كانت تحدث على موائد الرحمن سنوياً عقب إقطار الصائمين. وحددت مصر في فبراير الماضي الضوابط والشروط لإقامة الموائد الرمضانية، التي تمثلت في التقدم بطلب للحى المراد إقامة المائدة به، ويتولى الحي دراسة الموقع المختار لإقامة المائدة، الذي يجب أن يراعى فيه بعده عن الميادين والشوارع الرئيسة، وعدم وجوده أمام المنشآت الحكومية كالمدارس والمستشفيات، ويشترط في الموائد كذلك توافر شروط الأمان والحماية المدنية وعدم تعطيل حركة المرور والحفاظ على نظافة المكان. وتاريخياً تعود فكرة موائد الرحمن إلى الولائم التي كان يقيمها الحكام وكبار رجال الدولة والتجار والأعيان أيام الفاطميين وهو ما يطلق عليها "سماط الخليفة"، وكان القائمون على قصر الخليفة الفاطمي يوفرون راتباً كبيراً من السكر والدقيق لصناعة حلوى رمضان الكنافة والقطايف وغيرها، وكان الخليفة يحرص على إقامة مائدة إفطار رمضان بحضور رؤساء الدواوين والحاكم والوزراء، واستمرت الموائد مرتبطة برمضان عبر العصور الإسلامية المختلفة، وظل الأغنياء يتسابقون إليها كل عام، ويعدون لها العدة.