أحدث الأخبار مع #منذرالشحومي


أخبار ليبيا
٢٤-٠٤-٢٠٢٥
- أعمال
- أخبار ليبيا
'الشحومي': إصلاحات اقتصادية في ليبيا لمصلحة المواطن والتنمية
كتب الخبير الاقتصادي 'منذر الشحومي' مقالاً في تصريحاته الأخيرة الداعية إلى رفع الدعم عن السلع و المحروقات وتقليص بند المرتبات العامة، أثار السيد محمد الرعيض – رئيس الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة وعضو مجلس النواب – موجةً من الجدل والاستياء الشعبي. امتدت ردود الفعل الغاضبة إلى الدعوة لمقاطعة منتجات شركته، وذلك نتيجة اللهجة الحادة التي بدت وكأنها تُحمِّل المواطن العادي مسؤولية الأزمة الاقتصادية الخانقة. ورغم كل ذلك الجدل والغضب، فإن هذا المقال لا يدافع عن الرعيض ولا يبرر أسلوب طرحه؛ بل يهدف إلى مناقشة الأفكار الاقتصادية التي طرحها وكيفية عرضها على الرأي العام، دون رفض لجوهر تلك الأفكار. إن الركون إلى سياسات شعبوية لتسكين الأوجاع الآنية دون علاج جذري لن ينقذ الاقتصاد الوطني، كما أن تأجيل الإصلاحات الضرورية اليوم يعني بالضرورة اتخاذ قرارات أشد قسوة في المستقبل عندما تتفاقم الأزمات. ومع ذلك، لا يمكن إلقاء أعباء فشل السياسات الاقتصادية السابقة على كاهل المواطنين وحدهم؛ فغالبيتهم لم يكونوا طرفًا في منظومات الفساد وسوء الإدارة التي أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار. جديرٌ بالذكر أن لهجة الرعيض في طرحه للإصلاح بدت وكأنها تلوم الناس على أزمةٍ لم يصنعوها، مما عمّق فجوة الثقة بين الشارع وصنّاع القرار. إن الإصلاح الحقيقي يجب أن يبدأ من أعلى الهرم السياسي والاقتصادي، بحيث تتحمل القيادات مسؤولياتها أولًا وتُضمن عدالة توزيع أعباء الإصلاح وعوائده. فالمواطنون المنهكون من الأزمات المتتالية يستحقون خطابًا رسميًا يحترم مشاعرهم، وإصلاحاتٍ تضع اعتبارات العدالة الاجتماعية وكرامة العيش الكريم في صلب الأولويات. عبء الدعم الحالي: منطق الإصلاح في مواجهة مخاوف الشارع لا شك أن نظام الدعم السلعي المعمول به منذ عقود (خاصةً دعم الوقود والكهرباء والمياه) تحول من ميزة اجتماعية إلى عبء اقتصادي يثقل كاهل الدولة. يبلغ سعر البنزين المحلي في ليبيا حوالي 0.15 دينار لليتر فقط (نحو 0.02 دولار أمريكي)، مما يجعله أرخص سعر وقود في العالم. هذه الأسعار الزهيدة وإن بدت في صالح المواطن على المدى القصير، أدت في الواقع إلى انتشار سلوكيات سلبية كالإسراف والتهريب. وفقًا لتقارير دولية، يُقدَّر ما تفقده ليبيا بسبب تهريب الوقود بما يتعدي 5 مليارات دولار سنويًا – أموال طائلة تُهدر ليستفيد منها المهربون بدلًا من المواطن البسيط. الأمر لا يقتصر على الوقود؛ فالكهرباء والمياه أيضًا تقدَّمان بأسعار شبه مجانية، مما شجّع على الإفراط في الاستهلاك وأضعف كفاءة إدارة الموارد. ونتيجةً لذلك تضخمت نفقات الدعم في الموازنة العامة لتصل في حالة الوقود وحده إلى نحو 12.8 مليار دينار ليبي في أول 11 شهرًا من عام 2024 (حوالي 2.7 مليار دولار بالسعر الرسمي) و هذا الرقم لا يشمل تكلفة الدعم المحتسبة من المنبع و نتيجة المقايضة للنفط الخام مقابل محروقات او التسوية من حساب الموسسة الوطنية للنفط قبل التحويل للحساب السيادي لدى مصرف ليبيا المركزي، و الذي يقدر بما لا يقل عن عشر مليارات دولار. هذه المبالغ الهائلة كان يمكن توجيهها لتحسين الخدمات العامة أو تقديم دعم نقدي مباشر للأسر المحتاجة بدل تبديدها في سوق سوداء يقتات عليها المتاجرون بالدعم. من هذا المنطلق، فإن دعوة الرعيض إلى إعادة النظر في سياسة الدعم تستند إلى منطق اقتصادي قوي: فالدعم الشامل بأسعاره الحالية يفتقر إلى العدالة ويؤدي إلى إهدار الموارد، فعلى عكس المقصود منه، يستفيد الأغنياء وأصحاب الاستهلاك الأعلى من الدعم أكثر من الفقراء، كما أن المواطنين والأجانب ينالون حصةً متساوية منه بلا تفرقة. إضافةً إلى ذلك، السعر المتدني للسلع المدعومة خلق حالة من الاتكال والاستهلاك المفرط بدلاً من الترشيد، وأفرز اقتصادًا موازيًا يقوم على التهريب والفساد. كل هذه التشوهات تنعكس سلبًا على معيشة المواطن بشكل غير مباشر عبر استنزاف خزينة الدولة وتقليص قدرتها على تحسين الخدمات العامة والبنية التحتية أو رفع المرتبات بشكل مستدام، أي أن المواطن قد يدفع ثمن الدعم الحالي في النهاية من نوعية الحياة المتراجعة والخدمات المتدهورة. لكن بالمقابل، طريقة طرح هذه الفكرة للجمهور لم تكن موفقة تمامًا. فعلى الرغم من وجاهة مبدأ رفع الدعم العيني واستبداله بدعم نقدي يستهدف المستحقين، شعر كثير من المواطنين بالقلق وربما بالغضب من تصريحات الرعيض. يرجع ذلك إلى عدة أسباب أهمها تحميل المواطن مسولية الاخطاء الاقتصادية و الفساد المالي، كذلك انعدام الثقة في آليات التنفيذ الحكومية: إذ يخشى المواطن أن يؤدي رفع الدعم إلى ارتفاع كبير في الأسعار دون تعويض فعلي أو أن يتبخر الوفر المالي في دهاليز الفساد والإنفاق الرسمي غير الرشيد، وما زاد الطين بلة أن حديث الرعيض ركز على ما ينبغي على المواطن تحمّله من أعباء الإصلاح (كرفع سعر البنزين)، دون تطمينات كافية حول ما ستقوم به الدولة بالمقابل لضمان عدم تضرر الفئات الضعيفة، كما لوحظ أنه تجاهل الإشارة إلى ملف الفساد الحكومي وتضخم المصاريف الرسمية، وهو جانب لا يقل أهمية عن إصلاح الدعم نفسه. فكيف يطالب المواطنين بشد الأحزمة والتخلي عن مكاسب مباشرة اعتادوا عليها، بينما لم يُسمع له صوت قوي في المطالبة بكبح فساد الإنفاق العام أو الحد من البذخ في مصاريف المسؤولين؟ هذا الخلل في التوازن بالطرح أعطى انطباعًا بأن الإصلاح المقترح أحادي الجانب، يستهدف المواطن فقط دون النخبة السياسية والإدارية، مما أجج رفض الشارع للاقتراح رغم منطقيته الاقتصادية. لجعل طرح إصلاح نظام الدعم أكثر قبولًا وشمولًا، من الضروري تضمين ما يلي: • ضمانات واضحة لحماية محدودي الدخل: ينبغي التأكيد على أن رفع الدعم سيتم تدريجيًا وبالتوازي مع تعويضات نقدية عادلة ومنتظمة تصل مباشرةً إلى مستحقيها، بحيث لا يُترَك المواطن البسيط وحيدًا في مواجهة غلاء الأسعار. • مكافحة التهريب والفساد بالتزامن مع الإصلاح: على السلطات إعلان إجراءات حازمة لمنع شبكات تهريب الوقود ومحاسبة المتورطين في هدر المال العام، لضمان أن الوفر الناتج عن تقليص الدعم سيذهب لتنمية الاقتصاد لا إلى جيوب الفاسدين. • ترشيد الإنفاق الحكومي نفسه: من المهم أن يشعر المواطن أن الحكومة جادة في إصلاح نفسها أيضًا، عبر خفض المصاريف التسييرية والامتيازات المبالغ فيها للمسؤولين، عندما يرى الناس أن قادتهم يشدّون الأحزمة معهم، سيصبح تقبّلهم للإصلاحات الصعبة أهون نسبيًا. • شفافية التواصل والخطاب: كان يجدر بمن يطرح مثل هذه الأفكار أن يستخدم لغة تُراعي مخاوف الناس بدلًا من إلقاء اللوم عليهم لتعويلهم على الدولة، شرحٌ مبسّط يُبيّن كيف أن الإصلاح سيعود بالنفع على المواطن مستقبلًا – مدعومًا بالأرقام وخطة عمل واضحة – كان سيخفف من التوجس الشعبي ويدفع نحو حوار بنّاء بدل الصدام. تضخم القطاع العام: حقيقة لا خلاف عليها ولكن أين البديل؟ إلى جانب ملف الدعم، تناول طرح الرعيض معضلة تضخم القطاع الحكومي مقابل ضعف مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد، فلا يخفى أن عقودًا من السياسات الاقتصادية الخاطئة حوّلت الوظيفة الحكومية إلى الخيار شبه الوحيد أمام غالبية الشباب الليبي، في ظل محدودية الفرص في القطاع الخاص، ونتيجة التوسع المستمر في التوظيف الحكومي بلا تخطيط، ارتفع عدد موظفي الدولة من نحو 900 ألف موظف في 2010 إلى حوالي 2.3 مليون موظف بنهاية 2021 – أي أن قرابة ثلث سكان ليبيا باتوا يتقاضون رواتب من الخزانة العامة، هذا الرقم الضخم يفوق بكثير قدرة الاقتصاد الحقيقي على استيعاب موظفين منتجين، فتحولت آلاف الوظائف إلى بطالة مقنعة أو أعمال شكلية غير منتجة، ولعل ما يزيد الصورة قتامة أن بند الرواتب والأجور الحكومية يلتهم حاليًا ما يصل إلى 70-75% من الإنفاق العام (73% خلال الربع الأول من 2023 مثلًا)، مما لا يترك سوى حيزٍ محدود جدًا للاستثمار في المشاريع التنموية والخدمات، وفي نفس الفترة (الربع الأول 2023) بلغت فاتورة المرتبات نحو 13.1 مليار دينار من أصل 18 مليار إنفاق عام، بينما لم يتجاوز الإنفاق التطويري 750 مليون دينار فقط، هذه فجوة هائلة بين ما يُصرف على الاستهلاك الحالي (رواتب ودعم) وبين ما يُستثمر للمستقبل، ما يعني استنزافًا لمقدرات البلد دون بناء حقيقي لقدراته الإنتاجية. من هذا المنظور، كان تركيز الرعيض على ضرورة تحجيم القطاع العام وتشجيع القطاع الخاص في محله من ناحية المبدأ، إذ لا يمكن لاقتصاد أن ينمو بشكل صحي حين تكون الحكومة هي رب العمل الأكبر والمموّل الأبرز للنشاط الاقتصادي. لقد أشار الرعيض إلى أن الشعب اعتاد الاعتماد على الدولة، وإلى أن سياسة تعليمية عقودية دفعت الجميع إلى التعليم الجامعي النظري على حساب التعليم التقني والفني، لتنتهي الرحلة بطوابير الخريجين الساعين إلى وظيفة حكومية. هذه الملاحظات صحيحة وتعكس واقعًا مؤلمًا: الاعتماد الكلي على الدولة خلق ثقافة انتظار الوظيفة الحكومية بدلًا من روح المبادرة في الأعمال الخاصة أو الحِرفية، كما أدى إلى تضخم بيروقراطي يثقل الأداء الحكومي نفسه. بيد أن الأسلوب الذي عُرضت به هذه الحقائق أثار التساؤلات حول 'ما الحل البديل' فعليًا، فالمواطن يتفق ربما أن تضخم الجهاز الحكومي بلغ حدًا مرضيًا، لكنه يتساءل: أين الفرص الأخرى إذا انكمش التوظيف الحكومي؟ كان حريًا بالرعيض أن يستفيض في شرح كيفية تنشيط القطاع الخاص لامتصاص العمالة الفائضة واستيعاب الشباب الداخلين إلى سوق العمل سنويًا، لقد ذكر بالفعل أن القطاع الخاص الليبي 'يعمل بمدخراته دون دعم من المصارف' في إشارة إلى قصور التمويل المصرفي للمشاريع الخاصة. ولكن لم نسمع منه مثلاً عن خطط عملية لمعالجة هذه المشكلة البنيوية، كإصلاح القطاع المصرفي أو تقديم حوافز للاستثمار المحلي، كذلك لم يربط بشكل صريح بين تقليص وظائف الدولة وبين محاربة الفساد في التوظيف الحكومي ذاته؛ فجزء من تضخم القطاع العام سببه توظيف زبائني أو أسماء وهمية بهدف شراء الولاءات السياسية والاجتماعية، الإصلاح الحقيقي يقتضي معالجة هذا الخلل عبر مراجعة كشوف المرتبات وتنقية الجهاز الإداري من الفساد والمحسوبية، وليس فقط وقف التوظيف الجديد. إن نجاح أي عملية لإعادة هيكلة القطاع العام مرهون بتوافر بديل اقتصادي فعّال. هنا أيضًا يظهر قصور خطاب الرعيض: فقد انتقد الواقع القائم من دون أن يرفقه برؤية شاملة لكيفية الانتقال إلى وضع أفضل. على سبيل المثال. يمكن أن تشمل الرؤية المتكاملة: • إطلاق برامج لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة: بحيث توفر الدولة قروضًا ميسّرة وتسهيلات ضريبية لرواد الأعمال، مما يخلق فرص عمل جديدة في القطاع الخاص تستوعب الباحثين عن العمل. • شراكة حقيقية مع القطاع الخاص في المشاريع الكبرى: عبر تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي في مجالات كالطاقة المتجددة، السياحة، الزراعة والصناعة التحويلية، لتخفيف الاعتماد على القطاع النفطي والوظائف الحكومية. • إصلاح نظام التعليم والتدريب المهني: لملاءمة مخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل. فبدلًا من تخريج آلاف الجامعيين العاطلين، يجدر توجيه نسبة أكبر من الشباب نحو التعليم التقني وحِرف يحتاجها الاقتصاد الليبي، مع توفير منح وحوافز للالتحاق بهذه المسارات. • معالجة تركة الفساد في التوظيف الحكومي: عبر إنشاء قاعدة بيانات شفافة للموظفين الحكوميين وإزالة الازدواجية والوظائف الوهمية، وضمان أن من يبقى في الوظيفة العامة يؤدي خدمة حقيقية للمواطنين، هذا ليس فقط لتحقيق عدالة في ضبط النفقات، بل أيضًا لإقناع العامة بأن تقليص القطاع العام لن يُستخدم كسلاح ضد صغار الموظفين وحدهم فيما يبقى 'الكبار' في مناصبهم بلا محاسبة. لو أن مثل هذه العناصر طُرحت بوضوح ضمن حديث الرعيض، لربما اختلف رد فعل الشارع، فالمواطن يحتاج أن يرى الطريق أمامه: كيف سينتقل من اقتصاد تهيمن عليه الدولة إلى آخر متنوع يقوده القطاع الخاص. الحديث عن المشكلة دون طمأنة الناس إلى حلٍ واقعي قابل للتنفيذ جعل الدعوة للإصلاح تبدو مجرد مطالبة بالتضحية من جانب واحد، أما الإصلاح المدروس الشامل فبإمكانه أن يقنع الناس بأنه يصنع مستقبلاً أفضل للجميع وليس مجرد حرمان لهم من مكاسب حالية. الاستقرار النقدي وتعزيز الثقة: أهداف مشروعة تصطدم بواقع الثقة المفقودة تطرّق طرح الرعيض أيضًا إلى أهمية تحقيق الاستقرار النقدي ومعالجة التشوهات المالية، لاسيما تلك الناتجة عن دعم السلع وفروق سعر الصرف. وقد أشار بحق إلى ما نتج عن حقبة ازدواج سعر صرف الدينار (الرسمي والموازي) من فساد كبير، حيث استغل البعض الحصول على الدولار بالسعر الرسمي المدعوم لتحقيق أرباح خيالية عند بيع السلع بالسعر الموازي، هذه الممارسات أضرّت بالاقتصاد وأثرت سلبًا على قيمة العملة وثقة المواطنين، صحيح أن مصرف ليبيا المركزي وحّد سعر الصرف مطلع 2021 عند حوالي 4.48 دينار للدولار، لكن الضغوط عاودت الظهور مؤخرًا مما اضطره إلى خفض قيمة الدينار رسميًا بنسبة 13% تقريبًا (إلى 5.56 دينار للدولار) خلال 2023. وبقي الفارق قائمًا بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية (حيث تجاوز الدولار 7 دنانير أحيانًا)، ما يدل على استمرار عدم الثقة ووجود اختلالات تتطلب المعالجة. من زاوية اقتصادية بحتة، إن طرح الرعيض الداعي إلى ضبط الإنفاق العام وترشيد الدعم يهدف ضمنيًا إلى تخفيف الضغط على الاحتياطيات الأجنبية وحماية الدينار من المزيد من التدهور. فحين تنخفض حاجة الحكومة إلى شراء العملة الصعبة لتمويل واردات مدعومة أو كتلة رواتب ضخمة، يصبح احتياطي البنك المركزي في وضع أكثر أمانًا وقدرة على دعم سعر الصرف، حاليًا تتمتع ليبيا باحتياطي نقدي قوي يقارب 82 مليار دولار بنهاية 2023 بفضل عائدات النفط المرتفعة نسبيًا، وهو رقم يكفي لتغطية الواردات لعدة سنوات، غير أن هذا الرصيد يمكن أن يتآكل سريعًا إذا استمرت أنماط الإنفاق الحالية دون إصلاح، لا سيما عند أي انخفاض في أسعار النفط عالميًا أو اضطراب في الإنتاج المحلي بسبب تطورات سياسية، من هنا فإن الإصلاحات التي ينادي بها الرعيض تشكل وقاية مبكرة للاقتصاد: تقليص نزيف الموارد عبر الدعم العشوائي والإنفاق غير المنتج سيعزّز استقرار المؤشرات الكلية (عجز مالي أقل، ودين عام تحت السيطرة) مما يمنح مصرف ليبيا المركزي مجالًا أكبر للمحافظة على قيمة الدينار وربما تعزيزها مستقبلًا، وبالتالي يُكبح التضخم وتُصان القوة الشرائية للمواطن الليبي، خاصة أن معدل التضخم السنوي تراجع إلى نحو 2-3% في 2023 ومن المتوقع بقاءه في نطاق منخفض إذا استمر الانضباط المالي. رغم ذلك، يبقى التحدي الأكبر سياسيًا واجتماعيًا أكثر منه تقنيًا. فالمواطن العادي قد لا يُعير اهتمامًا كبيرًا لتقارير وكالات التصنيف الائتماني أو حتى لمعدل التضخم ما دام يشعر بأن معيشته اليومية مهددة؛ إن تعزيز الثقة هنا لا يتعلق فقط بأرقام الاقتصاد الكلي، بل بثقة الناس في أن إصلاحات التقشف المقترحة ستنعكس إيجابًا عليهم فعليًا ولن يتم الالتفاف عليها أو استغلالها ضدهم. كثيرون يتوجسون من أن رفع الدعم أو تخفيض فاتورة الرواتب سيُنفَّذ في النهاية على حساب المواطن البسيط، بينما يستمر الهدر في مستويات الحكم العليا. وللأسف هناك سوابق تعزّز هذا الشك: إذ جرى الحديث مرارًا عن إصلاحات ومبادرات اقتصاديّة في الماضي، لكنها أخفقت إما لسوء تنفيذها أو لغياب الإرادة السياسية الحقيقية، فتكرس لدى الشارع اعتقادٌ أن الوعود الرسمية شيء والواقع شيء آخر تمامًا. من أجل تجسير فجوة الثقة هذه، كان ينبغي على الطرح الإصلاحي أن يتضمن إجراءات واضحة لبناء المصداقية. فعلى سبيل المثال، إعلان حزمة شفافية تتعهد بها الحكومة أمام المواطنين، تشمل نشر التقارير الدورية عن حجم الوفر المتحقق من الإصلاحات وكيفية إنفاقه (سواء في دعم مستهدف أو مشاريع تنموية). كذلك، ربما كان من المجدي لو أشار الرعيض إلى ضرورة توحيد الميزانية العامة بين حكومتَي البلاد المتنافستين وتحسين إدارة الموارد عبر سلطة مالية موحّدة، فجزء كبير من التشوهات الاقتصادية في ليبيا يرجع لانقسام المؤسسات وضعف الرقابة. إن طمأنة المواطنين بأن إصلاح الدعم وضبط الإنفاق لن يكونا مجرد إملاءات مالية بل جزءًا من رؤية أشمل لبناء اقتصاد أقوى وأكثر تنوعًا كان سيجعل رسالته أكثر إقناعًا. فلو وُضع الإصلاح المالي في إطار خطة تنموية متكاملة – تتضمن مثلًا تحسين مناخ الاستثمار، مكافحة الفساد الإداري، والاهتمام بقطاعات إنتاجية جديدة – لأمكن تغيير نظرة الناس من إصلاح يُخشى منه إلى إصلاح يُرجى منه. الإصلاح في صالح الوطن لا الأفراد في المحصلة، إن جوهر الأفكار التي طرحها محمد الرعيض يعكس تفكيرًا اقتصاديًا علميًا يستهدف معالجة اختلالات هيكلية أضرّت بمعيشة المواطن الليبي، إلا أن طريقة تسويق هذه الأفكار للجمهور هي التي أثارت النفور والمقاومة. لقد ركز خطاب الرعيض على الإجراءات المؤلمة المطلوبة (رفع الدعم، ضبط الرواتب) دون إيلاء نفس القدر من الاهتمام لشرح الضمانات والمكاسب المستقبلية أو للإشارة إلى تضحية الطبقة الحاكمة بنصيبها من الإصلاح، وهنا يكمن الدرس الأوسع: لا يكفي أن تكون السياسات صحيحة نظريًا، بل ينبغي أن تُطرَح عمليًا بطريقة عادلة وشاملة تأخذ بعين الاعتبار مخاوف الناس ومصالحهم، فالإصلاحات الجريئة يمكن أن تنجح وتؤتي ثمارها كما تُظهر تجارب دولية عدة، لكن شرط ذلك أن تحظى بثقة المواطنين ودعمهم القائم على اقتناع وإشراك في المنافع. ليس الهدف من هذا النقاش الدفاع عن شخص الرعيض أو أي مسؤول بعينه، بل الانتصار لمنهج التفكير الموضوعي في مواجهة التحديات. إن رفض الأفكار فقط بسبب كراهية قائليها هو ضرب من إطلاق النار على أقدامنا. بدلاً من ذلك، المطلوب هو تمحيص كل طرحٍ اقتصادي بعقلانية: أخذ ما فيه من نفع وتصحيح ما يعتريه من نقص، وصولًا إلى معالجات واقعية تخدم مصلحة الوطن والمواطن، إذا نجحنا في تجاوز الشخصنة وتسييس الملفات الاقتصادية، سنجد أن كثيرًا من الوصفات العلاجية – وإن كانت مُرّة المذاق – هي ما يحتاجه الاقتصاد الليبي لينتعش ويحقق تنمية حقيقية مستدامة يشعر بها الجميع.


أخبار ليبيا
٠٤-٠٤-٢٠٢٥
- أعمال
- أخبار ليبيا
'الشحومي' يكتب: استخدام الدولار كسلاح وفرض التعرفات الجمركية وتأثيرها على مستقبل الهيمنة الأمريكية
كتب كتب الخبير الاستثماري ومدير صندوق رأسمال في المملكة المتحدة 'منذر الشحومي' مقالاً بعنوان: استخدام الدولار كسلاح وفرض التعرفات الجمركية وتأثيرها على مستقبل الهيمنة الأمريكية على مدى عقود، شكلت الولايات المتحدة حجر الزاوية للنظام الاقتصادي العالمي مستفيدةً من هيمنة الدولار الأمريكي ومن ريادتها للنظام التجاري متعدد الأطراف. غير أنها في السنوات الأخيرة بدأت تسخّر قوتها الاقتصادية كسلاح جيوسياسي بطرق غير مسبوقة – بدءًا من تجميد احتياطيات الخصوم من النقد الأجنبي وصولًا إلى فرض رسوم جمركية عقابية على شركاء تجاريين وأعداء على حد سواء ، لقد أبرزت هذه التحركات مدى النفوذ الأمريكي، لكنها في الوقت ذاته أثارت تساؤلات جدية حول انعكاساتها طويلة المدى. فهل يمكن أن يؤدي استخدام الدولار كسلاح، إلى جانب النزعة المتزايدة نحو فرض التعرفات الجمركية, إلى تقويض أسس الهيمنة الأمريكية العالمية التي أرستها واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية؟ استخدام الدولار كسلاح يعد الدولار الأمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية العملة المهيمنة عالمياً في التجارة والتمويل. فهو يمثل اليوم حوالي 60% من احتياطيات النقد الأجنبي المعلنة لدى المصارف المركزية حول العالم، رغم أن الاقتصاد الأمريكي لا يشكل إلا نحو ربع الناتج العالمي . كما يدخل الدولار في قرابة 90% من معاملات الصرف الأجنبي الدولية ، ما يعني أن معظم الدول والشركات تعتمد عليه كوسيط موثوق للتجارة والتمويل. هذه المكانة الفريدة منحت الولايات المتحدة ما يسميه الاقتصاديون «الامتياز الباهظ» – أي قدرة على الاقتراض والإنفاق دوليًا بعملتها الخاصة دون مخاطر كبيرة – فضلًا عن نفوذ سياسي واقتصادي هائل نابع من قدرة واشنطن على الوصول إلى النظام المالي العالمي. مع ذلك، بدأت الولايات المتحدة في توظيف هذه القوة المالية كسلاح ضغط لتحقيق أهداف سياستها الخارجية. تجلى ذلك بشكل صارخ في تجميدها للأصول الاحتياطية الروسية بالخارج عام 2022 – وهو أجرأ استخدام لسلاح الدولار حتى اليوم ، فقد تم حظر وصول موسكو إلى نحو 300 مليار دولار من احتياطياتها الأجنبية ردًا على حربها في أوكرانيا، إلى جانب إجراءات مماثلة (إن كانت أصغر حجمًا) استهدفت في السابق مصارف إيران وليبيا وفنزويلا وأفغانستان ، من منظور واشنطن، تُعتبر هذه العقوبات المالية أداة قوية لمعاقبة من تصنفهم خصومًا وردع مَن يخالف مصالحها ، لكن من منظور الدول الأخرى، يبعث هذا التوجه رسالة مثيرة للقلق: إذا كان بمقدور أمريكا شلّ الوصول إلى الدولار والنظام المالي لأي دولة تعارضها، فهل من الأمان الاستمرار في الاعتماد المطلق على العملة الأمريكية؟ لقد أدى هذا التساؤل إلى تسريع النقاش حول الحد من الاعتماد على الدولار أو ما يُعرف بـ«إزالة الدولرة». فبعد تجميد الاحتياطيات الروسية، أدركت حتى بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة أنها قد تجد نفسها معرضة للخطر يومًا ما إن تباينت سياساتها مع واشنطن . ونتيجة لذلك، بدأت عدة أطراف دولية البحث عن بدائل. فعلى سبيل المثال، عملت الصين وروسيا على زيادة التعامل بعملاتهما الوطنية؛ وبحلول منتصف عام 2024 ارتفعت نسبة تجارة الصين الخارجية المسعرة بعملة الرنمينبي (اليوان) إلى حوالي 27%، مقارنةً بـ17% فقط في أوائل عام 2022 ، ويُعزى جزء كبير من هذه القفزة إلى تسوية الصين وحليفها الروسي لتجارتهما البينية بالعملة الصينية بدلًا من الدولار ، كذلك دفع القلق الأوروبي من الهيمنة الأمريكية على أنظمة الدفع إلى التفكير في بدائل محلية: فقد نبه البنك المركزي الأوروبي إلى خطر «الضغط والإكراه الاقتصادي» الذي تواجهه أوروبا نتيجة سيطرة شبكات البطاقات الأمريكية (فيزا وماستركارد مثلًا) على المدفوعات، ما حفز مبادرة لإطلاق اليورو الرقمي لتعزيز الاستقلالية المالية للقارة ، ومع أن مشروع العملة الرقمية الأوروبية لا يزال متعثرًا وفي حاجة لسنوات قبل التنفيذ ، فإن مجرد طرحه يعكس رغبة متنامية في إيجاد شبكات مالية أقل خضوعًا للولايات المتحدة. رغم هذه الجهود، لا تزال البدائل الواقعية للدولار محدودة في الأجل القريب، فحتى الآن، لم تستطع أي عملة أخرى الاقتراب من مكانة الدولار العالمية؛ فعلى سبيل المثال، لا تمثل عملة الصين سوى حوالي 2% من احتياطيات العالم من النقد الأجنبي ، كما أن معظم الاقتصادات الكبرى – بما فيها حلفاء أمريكا كاليابان وأوروبا – شاركت واشنطن في أحدث جولات العقوبات (مثل العقوبات المفروضة على روسيا) ، مما يعني أن الانتقال إلى عملات تلك الدول لا يوفر حماية تامة من سلاح العقوبات الغربي، أضف إلى ذلك ما يعرف بتأثيرات الشبكة: فكلما ازداد استخدام الدولار، ازدادت كلفة التخلي عنه وصعوبة بناء شبكة عالمية بديلة ، لذا يشدد محللو المؤسسات المالية على أن أي تراجع جوهري في هيمنة الدولار سيستغرق وقتًا طويلًا؛ إذ رغم تزايد الدعوات لتنويع الاحتياطيات بعيدًا عن العملة الأمريكية، تظل الأسس الداعمة للدولار متجذرة بعمق في هيكل الاقتصاد العالمي وبنيته المالية ، بعبارة أخرى، قد يكون سلاح الدولار سلاحًا ذو حدين بالنسبة لأمريكا: فرغم خطر دفع الآخرين تدريجيًا نحو الالتفاف عليه، فإن موقع الدولار الراسخ يمنح واشنطن هامش مناورة واسع قد يستمر لعقود. سلاح التعرفات الجمركية إلى جانب نفوذها المالي، تمتلك الولايات المتحدة ثقلاً تجاريًا كبيرًا استخدمته مؤخراً بفرض تعريفات جمركية واسعة النطاق لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية. فقد خرجت واشنطن عن نهجها التقليدي المؤيد للتجارة الحرة وقامت في أواخر العقد الماضي بفرض رسوم جمركية أحادية الجانب على العديد من الدول والشركاء التجاريين، وكانت أبرز مثال على ذلك الحرب التجارية مع الصين التي انطلقت في 2018؛ حيث فرضت الإدارة الأمريكية حينها رسومًا جمركية بنسبة 25% على واردات صينية بحوالي 250 مليار دولار، ثم رفعت النسبة أو نطاقها لتغطي بضائع إضافية بقيمة 300 مليار دولار تقريبًا ، وردت الصين بإجراءات انتقامية شملت فرض تعرفات على الواردات الأمريكية إلى أسواقها. ومع تصاعد ما أصبح أكبر نزاع تجاري منذ عقود، تزعزعت سلاسل الإمداد العالمية واهتزت الأسواق المالية نتيجة حالة عدم اليقين والتكاليف الإضافية التي فرضتها التعرفات على الشركات والمستهلكين. لم تقتصر سياسة الرسوم المشددة على الخصوم الإستراتيجيين كالصين. فقد شملت أيضًا حلفاء تقليديين: مثل فرض واشنطن رسومًا على واردات الصلب والألومنيوم القادمة من الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، مبررة ذلك بدواعٍ أمنية وتجارية. وأثار هذا النهج أحادي الجانب استياء الحلفاء الذين رأوا فيه تقويضًا لقواعد النظام التجاري متعدد الأطراف الذي كانت الولايات المتحدة نفسها مهندسه لعقود، وقد فكرت دول أوروبية في الرد بالمثل عبر فرض رسوم على المنتجات الأمريكية، بل درست خيارات أكثر جذرية كفرض قيود على عمل البنوك الأمريكية في أوروبا . لكن مثل هذه الخطوات التصعيدية لم تدخل حيز التنفيذ نظرًا للنفوذ الكبير لوول ستريت عالميًا ومخاوف الأوروبيين من الإضرار بأنفسهم أيضًا برد فعل معاكس على مصالحهم الاقتصادية ، ومع ذلك، فإن مجرد اضطرار الحلفاء لبحث إجراءات دفاعية كهذه يشير إلى حجم الشرخ الذي أحدثته سياسة التعرفات في الثقة المتبادلة بين أمريكا وشركائها. من وجهة النظر الأمريكية الداخلية، يجادل مؤيدو التعرفات أن هذه الإجراءات ضرورية لحماية الوظائف والصناعات الوطنية من المنافسة غير العادلة ولمواجهة ممارسات تجارية تعتبرها واشنطن مشوهة للسوق (مثل سرقة الملكية الفكرية أو الإغراق السعري). كما يرى البعض أنها ورقة ضغط تفاوضية تدفع الخصوم إلى تقديم تنازلات، بيد أن معظم الاقتصاديين يشككون في جدوى سياسة الرسوم لتحقيق الأهداف المعلنة، فالعجز التجاري الأمريكي الإجمالي لم ينكمش بشكل مستدام نتيجة هذه التعرفات، إذ يعود تحديد حجم العجز إلى عوامل هيكلية في الاقتصاد الأمريكي (كفوارق الادخار والاستثمار) أكثر من كونه نتيجة لتعريفات جمركية هنا أو هناك. وقد حذر خبراء من أن الحواجز التجارية قد تأتي بنتائج عكسية؛ فإذا لم تنجح الرسوم في خفض العجز التجاري – وهو السيناريو الذي يعتبره كثير من الاقتصاديين مرجحًا – فإنها ستضر بالاقتصاد الأمريكي دون أن تحقق الغاية ، بالفعل، شهدت الولايات المتحدة بعد فرض تلك الرسوم ارتفاعاً في تكاليف الواردات بالنسبة للمستهلك الأمريكي العادي، مما يعادل ضريبة خفية على الإنفاق الاستهلاكي. كما اضطرت شركات أمريكية تعتمد على مكونات مستوردة إلى رفع الأسعار أو تحمل هوامش ربحية أقل. علاوة على ذلك، هناك تبعات جيوسياسية طويلة المدى لنهج التعرفات القائم على المواجهة. فقد يؤدي الاستخدام المفرط للأدوات الحمائية إلى إضعاف الدور القيادي الأمريكي في صياغة قواعد التجارة العالمية. فعندما تتجاوز الولايات المتحدة مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية (WTO) وتفرض إجراءات أحادية، فإن دولًا أخرى قد تفقد الثقة بفاعلية النظام التجاري الدولي القائم وتبحث عن ترتيبات بديلة، وهذا برز فعليًا مع إقدام دول على إبرام اتفاقيات تجارة إقليمية ضخمة من دون الولايات المتحدة، مثل الاتفاقية الشاملة للتجارة عبر المحيط الهادئ (CPTPP) التي مضت قدمًا من دون مشاركة واشنطن، إن تراجع النفوذ الأمريكي في وضع أجندة التجارة العالمية يوازيه صعود نسبي لدول أخرى مستعدة لملء الفراغ وقيادة دفة العولمة الاقتصادية وفق مصالحها الخاصة. التداعيات على مستقبل الهيمنة الأمريكية تشكل التحركات الأمريكية الأخيرة مزيجًا من إبراز القوة والمقامرة الإستراتيجية بمكتسبات الهيمنة. فمن ناحية، أكدت واشنطن مجددًا حجم نفوذها: إذ أظهرت للعالم أنه بوسعها ليّ ذراع اقتصاد حتى دولة كبرى عبر حرمانها من الدولار والأسواق الأمريكية، ومن ناحية أخرى، أثارت هذه السياسات شبح فقدان الثقة العالمية في القيادة الأمريكية، ذلك أن نظام الهيمنة الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية بني ليس بالقوة الصلبة وحدها، بل أيضًا على شبكات تحالفات واسعة وعلى قبول الدول الأخرى – بما فيها الحليفة – للدور الأمريكي بوصفه ضامنًا للنظام الاقتصادي العالمي المفتوح. فإذا بدأ هؤلاء اللاعبون يرون في الولايات المتحدة طرفًا مستعدًا لاستخدام قواعد النظام ضدهم عند الخلاف، فسيكون من الطبيعي أن يسعوا لتقليل تعرضهم لهذه الهيمنة المالية والتجارية. على المدى القريب، ربما لن يترجم هذا الاستياء إلى انقلاب فوري على عرش الدولار أو انهيارٍ لتحالفات التجارة القائمة، فما زالت الولايات المتحدة تتمتع بموقع فريد لا ينازعها فيه أحد حاليًا: اقتصادها هو الأكبر والأكثر ابتكارًا، وأسواقها المالية عميقة وسيولتها عالية، وعملتها لا تزال الملاذ الآمن الأول عالميًا في أوقات الأزمات. وليس هناك حتى اللحظة منافس مكافئ يستطيع توفير نفس درجة الثقة والسيولة – فلا اليورو الأوروبي تمكن من تعويض الفجوة بسبب تحدياته الخاصة بين دول الاتحاد، ولا اليوان الصيني مرشح حقيقي في ظل القيود المفروضة على تحويله بحرية وسياق النظام السياسي الصيني ، لذلك من غير المرجح أن تنهار الهيمنة الأمريكية دفعةً واحدة نتيجة هذه السياسات بيد أن الخطر الحقيقي يكمُن في التآكل التدريجي، فاستعداء الخصوم وحتى الشركاء الاقتصاديين عبر سلاح الدولار والتعرفات قد يخلق حافزًا مشتركًا لدى العديد من الدول للعمل على المدى الطويل لبناء نظام أقل مركزية. ومع مرور الوقت، قد نشهد تسارع جهود إنشاء بنية مالية موازية – كتكثيف استخدام العملات المحلية في التبادلات التجارية وإنشاء أنظمة مدفوعات دولية بديلة – بشكل يُقلم أظافر النفوذ الأمريكي، ولن يكون مستغربًا أيضًا أن تؤدي سياسات التعرفات إلى إعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية بعيدًا عن السوق الأمريكية تجنبًا للمخاطر، مما قد يقلل من الاعتماد المتبادل الذي طالما شكل مصدر قوة لأمريكا (حيث يستفيد الشركاء من السوق الأمريكية الواسعة مقابل بقائهم في فلك النظام الذي تقوده واشنطن). يبدو أن الولايات المتحدة تواجه معضلة استراتيجية: فبينما توفر لها هيمنة الدولار وقوة سوقها التجارية أدوات فعالة لفرض إرادتها حاليًا، فإن الإفراط في استخدام هذه الأدوات قد يقوض الركائز التي تستند إليها هذه الهيمنة ذاتها على المدى الأبعد. وكما حذر أحد الخبراء، فإن الإمعان في هذه السياسات بدافع الإحباط قد يدفع صناع القرار الأمريكيين إلى تبني «أفكار جامحة» تخرج عن منطق الاقتصاد السليم – الأمر الذي من شأنه تسريع تراجع النفوذ بدلاً من دعم استمراره. الهيمنة الأمريكية تاريخيًا لم تكن مجرد نتاج القوة بل أيضًا نتاج القبول والقيادة المسؤولة؛ فإن انحرفت نحو فرض الهيمنة بالقسر الاقتصادي، فقد تفتح الباب أمام عالم أكثر تكتلًا وانقسامًا، تتوزع فيه مراكز النفوذ بشكل أوسع، وعلى الرغم من أن الدولار والنظام الأمريكي سيظلان في القمة في المدى المنظور، إلا أن الثمن الباهظ لاستخدامهما كسلاح قد يكون التأسيس البطيء لنهاية التفرد الأمريكي وولادة نظام عالمي أشد تعددية.


أخبار ليبيا
٢٣-٠٣-٢٠٢٥
- أعمال
- أخبار ليبيا
'الشحومي' يكتب: خيارات مصرف ليبيا المركزي في غياب سياسة مالية واقتصادية رشيدة
كتب الخبير الاقتصادي 'منذر الشحومي' مقالاً: خيارات مصرف ليبيا المركزي في غياب سياسة مالية واقتصادية رشيدة،، أزمة السياسة النقدية في ظل غياب التنسيق المالي تمر ليبيا بظروف اقتصادية معقدة تجعل مصرف ليبيا المركزي في مواجهة تحديات استثنائية. فعندما تغيب سياسة مالية واقتصادية رشيدة للحكومة، يجد المصرف المركزي نفسه مضطرًا لاتخاذ إجراءات دفاعية للحفاظ على استقرار العملة والاقتصاد، هذه الوضعية ليست حكرًا على ليبيا؛ فقد شهدت دول أخرى غنية بالموارد مثل فنزويلا ونيجيريا وأنغولا والعراق أخطاءً جسيمة في السياسات النقدية عندما اختل التناغم بين النقدي والمالي. في هذا المقال نستعرض بتحليل عميق خيارات المصرف المركزي الليبي حاليًا، ونستقي الدروس من تجارب تلك الدول. دروس من التجارب الدولية: أخطاء السياسات النقدية في ليبيا وفنزويلا ونيجيريا وأنغولا والعراق ليبيا: عانت ليبيا خلال العقد الماضي من سوء إدارة نقدية في ظل الصراع السياسي، حافظت لفترة طويلة على سعر صرف رسمي مبالغ في قيمته مدعومًا بإيرادات النفط، مما شجّع على الاستيراد المفرط وأضعف الإنتاج المحلي ، بعد تراجع عائدات النفط منذ 2013 وعدم القيام بإصلاح مالي مواكب، لجأت السلطات إلى تمويل العجز عبر احتياطيات النقد الأجنبي؛ أي استخدمت المصرف المركزي لتمويل الإنفاق العام دون ضبط مالي، مما أدى لاستنزاف كبير للاحتياطيات وتدهور في ميزان المدفوعات . زاد الأمر سوءًا انقسام المصرف المركزي بين سلطتين في الشرق والغرب؛ حيث قام الفرع الشرقي بطباعة العملة وتمويل الإنفاق المحلي مباشرة، مضيفًا كتلة نقدية كبيرة دون غطاء ، هذه الخطوات دفعت الأسعار للارتفاع وزادت الضغوط على سعر الصرف، وخلقت سوقًا موازية مزدهرة للعملة الصعبة بسبب شُح الدولار رسميًا، قيود المصرف المركزي على بيع النقد الأجنبي وفتح الاعتمادات المستندية بأسعار تفضيلية عمّقت الفجوة بين السعر الرسمي والسوق السوداء، مما أتاح الفساد و'اقتصاد المحسوبية'؛ إذ استفاد الأقوياء من الحصول على الدولار بالسعر الرسمي وبيع السلع بالسعر الموازي ، النتيجة كانت تآكل ثقة الجمهور في النظام المصرفي وإحجام الناس عن إيداع أموالهم بالبنوك، مسببًا أزمة سيولة خانقة . فنزويلا: تُعد مثالًا صارخًا على مخاطر فقدان استقلالية المصرف المركزي وتمويل الحكومة بطباعة النقود. فبعد سنوات من الإنفاق الحكومي الجامح، أحكمت السلطة السياسية قبضتها على المصرف المركزي بحلول 2007، وشرعت في تمويل العجز المتضخم عبر توسعة جامحة للمعروض النقدي ، أُنهكت احتياطيات فنزويلا الخارجية بشكل خطير، ومع ضخ كميات هائلة من البوليفار دون غطاء، ارتفعت الأسعار بوتيرة انفجارية، تجاوز التضخم 40% في 2013 ثم 100% في 2015 ليدخل خانة التضخم المفرط بعد 2017 ، وبحلول 2018 و2019 سجّل معدل التضخم أرقامًا فلكية (تجاوز 65,000% ثم 19,000% سنويًا) ، وانهارت قيمة العملة بشكل شبه كامل. ساهم أيضًا تثبيت سعر صرف رسمي غير واقعي لسنوات في مفاقمة الأزمة؛ إذ واصلت الحكومة الفنزويلية تحديد قيمة مرتفعة وهمية للعملة فيما كان السوق الموازي يشهد تدهورًا حادًا . هذه الفجوة بين السعرين ولّدت فسادًا وندرةً في السلع، وفقد المواطنون الثقة تمامًا في عملتهم، فلجأوا إلى الدولار الأميركي أو المقايضة لحماية مدخراتهم. نيجيريا: واجهت نيجيريا أخطاءً مختلفة تمثّلت في اتباع نظام أسعار صرف متعدّد وتمويل مباشر لعجز الموازنة من قبل المصرف المركزي، لعقود، حاولت السلطات النيجيرية تثبيت قيمة النيرا عند مستوى أعلى من قيمتها الحقيقة بدافع الحفاظ على رخص السلع المستوردة، رغم تراجع إيرادات النفط. نتج عن ذلك اتساع الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازي، وظهور أسعار صرف متعدّدة أربكت الاقتصاد. في الفترة الأخيرة، قام مصرف نيجيريا المركزي بتمويل الإنفاق الحكومي عبر آلية 'طرق وأساليب' (أي سحب على المكشوف يفوق الحد القانوني)، مما ضخ سيولة كبيرة وأجج التضخم . وفقًا لتقرير للبنك الدولي، فإن استمرار سعر الصرف المتعدد والقيود التجارية وتمويل العجز نقديًا أدى إلى إذكاء التضخم وتشويه بيئة الأعمال بشكل حاد في نيجيريا ، وبالفعل تجاوز التضخم السنوي 20% وصار الاقتصاد يعاني من ارتفاع الأسعار وضعف الاستثمار بسبب عدم يقين السياسات، اضطرت الحكومة أخيرًا في 2023 إلى توحيد سعر الصرف والتخلي عن السعر الرسمي المدعوم، مما سبب انخفاضًا كبيرًا في قيمة النيرا دفعة واحدة، لكنه كان اعترافًا بتصحيح ضروري تأخر كثيرًا. أنغولا: مثّل اقتصاد أنغولا النفطي حالة أخرى من الاعتماد المفرط على سعر صرف مثبت وتمويل سيولة بتوسع نقدي. خلال فترة ارتفاع أسعار النفط، ثبّت البنك الوطني الأنغولي عملة الكوانزا مقابل الدولار، مما خلق وهم استقرار نقدي. لكن مع انهيار أسعار النفط في 2014-2015، انخفضت عائدات التصدير بشكل حاد ولم تُخفض الحكومة الإنفاق بما يتلاءم مع الواقع الجديد، أدى ذلك إلى استنزاف سريع لاحتياطيات النقد الأجنبي في محاولة الدفاع عن الربط الثابت. بحلول أوائل 2018 اضطرت السلطات تحت ضغط تراجع الاحتياطيات (من 20 مليار دولار إلى 14 مليار خلال 2017) إلى إنهاء الربط الثابت للدولار والسماح للكوانزا بالانخفاض تدريجيًا . ولكن قبل هذا التصحيح المتأخر، كانت السياسة النقدية فضفاضة وضخ المصرف المركزي الأنغولي السيولة لتمويل عجوزات الحكومة، ما فاقم تدهور قيمة الكوانزا. ارتفع التضخم السنوي إلى مستويات قاربت 40% بنهاية 2016 نتيجة تراجع العملة المحليّة ورفع أسعار الوقود (بعد خفض الدعم) واستمرار النمو السريع في الكتلة النقدية . هذا التضخم الجامح أضر بالقوة الشرائية للمواطنين ورفع تكلفة المعيشة بشدة، ولم يبدأ بالانحسار إلا بعد تبنّي أنغولا نظام صرف أكثر مرونة وتشديد السياسة النقدية منذ 2017 فصاعدًا. العراق: مرّ العراق بتجربتين متباينتين تفيدان في هذا السياق. الأولى فترة التسعينيات تحت العقوبات، عندما كان نظام صدام حسين محرومًا من الإيرادات النفطية وعاجزًا عن الاقتراض، فلجأ إلى طباعة كميات ضخمة من الدينار لتمويل نفقاته وخاصة رواتب موظفي الدولة، كانت النتيجة تضخمًا سنويًا هائلًا بلغ 300% أواخر الثمانينات وتصاعد إلى مئات في المئة خلال التسعينات ، فقد الدينار معظم قيمته، وانخفض سعره في السوق السوداء بشكل حاد ليتجاوز 1000 دينار لكل دولار بينما ظل السعر الرسمي وهميًا عند 3.22 دولار للدينار الواحد ، هذا الفارق الشاسع عبّر عن انهيار الثقة بالعملة المحلية وسحق الطبقة الوسطى التي تآكلت مدخراتها. في المقابل، نجت العملة المعروفة بـ'الدينار السويسري' (الطبعات القديمة التي لم تعد تُطبع) في إقليم كردستان من التضخم لأنها لم تكن تخضع للطباعة المستمرة – درسٌ يوضح كيف أن التوقف عن التمويل النقدي يحفظ قيمة العملة. التجربة الثانية للعراق جاءت بعد 2003، حيث اعتمد البنك المركزي العراقي سياسة سعر صرف شبه ثابت (ربط الدينار بالدولار عند حوالي 1200:1) مع بيع الدولار في مزادات يومية لضبط المعروض النقدي، نجحت هذه السياسة نسبيًا في كبح التضخم لسنوات، لكن في أوقات الأزمات (مثل انهيار النفط 2014-2016 أو جائحة كورونا 2020) اضطرت الحكومة لسحب احتياطيات المركزي بشكل كبير أو الاقتراض منه، مما هز الثقة نسبيًا، عام 2020 مثلًا، أدى العجز المالي الضخم إلى تمويله جزئيًا من احتياطيات الدولار، فاضطرّت السلطات إلى خفض سعر صرف الدينار رسميًا بحوالي 22% في نهاية ذلك العام لتخفيف الضغط على الاحتياطي وتفادي الأسوأ، هذا الإجراء – رغم صعوبته على المواطنين – ساعد في منع استنزاف خطير للاحتياطيات. لكنه كشف أيضًا محدودية الخيارات عندما تتراكم الاختلالات: إما تخفيض العملة أو مواجهة انهيار غير منظم. محدودية أدوات السياسة النقدية في ليبيا يجد مصرف ليبيا المركزي نفسه اليوم مقيّد اليدين بأدوات محدودة للغاية في إدارة السياسة النقدية، نتيجة عوامل تشريعية ومؤسسية. أبرز هذه القيود: حظر أسعار الفائدة التقليدية. فقد كانت ليبيا حتى وقت قريب جدًا تمنع قانونًا تحصيل أو دفع الفائدة (الربا) في المعاملات المصرفية، ورغم أن مجلس النواب ألغى تجميد هذا القانون في ديسمبر 2023 ، إلا أن الواقع العملي لا يزال يخلو من أي سوق للفائدة، ما يعني غياب أداة سعر الفائدة كليًا، بهذا لا يستطيع المصرف المركزي رفع أو خفض سعر الفائدة للتأثير على كلفة الاقتراض والسيولة كما تفعل معظم البنوك المركزية حول العالم. كذلك، لا يوجد سوق نشط لأدوات الدين العام في ليبيا؛ فالحكومة لم تصدر سندات محلية تذكر، سواء لأسباب تتعلق بحساسية الفائدة أو لاعتماد الدولة الطويل على إيرادات النفط دون حاجة للاقتراض. غياب سندات وأذونات خزانة يعني انعدام أداة عمليات السوق المفتوحة التقليدية، حيث يشتري ويبيع المصرف المركزي السندات لتنظيم السيولة. أيضًا يُعاني المصرف من ضعف التنسيق مع المالية العامة؛ فعمليًا لم يكن هناك إطار واضح يربط بين سياسة الإنفاق الحكومي والقيود النقدية، على مدى سنوات الصراع، انفقت السلطات (في الشرق والغرب) دون ضبط، ووضعت المركزي أمام الأمر الواقع لتمويل العجز أو تغطيته من الاحتياطيات . هذا التضارب أضعف فعالية أي تحرك نقدي. وزاد الأمر تعقيدًا تعدّد المؤسسات النقدية – إذ كما أشرنا كان هناك مصرفان مركزيان بحكم الأمر الواقع خلال الانقسام السياسي، لكل منهما سياساته بل وحتى عملاته المطبوعة الخاصة. هذا الواقع جعل إدارة المعروض النقدي وضبط البنوك التجارية أكثر صعوبة، حيث فقدت السياسة النقدية وحدتها وأدواتها التنفيذية. رغم ذلك يمتلك مصرف ليبيا المركزي بعض الأدوات المتاحة التي يمكنه استخدامها فعليًا: • إدارة احتياطيات النقد الأجنبي: يظل سعر الصرف في ليبيا المرساة الأساسية للسياسة النقدية، بغياب أدوات أخرى. يمكن للمصرف التأثير على السيولة المحلية عبر التحكم بمبيعات وشراء العملة الصعبة، فمثلاً، زيادة معروض الدولار عبر المزادات أو الاعتمادات المستندية تمتص الدينار من السوق (تمثل انكماشًا نقديًا)، في حين تقليل بيع الدولار أو فرض قيود عليه يعني احتباس مزيد من الدينارات محليًا (توسعًا نقديًا). لقد استُخدمت هذه الأداة مرارًا – وإن بشكل غير منتظم – لضبط سعر الدينار؛ مثال ذلك فرض رسوم باهظة على شراء الدولار (183% في 2018) ، والذي كان بمثابة تعويم جزئي تحت السيطرة لكبح الطلب على الدولار. • التحكم في السيولة المحلية: عبر إجراءات إدارية مثل تغيير نسبة الاحتياطي الإلزامي على الودائع لدى البنوك، أو وضع سقوف على سقف الائتمان الممنوح من البنوك، أو حتى التحكم في حجم العملة المصدرة. خلال أزمة السيولة، قام المركزي فعليًا بتقنين شحنات النقود إلى المصارف للسيطرة على السحب النقدي. هذه وسائل غير مثالية لكنها إحدى أدواته القليلة للتأثير على حجم النقد المتداول. • نظام سعر الصرف: يملك المصرف خيار تعديل سعر الصرف الرسمي نفسه عند الضرورة، وقد قام بالفعل في مطلع 2021 بتخفيض القيمة الرسمية للدينار بشكل كبير (من ~1.4 دينار للدولار إلى ~4.48 للدولار) لتوحيد أسعار الصرف وتحجيم السوق الموازي. كذلك فرض ضريبة/رسم على معاملات الصرف كما حصل مجددًا في 2024 (ضريبة 27%) هو أداة غير تقليدية ضمن سلطته، هذه الإجراءات في جوهرها أدوات نقدية لأن أثرها يماثل تغيير سعر الصرف في امتصاص السيولة أو إطلاقها. • إدارة الائتمان والقطاع المصرفي: يستطيع المصرف المركزي كذلك استخدام صلاحياته التنظيمية للتأثير نقديًا، كأن يشدد معايير الإقراض لتقييد خلق النقود الائتمانية، أو يتساهل فيها لتحفيز الائتمان، كما أن بعض الإجراءات الاحترازية (مثلاً فرض قيود على فتح الاعتمادات أو التحويلات الخارجية) استخدمت كأدوات نقدية بديلة عندما ارتفع الضغط على الاحتياطيات ، لكن هذه الأدوات لها كلفة على الاقتصاد وقد تؤدي لتشوهات وسوء تخصيص. باختصار، المصرف المركزي الليبي يعمل اليوم بصندوق أدوات محدود: فلا فائدة لتحريكها، ولا سندات لبيعها أو شرائها، ويعتمد بالأساس على إدارة سعر الصرف والسيولة نقدًا. هذا الوضع غير معتاد مقارنة بالبنوك المركزية الأخرى، ويجعل الحفاظ على الاستقرار النقدي مهمة شاقة. أهمية أدوات السياسة النقدية والاستقرار النقدي تشكل أدوات السياسة النقدية التقليدية (كسعر الفائدة وعمليات السوق المفتوحة) حجر الزاوية في قدرة أي مصرف مركزي على تحقيق الاستقرار السعري والحفاظ على ثقة الجمهور. فعندما تتوفر هذه الأدوات ويُحسن استخدامها، يستطيع المصرف المركزي التحكم في التضخم من خلال رفع تكلفة الاقتراض أو خفضها، وضبط نمو المعروض النقدي بحيث يتناسب مع النمو الاقتصادي الحقيقي. كما تُمكّنه من إدارة توقعات المتعاملين؛ إذ ترسل إشارات واضحة للأسواق عن توجه السياسة النقدية، مما يرسخ الثقة بأن السلطة النقدية يقظة ولن تدع العملة تفقد قيمتها دون رد فعل. في المقابل، غياب هذه الأدوات أو تقييدها يترك العملة بلا دفاعات كافية، التجارب التي استعرضناها تؤكد ذلك بجلاء: في فنزويلا، أدى تفريغ المصرف المركزي من استقلاليته وأدواته إلى انفلات كامل للمعروض النقدي وتهاوي الثقة في البوليفار. وفي ليبيا، أدّى حظر الفائدة وتعطل أدوات امتصاص السيولة إلى تضخم الكتلة النقدية في بعض الفترات دون ضابط، فلم يكن أمام المصرف سوى إجراءات إدارية قسرية كالحد من السحب النقدي أو فرض قيود مشددة على الحوالات – وهذه علاجات طارئة تعكس غياب الأدوات الفعالة، وتؤثر سلبًا على نشاط الاقتصاد والثقة في النظام المصرفي. عندما لا يشعر المواطن أن لدى المصرف المركزي أدوات قوية لضبط التضخم أو سعر الصرف، فإنه يبدأ بالبحث عن ملاذات لحفظ قيم أمواله: البعض يكدّس الدولار أو الذهب، البعض الآخر يستثمر في أصول حقيقية أو عقارات بدلًا من الادخار بالعملة المحلية. هذا السلوك مفهوم لكنه يزيد من تدهور الثقة بالعملة الوطنية، ويدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة من الدولرة الجزئية وفقدان السيطرة. من جهة أخرى، وجود أدوات نقدية فعالة يعزّز ثقة المواطنين حتى قبل استخدامها، فمثلاً، مجرّد معرفة الأسواق أن المصرف المركزي قادر على رفع الفائدة لكبح التضخم قد تثني المضاربين عن الرهان ضد العملة المحلية، وفي حالة ليبيا، لو توفرت أدوات إسلامية معادلة لسعر الفائدة أو لسندات الدين، لكان بوسع المركزي إرسال إشارات طمأنة بأنه سيضبط السيولة عند الحاجة ولن يدع التضخم أو سعر الصرف ينفلتان. إن الثقة في العملة هي إلى حد كبير انعكاس للثقة في المؤسسة التي تصدرها، وكلما كانت تلك المؤسسة (المصرف المركزي) مجهزة بالأدوات والصلاحيات ومستقلة في اتخاذ القرارات، ازدادت قدرتها على نيل ثقة الناس، أما إذا كانت مكبّلة أو واقعة تحت رحمة السياسات المالية العشوائية، فإن العملة تصبح ضحية سهلة ويضعف استقرار الاقتصاد ككل. عواقب تمويل العجز عبر طباعة النقود: ما تخبرنا به التجارب إن تمويل عجز الموازنة عن طريق المصرف المركزي – أي طباعة النقود لتمويل الإنفاق الحكومي – هو من أخطر الانحرافات في السياسة النقدية، وقد أثبتت التجارب في ليبيا وخارجها مخاطره الجسيمة، في حالة ليبيا، كما رأينا، أدى تمويل الفرع الشرقي للمصرف المركزي لعجز الحكومة الموازية بضخ الدينار (المطبوع في روسيا آنذاك) إلى زيادة حادة في المعروض النقدي خلال سنوات قليلة، النتيجة كانت ضغطًا متواصلًا على سعر صرف الدينار وتصاعد الفجوة بين السعر الرسمي والموازي ، ما اضطر المصرف المركزي في طرابلس إلى تخفيض قيمة العملة لاحقًا لتفادي الأسوأ، ورغم أن ليبيا لم تصل إلى تضخم مفرط كالذي شهدته فنزويلا، إلا أنها ذاقت تضخمًا قويًا (بلغ قرابة 25% سنة 2017) وتآكلت دخول المواطنين بفعل ارتفاع الأسعار، وكل ذلك في اقتصاد يعتمد أساسًا على الاستيراد مما ضاعف وطأة انخفاض قيمة الدينار على معيشة الناس. في فنزويلا، كان السيناريو أشد قتامة. إذ أدى الاعتماد المزمن على التمويل النقدي للعجز منذ عهد شافيز وتصاعدًا في عهد مادورو، إلى تدمير العملة الفنزويلية تمامًا، فقدت العملة 99% من قيمتها على مدار عقد ، وتجاوز التضخم الحدود الخيالية ليسجل أرقامًا بملايين في المئة سنويًا بنهاية 2018، أصبح مرتب المواطن لا يكفي لشراء أبسط الضروريات، وارتفعت معدلات الفقر المدقع رغم كون فنزويلا بلدًا غنيًا بالموارد، إنه الثمن الفادح لفقدان الانضباط المالي والنقدي. في نيجيريا أيضًا، ورغم أن مستويات التضخم هناك لم تصل لانفلات مفرط، إلا أن طبع النقود لسد العجز ساهم في وصول التضخم لأعلى مستوياته منذ عقود (حاليًا أكثر من 25%). تؤكد تقارير مستقلة أن تمويل العجز عبر المركزي كان سببًا رئيسيًا فيما تعانيه نيجيريا من ارتفاع الأسعار وزيادة تكلفة المعيشة ، كما أنه فاقم الاختلالات الأخرى كضعف الاستثمار المحلي وهروب رؤوس الأموال، نظرًا لتآكل الثقة بالاستقرار الاقتصادي، ومع أن الحكومة النيجيرية حاولت تغطية هذا بالتشبث بسعر صرف ثابت، إلا أن ذلك لم يكن مستدامًا وانتهى الأمر إلى تخفيض حاد لقيمة النيرا، مما حمّل المواطنين فجأة عبئًا تضخميًا إضافيًا. في أنغولا، كان تمويل العجز عبر أدوات نقدية أقل وضوحًا، حيث اعتمدت الحكومة هناك أيضًا على الاقتراض الخارجي. لكن مع شُح المصادر اضطرت للاستعانة بالمصرف المركزي الذي موّل بعض الإنفاق بطباعة العملة المحلية، برزت النتائج سريعًا في ارتفاع قياسي للتضخم إلى 41% عام 2016 وانخفاض قيمة الكوانزا بأكثر من 60% خلال 2014-2017 . أي أن نصف ثروة المواطنين بالعملة المحلية تآكلت خلال بضع سنوات، وكالعادة، كان الفقراء الأقل قدرة على حماية أنفسهم من هذا التآكل عبر الدولرة أو الأصول الصلبة، فدفعوا الثمن الأكبر. أما العراق، فإن تجربة التسعينات المذكورة تبرز بأوضح صورة هذه المخاطر، الحكومة التي اعتاشت على طباعة العملة شهدت تضخمًا سنويًا بثلاثة وأربعة أرقام، وانهارت القوة الشرائية للدينار بشكل شبه كامل ، احتاج العراقيون لملء أكياس من الأوراق النقدية لشراء حاجيات يومية بسيطة، وهي صورة تكررت في فنزويلا مؤخرًا أيضًا، لقد تسبب ذلك في زعزعة العقد الاجتماعي نفسه؛ فالموظفون الذين يتقاضون رواتبهم بالعملة الوطنية فقدوا الثقة بدولتهم، وانتشرت السوق السوداء والبدائل غير الرسمية. خلاصة هذه التجارب أن طباعة النقود ليست حلًا سهلًا للعجز المالي بل وصفة لكارثة اقتصادية، قد تمنح الحكومة متنفسًا قصير الأجل لسد احتياجاتها، لكنها تسرق من جيوب المواطنين بشكل غير مرئي عبر التضخم وفقدان قيمة العملة. وفي غياب إصلاحات تعالج جذور العجز، فإن التمويل النقدي يتحول سريعًا إلى دوامة تضخم وارتفاع أسعار يصعب الخروج منها، من هنا تأتي أهمية ما سنعرضه تاليًا من إجراءات احترازية يمكن لمصرف ليبيا المركزي اتباعها للتخفيف من هذه المخاطر حتى بغياب سياسة مالية رشيدة. خطة عمل مقترحة لمصرف ليبيا المركزي في ظل الواقع القائم فيما يلي إطار لخطة عمل يمكن لمصرف ليبيا المركزي تطبيقها قدر الإمكان ضمن صلاحياته المحدودة، بهدف تخفيف حدة التدهور وخلق استقرار نسبي يمهّد الطريق لإصلاحات أشمل في المستقبل: ضبط المعروض النقدي والتحكم بالسيولة: ينبغي للمصرف المركزي اعتماد سياسة متحفظة جدًا حيال نمو الكتلة النقدية، عمليًا، يعني هذا الامتناع الصارم عن أي تمويل مباشر لعجز الموازنة ورفض أي ضغوط لصرف أموال بدون مقابل حقيقي. على المصرف الإعلان بوضوح أن أي إنفاق حكومي يجب أن يُموَّل من إيرادات حقيقية (نفطية أو ضرائب) أو اقتراض تجاري، وليس عبر التوسع النقدي، كذلك يمكن تبنّي هدف كمي للمعروض النقدي أو الأساس النقدي (Base Money) يتلاءم مع مستوى التضخم المستهدف، على سبيل المثال، يضع المصرف سقفًا لنمو النقد الكلي بنسبة معينة سنويًا (5% مثلًا) ويلتزم باستخدام أدواته المتاحة لتحقيق ذلك، كتعديل الاحتياطي الإلزامي أو إدارة وتيرة بيع العملات الأجنبية، مثل هذا النهج أشبه بـسياسة استهداف الكتلة النقدية، وقد أوصى صندوق النقد دولًا في وضع ليبيا باعتمادها ، ورغم أن ليبيا لا تملك سوق سندات، يمكن للمصرف التعاون مع وزارة المالية لإصدار أذونات خزينة قصيرة الأجل بدون فائدة (أو بصيغة إسلامية) تكتتبها البنوك بهدف سحب السيولة الزائدة عند الضرورة، هذه الأدوات البديلة، حتى لو بعائد صفري، تساعد في تجميد جزء من المعروض النقدي لفترات محدودة بدلًا من بقائه حرًا يضغط على الأسعار. إدارة مرنة وحذرة لسعر الصرف: الحفاظ على استقرار الدينار الليبي مهم لمنع انفلات التضخم في اقتصاد يعتمد على الاستيراد لمعظم احتياجاته. لكن الاستقرار لا يعني الجمود المطلق؛ فالتجارب تعلمنا أن الإصرار على سعر صرف غير واقعي يؤدي لانفجار لاحق. لذا من الأفضل انتهاج مرونة محسوبة في سعر الصرف: يسمح المصرف المركزي بتعديل تدريجي لسعر الصرف الرسمي عند الضرورة (صعودًا أو هبوطًا) وفق معطيات العرض والطلب، بدلًا من استنزاف الاحتياطيات لمحاولة تثبيت سعر مصطنع، يمكن اعتماد نظام سعر صرف المدار Crawling Peg يُعدل فيه السعر الرسمي على نحو طفيف دوريًا لمواكبة فارق التضخم بين ليبيا وشركائها التجاريين. كذلك ينبغي تقليص الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي بشتى الطرق – عبر زيادة المعروض الرسمي من النقد الأجنبي قدر الإمكان وإزالة القيود البيروقراطية غير الضرورية على الاستيراد. لقد كان قرار توحيد سعر الصرف عام 2021 خطوة إيجابية في هذا الاتجاه، ويجب عدم التردد في اتخاذ خطوات تصحيحية إضافية إذا اتسعت الفجوة مجددًا، المرونة أيضًا تعني الاستعداد للتدخل عند حدوث مضاربات حادة ضد الدينار، عبر ضخ كميات إضافية من الدولار لكبح الانخفاض السريع (كما فعلت بعض البنوك المركزية في دول ناشئة للدفاع عن عملاتها مؤقتًا). الهدف هو إيجاد توازن: فلا تثبيت جامد يكلف الاحتياطي فوق طاقته، ولا ترك الدينار للانهيار الحر. هذه الإدارة المتوازنة ستحدّ من توقعات انخفاض حاد للعملة وتمنح السوق إشارات بأن المصرف المركزي لن يتساهل مع التقلبات الكبيرة وفي الوقت نفسه لن يدعم سعرًا خياليًا. تعزيز الشفافية وبناء الثقة: الثقة هي العملة الأهم التي يتوجب على المصرف المركزي تنميتها، يمكن اتخاذ عدة مبادرات لبناء المصداقية والشفافية: أولها نشر بيانات تفصيلية دورية عن العرض النقدي، والاحتياطيات، والتضخم، وغيرها من المؤشرات الأساسية لإبقاء الجمهور والمختصين على اطلاع. كما يُستحسن الإفصاح المنتظم عن السياسات والإجراءات المقبلة كلما أمكن، مثلاً أن يعلن المصرف خططه حيال سعر الصرف أو السيولة مسبقًا قدر الإمكان. خطوة مهمة أيضًا هي إجراء ومشاركة المراجعة والتدقيق الدولي لحسابات المصرف المركزي واحتياطياته – خاصة بعد سنوات الانقسام التي شابها الكثير من الشكوك، بالفعل طالبت أطراف محلية ودولية بإخضاع المركزي للمراجعة لضمان الشفافية، وقد بدأ ذلك مؤخرًا بجهود لتوحيد دفاتر المصرف بين الشرق والغرب. المضي قدمًا في هذا وتعزيز نزاهة الحوكمة الداخلية سيبدد الإشاعات ويظهر للمواطنين أن المصرف حارس أمين للأموال العامة، كذلك ينبغي للمصرف التواصل بفاعلية مع الجمهور لشرح مبررات سياساته بلغة بسيطة، مثلاً توضيح لماذا رُفع رسم النقد الأجنبي أو لماذا تم تغيير سعر الصرف، عندما يفهم الناس الأسباب وينعدم الغموض، يكونون أكثر استعدادًا لتقبل إجراءات صعبة وثقتهم في المؤسسة تزداد. إن الوضوح والشفافية يقللان من مساحة انتشار الشائعات التي قد تهز السوق، وفي ظل وضع سياسي منقسم، قد يكون المركزي أحد المؤسسات القليلة القادرة على الحفاظ على قدر من الحياد والمهنية، ما يجعله مؤهلاً لقيادة دفة الاستقرار الاقتصادي متى ما وثق الناس بنزاهته. إنشاء أدوات نقدية بديلة لامتصاص السيولة: نظرًا لعدم توفر أدوات السوق المفتوحة الكلاسيكية، يمكن للمصرف المركزي ابتكار أو تفعيل أدوات أخرى لإدارة السيولة الفائضة في الاقتصاد، أحد الخيارات إنشاء شهادات إيداع يصدرها المصرف للبنوك التجارية، تمكنه من امتصاص فوائض السيولة لدى تلك البنوك لفترات محددة، هذه الشهادات يمكن أن تكون بلا فوائد أو بعوائد تعتمد على صيغة إسلامية (مثلاً عائد مبني على أرباح استثمار أموال الشهادة في أوجه شرعية)، الغرض أن تصبح بديلًا عن عمليات السوق المفتوحة: فعوضًا عن بيع وشراء سندات حكومية، يقوم المركزي ببيع هذه الشهادات للبنوك عند رغبته في امتصاص سيولة، ويشتريها منهم (أو يخفض إصدارها) عندما يريد ضخ سيولة، بعض الدول الإسلامية طوّرت مثل هذه الأدوات، كالسودان الذي استخدم شهادات المشاركة الحكومية وصكوكًا قصيرة الأجل لإدارة السيولة في ظل حظر الفائدة. ويمكن لليبيا الاستفادة من تلك التجارب، أداة أخرى ممكنة هي اتفاقيات إعادة الشراء (الريبو) المتوافقة مع الشريعة، حيث يبيع المركزي أصلًا (كذهب أو عملات أجنبية مثلًا) للبنوك ويتعهد بإعادة شرائه بسعر أعلى بعد مدة – فتكون الزيادة هي العائد الضمني للبنوك، هذه الطرق تتيح ضبط السيولة مؤقتًا دون مخالفة القوانين المحلية. كما يمكن بالتعاون مع وزارة المالية إصدار صكوك إسلامية حكومية يستثمر فيها الأفراد والبنوك، مما يحوّل جزءًا من السيولة إلى تمويل طويل الأجل لمشاريع الدولة بدلًا من بقائها تلهث وراء الدولار في السوق. تفعيل أدوات إسلامية للسيطرة على النقد: يرتبط بما سبق ضرورة الاستثمار في بناء منظومة أدوات مالية إسلامية حديثة ضمن السوق الليبي، فبعد سنوات من حظر الفائدة، لم ينجح المصرف المركزي بعد في إيجاد بدائل ناجعة، وهذا خلل ينبغي معالجته. من الأدوات الممكن تطويرها: صكوك المركزي (Sharia-compliant Central Bank Sukuk) وهي أوراق يصدرها المصرف المركزي بآجال قصيرة لاستخدامها في عمليات السياسة النقدية، يمكن أن تستند هذه الصكوك على مفهوم المرابحة أو الإجارة أو المضاربة، بحيث تمثل شراء المصرف لأصول أو سلع ثم بيعها الآجل للبنوك، أو مساهمة المصرف والبنوك في وعاء استثماري مشترك قصير الأجل، المهم أن تحقق الغاية المنشودة: سحب أو ضخ السيولة والتحكم في معدل نموها. أيضًا تسهيلات الودائع والإقراض للبنوك يمكن تصميهما بشكل إسلامي؛ مثلاً بدلًا من فرض فائدة على إقراض المصرف المركزي للبنوك، يمكن استخدام رسم إداري ثابت أو اقتطاع نسبة من أرباح التمويل لدى البنك المقترض كعائد للمصرف المركزي، هذه تفاصيل فنية، لكن جوهر الرسالة: لا بد من سد الفجوة الحالية في أدوات السياسة النقدية بأدوات مبتكرة توافق الشريعة. صندوق النقد الدولي نفسه شدّد على هذا الجانب في نصحه لليبيا، حيث أشار إلى أهمية تطوير أدوات إسلامية لإدارة السيولة التي أعاق غيابها وحظر الفائدة قدرة المصرف على التحكم النقدي . إن البدء فورًا بورش عمل فنية بمساعدة خبراء محليين ودوليين لتصميم هذه الأدوات سيمنح ليبيا في المستقبل القريب مجموعة أوسع من الخيارات للتعامل مع التقلبات الاقتصادية. تقوية استقلالية المصرف المركزي: بالرغم من أن غياب الانضباط المالي يضع المصرف المركزي تحت ضغط مستمر 'لطباعة الحلول'، يجب عليه بذل أقصى الجهد للمحافظة على حياده واستقلال قراره قدر الإمكان. هذا يعني عمليًا الالتزام الصارم بقواعد مهنية وعدم الرضوخ للضغوط السياسية قصيرة النظر، يمكن لمجلس إدارة المصرف المركزي تبنّي سياسة داخلية تنص على عدم تمويل الحكومة مباشرة إلا في حدود ضيقة جدًا ووفق شروط واضحة (مثلاً قروض قصيرة الأجل تُسدّد خلال العام المالي نفسه)، كما ينبغي السعي نحو تحصين الإطار القانوني لاستقلالية المصرف – قد يكون ذلك صعبًا في ظل الانقسام السياسي، لكن حتى مجرد ترسيخ مبدأ الاستقلالية في الثقافة المؤسساتية للمصرف وموظفيه يصنع فرقًا، تجربة فنزويلا قدمت درسًا بالغ الأهمية: عندما فقد البنك المركزي استقلاله في 2007، انهار الانضباط النقدي تمامًا . وعلى النقيض، حافظت دول أخرى على استقرار نسبي رغم الصعوبات لأنها وفرت لمصارفها المركزية حيزًا من الحرية لاتخاذ القرارات الصعبة. يجب أن يدرك الجميع في ليبيا – وخاصة صنّاع القرار – أن المصرف المركزي ليس خزينة مال مفتوحة بل مؤسسة هدفها حماية قيمة العملة والمصلحة العامة على المدى البعيد، تعزيز هذا الفهم سيساعد في تخفيف التوقعات السياسية غير الواقعية من المصرف، ويمكن للمصرف نفسه أن يدعم ذلك عبر الشفافية كما ذكرنا، والتواصل المباشر مع البرلمان والرأي العام لشرح حدوده وما يمكن أن يفعله وما لا يمكن. كذلك فإن بناء قدرات فنية مستقلة داخل المصرف (كتحسين قسم الأبحاث والتحليل الاقتصادي) سيعزز من استقلال قراره المبني على أدلة علمية لا إملاءات سياسية. الإدارة الحذرة لاحتياطيات النقد الأجنبي: تمثل الاحتياطيات الأجنبية خط الدفاع الأخير عن الاستقرار النقدي، ولذلك ينبغي إدارتها بعناية فائقة. على المصرف المركزي وضع استراتيجية واضحة لاستخدام الاحتياطيات: مثلًا يحدد مستوى حرج لا يجوز النزول دونه (لتأمين الواردات لعدة أشهر)، ويوازن بين دعم العملة وبين الحفاظ على الاحتياطي، من الحكمة أيضًا تنويع الاحتياطيات واستثمار جزء منها في أصول منخفضة المخاطر وسائلة، لتحقيق عائد معقول يخفف عبء الحفاظ عليها، في السنوات الماضية، كانت ليبيا محظوظة نسبيًا بوجود احتياطيات كبيرة (مع تعافي إنتاج النفط)، مما أعطى الدينار دعمًا قويًا. لكن هذا لا ينبغي أن يؤدي إلى التراخي أو الإفراط في التفاؤل؛ فقد تتبدل الظروف سريعًا سواء بانخفاض أسعار النفط عالميًا أو أي صدمة أخرى، لذا فاتباع قاعدة إنفاق صارمة: تحويل الفوائض فقط من الاحتياطي إلى الميزانية العامة في حدود معينة سنويًا، وكبح تهريب العملة الصعبة، وغير ذلك من إجراءات، سيضمن بقاء الاحتياطي شبكة أمان وليست موردًا يستنزف بلا حساب. إن الحفاظ على ثلاثة أو أربعة أعوام من تغطية الواردات يعتبر مستوى مريحًا ، وليبيا حاليًا حول هذا المستوى. المطلوب عدم التفريط به، وضمن الإدارة الحذرة أيضًا، لو حصل تقارب سياسي مستقبلاً، يمكن التفكير في صندوق سيادي يستثمر جزءًا من الاحتياطيات والفوائض لتعظيم العائد وتوفير إيراد مستدام للموازنة بدل اللجوء للمصرف المركزي. هذه الخطوات مجتمعة قد لا تحقق معجزة اقتصادية فورية – فالمصرف المركزي يعمل في بيئة مليئة بالعقبات – لكنها ستخفف من حدة التدهور قدر الإمكان، الأهم أنها ترسل رسالة ثقة للأسواق والجمهور بأن السلطة النقدية في البلاد تقودها الحكمة والحذر، وليست منساقة وراء الأهواء الشعبوية أو الضغوط الآنية. بهذا يمكن خلق بيئة أكثر استقرارًا نسبيًا تشجع على النشاط الاقتصادي بدلًا من الفوضى. ضرورة الإصلاح المالي الشامل إلى جانب التحرك النقدي في النهاية، يجب التأكيد أن أدوات السياسة النقدية وحدها لن تكون كافية لإنقاذ الاقتصاد إن لم تترافق مع إصلاحات مالية واقتصادية جذرية، فالمصرف المركزي يستطيع عبر ما ذكرناه أن يشتري بعض الوقت ويخفف الأخطاء، لكنه لا يستطيع معالجة أصل المشكلة بمفرده، لا بد أن يأتي الوقت الذي تتبنى فيه ليبيا سياسة مالية رشيدة: ضبط للإنفاق، محاربة للهدر والفساد، تنويع لمصادر الدخل بعيدًا عن النفط، وتطوير للقطاع الخاص، عندها فقط سيمكن للمصرف المركزي العمل بتناغم مع المالية العامة لتحقيق ازدهار واستقرار حقيقيين. رغم ذلك، للتحرك النقدي المتزن أهميته البالغة. فإذا أحسن مصرف ليبيا المركزي إدارة دفة السياسة النقدية الآن وفق المقترحات المذكورة، فبوسعه منع الأسوأ ووقف التدهور السريع. قد لا يحقق ازدهارًا في ظل غياب الإصلاحات الأخرى، لكنه على الأقل قد يجنب الاقتصاد سيناريوهات كارثية كالتي شهدناها في فنزويلا أو غيرها، هذا الاستقرار النسبي بمثابة أرضية صلبة يمكن البناء عليها عندما ينضج القرار السياسي للإصلاح الشامل، كما أنه يحمي المواطنين الضعفاء من المزيد من التآكل في قدرتهم الشرائية ويصون ما تبقى من ثقتهم في مؤسسات بلدهم. في غياب السياسة المالية الرشيدة، يقف المصرف المركزي وحيدًا في الخط الأمامي، القرارات التي سيتخذها اليوم قد تكون الفارق بين تعثر يمكن تجاوزه مستقبلاً، وبين انهيار يصعب ترميمه. ومن هنا تبرز أهمية تبني نهج واقعي وحكيم على طريقة مارتن وولف: مواجهة الحقائق القاسية بالتحليل الرصين، وتطبيق حلول عملية مدروسة، والتواصل بشفافية لإشراك المواطنين في فهم التحديات، بهذه العقلية يمكن لمصرف ليبيا المركزي أن يؤدي دوره التاريخي المنتظر – في حدود صلاحياته – إلى أن تتحمل باقي المؤسسات مسؤولياتها في بناء مستقبل اقتصادي أفضل لليبيا. المصادر: تستند التحليلات والمعلومات الواردة أعلاه إلى تقارير دولية موثوقة، منها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حول ليبيا وتجارب الدول الأخرى. على سبيل المثال، أشار تقرير للبنك الدولي إلى أن تعدد أسعار الصرف وتمويل العجز نقدًا أسهما في رفع التضخم وتشويه الاقتصاد النيجيري ، وحذّر صندوق النقد من أن حظر الفائدة وانقسام المؤسسة النقدية قيّدا قدرة مصرف ليبيا المركزي على إدارة السيولة ، كما وثّقت تقارير صندوق النقد التضخم الجامح في فنزويلا نتيجة التوسع النقدي لتمويل العجز ، وسجلت ارتفاع التضخم في أنغولا إلى 41% تحت ضغط ضعف العملة والسياسة النقدية الفضفاضة ، هذه الشواهد وغيرها تدعم ما طرحناه من استنتاجات وتوصيات، نسأل الله أن توفق السياسات القادمة في ليبيا إلى تحقيق الاستقرار والازدهار الذي ينشده الجميع.